الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أُمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
البطولة أن تنتقل من وحل الأرض إلى وحي السماء:
أيها الإخوة الكرام، في العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، نحن مسلمون وهذا دين عظيم، ووحي السماء، بالأرض يوجد وحل؛ وحل الأرض، ووحي السماء، وحل الأرض مصالح وشهوات، تستطيع دولة قوية أن تحقن دماء مليون شخص لكنها لا تفعل؛ المصلحة ألا تفعل، ما الذي يحكم أهل الأرض؟ المصالح والشهوات، بالفكر مصالح، مصلحة هذه الدولة أن تفعل كذا، وكذا بخلاف الشرع، بخلاف المنطق، بخلاف وحي السماء، يعني هناك مصطلحان، هذان المصطلحان: وحل الأرض ووحي السماء، وحل الأرض: مصالح وشهوات، وحي السماء: مبادئ وقربات، بطولتك، ذكاؤك، نجاحك، تفوقك أن تنتقل من وحل الأرض إلى وحي السماء، قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48) ﴾
أرق كلمة قالها الله للنبي الكريم ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ وحي الأرض واضح: مصالح وشهوات، فممكن دولة عظمى أن تحقن دماء دولة بهاتف فقط لكنها لا تفعل، المصلحة هكذا مع الشهوات، أما وحي السماء مبادئ وقربات، فأنت بطولتك، نجاحك، ذكاؤك، تفوقك أن تنتقل من وحل الدنيا إلى وحي السماء.
لذلك: فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
للتقريب: هذه الطاولة التي أمامي: لها طول، وعرض، وارتفاع، هذا الجماد؛ وزن، حجم، طول، عرض، ارتفاع، أما النبات: يزيد على الجماد بالنمو، وأما الكائنات المتحركة تزيد عليهما بالتفوق، من وحل الأرض إلى وحي السماء، الإنسان من هو؟ مَن عرف نفسه عرف ربه، الإنسان أيها الإخوة، هو المخلوق الأول عند الله، لأنه في عالم الأزل –وعالم الأزل قبل عالم الصور، ونحن الآن في عالم الصور-:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾
في عالم الأزل ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ فلمّا قبِلَ الإنسان حمْل الأمانة كان المخلوق الأول عند الله، المخلوق الأول، والمُكرَّم، والمُفضَّل، والمُكلَّف، والمُحاسَب، والمُعاقَب، أنت لأنك من بني البشر في التصنيف الأزلي، الأبدي، المخلوق الأول عند الله.
رُكِّب الملك من عقل بلا شهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكِّب الإنسان من كليهما فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
أنت مُكلَّفٌ بالعبادة، والعبادة: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
الفرق بين اللذة والسعادة:
أنا مضطر أن أفرّق بين اللذة والسعادة، اللذة حسية، اللذة مادية، لكنها تحتاج إلى صحة ووقت ومال، لحكمة بالغة بالغة بالغة في البداية: يوجد صحة ووقت ولا يوجد مال، لكن في الوسط: يوجد صحة ومال ولا يوجد وقت، في النهاية:صار هناك وقت ومال ولكن لا يوجد صحة.
يعني الله -عز وجل- ما سمح للدنيا أن تملأ طموح الإنسان، أنت مخلوقٌ لجنة عرضها السماوات والأرض فيها:
(( فِيهَا ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
خيارك مع الإيمان خيار وقت:
لذلك البطولة، والنجاح، والفلاح، والتفوق، والذكاء أن تعرف الله في الوقت المناسب، يعني من هو أكفر كفار الأرض على الإطلاق؟ فرعون أكفر كفار الأرض، أكفر الكافرين حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) ﴾
فأنت تملك مليون خيار رفض، لم يعجبك هذا البيت لا تشتريه، هذه الفتاة لم تعجبك أخلاقها لا تتزوجها، معك مليون خِيار رفض إلا مع الإيمان خيار وقت.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) ﴾
إذاً أنت خيارك مع الإيمان خيار وقت فقط، لأن أكفر كفار الأرض فرعون الذي قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24) ﴾
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) ﴾
آمن وأسلم، فالوقت أهم شيء، الوقت أثمن شيءٍ تملكه، بالوقت تتعرف إلى الله، بالوقت تتعرّف إلى رسول الله، بالوقت تبحث عن المنهج، بالوقت تتقرّب إلى الله، لذلك الله -عز وجل- أقسم بأثمن شيء يملكه الإنسان، قال:
العصر هو الوقت، أنت تملك الوقت، أثمن شيء تملكه هو الوقت؛ لأن الوقت أثمن شيء بحياتك أقسم الله جل جلاله بالزمن ﴿وَالْعَصْرِ﴾ هذا قسم، والواو واو القسم، وجواب القسم مخيف قال لك:
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2 ) ﴾
لمَ يارب؟ لأن مُضيّ الزمن يستهلكك فقط، فالإنسان سبت، أحد، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة، ذهب أسبوع، أربع أسابيع ذهب شهر، اثنا عشر شهراً ذهبت سنة، عشر سنوات ذهب عقد من عمره، فأنت بضعة أيام، وكلما انقضى يوم انقضى بضعٌ منك، هذه كلمة لأحد التابعين الكبار، "الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه" .
