وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الملك - تفسير الآيات 1-2 ، قدرة الله المطلقة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين، اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً، وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيّها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من سورة المُلك.

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

﴿ تَبَٰرَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(1)﴾

[ سورة الملك ]


فضل سورة الملك :


قال عليه الصلاة والسلام منوِّها ًبفضل هذه السورة: 

(( ودِدتُ إنَّها في قَلبِ كلِّ مؤمنٍ، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك) ))

[ أخرجه الحاكم في المستدرك (ضعيف) ]

(( عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قال: يؤتى الرجلُ في قبرِه، فتؤتى رجلاه، فتقولُ: ليس لكم على ما قبلي سبيلٌ؛ كان يقرأ علي سورةَ الملكِ، ثم يؤتى من قِبلِ صدرِه، أو قال بطنِه فيقولُ: ليس لكم على ما قبلي سبيلٌ، كان أوعى في سورةِ الملكِ، ثم يؤتى من قبلِ رأسِه، فيقولُ: ليس لكم على ما قبلي سبيلٌ، كان يقرأ بي سورةَ الملكِ، فهي المانعةُ، تمنعُ عذابَ القبرِ، وهي في التوراةِ سورةُ  الملكِ، من قرأها في ليلةٍ فقد أكثرَ وأطيبَ . ))

[ أخرجه الحاكم، والألباني في صحيح الترغيب عن زر بن حبيش)حديث حسن) ]

وروي أنه (من قرأها كل ليلةٍ لم يضرَّه الفتَّان أي الشيطان)

عطاء الله تعالى بلا حدود:


كلمة ﴿تَبَٰرَكَ﴾ أي تعاظم، فربنا -عزَّ وجلَّ- يبيِّن لنا أن خيره عظيم، وقدرته لا حدود لها،  وخلقنا ليُسعدنا، وخلقنا لجنةٍ عرضُها السماوات والأرض، ﴿تَبَٰرَكَ﴾ أي تعاظم خيره، فالكون في الأصل مبنيٌ على إسعاد الإنسان، مبنيٌ على العطاء، فلذلك ﴿تَبَٰرَكَ﴾ تعني أن الله -سبحانه وتعالى- خيره كثير، وعطاؤه بلا حدود، وهو العاطي لا يسأل، وإذا أعطى الإنسان أدهشه، وما طالبك إلا بطاعته في عمرٍ محدود، ولك جنةٌ عَرْضُها السموات والأرض إلى أبد الآبدين، تطيعه في سنوات محدودة، تطيعه في الدنيا وطاعته متوافقةٌ مع فطرتك وطبيعتك، وطاعته مُستطاعة: 

﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

وطاعته مُسْعِدَة، وطاعته تحفظك من كل سوء، هذه الطاعة التي تحفظك، وهذه الطاعة التي تسعدك، وهذه الطاعة الميسرة لك، وهذه الطاعة التي هي من إمكاناتك ضمن استطاعتك ميسرة، هي سبب عطاءٍ أبدي إلى يوم القيامة إلى أبد الآبدين، لذلك قال تعالى: ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ 

المُلك بيد الله تعالى وحده:


شيء آخر؛ المُلك بيد الله، هذه كلمةٌ لها ما بعدها؛ أي لا تخشَ أحدًا إلا الله، لا ترجُ غير الله، لا تتضعضع لغير الله، لا تبذل ماء وجهك أمام إنسانٍ ضعيفٍ مثلك. 
﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ مُلك كل شيء من أدَقِّ الأشياء إلى أكبرها، من أقربها إلى أبعدها، من أخطرها إلى أَجَلِّها، فكل شيءٍ بيده خَلقاً وتصرُّفاً ومصيراً، فهو الذي خلق. 

﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف  ]

﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ(55) إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

ما من دابَّةٍ مهما بدت لك عاتيةً قوية إلا هو آخذ بناصيتها، أيها الإخوة الكرام؛ لو تعلمنا التوحيد لكنا في حالٍ غير هذه الحال، التوحيد شيء وأن تؤمن بالله خالقاً شيء آخر، وأن تؤمن بالله خالقاً هذا حدٌ مشتركٌ بين كل الخلائق إلا قلة قليلة جداً ركبت رأسها، وجَحَدَت ما هو واضحٌ كالشمس، ويوم القيامة تقول: 

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)﴾

[ سورة الأنعام ]

يقول الله -عزَّ وجلَّ-: 

﴿ ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنعام ]

فأن تؤمن بالله خالقاً شيء، وأن تؤمن به فعَّالاً شيءٌ آخر، أن تؤمن أن الأمر كله راجعٌ إليه.

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

وهذا أقوله كثيرًا: أنت حينما تتأكَّد أن الأمر بيده وحده لا تتجه إلى سواه، ولا ترجو سواه، ولا تخاف من سواه، ولا تَعْقِدُ الأمل على غيره، ولا تتكل إلا عليه، ولا تَسعد إلا بقربه ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾  
من أدق الأشياء؛ هل أحدنا يملك حركته؟ نقطة دمٍ صغيرة إذا تجمدت في أحد أوعية الدماغ فَقَدَ الإنسان الحركة، فالحركة بيد من؟ بيد الله -عزَّ وجلَّ-، وحينما يفقد الإنسان حركته يتمنَّى أقرب الناس إليه أن يموت، ويعبِّرون عن هذا بأدعية كثيرة: خفف الله عنه، وحينما يفقد الإنسان بصره أو سمعه، وحينما يختل عقله أقرب الناس إليه –أولاده- يتوسطون ليضعوه في مستشفى المجانين، عقلك في رأسك، وترى بعينك، وتسمع بأذنك، وتنطق بلسانك، وتتحرك؛ هذه لا تملكها لكن الله يملكها، عين بكت من خشية الله، وعينٌ غضت عن محارم الله، ولسانٌ نطق بذكر الله، وأذنٌ ما استمعت إلا إلى كتاب الله، رجلٌ لم تمشِ إلا لقضاء حاجة الناس ولخدمة الخلق، يدٌ لم تُستعمل إلا في العطاء، هذه الحواس وتلك الأجهزة والأعضاء إذا وظِّفت في طاعة الله -عزَّ وجلَّ- فلنرجو من الله -عزَّ وجلَّ- أن يحفظها للمؤمن طيلة حياته، وهذا معنى دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-:

(( اللَّهمَّ اقسِم لَنا من خشيتِكَ ما يَحولُ بينَنا وبينَ معاصيكَ، ومن طاعتِكَ ما تبلِّغُنا بِهِ جنَّتَكَ، ومنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَينا مُصيباتِ الدُّنيا، ومتِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتنا ما أحييتَنا، واجعَلهُ الوارثَ منَّا، واجعَل ثأرَنا على من ظلمَنا، وانصُرنا علَى من عادانا، ولا تجعَل مُصيبتَنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدُّنيا أَكْبرَ همِّنا ولا مبلغَ عِلمِنا، ولا تسلِّط علَينا مَن لا يرحَمُنا ))

[ أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمر ]

﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ أهلك الذين هم في البيت بيد من؟ بيد الله -عزَّ وجلَّ-، إما أن يسلَس لك قيادهم وإما أن تستعصي عليك، ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ أولادك إما أن يكونوا قُرَّة عين، وإما أن يكونوا أحد أكبر مصائب الدنيا، فمن علامات آخر الزمان أن يكون الولد غيظاً لأبويه، والمطر قيظاً، ويفيض اللئام فيضاً، ويغيض الكرام غيضاً، وهذا البيت الذي تسكنه بيد من؟ بيد الله -عزَّ وجلَّ-، والدليل: خمس درجات من الزلازل تصبح المدينة رأساً على عقب، تصبح الأبنية فوق بعضها، ويبحثون عن الضحايا وهذا كله بثوانٍ. 

﴿ أَمَّن جَعَلَ ٱلْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنْهَٰرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ (61)﴾

[ سورة النمل ]

الله -جلَّ جلاله- جعلها مستقرة، ولو شاء لزلزلها فجعل عاليها سافلها. 

﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام  ]

الصواعق، البراكين، القذائف، ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الزلازل، الألغام ﴿قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ لأن الإنسان إذا بطشَ بطش جباراً. 

﴿  وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)﴾

[ سورة الشعراء ]


الفرق بين الملك والملكوت :


﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ أي تعاظم خيره، وبيده الملك أي بيده كل شيء، إلا أن بعض العلماء قالوا: المُلك شيء والمَلكوت شيءٌ آخر. 

﴿ فَسُبْحَٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍۢ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)﴾

[ سورة يس ]

وهنا: ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ فالملك للأشياء المادية، والملكوت للأشياء النفسية، فربنا -سبحانه وتعالى- تنزَّه عن كل ما لا يليق به في معاملة النفوس، وعظُم خيره وعظُمت قدرته في تدبير الأجسام. 
﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ قال بعض العلماء وهو الإمام الحسن: تبارك أي تقدَّس، والتقديس هو التنزيه، والتنزيه هو التسبيح، فسَبَّحَ الله أي نزَّهه عن كل ما لا يليق به، ومَجَّده وخضع له، وبعض علماء التفسير حملوا معنى تبارك على التسبيح لقول الله-عزَّ وجلَّ-: ﴿فَسُبْحَٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ و ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ ، وبعضهم قال: تبارك أي دام، فهو الأوَّل بلا بداية، والآخر بلا نهاية، هو الأول ولا أول قبله، هو الآخر ولا آخر بعده.

تجليات الملك في الكون:


﴿ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ فالمُلك تشمل الكون كله، بيده السموات والأرض، وقد ذكرت لكم من قبل أن مركبةً أُرسلت إلى المُشْتَري قبل سبعة أعوام بالتحديد، قبل عامٍ وصلت إلى المشتري وقد بقيت تمخر عُباب الفضاء ست سنوات بأعلى سرعةٍ وصلها الإنسان أربعون ألف ميل في الساعة، وعلى هذه المركبة مرصدٌ عملاق وهو قُرْبَ المشتري، هذا المرصد رصد أبعد مجرةٍ اكتشفت حتى الآن تبعد ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، وإن أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض يبعُد عنا أربع سنوات ضوئية، والضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، فكم يقطع في الدقيقة؟ وكم يقطع في الساعة؟ وكم يقطع في اليوم؟ وكم يقطع في العام؟ وكم يقطع في أربعة أعوام؟ بإمكان كل منكم في البيت اليوم أن يمسك آلةً حاسبة وأن يضرب ثلاثمئة ألف بستين، ثم بستين، ثم بأربع وعشرين ثم بثلاثمئة وخمسة وستين ثم بأربع، سيعرف كم يبعد عنا هذا النجم الملتهب الذي هو أقرب نجمٍ على الإطلاق إلى الأرض، وتصوَّر أن لهذا النجم طريقاً معبَّدة، وقد ركبت سيَّارتك واتجهت إليه بسرعة مئة، ثم قَسِّم هذا الرقم الذي حصلت عليه على مئة، الجواب هو كم ساعة إلى أن تصل إليه، ثم قسم على أربع وعشرين، كم يومًا؟ ثم قسم على ثلاثمئة وخمسة وستين، فستجد الرقم قريباً من خمسين مليون عام، أي إن أردت أن تصل إلى هذا الكوكب بمركبةٍ أرضية تحتاج إلى خمسين مليون عام، بعده عنا أربع سنوات ضوئية، وهذه المجرة الحديثة التي تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون، البليون ألف مليون، وثلاثمئة ألف بليون أي ثلاثمئة ألف ألفِ مليون؛ أي ثلاثمئة وأمامها اثنا عشر صفراً، فكم بُعْد هذا النجم؟ قال تعالى: 

﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾

[ سورة الواقعة ]

﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾   يملك هذه المجرة وكل مجرَّة، وأقرب دراسة فلكية؛ هناك من يقدِّر أن في الكون قريباً من مليون مليون مجرة، وأن في كل مجرةٍ قريباً من مليون مليونِ نجم، وأن بعض نجوم برج العَقرب واسمه (قلب العقرب) يتَّسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، وهناك نجوم حجمها مليون ضعف حجم شمسنا ، وشمسنا تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض؛ أي أن شمسنا تكبر أرضنا بمليون وثلاثمئة ألف مرة، وبينهما مسافة قدرها مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، ونجم قلب العقرب في برج العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، أهذا الإله يُعصى؟! أهذا الإله لا يرجى عطاؤه؟! لا تُرجى جنَّته؟! لا تُخشى ناره؟! أتؤْثر عليه زوجةً تطيعها وتعصيه؟ أتؤثر عليه شريكاً تطيعه وتعصيه؟ أتؤثر عليه دراهم معدودات تبيع دينك من أجلها؟ أتؤثر عليه دنيا محدودة سريعاً ما تنقضي؟ أتؤثر دنياك على آخرتك؟  ربنا -عزَّ وجلَّ-يقول: 

﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌۢ بِيَمِينِهِۦ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ من أدق الأشياء إلى أكبر الأشياء، الحُوَين مثلاً لا يُرى بالعين، يخرج من الإنسان في اللقاء خمسمئة مليون حوَين، كل حُوَين على نواته، والحُوَين هو خلية لها غلاف وهيولى ونواة، على النواة عدد كبير جدًا يزيد عن مليون من الأوامر والمعلومات المبرمجة، والآن حديث العالم كله اليوم عن هذه الهندسة الوراثية والنسخة المُطابقة، عن هذا الذي لا يُرى بالعين والذي يسهم في تشكيل الإنسان، وفي تكوين خصائصه، وشكله، ودمه، وأعضائه، وأجهزته، واستعداداته، وقدراته، إن ذهبت إلى الكِبَر فالكون لا ينتهي فهو لا حدود له، وإن ذهبت إلى الصِغَرْ فشيء لا يُصدَّق، ﴿ تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ من أدق ذرةٍ إلى أكبر مجرة والنظام واحد، نظام الذرَّات يشبه نظام المجرَّات، والذرات عالمٌ قائمٌ بذاته قال تعالى:

﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ (33)﴾

[ سورة يس ]

كل ذرةٍ فيها كهارب تسبح حول النواة بنظامٍ مدهش وبسرعاتٍ خيالية. 

﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلْأَنْعَٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰٓؤُاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

إن أصغر عظام الجسم البشري عُظيمات السمع؛ ثلاث عُظيمات مربوطة بغشاء الطبل، ما مهمَّتها؟ مهمتها تكبير الصوت عشرون ضعفاً، فالإنسان يتلقَّى موجات صوتية من صيوان أذنه، تدخل هذه الموجات عبر قناة الأذن إلى غشاء الطبل، وغشاء الطبل مربوط بهذه العُظَيمات، هذه العُظيمات تكبِّر الصوت عشرين ضعفاً، لها مهمةً ثانية؛ فلو جاء صوتٌ يمكن أن يخرق غشاء الطبل هذه العُظيمات تخفِّضه، تكبِّر وتخَفِّض، ونحن لا يوجد عندنا أجهزة كهربائية تكبِّر وتخفِّض في آن واحد، تُكَبِّر الصوت الضعيف وتُضْعِف الصوت القوي حفاظاً على سلامة الإنسان، الأذن وحدها آيةٌ من آيات الله، حتى الآن لا أحد يعلم كيف يفرِّق الإنسان بين النَغَم والضَجيج، فالنغم ممتع أما الضجيج مزعج، و كلاهما أصوات.
العين؛ هذا الدمع الذي يسيل هو مادة مطهِّرة و مُذيبة و مغذِّية و زلقة، تنطلق من غدد بمقدار يحتاج معه إلى قناة تصريف وهي قناة الدمع، قناة الدمع تنقلب في الأنف إلى أداة ترطيب، وللأنف سطوح متداخلة، يمُرُّ الهواء عَبرها، فكل الأجسام الغريبة تتوضَّع على هذه السطوح اللزجة المرطَبة بقناة الدمع، والحديث عن العين يطول، الحديث عن شبكية العين؛ مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط في شبكية العين، قسمٌ من هذه المخاريط من أجل اللون الأخضر، وقسمٌ للون الأزرق، وقسمٌ للون الأحمر، وقد تتداخل هذه الألوان وتُرْسَل إشارة إلى الدماغ، فهذا الضوء إذا وقع على هذه المخاريط والعصيَّات يجري تفاعلاً على هذه المخاريط والعصيات، ومن هذه التفاعل ينشأ تيَّار كهربائي يُرسل إلى الدماغ لقراءة الصور، الحديث عن العين يطول، الحديث عن الأذن يطول، عن الأنف يطول، فربنا -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان في أحسن تقويم، الآن يريدون أن يغيِّروا خلق الله، وسوف يدفعون ثمن هذا التغيير باهظاً جدًا، وأغلب الظن أن العقل البشري حينما يبتعد عن وَحي السماء يدمِّر نفسه، وما تعانيه البشرية اليوم من أمراضٍ لا دواء لها كالإيدز من تفككٍ للأسرة، من انهيار في الأخلاق، من شيوع المخدِّرات، من انتشار الجريمة؛ هذه حركة العقل من دون وَحْي السماء، هذه حركة العقل من دون منهج الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]


سر السعادة هو ذكر الله واتباع منهجه:


﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ أي على كل شيء قدير يُعِزُّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء، فما من إنسان على وجه الأرض- فيما أعلم، وهذا هو الحق- أعزَّه الله كرسول الله، ويذل من يشاء، يُحيي وُيميت، يُغني ويفقر، يعطي ويمنع، وهذا معنى ﴿وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ فأنت تريد الحياة، تريد العِز، تريد الغِنى، تريد الأمن والطمأنينة؛ هذا بيد الله، ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ لا تبحث عن سعادةٍ بعيداً عن منهج الله، لن تصل إليها لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: 

﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾

[ سورة الرعد ]

أي أنها لا تطمئن إلا بذكر الله حصراً. 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾

[ سورة طه ]

فلمجرد أن ترى إنساناً واحدًا تتوهَّم أنت أنه سعيدٌ وهو معرض عن ذكر الله فأنت تكذِّب هذه الآية، لو أن في الأرض إنساناً واحدًا يسعد وهو معرض عن ذكر الله إنه يكذِّب هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ ﴿أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ﴾

العزُّ باتباع الله تعالى والذل بمعارضته:


وقال بعض العلماء: ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ﴾ أي مُلك النبوة، فالله هو الذي أعطى النبوة لهذا النبي العظيم، والله -سبحانه وتعالى- يُعِزُّ من اتبعه، ويذل من عارضه، وهذا الدين أمامكم، ماذا تقرأ في صلاة الفجر؟ دعاء القنوت: "سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت" ، أعداء الله في الأَذَلِّين. 

﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِىٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ (21)﴾

[ سورة المجادلة ]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

 فربنا -عزَّ وجلَّ- هو العزيز. 

اجعل لربِّك كل عزك يستقر ويثبت       فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت

أيها الإخوة الكرام؛ كل شيء يُمَلَّك بيد الله بدءاً من أدق خليةٍ في جسمك إلى أكبر خلية، نمو الخلايا من يضبطه؟ حتى الآن ليس هناك دواء لهذا المرض(السرطان)، من يملك ضبط نمو الخلايا؟ الله -جلَّ جلاله-، اكتشفوا في الهندسة الوراثية أن هناك جينةً -إن صح التعبير- مسؤولةً عن السرطان في الإنسان، تُجَمَّد أو تُفَعَّل، فكل إنسان عنده إمكانية هذا المرض من دون استثناء، فإما أن تُعقل وإما أن تُطلق، بيد من هي؟ بيد الله -عزَّ وجلَّ-، الحديث عن المورِّثات يطول، وعن الهندسة الوراثية أطول، لكن الذي يبدو للعلماء أن هذه الأوامر -التي هي بيد الله- هي مسؤولة عن هذه الموضوع، فمن يطلقها من عقالها؟ الله -جلَّ جلاله-، من يحجزها؟ الله -جلَّ جلاله-.

الموت مصير كل حيّ :


﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2)﴾

[ سورة الملك ]

فهو الذي خلق الموت، فنحن نحيا لنموت، ونموت لنحيا، نحيا في الدنيا والموت مصير كل إنسان، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، فالليل مهما طال فلا بدَّ من طلوع الفجر  والعمر مهما طال فلا بدَ ّمن نزول القبر.

كلُّ ابنِ أُنْثى وإن طالَتْ سَلامتُهُ        يَوْمًا على آلةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ

[ كَعبُ بن زُهَيْر ]

فــإذا حمــلت إلى القبــور جنــــازةً        فاعـلم بأنـك بعـــدها محمول

من هو العاقل؟ هو الذي يُعِدُّ لهذه الساعة عدتها، لابدَّ لك من يومٍ تخرج فيه من بيتك ولا تعود إليه إطلاقاً، تخرج لا على قدميك ولكنك محمول، كلنا ولا أحد مستثنى من هذا الحكم أبداً، هذه الساعة التي لا ريب فيها ولا بدَّ منها، من يُعدّ لها؟ أَعِدُّوا لهذه الساعة العمل الصالح، أَعِدُّوا لهذه الساعة طاعة الله، أَعِدُّوا لهذه الساعة الإكثار من ذكر الله، هو ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ﴾ نحيا لنموت، ونموت لنحيا حياةً أبدية؛ هذا هو المعنى الأول.

الحكمة من تقديم الله عز وجل الموت على الحياة:


وقال بعض العلماء: ربنا -جلَّ جلاله- قدم الموت على الحياة، لماذا؟ لأن الموت من أوضح مظاهر القهر، فسبحان من قهر عباده بالموت، فالإنسان يكبر ويكبر، ولا بدَّ من ساعةٍ يغادر فيها الدنيا؛ لأن مظهر القهر في الموت أَشَد، الإنسان يُقْهَرُ بالموت، والموت من نعم الله الكبرى، والموت أحياناً يكون ستراً للإنسان، ويكون الموت نعمةً له، لكن دعاء النبي-عليه الصلاة والسلام- من أدق الأدعية: 

(( لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي ))

[  أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير عن أنس بن مالك ]

فالإنسان ليفوِّض أمره إلى الله، لكن النبي-عليه الصلاة والسلام- يقول: 

(( خَيرُ النَّاسِ من طالَ عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ ))

[  رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ ]

أثنى النبي على إنسانٍ عاش حياةً مديدةً بعملٍ صالحٍ كبير، فأول معنى أنه قدَّم الموت على الحياة لأن في الموت قهراً للإنسان، فالحياة لا يوجد فيها قهر، فإذا ولد طفل فليس هناك قهر، بالعكس قد أقبل على الدنيا، أما في الموت فما جمعه الإنسان في عمرٍ مديد يخسره في ثانيةٍ واحدة، لا يملك بعدها شيئاً ولا سِنَّه الذي صُنع من الذهب، يؤخذ منه ويقال: الحيُّ أفضل، ولا قطعة من أثاث بيته، ولا مقتنياته الرئيسية إطلاقاً، يذهب إلى القبر بلا شيء و يترك ماله وراءه.
وقد قدَّم الموت على الحياة لأن الإنسان إذا عاش فأمامه خيارات كثيرة، أما حينما يموت: (فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار) صار لديه خيار صعب، إما نجاةٌ وإما هلاك؛ هذا المعنى الثاني.
المعنى الثالث: قال عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّ بَنِي آدَمَ بِالْمَوْتِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ ))

[ أخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة ]

  حياة وموت، جزاء وبقاء، لذلك ورد أن: (اعمل لدنياك بقدر بقائك فيها، واعمل لآخرتك بقدر مقامك فيها، واتقِ النار بقدر صبرك عليها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه)

ما هو الموت؟


أيها الإخوة الكرام؛ الموت ليس عدماً مُطلقاً، وليس عدماً نسبياً لكنه انفصال الجسم عن النفس وعن الروح، الإنسان له جسم وعاءٌ له، وله نفسٌ هي ذاته، وفيه قوةٌ محرِّكة هي الروح، فالنفس تذوق الموت؛ أي تخلع عنها الوعاء الذي كانت بداخله، فالموت ليس عدماً لكنه انتقال من حالٍ إلى حال، والدليل أنك إذا رأيت شهيدًا مضرجًا بدمائه، ماذا يقول الله عنه؟ 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتًۢا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾

[ سورة آل عمران ]

حينما انتهت معركة بَدر وانتصر فيها النبي وأصحابه الكرام على كفار قريش، خاطب النبي الكريم القَتلى واحداً واحداً بأسمائهم فقال: 

(( ‏‏"يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟! فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا ‏"‏ ‏فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا، قَالَ ‏"‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا  ))

[ ‏مسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِك ]

فالموت ليس نهاية الحياة، الموت بداية الحياة الأبدية، والدليل قول الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى (24) فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٌ (26)﴾

[ سورة الفجر ]

هو ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ﴾ نحيا لنموت ونموت لنحيا، الحياة الدنيا تنتهي بالموت، والحياة الآخرة تنتهي بالأبد، بالبقاء، الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، الدنيا محدودة والآخرة طليقة، وما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر، وإن المؤمن حينما يموت ينطلق من ضيق الدنيا إلى سَعة الآخرة كما ينطلق الجنين من ضيق الرحم إلى سَعة الدنيا.

الامتحان والابتلاء علة وجودنا في الدنيا:


هو ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ﴾ ليمتحنكم، إن عِلَّة وجودنا في الأرض الامتحان والابتلاء، والدليل:

﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ وَإِن كُنَّا لَمُبۡتَلِينَ (30)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[ سورة العنكبوت   ]

كل شيءٍ تنطوي عليه نفسك سوف ينقلب إلى عمل، سوف يُجَسَّد ويظهر، فالكريم يظهر كرمه، واللئيم يظهر لُؤمه، والبخيل يظهر بخله، والسخي يظهر سخاؤه، والمستقيم تبدو استقامته، والمنحرف يظهر انحرافه، والصادق يظهر صدقه، والكاذب يظهر كذبه.
أيها الإخوة الكرام؛ الحياة تُظْهِر ما في النفس؛ ابتلاء ﴿إِن كُنَّا لَمُبۡتَلِينَ﴾ ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ﴾ ، قال: ﴿أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ ، هناك استنباط رائع جداً: الإنسان خُلِقَ للعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح ثمن الجنة، لذلك الإنسان حينما يموت لا يندم إلا على شيءٍ واحد تقصيره في العمل الصالح: 

﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ (99) لَعَلِّىٓ أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّآ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[  سورة المؤمنون ]

والنقطة الدقيقة: سرُّ وجودك وعِلَّة وجودك أن تعمل عملاً صالحاً يصلح للعرض على الله كي يكون سبباً لدخول الجنة: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ ، الإنسان يبدو معدنه، فيوجد لدينا ذهب عياره أربعة وعشرون، وذهب واحد وعشرون، وثمانية عشر، وستة عشر، وأحد عشر، وهناك نحاس مغطَّى بالذهب، ونحاس مُلَمَّع، وهناك معدن خسيس، والناس معادن، لقد رأيت جوهرة في متحف قيل: ثمنها مئة وأربعون مليون دولار، أكبر جوهرة في العالم في استنبول، والجوهرة أساسها فحم، فلو أتيت بقطعة فحمٍ مماثلة، وازنْ بينهما كلاهما من أصلٍ فَحْمِيِّ، لكن هذه جوهرة وهذه فحمة، والناس كذلك، فهناك إنسان كالجوهرة بأخلاقه، وعدله، وإنصافه، وورعه، ورحمته، وحبِّه للخير، فهو مصدر عطاء، و مصدر أمن للناس، وهناك إنسان يعيش كالطحالب على أنقاض الناس، يبني مجده على أنقاضهم، يبني غناه على إفقارهم، يبني حياته على موتهم، فالناس معادن.
 ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ يوجد إنسان يتزوَّج فيزداد قرباً من الله، وإنسان يتزوج فيفسق، إنسان يسافر فيتفلت، وإنسان يسافر فيزداد قرباً من الله، كما قال الإمام الشافعي: "السفر يزيد التقي تقىً والفاجر فجوراً" ، إنسان يغتني فيتفلَّت، وإنسان يغتني فيزداد عملاً صالحاً، إنسان يفقر فيكفر، و إنسان آخر يفقر فيصبر، فأنت مُمْتَحن كل دقيقة، ممتحن فيما أعطاك وفيما حرمك، فالذي أعطيته أنت ممتحن به؛ مادة امتحانك مع الله، فإن أُعطيت الغنى أنت ممتحنٌ بالغنى، قدَّر الله أن تكون فقيراً، أنت ممتحنٌ بالفقر، أُعطيت وسامةً ممتحن بالوسامة، لم تُعط الوسامة، ممتحن بعدم الوسامة، أعطيت طلاقة لسانٍ ممتحن بطلاقة اللسان، لم تُعط هذه الطلاقة أنت ممتحن بطريقة أخرى غير اللسان لكن طيب فنجح، فهو ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ﴾ أعطيت زوجةً تمتحن بها، هل تضبطها؟ هل تأخذ بيدها إلى الله أم تطلق لها العنان ما دامت ترضيك؟ أنت ممتحن بالأولاد، ممتحن في كل ثانية، في كل حركة وسكنة ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ فلذلك الآية دقيقة جداً، لذلك النبي -كما قلت في أول الدرس- يتمنى عليه الصلاة والسلام أن تكون (تبارك الذي بيده الملك) في قلب كل مؤمن ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ أنت ممتَحن، ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبۡتَلِينَ﴾ أنت مراقَب. 

﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ (14)﴾

[ سورة الفجر ]

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[ سورة النساء ]

لينظر كيف تعملون؟ كيف تعامل زوجتك؟ كيف تعامل والديك؟ كيف تعامل أولادك؟ كيف تعامل إنساناً جاء لعندك يستنصحك؟ أتنصحه أم تغُشُّه؟ إنسان جاهل وأنت عالم وأنت موثوق عنده أتنصح له أم تبتز ماله؟ من يعرف ذلك؟ الله وحده يعرف ذلك، أنت ممتحن في كل حركة، في كل سكنة، في كل نظرة، في كل عطاء، في كل منع، في كل صلة، في كل قطيعة، في كل غضب، في كل رضا، أنت ممتحن ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ ، فمثلاً إذا طرق بابك إنسان صاحب حاجة في وقت غير مناسب، أتطرده أم تشتمه أم تُلَبِّي حاجته وترى أن الله ساقه إليك؟ أنت ممتحن فهل تعطيه أم تمنعه؟ وَطِّن نفسك على أنك ممتحن في كل لحظة، في كل ثانية، في كل ظرف، في كل مكان، في كل زمان، امرأة متفلتة مشت أمامك فأنت ممتحن بها أتملأ عينيك منها أم تغض بصرك عن محارم الله لتذوق حلاوةً إلى يوم تلقاه؟! فالحياة الدنيا خضرةٌ نضرة، والفتن يقظة وأنت ممتحنٌ فيها، فهنيئاً لمن نجح بالامتحان، هنيئاً لمن وصل إلى الله من خلال طاعته ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ ، ولعل الله -سبحانه وتعالى- يتيح لي في درسٍ قادم أن أتابع الحديث في هذه الآية، والحمد لله رب العالمين. 

الملف مدقق

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور