الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، استثناء من المألوف سأتلو على مسامعكم الخطبة الأولى المسجَّلة التي خطبتها قبل خمسين عاماً في جامع الشيخ عبد الغني النابلسي في دمشق، قلت في هذه الخطبة:
الحمد لله الذي سبّحت الكائنات بحمده، وعنت الوجوه لعظمته ومجده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم تنزيله :
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)﴾
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعترته الطيبين الطاهرين، اللهم إنَّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، اللهم إنَّا نعوذ بك من التكلف في ما لا نحسن، كما نعوذ بك من العُجب في ما نُحسن .
عباد الله :أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم وإياي على طاعته وأستفتح بالذي هو خير وبعد :يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾
فما هي هذه الحياة الطيبة، التي أشارت إليها هذه الآية الكريمة؟ أهي في سلامة الجسم من الأمراض والعاهات ؟أم في طهارة النفس من الشوائب والنزوات؟ وهل هي في توافر حاجات الجسد من طعام وشراب؟ أم في توافر حاجات النفس من سمو وقربات؟ وهل هي في جمع الدرهم والدينار ثم الانغماس في المتع والملذات الحسية؟ أم في تزكية النفس وتحليتها بالفضائل الإنسانية ، والسمو بها إلى معارج القدس الربانية؟
الحياة الطيبة: أيها الإخوة المؤمنون، ليست عروقاً تنبض فيها الدماء، ولا أعصاباً تُنقَل عبرها الأحاسيس فحسب، ولكنها قلوب عرفت ربها فاستغنت به عمن سواه، ونفوس سمت إليه ففنيت في محبته وطاعته والدعوة إليه .
الحياة الطيبة: تحرير النفس من قيود المادة وأغلال الشهوات ثم تسبيحها في ملكوت الأرض والسماوات .
الحياة الطيبة: سمو الإنسان عن حاجات جسده الفاني دون أن يهملها، والاستجابة لحاجات نفسه الخالدة من دون أن ينسى حقوق الآخرين .
الحياة الطيبة: لا تتراجع بتراجع صحة الجسد ولكنها تتزايد بتزايد إقبال النفس على الله.
الحياة الطيبة: لا تنتهي بموت بل تبلغ أوجها به .
الحياة الطيبة: لا تضمنها أعراض زائلة كالمال والسلطان ولكن يضمنها رب كريم وعزيز حكيم، ومن بيده مقاليد الأرض والسماوات.
وفوق ذلك فالحياة الطيبة : راحة بال وعافية بدن، وتوافر حاجة وسمو مكانة، وطيب زوجة، وصلاح ذرية .قال تعالى :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾
يقول الإمام علي -كرم الله وجهه- : رُكِّب الملك من عقل بلا شهوة، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل، و ركب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .
نعم إن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، ولقد جاء في الحديث القدسي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى :
(( عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي ))
[ رواه الطبراني في الأوسط وفيه ضعف ]
وبعض من ذاق هذه الحياة الطيبة يقول على لسان الذات الإلهية :
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لـما ولـيت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسـن خـطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولـو لاح من أنوارنا لـك لائـح تـركت جـميع الكائنات لأجلنا
ولو نسمت من قربـنا لك نسـمة لمت غريباً واشـتياقاً لقـربـنا
ولو ذقـت مـن طعـم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بـحبنا
أجل أيها الإخوة، هذه هي الحياة الطيبة في الدنيا الفانية، أما الحياة العليا في الآخرة الباقية فدعك من وصفها لأنه لا سبيل إليه، قال تعالى :
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17)﴾
وفي الحديث القدسي :عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل :
(( أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ذُخْرا ، بَلّه ما أطلعكم عليه ، واقرؤوا إن شئتم : ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ ))
[ صحيح مسلم عن أبي هريرة ]
قال تعالى :
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(64)﴾
الحيوان هنا: الحياة الحقيقية.
أيها الإخوة الكرام؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، وصِلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبعَ نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونُبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
هذه الخطبة بالتمام والكمال، إخواننا الكرام، دققوا الآن:
﴿ وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَٰهُمْ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۢ ۚ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍۢ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا(19)﴾
الذي عاش 100 سنة، 95، 73، 110 سنوات، شيخ الأزهر عاش 130 سنة، (كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۢ ۚ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) الدنيا ساعة تذكرها يومك كساعة اجعلها طاعة، والنفس طماعة عوّدها القناعة.
لا يوجد تعريف جامع مانع رائع قاطع للإنسان كتعريف الإمام الجليل سيد التابعين: الحسن البصري: الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
يعني للتقريب: هذه الطاولة جماد، طول وعرض وارتفاع ووزن وحجم، لكن النبات: يزيد على الجماد بالنمو، النبات ينمو، والمخلوقات المتحركة تزيد عليهما بالحركة، تمشي، البقرة تمشي، والإنسان له من الجماد: وزن وحجم وطول وعرض وارتفاع، كلنا، ومن النبات لنا النمو، كل طفل يكون صغيراً فينمو ليصبح بطول 160 سم، ولنا الحركة، نمشي، ولكن الله زوّدنا بشيء ننفرد به، أعطانا العقل، قوة إدراكية، هذه القوة الإدراكية التي ننفرد بها عن بقية المخلوقات، عن الجمادات والنباتات والحيوانات بقوة إدراكية، هذه القوة الإدراكية تُلبّى بطلب العلم.
فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
لذلك الجماد، النبات، الكائنات المتحركة، الإنسان، العقل أعقد جهاز في الكون، فيه مبادئ ثلاثة، ما هذا الجهاز المعقد! أعقد جهاز على الإطلاق في الكون.
البشر نخبة ما في الكون، والعقل أعقد جهاز منحنا إياه الله -عز وجل-، العقل جهاز معقد جداً، له مبادئ ثلاث: مبدأ السببية، مبدأ الغائية، مبدأ عدم التناقض، أنت كإنسان لا تفهم شيئاً بلا سبب، يعني سافرت إلى رحلة أسبوعين، أطفأت الكهرباء كلها، عطّلت الأجهزة كلها، فلما رجعت وجدت المصابيح متألقة، لماذا تضطرب؟ لماذا ترتجف؟ تقول لك الزوجة: أطفئهم، ليس الموضوع أن أطفئهم، مَن دخل إلى البيت في غيابنا وسرق؟ هذا العقل البشري لا يقبل شيئاً بلا سبب، اسمه مبدأ السببية، لا تفهم شيئاً بلا سبب، ولا يقبل التناقض، ولا غاية، لا تفهم شيئاً بلا سبب ولا غاية.
يعني أحياناً ترى سيارة شاحنة كبيرة، وأنت لا علاقة لك بالشحن إطلاقاً، سلسلة متصلة بالطريق المعبد، لماذا؟ لا تعمل بالشحن، وليس لديك شاحنة، ولا علاقة لك بالشحن إطلاقاً، عندك حاجة عقلية، لو جاءت صاعقة قطعة الحديد الملامسة للأرض تستهلك الصاعقة، هل اتضحت الآن؟
ذات مرة اشتريت طبقاً من الزجاج، هذا الطبق إذا وضعته في الحليب لا يغلي الحليب، حُلت المشكلة، تضع الطبق في قعر الوعاء وتذهب ولو غبت ساعة الحليب يبقى دون أن يفور، ما استطعت أن أستوعب الموضوع، ما السبب يعني؟ يوجد فقاعات عند الغليان تنطلق إلى سطح السائل، إذا كان هناك قشدة تدفعها إلى خارج الطنجرة فيفور الحليب، هؤلاء جعلوا النقاط الغازية بالحليب تنطلق من مكان واحد، أصبحت كالصاروخ تثقب القشدة، توضحت؟
فيوجد مبدأ السببية والغائية وعدم التناقض، لو شخص مُتَّهَم بقتل إنسان بحلب وهو بالشام، وأثبت أنه كان عند وزير الداخلية بالوقت نفسه، فيُعفى عنه، فالعقل البشري لا يقبل شيئاً بلا سبب، ولا شيء بلا غاية، ولا يقبل التناقض، هذا العقل أعظم جهاز فينا، به نعرف الله.
ابن آدم آيات:
﴿ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) ﴾
قريب 200 آية بالقرآن، فأعظم شيء منحك الله لك العقل، جهاز بالغ التعقيد، لكن أساسه مبدأ السببية، والغائية وعدم التناقض، فلذلك الإنسان الآن دخلنا بموضوع ثانٍ، يعني قال الله:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾
الواو: واو القسم، إله عظيم يقسم لك أيها الإنسان، جواب القسم أنت خاسر، لمَ يارب؟ لمَ أنا خاسر؟ الجواب: لأنك وقت محدود، فإذا انقضى هذا الوقت جاء الموت، قبل أن نقول مات على الإيمان، على غير الإيمان، صالح، قبل حينما ينتهي زمن هذا الإنسان يأتي الموت.
فكل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت
والليل مهما طـــــال فلابد من طلوع الفـــــــجر
والعمر مهما طـــــال فلا بد من نزول القـــــــبر
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمــول
فإذا حملت إلى القبور جنــازة فاعلم أنك بعدها محمـــــول
لا بد من إدخال الموت في حساباتنا اليومية:
من حِكَم الله العُظمى يعني للتقريب: كان من الممكن أن نأتي إلى الدنيا جميعاً دفعة واحدة، وأن نغادرها دفعة واحدة، لكن أراد الله أن نأتي تِباعاً، وأن نغادرها تِباعاً ليتعظ بعضنا ببعض، البارحة كان عميد عائلة، أوجه إنسان، كل من حوله يحبونه، يتبرّكون به، مات فيخافون أن يدخلوا إلى غرفته، يوزعون كل ثيابه حتى لا يتذكروه، كان ملء السمع والبصر، عميد الأسرة، مكانة رفيعة، محبة، أُنس، يعني هناك آباء لهم مكانة كبيرة جداً، يعني يقول لك: عماد الأسرة، لما مات صار جثة هامدة.
أنا كنت بتونس، أثناء عودتي وجدنا في الحقائب ميت ضمن صندوق، صار كأنه بضاعة، ذهب راكباً معه فيزا، معه عمل كبير، رجع بضاعة.
هذا الموت يا إخوان، من أعماق أعماقي إن أدخلته بحسابك يومياً، إذا ما انعكست مقاييسك 180 درجة، امشِ في البيت، إذا كان فَقْد مثلاً، هذا المثوى المؤقت الدليل: النعوة، وسيُشيَّع إلى مثواه الأخير، لا يوجد غير القبر، أكبر غني بلبنان على الإطلاق، ملياردير، يعني أطلعوني على قصره، شيء لا يُصدّق، وعمل قبراً لا يقل عن القصر، فمات بالطائرة، وقعت بالبحر المتوسط، دفعت زوجته 10000 دولار ليأخذوا الجثة لم يجدوها، هذا الموت إن دخل بحسابك اليومي والله من محبة أقول لكم إذا ما انعكست كل مقاييسك، هذه البيعة فيها شُبهة، هذه الحُرفة فيها علاقة بالنساء لا ترضي الله -عز وجل-، هذه فيها كذب، هذه فيها غش، لما تعرف الله تعد للمليون قبل أن تعصيه.
إذا كنت لا تعرفه، هناك كلمات يقولها العامة: "لا تدقق" هذه آية أم حديث؟ "لا تدقق" كلمة شيطانية والله، لا، أريد أن أدقق، هذا الدخل حرام لا يجوز، أو يوجد مادة مسرطنة لا أبيعها، يعني عفواً سأتكلم كلمة قاسية قليلاً، كل من عنده صناعة غذائية يضع مادة حافظة "بنزوات الصوديوم"، مسموح بها ثلاثة بالألف، يضعون منها ثلاثة بالمئة، السرطان متضاعف لعشرة أضعاف، هذه مادة مسرطنة وحافظة بآن واحد، فإذا كنت لا تعرف الله تضع منها عشرة بالمئة كي لا يفسد الإنتاج، عندما تعرف الله ستنعكس والله كل مبادئك وقيمك 180 درجة، تخاف أن تدوس نملة والله، والله المؤمن لا يدوس نملة، لأنه لا ذنب لها، خطأً لا تُحاسَب، أما وأنت ماشي فتدهسها! وأحياناً عرق لطيف بالبرية يدهسه، امشِ جانبه، دعه يسبح الله -عز وجل-، كلما ازدادت معرفتك بالله تتسع دوائر طاعتك له.
إخواننا الكرام، عندما تصل إلى الله تصل إلى كل شيء، وحينما تغيب عنه يغيب عنك كل شيء، لا يوجد حل وسط، إما أنت إنسان أسعد إنسان بأي دخل، أسعد إنسان بأي مساحة بيت، أسعد إنسان بأي زوجة، أسعد إنسان بأي حرفة، اتصلت بأصل الجمال والكمال والنوال، بالذات الإلهية، صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلا.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لـما ولـيت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسـن خـطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقـت مـن طعـم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بـحبنا
ولو نسمت من قربـنا لك نسـمة لمت غريباً واشـتياقاً لقـربـنا
ولـو لاح من أنوارنا لـك لائـح تـركت جـميع الكائنات لأجلنا
فما حبنا سهل وكل من ادعى سهولته قلنا له قد جهلتنا
فأيسر ما في الحب للصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
الله -عز وجل- يقول:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)﴾
كم إنسان في الأرض؟ 8 مليارت إنسان (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هناك 8 مليارات حركة، كل إنسان بحركة، ممكن هذا الكَمّ اللانهائي أن يضعه الله في حقلين فقط؟ تقسيم اثنان، قال:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) ﴾
الحُسنى هي الجنة، والدليل:
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) عرف هناك حساب، هناك عقاب، هناك مساءلة، هناك جهنم، هناك جنة، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، الأنبياء: أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء: أخذوا ولم يعطوا، الأقوياء: يُمدحون في حضرتهم، الأنبياء: في غيبتهم، الأقوياء: ملكوا الرقاب، والأنبياء: ملكوا القلوب، الأقوياء: عاش الناس لهم، والأنبياء: عاشوا للناس، والناس جميعاً تَبَعٌ لقوي أو نبي.
فالبطولة أن تكون من أتباع الأنبياء، فإذا كنت قوياً يجب أن تتخلَّق بأخلاق الأنبياء، لذلك هناك تعريف دقيق قليلاً: المؤمن القوي، ما معنى قوي؟ قوي بماله، قوي بعلمه، قوي بمنصبه، بتوقيع يلغي التدخين، ممنوع التدخين مثلاً بتوقيع واحد.
فالقوة ثلاثة أنواع: قوة المنصب، وقوة المال، وقوة العلم:
(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))
[ صحيح مسلم عن أبي هريرة ]
مرة كنت قادماً من المغرب إلى الشام، الطيار كان تلميذي فوضعني عنده، يوجد كرسي ثالث للضيوف أو للمفتشين، عندما دخلنا إلى سورية بهذه العين رأيت طرطوس وصيدا، خمسمائة كيلو متراً رأيتها بنظرة واحدة، ورأيت حمص والشام مئة وستون كيلو متراً، فكلما ارتفع مقام الإنسان اتسعت رؤيته، وأنا أضيف لها: واتسعت عاطفته.
وقف النبي لجنازة، جاء من همس في أذنه: إنه ليس مسلماً، فقال النبي الكريم: أليس إنساناً؟
(( إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ فَقَامَ، فقِيلَ له: إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا. ))
[ صحيح البخاري عن سهل بن حنيف ]
كلما ارتقيت وأحقر إنسان بالأرض يأكل في مطعم طعاماً نفيساً وفي البيت لا يوجد طعام لأولاده وزوجته، هناك إنسان يهتم ببيته، هناك إنسان يهتم بمن حوله، هناك إنسان يهتم ببلده ووطنه وقومه الإنسانية، هذا يسمونه هرم عكوس، كلما اتسعت اهتماماتك ترقى عند الله.
الأنبياء إنسانيون، أعلى شيء الإنسانية، وأقل شيء الفردية المَقيتة، لذلك الله -عز وجل- يعني النبي الكريم في بعض الأحاديث ممكن دعوة الأنبياء جميعاً، عفواً الآية الكريمة، الذين ذُكروا ولم يُذكَر بعضهم، فحوى دعوة الأنبياء حتى الذين لم يُذكروا، ماذا قال:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
إعراب من: لاستغراق أفراد النوع- إعرابها دقيق- أنت في صف فيه خمسون طالباً، قلت لهم: لكل واحد منكم كتاب هدية مني غداً، لكن هناك اثنان غابا فلن يأخذا كتاب، إن قلت: ما من طالب في هذا الصف-فقط أضفت من- صار حتى من غاب يأخذ كتاباً.
الآن (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ) حتى الذين لم يُذكَروا في القرآن (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فحوى دعوة الأنبياء جميعاً: لا إله إلا الله، والحركة: العبادة، فالتوحيد نهاية العلم،
العبادة: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
الملف مدقق