النجاح أحادي والفلاح شمولي:
فالبطولة والنجاح والفلاح، كلمة دقيقة، النجاح ما هو؟ النجاح أحادي، بيلغيت معه 93 مليار، مؤسسة أبل 700 مليار، هذا نجاح، أما الفلاح شمولي، الفلاح أن تنجح مع الله معرفةً، وعبادةً، وطاعةً، ودعوةً، أن تنجح في بيتك بحسن اختيار زوجتك، وتربية أولادك، وحِشمة بناتك، والعمل، أنت مُحاسَب عن ثلاثة دوائر، أنت دائرة، بيتك دائرة، عملك دائرة، في هذه الدوائر الثلاث لك القرار، أيّ دائرة تملك فيها القرار أنت مُحاسَب، بينما أنا لا أستطيع أن أقنع بلداً عظيماً وقوياً جداً في العالم أن يكف عدوانه عن بني البشر، لا قدرة لي، أنا أُحاسَب عن دائرة أملكها، أنا أملك نفسي؛ أستطيع أن أصلي أو لا أصلي، أستطيع أن أستقيم أو لا أستقيم، أستطيع أن أصل الرحم أو لا أصله، أنا دائرة، وبيتي دائرة؛ يوجد شاشة في البيت، لكنها منضبطة، مُشفَّرة فيها أشياء إسلامية فقط، أو إخبارية، غير مفتوحة، أملك بيتي ونفسي وعملي، أنت مُحاسَب عن ثلاث دوائر، نفسك دائرة ، بيتك، عملك، فإذا أقمت أمر الله فيما تملك كفاك ما لا تملك.
الآن هذا الدين العظيم كم عالم فيه؟ بالآلاف، كم مؤسسة إسلامية؟ كم، كم، كم؟ ممكن أن يُضغط بكليات؟ مرة كنت بأمريكا دُعيت إلى معمل السيارات الأول في العالم، معي مترجم ومعي مرافق، قال لي: هذه السيارة فيها 300 ألف قطعة، كلمة دقيقة، بينما أنا كراكب سيارة أرى أن لها غلافاً معدنياً، ولها عجلات، ولها مِكبَح، يعني تقريباً سبع أو ثماني قطع، كيف انتقلوا من 300 ألفاً إلى سبع أو ثماني قطع؟ هذا ما أقصده بكليات الدين، هذا الدين كم عالم فيه بالأرض من رسول الله حتى الآن؟ كم مؤسسة إسلامية؟ كم جامع؟ بالملايين، ممكن أن يُضغَطوا بكليات؟ ممكن.
أول شيء بالدين العقيدة إنْ صحّت صح العمل، وإنْ فسدت فسد العمل، فلا بد من طلب العلم فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، إلا أنّ العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
إذاً: الكليات موضوع دقيق جداً، الكليات: الأساسيات، أول كلية العقيدة؛ إن صحت صحّ العمل، وإن فسدت فسد العمل، يعني أنت تدرس 23 سنة من أجل أن تضع على بطاقتك قبل اسمك "د."، هذه "د." يعني 23 سنة دراسة، أمّا أن تستحق جنة الله إلى أبد الآبدين ليس لديك وقت أن تحضر درس علم؟ تقتني تفسيراً وتقرؤه؟ تسهر سهرة مع عالم رباني؟
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾
الذكر أعظم نشاط إسلامي ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ يعني إذا قرأت القرآن أنت ذاكر، إذا قرأت سنة النبي العدنان أنت ذاكر، إذا سألت عن مسألة إسلامية أنت ذاكر، فأوسع نشاط يفعله الإنسان الذكر:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾
لذلك: رُكّب الملك من عقل بلا شهوة، ورُكّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإذا سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
إذاً: من كليات الدين العقيدة: إن صحت صح العمل، إن فسدت فسد العمل، هذه العقيدة تحتاج إلى طلب علم، قبل قليل قلت لك: حتى تضع في بطاقتك الشخصية "د." 23 سنة دراسة، وحتى تستحق الجنة التي (فِيهَا ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ) ألا تحتاج إلى طلب علم؟ هذه القصة كلها هنا، فلا بد من طلب العلم، طلب العلم فريضة، ما معنى فريضة؟ استنشاق الهواء فريضة، لم تستنشق الهواء تموت، شرب الماء فريضة، لم تشرب الماء تموت، ممكن أن تتحمل دون هواء 4 دقائق، دون ماء ثلاثة أو أربعة أيام، دون طعام ممكن شهر، لذلك يجب أن تسأل نفسك من أنا؟ "مَن عرف نفسه عرف ربه"، الله -عز وجل- أصل الجمال والنوال والكمال وعدنا بجنة (فِيهَا ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ) فكليات الدين العقيدة، إن صحت العقيدة صحّ العمل، فلا بد من طلب العلم.
مرة مريض عند طبيب ينتظر دوره للدخول، وجد قبله 20 مريضاً، إذا أخذ الطبيب من كل مريض 50 ديناراً مثلاً، ضرب 20 بـ 50 وجد أن دخله فلكي، فقال للطبيب: علمني أن أكتب وصفة طبية، قال له: هذه بحاجة لمدة طويلة، تجب أن يكون معك ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، وتأخذ علامات عالية جداً لتدخل كلية الطب 7 سنوات من أجل أن تكتب وصفة.
فإذا أراد الإنسان الدنيا فعليه بالعلم، وإذا أراد الآخرة فعليه بالعلم، وإذا أرادهما معاً فعليه بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.
فأول كلية العلم، الإيديولوجيا، التصوّر، المنطلق النظري، كلها أسماء لمسمى واحد، الجانب العَقَدي بالإنسان.
الإنسان مُخيَّر ومُسيّر معاً:
يوجد جانب حركي: لماذا تتحرك؟ الله -عز وجل- في القرآن قال عن الأنبياء:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) ﴾
ما مغزى هذه الآية؟ الإنسان مفتقر في وجوده إلى تناول الطعام، لا يأكل يموت، ومفتقر إلى ثمن الطعام، مفتقر إلى الطعام، وإلى ثمن الطعام ﴿إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ انظر إلى هذه الآية ما أدقها! فأنت مُخيَّر، أريد أن أقول كلمة دقيقة؛ إذا توهّمت أنك مُسيَّرٌ التغى الدين كله، لو أجبر الله تعالى عباده على الطاعة بطَلَ الثواب، لو أجبر عباده على المعصية بطل العقاب، لو تركهم هَملاً كان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يُكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً.
أريد أن أقدم مثلاً لعلي أُوفَّق في ضربه؛ الإنسان مُخيَّر، إذا أُلغِي اختياره أُلغِي وجوده، إذا كيف يعلم الله مصيرنا؟ أنا شبّهت هذا التشبيه: البناء عشر طوابق، وأنت تسكن في الطابق العاشر، وهذا البناء لا يوجد فيه شُرفات، وأنت بغرفة النوم يوجد نافذة، نظرت إلى الأسفل يوجد ساحة، من هذه الساحة يوجد طريق إلى الملهى، وطريق إلى الجامع، هذا الشاب الذي في الأسفل مشي نحو الجامع، أنت علمُك أنه تحرّك نحو الجامع علم جبْرٍ أم علم كشْفٍ؟ لو قلت علم جبرٍ لانتهى الدين كله، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة بطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية بطل العقاب، لو تركهم هَمَلاً كان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطع مُكرَهاً.
فأنت فقط عندما تفكر أنك مسير التغى الدين كله، ما قولك إذا مدير ثانوية في أول يوم من العام الدراسي جمع طلابه في الساحة العامة، وقال لهم: سأتلو عليكم أسماء الناجحين آخر العام وأسماء الراسبين، انتهت المدرسة، إن ألغيت الاختبار ألغيت الدين، الدليل:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) ﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) ﴾
فأهم شيء بكليات الدين العقيدة؛ إن صحّت صحّ العمل، وإن فسدت فسد العمل، الآن يوجد حركة، العقيدة؛ فكر، منطلق نظري، إيديولوجيا، تصوّر، فهم، يعني العقيدة إن صحت صح العمل، وإن فسدت فسد العمل.
الآن الحركة، أنت بحاجة إلى الطعام والشراب، بحاجة إلى الدواء، بحاجة، بحاجة، الموضوع طويل جداً، فأنت وجودك مَنُوطٌ بدخلٍ لك، تأكل الطعام، تمشي في الأسواق، هذه الحركة، الآن لدينا مصطلحان: استقامة وعمل صالح، إن جاءت الاستقامة وحدها تعني معها العمل الصالح، إن جاء العمل الصالح وحده يعني الاستقامة، إن اجتمعتا تفرّقتا.
الاستقامة سلبية؛ أنا ما أكلت مالاً حراماً، أنا ما كذبت، أنا ما غششت، أنا ما أفسدت علاقة، لي صديق كان في الشام يبيع قطع تبديل لأغلى سيارة، قال لي عندي قطعة منذ خمس سنوات، ولم تُبَعْ، وهي مرتفعة الثمن، وقد انزعج كثيراً من هذا الأمر، فجاء إنسان وطلبها، فلما طلبها قال لي: اختلّ توازني من الفرح، ستُباع أخيراً، وأنا على السّلّم أريد أن أُنزِلها له، سألني: هل هي أصلية؟ قلت له: لا، قال له: هاتِها، لو قال له: نعم، الذي طلبها لا يستطيع أن يكتشف أنها غير أصلية، فقد كُتب عليها صنع ألمانيا، وهي صنع الصين، كلمة واحدة، لو قال له: نعم، فالبيعة حرام، الدين دقيق جداً:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
فلذلك الدين قضية خطيرة جداً، يعني إذا شخص نجح من السادس إلى السابع عادي، من السابع إلى الثامن، من الثامن إلى التاسع، من التاسع إلى العاشر، من العاشر إلى الحادي عشر، بعدها إلى البكالوريا، هنا يتحدد مصيرك إما طبيب، أو اختصاص أن تكون بلا عمل كألف شخص هكذا، النقطة مهمة جداً، فالبطولة أن تُحسِن اختيارك، والقرآن واضح: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ فلا بد من أن تومن أنك مُخيَّر، ومرة ثانية؛ إن تصورت أو توهمت أنك مُسيَّر انتهى الدين كله، أنت مُسيَّر لمَا اخترت، وعلم الله الأزلي علم كشفٍ لا علم جبرٍ.
العقيدة أخطر شيء، إن توهمت أن هذا هكذا أراد الله أن يفعل به، فالله خلقنا ليرحمنا، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض (فِيهَا ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ) ، فكليات الدين العقيدة، إن صحت صح العمل، والعقيدة تحتاج إلى طلب علم، لذلك ما من شيء أحب إلى الله تعالى من شاب مؤمن، أغلى شيء على الله الشاب المؤمن؛ لأن الشاب يمثل المحرك بالسيارة، اندفاع، والعلماء الربانيون يمثلون المِقوَد، الحركة بحاجة إلى شباب، والدعوة بحاجة إلى شيوخ، على ماذا نوجّه الناس؟ على منهج الله -عز وجل-، على منهج العظيم:
﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) ﴾
إن لم ترَ عظمة الله في خلقه، في قرآنه، في سنة نبيه عندك مشكلة كبيرة.
إخواننا الكرام، طلب العلم فريضة على كل مسلم، إذاً: نحن لدينا عقيدة، ولدينا حركة.
الثمرة:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) ﴾
الذكر أوسع كلمة، إنك إذا صليت أنت ذاكر، إذا قرأت القرآن أنت ذاكر، إذا نصحت صديقك أنت ذاكر، العبادة التي تدور معنا حيثما تحركنا:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) ﴾
فالذكر هو أعظم عبادة، تدور معك حيثما درت، أينما تحركت هناك ذكر، فلذلك الذكر هو أعظم عبادة.
الثمرة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ الصلاة:
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152) ﴾
يعني يا عبادي إنكم إن ذكرتموني أذكركم، ما معنى أذكركم؟ أمنحكم السكينة تسعدون بها ولو فقدتم كل شيء، ذاقها النبي في الغار، وذاقها إبراهيم في النار، وذاقها يونس في بطن الحوت.
إخواننا الكرام، أعظم عطاء إلهي السكينة، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء.
هذه كليات الدين، العقيدة والحركة والثمرة، العقيدة؛ فهمك للدين، تحتاج إلى طلب علم، والحركة؛ وفق منهج الله افعل ولا تفعل، الثمرة؛ ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ إنك إن صليت ذكرت الله، إذا ذكرك الله منحك السكينة مرة ثانية: تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء. ذاقها النبي في الغار، وذاقها إبراهيم في النار، وذاقها يونس في بطن الحوت، 150 طن الحوت:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) ﴾
﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101) ﴾
فسيدنا إبراهيم ذاقها في النار، وذاقها النبي في الغار، وذاقها يونس في بطن الحوت، فأنت فقط طَلب، اطلب الحق تصل إليه.
(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء.))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق