بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس من سورة المُلك، ومع الآية الخامسة عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ (15)﴾
آيات الله -جلَّ جلاله- في الأرض:
﴿هُوَ﴾ أي الله -جلَّ جلاله-
﴿هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ ، ومعنى أن (الأرض ذلول) أي: مُيسَّرة، فلو أن تربتها صخرية كيف نزرعها؟! لو أنها مضطربة كيف نستقرُّ عليها، وكيف نبني؟! لو أن الماء كان غائراً فكيف سنستخرجه؟! لو أن الحَر لا يُطاق فكيف سنعيش على سطح الأرض؟! جو الأرض مناسب، والهواء مناسب، نِسب الأوكسجين إلى الآزوت نسب متوازنة،
أودع الله في الأرض الينابيع وأجرى الأنهار، فتت التُربة وجعلها صالحةً للزرع، خلق البذور، أرشد الإنسان إلى زرع النبات وإلى جني ثماره، أودع في الأرض فلزَّات المعادن، فلو أن الحديد الذي يستخدمه الناس في كل شؤون حياتهم كان حديداً صرفاً كيف نستخرجه؟ جعله مخلوطاً بالتراب نستخرجه كفلزَّات ثم نعالجه ونستفيد منه ونجعله حديداً صرفاً، لو درست حجم الأرض، لو درست دورة الأرض حول نفسها وحول الشمس، لو درست مَيل محورها، لو درست بعدها عن الشمس وحرارتها، لو درست قانون الجاذبية فيها وطبيعة تربتها، لو درست طبيعة التضاريس فيها وهواءها وماءها، لو درست أنواع المخلوقات من حيواناتٍ برِّية وبحرية، ومن حيوانات تحلق في الجو (الطيور)، لو درست نظام الحياة، ونظام الفصول ونظام الليل والنهار، ونظام الشمس والقمر، لو درست الأرض لوجدَّتها مهيَّأَةً بشكلٍ كامل للإنسان، جعلها ذلولاً
﴿هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ ، أي شيءٍ متحركٍ صنعه الإنسان يضطرب، لو أن الأرض تضطرب فمن الصعب أن نبني عليها بناءً، فالأرض مستقرَّة وحينما تُزَلْزَل يصبح عاليها سافلها،
وتفقد استقرارها، واستقرار الأشياء عليها، وكونها بحجمٍ يتناسب مع وزن الإنسان، فوزن الإنسان على القمر هو سُدس وزنه على الأرض، فمن يزن 60 كغ وزنه على القمر 10 كغ، إذاً جعلها بحجمها وكثافتها وشكلها ودورانها حول نفسها وحول الشمس، وتوزُّع اليابسة والماء فيها،
وتنوع اليابسة من جبالٍ إلى هضابٍ، إلى سهولٍ، إلى صحارى، إلى أغوار، هذا التنوّع في التضاريس، والتنوع في الجو والمُناخ، كل شيءٍ في الأرض مهيأ للإنسان:
﴿ وَٱلْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)﴾
أي وضعها خصيصاً لهذا الإنسان، ﴿هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا﴾ أيها الإخوة بعض الأماكن في الأرض صخرية كاللَّجاة عندنا؛ أرضٌ صخريةٌ لا يُنتفع بها، لا تُزرع، ولا تُغِلُّ المحاصيل، ولا تقبل أن تستفيد منها بشيء، تصوَّر أن الأرض كلَّها صحاري أو صخور بازلتية، تصور أن الأرض كلَّها منحدرات قاسية فكيف نستفيد منها؟ تصور أن الأرض بحجمٍ أكبر وبدورةٍ أسرع، بليلٍ أقصر ونهارٍ أطول فكيف نستفيد منها، إذاً هذه الآية معها مجالٌ رَحْب، يمكن أن تفكر في كل شيء أنه:
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2)﴾
فالنبات مذلل، تقطفه وأنت مرتاح، فإذا كانت الثمرة كبيرة جداً جعلها على الشجر، والشجر جعله متناسباً مع طول الإنسان، الفواكه تنضج في أوقات متتابعة، والفاكهة الواحدة لأنها لا تُخزَّن تنضج في شهرٍ أو شهرين؛ هذه آيةٌ واسعةٌ جداً ﴿هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ ، أضرب لكم مثلاً ذكرته كثيراً: هذه البقرة من ذللها؟ الله -جلَّ جلاله-، حينما جُنَّت في بريطانيا اضطروا إلى إعدامها أو إلى حرقها، فالبقرة هيَ هي، فمع أنها تقدِّم للإنسان خدماتٍ لا تقدَّر بثمن، وحينما تتوحَّش لا تستطيع إلا أن تقتلها، وقد ذكرت لكم من قبل: أنَّ أخاً عنده بقرة توحَّشت فقتلت رجلين وهمَّت بقتل الثالث، فما كان من صاحبها إلا أن أطلق عليها النار، حينما ترى بقرةً مذللة وجملاً مذللاً وغنمةً ذليلة، من ذللها؟ لو أن الله ركَّب طباع الضبع في الغنم كيف نسفيد منه؟ لو أنه ركَّب طباع الحيوانات المفترسة في الحيوانات الأليفة فكيف سننتفع بها؟ لو أن هذا الماء الذي نشربه كان ملحاً أُجاجاً فكيف نشربه؟ كم يكلِّف تحلية اللتر من الماء؟ يكلّف أغلى من ثمن البنزين.
﴿ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّۢ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)﴾
من يحلِّيه لنا؟! الله -جلَّ جلاله-، أصل الأمطار من البحار، والبحار ملحٌ أُجاج،
يموت الإنسان على سطح البحر عطشاً، فكم من باخرةٍ غرقت وركب بعض ركَّابها بقارب النجاة، وكم من إنسانٍ على قارب النجاة مات عطشاً وهو على سطح البحر، ملحٌ أُجاج على اتساع مساحته، وعلى عمقه لا يُنتفع منه في الشُربِ فلا بدَّ من أن يُحَلَّى، لا بدَّ من أن يُقَطَّر، فمن جعله عذباً فراتاً؟ الله -جلَّ جلاله-، من أودعه في الينابيع؟! الله -جلَّ جلاله-، ونحن حينما أردنا أن نُنشئ مستودعاً للماء قَلَّدنا فعل ربنا تقليداً فجعلناه تحت الأرض بأربعمئة متر، ومستودعات مياه عين الفيجة تتصل من منبعها إلى قريبٍ من حمص، ومن سِيْف البادية إلى منتصف لبنان حوض هذا النبع الذي يروي هذه البلدة الطيبة، من صمم هذا المستودع؟! ومن جعله يعطينا كل ثانيةٍ ستة عشر متراً مكعباً من الماء ليروي هذه المدينة بأكملها؟!
﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَسْقَيْنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمْ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ (22)﴾
الهواء مُسَخَّر ومُذلل تستنشقه أينما ذهبت بنسبٍ دقيقةٍ جداً، فلو أن نسبة الأوكسجين في الهواء ارتفعت لاحترق كل ما على الأرض لأقل شرارة، لكن نسبة الأوكسجين إلى الآزوت نسب متوازنة في الهواء، والماء مُقَطَّر، لكن الماء المقطر تقطيراً كاملاً لا يصلح للشرب،
لا بدَّ من أن يكون الماء معدنياً، لا بدَّ من بعض المعادن التي تُذاب في الماء بنسبٍ دقيقةٍ جداً، فمن جعل هذه النسب؟ في بعض البلاد التي تُحَلَّى فيها مياه البحر، هذه المياه المحلاَّة لا تصلح للشرب إلا إذا خُلطت بمياه الآبار المعدنية، فالماء المقطَّر كُليّاً لا يَصلُح للشرب أبداً، تقول: مياه معدنية فيها كالسيوم ويود ومغنيزيوم وفوسفور، فمن صمَّم هذه المياه؟! من أودعها في هذه المستودعات التي لا تفسُد فيها؟! كم من مستودعٍ للماء صنعه الإنسان يُسهم في إفساد هذا الماء، النتيجة أن كل شيءٍ مذللٌ لك.
هذا القمح الذي تأكله من جعله ينضج في يومٍ واحد؟! لو أنه ينضج كما تنضج الفاكهة تباعاً فكيف نحصده؟! لكان حصاده أمراً شاقَّاً، فالمحاصيل تنضج في يومٍ واحد، والفواكه تنضج تباعاً وكل نوعٍ من الفواكه ينضج أيضًا على مدار شهرٍ أو شهرين، فمن صمَّم هذا؟! الله -جلَّ جلاله-.
أنواع الأمر في القرآن الكريم:
﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا﴾ هذا أمر إباحة، وتعلمون أن الأمر في القرآن الكريم إما أن يكون أمر وجوب.
﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)﴾
وإما أن يكون أمر ندبٍ.
﴿ وَأَنكِحُواْ ٱلْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ ۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (32)﴾
وإما أن يكون أمر إباحةٍ.
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَٱلْـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلْأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلْأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)﴾
وإما أن يكون أمر تهديدٍ.
﴿ قُلْ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوْ لَا تُؤْمِنُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِۦٓ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)﴾
فيوجد أمر وجوب، وأمر إباحة، وأمر ندب، وأمر تهديد ، هذا الأمر ﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا﴾ تحرَّكوا، فهي مذللة وما عليكم إلا أن تسعوا في مناكبها، ومناكبها أي جبالها أو
جوانبها، قال العلماء في معنى هذه الآية: ﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا﴾ أي امشوا في جبالِّها ، وقيل: في طرقها وفجاجها ، وقيل: امشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم مذللة لا تمتنع، فلك أن تزرع، ولك أن تبني، ولك أن تنشئ البيوت، ولك أن تحفر الآبار، ولك أن تنشئ الجسور﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا﴾ تحرَّكوا، وبعضهم قال: امشوا في مناكبها دون أن تغوصوا فيها ؛ أي خذ من الدنيا ما يكفيك،
ولا تطلب ما يُطغيك خذ ما يكفيك، عش في الدنيا كأنك مسافرٌ أو عابر سبيل، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمِّك ولا مبلغ علمك، ﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا﴾ إما أن: تحركوا أينما شئتم فقد ذُلِّلَت لكم؛ هذا معنى، أو امشوا في جوانبها دون أن تغوصوا فيها.
﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ﴾ الله خلقكم ثم رَزَقَكُم، فالفعل جاء ماضياً، والفعل الماضي له معنى دقيق؛ أي حينما خلقكم رزقكم، لا تقلق من أجل الرزق.
﴿ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُۥ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦ ۚ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍۢ (36)﴾
بلى، الله -جلَّ جلاله- جعل أجل الإنسان ورزقه متعلِّقاً به وحده، فلا يستطيع إنسانٌ كائناً من كان أن يقرر أجلك ولا رزقك على وجه التحقيق هكذا، أما على وجه الوهم قد تتوهَّم أن زيداً أو عُبيداً بيده أجلك وبيده رزقك، والحقيقة أن الأجل والرزق بيدِ الله -عزَّ وجلَّ-، من هنا كانت كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً، ﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ أي أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو الرَزَّاق، هو الذي صمَّم البِذار التي تُنبت الثمار، ولولا هذا التصميم ماذا نأكل؟! هو الذي صمَّم أشعة الشمس تُبَخِّر البحار وتعود سحباً وأمطاراً في أماكن متعددة، لولا أن الله شقَّ السماء بالماء وشقَّ الأرض بالنبات لما كان مخلوقٌ على وجه الأرض ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾
1-البذور:
موضوع البذور موضوع من أدق الموضوعات، بل هو من أدق آيات الله الدالة على عظمته، فالرُشَيْم كائن حي له جُذَير، وله سويق، وله محفظة غذاء، فإن جاءته الرطوبة والدفء تحرَّك هذا الرُشيم،
لقد أخرجوا من الأهرامات قمحاً زرع فنبت، هذا القمح عمره ستة آلاف عام، والرُشَيْم كائن حي، لو أن هذا الرُشَيْم مات فالقمح لن ينبُت فهو كائن حي، فمن صمَّم هذا الرُشَيْم؟! من صمَّم له محفظة الغذاء؟! من جعل جذيره يخرِق الصخر أحياناً؟! ربنا -جلَّ جلاله- جعل في نهاية الجُذير مادةً تُذيب الصخر، ترى أحياناً الجذر ينفذ إلى شِقٍ في الصخر ليأخذ الماء، نظام النبات نظامٌ عجيب، لقد قرأت في موسوعةٍ علميَّة: إنَّ أعظم معملٍ صنعه الإنسان على الإطلاق يبدو تافهاً أمام الورقةِ الخضراء ففيها من التعقيد، وفيها من الدقة، وفيها من الإعجاز الشيء الكثير.
2-الخاصة الشعرية:
هذا الماء الذي يأخذه النبات من الأرض فيه ما يزيد عن ثمانية عشر معدناً مذاباً فيه، الماء وسيط تُذاب فيه المعادن ويَصعد إلى أعلى النبات، فما هي القوة التي تجعله يصعد نحو الأعلى بعكس الجاذبية الأرضية؟ قالوا: إنها الخاصة الشعرية
وشرحها يطول، شجرةٌ عملاقة طولها 30 م تأخذ ماءها من الأرض، والماء يصعد إلى أقصى ورقةٍ فيها، هذا الماء أُذيبت فيه المعادن التي في التربة؛ الحديد، والبوتاس، والفوسفور، هناك معادن كثيرة جداً على شكل أملاح مُذابةٌ في التربة، يحلّها الماء ويصعد بها عن طريق خاصةٍ شعريةٍ دقيقةٍ جداً، يقال: إن هذه الشعريات التي يصعد فيها الماء إلى أعلى النبات مصمَّمة بدسَّامات تسمح للماء أن يذهب نحو الأعلى دون أن يَرجع نحو الأسفل،
من صمَّم هذه الدَسَّامات في أقنية هذا النُسُغ الصاعد؟! الله -جلَّ جلاله-.
3-النسغ النازل:
يوجد في الورقة اليخضور وفيها الآزوت، في الورقة تتم عملياتٌ كيميائيةٌ بالغة الدقة، هذا الماء المُذاب فيه بعض المعادن، وهذه الطاقة الشمسية التي تُختزن في الورقة (الفوتون)، وهذه المادة الخضراء (اليخضور) هذه كلها تتفاعل جميعاً وتصنع ما يسمَّى بالنُسُغ النازل، الشجرة تنمو عرضاً، ولو أنها نَمَتْ عرضاً لضاقت لمعة الأوعية؛ لذلك الأوعية مجهَّزة بألياف حلزونية تمنع ضيق لمعتها، تصميم من؟!
﴿هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ ، وهذا النُسُغُ النازل شيءٌ عجيب فهو سائلٌ موحَّد يصنع الورقة، ويصنع الجذر، ويصنع الجذع، ويصنع الفروع والأغصان، والأوراق، والأزهار، والثمار، هل عندنا في الأرض سائلٌ واحد يصنع كل شيء؟ تَصُبُّه فيكون تارةً خشباً، وتارةً مطاطاً، وتارةً حديداً، وتارةً نُحاساً؛ هذا شيء مستحيل،
آية النبات آيةٌ دالةٌ على عظمة الله -عزَّ وجلَّ- ، من النبات تأكل، وتصنع الأثاث، وتصنع الدواء، وتصنع الأصبغة، وأكثر الحاجات تُصنع من النبات.
كما تعلمون أيها الإخوة؛ هناك نباتٌ مهمَّته تقديم الخشب، مائة نوعٍ من أنواع الخشب نستعملها، نوعٌ للنوافذ تتحمل المطر والبرد والحر وتقلب الحرارة والبرودة، نوعٌ نستخدمه للأثاث، نوعٌ نستخدمه للصناعة، نوعٌ جماليٌ جداً نستخدمه للقصور والأَبْهاء، نوعٌ نستخدمه للآلات، حدثني رجلٌ فقال: استُخدمت آلاتٌ نسيجية وضِعت على قواعد أسمنتية فلم تنجح في استعمالها، جيء بخبيرٍ نزع القواعد الأسمنتية ووضع لها قواعد من شجر التوت، هذا الشجر أليافه الخشبية متينة ومرنة
فإذا تحرَّك المَكّوك في أثناء الآلة وارتطم بالطرف الأول هذا الخشب امتص الصدمة فلم ينقطع الخيط، وهناك شجرٌ مصمَّمٌ للآلات، وشجر مصمَّمٌ للأثاث، وشجر مصمَّمٌ للصناعات الخشبية؛ أنواعٌ منوعة، حتى بعض الأبنية أساسها من الخشب إذا جاءه الماء توسَّع الخشب فكان متيناً، آيات الله لا تنتهي، إذاً الأرض مصممة، فمثلاً: حجاج بيت الله الحرام يطوفون في البيت الحرام، على أي شيءٍ يطوفون؟ على رخام، هذا الرخام حجر يمتصُّ أشعة الشمس المحرقة 56، 58، 54، فالرخام الذي كان في الحرم سابقاً لو وَضَعْتَ أصبعك عليه وقد بللتها بلعابك لسمعت صوتاً كصوت المِكواة تماماً، كيف يطوف الناس على هذا الرخام؟ هناك رخامٌ في الأرض من أندر أنواع الرخام لا يمتصُّ الحرارة، تطوف على هذا الرخام وهو إلى البرودة أقرب والشمس فوقه مسلطةٌ عليه 56 درجة، فمن صمم هذا الرخام؟! من الذي جعله مذللاً؟! الله -جلَّ جلاله-، إذاً كل شيءٍ أنت بحاجةٍ إليه، فإذا أردت أن تضع حديداً على حجر فما الطريقة؟ هناك معدن اسمه الرصاص ينصهر في الدرجة مئة فقط على موقد بسيط ينصهر هذا المعدن، هذا المعدن إذا صهرته ثم برد يتمدد، يكفي أن تحفر حفرة في الحجر وأن تضع الحديد عليه وأن تصب الرصاص، ليس هناك من قوةٍ يمكن أن تنزع الحديد من الحجر، فمن سخَّر هذا المعدن لتثبيت المعادن بالأحجار؟! الله -جلَّ جلاله-.
أنواع المعادن التي بين أيدينا لا تعد ولا تحصى، فكل معدن له خاصّة، هناك معدن قويٌ جداً خفيفٌ جداً لصنع الطائرات، هناك معدنٌ مرن لصنع النوابض، هناك معدنٌ يتأكسد لصنع أملاح المَعدن، لولا أن الحديد يتأكسد لما كان هناك كائن حي على وجه الأرض؛ لأن الحديد مادةٌ أساسيةٌ جداً في خُضاب الدم، ولولا أن الحديد يتأكسد بالأوكسجين فيكوّن أملاح الحديد لما أمكن استخدامه،
يوجد في كل إنسان منَّا حديد ما يكفي لصنع مسمار كبير 16 ملم، وإذا كان الإنسان يعاني من فقر دم يُعطى الحديد، وبعض الأدوية تنطوي على حديد، والنبات يحتاج إلى حديد، فمن جعل هذا الحديد يتأكسد؟ أما الذهب فلا يتأكسد، جعله الله معدناً يُستخدم كقيمة للتعامل، أنا نظرت إلى مقالة في مجلة؛ باخرة غرقت قبل 150 عاماً وعليها خمسة أطنان من سبائك الذهب، استُخرج هذا الذهب قبل عامٍ أو أكثر وغُسِل كأنه الآن قد سُكِب بلمعته، 150 عاماً في قاع البحر!! هذا هو الذهب لا يتأثر لا بالأحماض ولا بأي عامل من عوامل التأثير، أما الألماس فصنعوا ألماساً مشابهاً تقليدياً مع الاستعمال ينطفئ وهجه، بينما الألماس الطبيعي له وهجٌ يفوق حدَّ الخيال، فمن أعطاه هذه الخاصّة؟! بالمناسبة الألماس فحم لكن تحمَّل ضغطاً كبيراً وحرارةً عاليةً جداً فصار ألماساً،
وهذا مثل يفيدنا، فإذا كان الإنسان جاءته ضغوط كثيرة وتحمَّلها، وجاءته مواقف صعبة جداً وتحمَّلها صار نادراً كالألماس، الله -عزّ وجلَّ- يسوق الشدائد لعباده لكن هذه الشدائد رحمةً بهم من أجل أن تجعلهم أناساً متفوِّقين.
﴿وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ﴾ أي أن الله الذي خلق لكم الأرض ذلولاً قادر على أن يعيدكم إليه ليُحاسبكم؛ هذا المعنى: هو الذي خلق لكم ﴿جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ﴾ الله الذي سخَّر لكم كل الأرض وكل ما في السماوات من أجلكم قادرٌ على أن يعيدكم خلقاً آخر ثم يحاسبكم عن كل صغيرةٍ وكبيرة، ثم يقول الله -عزّ وجلَّ-:
﴿ ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ (16)﴾
الإنسان حينما يعصي الله -عزَّ وجلَّ- فعلى أي شيءٍ يعتمد؟ كلكم سمع أخبار بعض الزلازل؛؛ بلدةٌ مستقرةٌ تعيش في بحبوحة، أبنية شاهقة، شوارع عريضة، أجهزة اتصال، خدمات رائعة، خمس درجات من الاهتزازات تجعل هذه المدينة قاعاً صفصفاً.
﴿ لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَآ أَمْتًا (107)﴾
إذاً هذا الذي يأمن مكر الله إنسانٌ مغفَّل، فبأية لحظةٍ يمكن أن يصيب الزلزال أرضاً ما أو بلدةً ما فتكون خربةً كأن لم تغن بالأمس، ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ تضطرب، فقد توجد أجهزة إنذار مبكِّر أحياناً، يقال: زلزلة أربعة ريختر، ما حصل شيء، فليس هناك خسائر ولكنه لفت نظر، وهؤلاء الناس الذين غرقوا في المعاصي والآثام من يضمن لهم أن تبقى بيوتهم هيَ هي؟ ﴿ ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ﴾ ، هذا قارون الذي قال:
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78)﴾
قال تعالى:
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ (81)﴾
وهذا درسٌ بليغٌ لنا؛ لا تعزو الأشياء إليك بل يجب أن تعزوها إلى الله -عزَّ وجلَّ- ، إلى فضل الله، إلى رحمة الله، لا تقل: لقد أخذت احتياطاتٍ بالغة، فلا ينفع ذكاءٌ مع الله -عزَّ وجلَّ-، ولا احتياطاتٌ بالغة لأن الحذر يؤتى من مأمنه.
المقصود من قوله تعالى ﴿مَن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾:
أما كلمة ﴿مَن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ فإنها تحتاج إلى شرحٍ دقيق:
1- ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته، هذا معنى.
2- خُصَّت السماء لا لأن الله في السماء وحدها فهو في كل مكان، لكن لأن الناس يعظِّمون أهل الدنيا في الأرض فكان لفت نظرهم إلى السماء، هذا معنىً ثانٍ.
3- المعنى الثالث: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ الملائكة الذين أوكل الله إليهم إنزال العذاب بالخلق أحياناً.
4- وقيل: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ سيدنا جبريل وهو الملَك الموكَّل بالعذاب أحياناً، هذا معنى رابع.
5- ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ أي أمنتم خالق من في السماء ﴿أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ﴾ كما خسفها بقارون ﴿فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾
6- أيضاً ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ بمعنى من هو فوق السماء علواً وقهراً، الآية الكريمة:
﴿ فَسِيحُواْ فِى ٱلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍۢ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى ٱللَّهِ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِى ٱلْكَٰفِرِينَ (2)﴾
أي سيحوا على الأرض، وعلى تفيد الاستعلاء لا تفيد المَكانية بل تفيد القهر والسيطرة ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾
7- المعنى أيضاً أن الله -سبحانه وتعالى- منزَّهٌ عن التحتِ وعن السُفْلِ ﴿مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ تعظيماً لله
-عزَّ وجلَّ-، وقد وصِف الله بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام، وإنما تُرفع الأيدي دائماً إلى الله نحو السماء، والسماء مهبِط الوحي، ومنزِل القَطْرِ، ومحل القدس، ومعدن المطهَّرين من الملائكة ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾
7- إلى السماء تُرفع أعمال العباد، هذا أيضاً من معنى
﴿ مَن فِى ٱلسَّمَآءِ﴾ ، وفوق السماء عرشه وجنَّته، كما جعل الله الكعبة قبلةً للدعاء والصلاة؛ هذه بعض المعاني التي ترد في التفاسير حول قوله تعالى:
﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ أي أن المؤمن لا يأمن مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، المؤمن يرى أنه في قبضة الله دائماً، يرى أن صِحَّته وحركته وأجهزته ورزقه وسلامته بيد الله -عزَّ وجلَّ-، فهو خاضعٌ له دائماً مفتقرٌ إليه، تائبٌ إليه، منيبٌ إليه، عندئذِ يحفظه الله -عزَّ وجلَّ-، الإنسان أحياناً يجهل ويتوهَّم أنه مَلَكَ كل شيء وفي أية لحظةٍ يمكن أن يجعل الله حياته جحيماً، فيجب أن تعرف مقامك،
"رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده" ، فأنت لست بشيء والله كل شيء، فإذا كنت معه كان معك، إن استعنت به أعانك، إن استنصرته نصرك، إن تقوَّيت به قوّاك، إن اعتمدت عليه لبَّاك، إن لجأت إليه ألجأك، إن خضعت له حماك
﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ ، وأخبار الزلازل كثيرة فهناك زلازل ذهب ضحيتها مائتا ألف إنسان في ثوانٍ معدودات
﴿ ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ﴾ ، هناك فندق في مدينة في المغرب عدد طوابقه ثلاثون،
أصاب هذه المدينة (أغادير) زلزال فسقط هذا الفندق بطوابقه الثلاثين في الأرض ولم يبق منه إلا الطابق الأخير الذي كُتب عليه اسم الفندق وكأن هذا الاسم شاهدةٌ على قبر هذا الفندق
﴿أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ ، وعندي صور لبعض الزلازل شيء لا يُصدَّق؛ مدن، أبنية شامخة أصبحت على الأرض في ثوانٍ معدودات، بناءٌ شامخ في القاهرة خلال ثوانٍ أصبح كتلةً من الرُكام بمن فيه؛ بأشخاصه، بأثاثه، بكل ما فيه
﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ ، هذه الزلازل تحت سمعنا وبصرنا فما يمضي يوم إلا وهناك خبر زلزال في بعض بلاد العالَم، وأحياناً تأتي الزلازل بنسب مضعَّفة، ليس هناك أضرار مادَّية ولكن هناك لفت نظر: يا عبادي انتبهوا، هذا أسلوب تحريك العصا.
﴿ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)﴾
قد تُمطِر السماء حجارةً.
﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍۢ مِّن سِجِّيلٍۢ (4)﴾
أهلك الله أَبْرَهَة الذي أراد أن يضرب الكعبة ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍۢ مِّن سِجِّيلٍ ﴾ ، وإذا لم توجد حجارة الآن يوجد صواريخ، وقنابل، وقصف جوي، وطائرات مخيفة، وقنابل تركب أشعة الليزر، وطائرات لها أسماءٌ محيرة، وقنابل ذكية وقنابل عنقودية وقنابل تعمل على الرادار؛ أنواع لا تعد ولا تُحصى هذا كلُّه من: ﴿ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ أي حجارةً أو ريحاً فيها حجارةٌ، وقيل: سحابٌ فيها حجارةٌ ﴿فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ النذير: هو المنذر وهو النبي -صلى الله عليه وسلم -، والإنسان أحياناً يتلقَّى دعوة الأنبياء دون أن يبالي بها، يقرأ القرآن دون أن يقف عند أمره ونهيه وعند حلاله و حرامه، أما حينما تأتي المصائب يعرف أن الله -سبحانه وتعالى- كان قد أنذره ولم يستجب، الحقيقة أن دعوة الأنبياء أحياناً تُصدَّق بعد أن يُحقق وعيدُ الله -عزَّ وجلَّ-، لكن البطولة أن تؤمن بها قبل أن يأتي وعيد الله -عزَّ وجلَّ-، الوعيد وَرَد لكن تحقيق الوعيد هو الذي يحمل الإنسان على أن يؤمن بهذا الكتاب، فالبطولة أن تؤمن به قبل وقوع الوعيد، أما بعد وقوع الوعيد فالإيمان حتمي، ففرعون وهو يغرق قال:
﴿ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ (90) ءَآلْـَٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ (91)﴾
من السهل أن تقرأ وعيداً في القرآن.
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾
هذا وعيد للمرابين لكن الإنسان قد يقرأ هذه الآية ولا يستجيب لله -عزَّ وجلَّ-، أما حينما يُدمَّر ماله كلَّه يؤمن يقيناً أن هذا الوعيد قد وقع، لكن الإيمان ساعتئذٍ لا قيمة له، فالبطولة لا أن تنتظر الوعيد حتى يقع البطولة أن تستجيب قبل أن يقع الوعيد؛ هذه نقطة مهمة جداً، فحينما يقع الوعيد كل الناس يؤمن من دون استثناء وهذا الإيمان لا قيمة له ولا يُنجي صاحبه أبداً، أما هذا الذي يؤمن بالغيب يؤمن بالوعيد قبل أن يقع، ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ يستجيب لله قبل أن تأتي حرب الله -عزَّ وجلَّ، نتابع الآية الكريمة:
﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)﴾
طبعاً الإنسان يستفيد من دروس الأمم السابقة، فاللَّهُ -سبحانه وتعالى- كلَّما أرسل رسولاً لأمةٍ فكذَّبوا هذا الرسول أذاقهم العذاب الأليم، ينبغي أن نستنبط قانوناً أن الله -سبحانه وتعالى- إذا أنذر أعذر، فانظر إلى قوم عادٍ كيف أهلكهم الله -عزَّ وجلَّ-، وإلى قوم ثمودٍ، وإلى قوم تُبَّع، وإلى فرعون، كل هذه الأمم التي كذَّبت أنبياءها استحقَّت الهلاك، ثم يُشير الله -جلَّ جلاله- إلى آيةٍ دقيقةٍ جداً وهي قوله تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٍۢ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ (19)﴾
كيف أنَّ الله -سبحانه وتعالى- جعل الأرض ذلولاً ونمشي في مناكبها، فإنه جعل الجو مذللاً للطير يطير في أجوائه كيفما شاء، وطيران الطير آيةٌ عظمى من آيات الله، عندي موسوعةٌ علميَّةٌ عن الطيران، في مقدمة هذه الموسوعة كُتِبت ملاحظةٌ تثير الدهشة، قال:
"إن أعظم طائرةٍ صنعها الإنسان حتى الآن..." ، هناك طائرات تزيد سرعتها عن سرعة الصوت، وهناك طائرات تحمل 650 راكباً يأكلون ويشربون ويستمتعون، وهناك طائرات بأحجام كأنها مدينة تطير، والطيران معقدٌ جداً بل هو خلاصة علم الإنسان، 650 راكبًا يركبون في مكان واحد ويجلسون على مقاعد وثيرة، تأتيهم الأطعمة الطازجة، يستمتعون بكل شيء وهم على ارتفاع 40 ألف قدم في الجو، هناك علمٌ كبيرٌ جداً؛ لأن ضغط الجو في الطائرة لا يسمح للإنسان أن يستنشق الهواء لا بدَّ من أن تُحْقَن الطائرة ثمانية أحجامها من الهواء كي يكون الضغط على هذا الارتفاع العالي مساوياً لضغط الأرض، فالأمور معقدة جداً، كُتب على هذه الموسوعة:
"إنَّ أعظم طائرةٍ صنعها الإنسان تبدو ساذجةً وسخيفةً أمام الطائر" ، طائر يطير سبعة عشر ساعة من دون توقُف! طائر يطير أكثر من 22 ألف كم من الشمال إلى الجنوب! الشيء الذي يحيِّر حتى الآن وليس له جواب وجهد العلماء خلال مئات السنين ليعرفوا أن هذا الطائر الذي يطير كيف يهتدي إلى هدفه؟ هل عن طريق التضاريس؟ يطير على سطح البحر من دون تضاريس، أم عن طريق أشعة الشمس؟ يهتدي إلى هدفه من دون أشعة الشمس ليلاً، فما من نظريةٍ طُرِحَت إلا وثبت بطلانها، لذلك العلماء يقولون: هناك قوةٌ خفيةٌ توحي لهذا الطائر بخطةِ سيره؛ لأن الطائر يقطع من 17 ألف كم إلى 20 ألف كم فلو أنه انحرف في طيرانه درجة واحدة، فمثلاً إذا كان عشُّه في الشام لجاء إلى مصر، لو انحرف نحو اليسار لجاءَ في العراق، درجة واحدة، طبعاً هو يذهب من الشام مثلاً إلى جنوب إفريقيا ويعود في الشتاء إلى عشِّه أو في الصيف إلى عشِّه، فهذا لو انحرف في طيرانه درجة واحدة يمشي فوق يابسة، فوق بحار، فوق بحيرات، فوق جبال، في الليل، في النهار، البحوث عن الطيران شيء لا يُصدق، هذا الطائر حينما يستنشق الهواء آلة تعمل باستمرار لا بدَّ لها من تبريد؛ لذلك الهواء الذي يستنشقه يتغلغل إلى كل أنحاء جسمه ليبرِّد عضلاته لأنه يطير باستمرار،
فمن أودع في هذا الطائر قوة إبصار تزيد ثمانية أضعاف عن قوة إبصار الإنسان؟! السبب لأنه يريد أن يأكل، فلو أن بصره قاصر ينزل ليأكل لا يجد طعاماً فيعود، لا ينزل إلى الأرض ليأكل إلا وقد رأى طعامه على الأرض من فوق مسافاتٍ شاسعة في الجو؛ لذلك العلماء قالوا:
"ليس هناك أي نظرية ثبتت عندنا في موضوع حركة الطائر في السماء، إلا أن تكون هناك قوةٌ خفيةٌ تُلهم الطائر" فطائر ولِد حديثاً أُخِذ إلى شرق الأرض إلى استراليا فلمَّا كبر عاد إلى بريطانيا، إذا قلنا أن حركته جنوب شمال الآن أصبحت حركته شرق غرب، فما من فرضيةٍ وضعت لطيران الطائر إلا وثبت عكسها، لذلك الآن استسلم العلماء، الجواب هو هذه الآية:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٍ﴾ أجنحتها
﴿ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحْمَٰنُ﴾ ، أي أحياناً يأتي فعل الله بواسطة، أحياناً الإنسان يموت بحادث وأحياناً يموت مباشرةً بلا سبب ظاهر، أحياناً أفعال الله -عزَّ وجلَّ- تبدو لنا عن طريق سبب، وأحياناً تبدو أفعال الله بلا سبب، فطيران الطائر وتحليقه في الأجواء، وانتقاله من قارةٍ إلى قارة، ومن شمال الأرض إلى جنوبها، ومن جنوبها إلى شمالها بلا بوصلة ولا توجيه، الآن الطيار كيف يطير؟ هناك محطَّات أرض تبثُّ للطائرات أماكن طيرانها، والطيار دائماً يعرف أين هو على سطح الأرض، في أي مكان في العالَم محطات أرضية تَبُث، هذه المحطة تقع على خط طول كذا وخط عرض كذا، فالطيار عن طريق بعض الأجهزة يعرف أين هو دائماً، فلا توجد طريقة ثانية، محطاتٌ أرضية تبث للطائرات أماكن طيرانها لهذا الطيار يهتدي في الليل لأن معه رادار، معه أجهزة إنذار، معه أجهزة تحكم، أما هذا الطائر هل يتلقى من أجهزة أرضية أين هو في السماء؟ من يدلُّه على طريقه؟ لذلك هذه الآية تفسِّر هذا اللُغز المحيِّر الذي حار فيه العلماء
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٍۢ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ﴾ ، أيها الإخوة الكرام؛ آية الطيران وحدها من آيات الله الدالة على عظمته.
آية الأسماك لا تَقلّ عنها، فسمك السلمون ينتقل من شواطئ أوروبا إلى رؤوس الأنهار في أمريكا، ينتقل السمك من شواطئ أوربا باتجاه الغرب، أيضاً لو انحرف درجة واحدة لجاء في أمريكا الشمالية، لو انحرف درجتين نحو الجنوب جاء في أمريكا الجنوبية، هذا السمك الذي انطلق من رأس النهر في أمريكا يعود إلى النهر ذاته ليموت هناك ويلد هناك، سمك السلمون له قصَّة، إنه حينما يدخل إلى النهر الذي خرج منه يعاكِس تيار النهر،
أحياناً يصعد في الشلال من تحت إلى أعلى ليصل إلى هدفه، وهناك سمك كالأفعى ينطلق من ينابيع النيل ليصل إلى البحر المتوسط فيتجه غرباً إلى مضيق جبل طارق، وشمالاً ليُحاذي إسبانيا ثم يدخل بحر المانش ليموت في بحر الشمال، هذه رحلةٌ يعجز عنها أكبر ربَّان سفينة، من منابع النيل إلى بحر الشمال، من يهديه إلى طريقه؟!
﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ (50)﴾
هذه هداية الله للحيوان، وأما هداية الله للإنسان أودع فيه هذا العقل الذي جعله أكرم مخلوقٍ على الله -عزَّ وجلَّ-، أعطاه عقلاً هو أداة معرفة الله، وهو مناط التكليف، في الدرس القادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ ﴾
الملف مدقق