وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الملك - تفسير الآيات 2-4 - إتقان الله عز وجل في خلقه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيّها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الملك، ومع الآية الثانية وهي قوله تعالى:

﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ(3) ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)﴾

[ سورة الملك ]


ما هي مشكلة المسلمين اليوم؟ ولماذا لم تتحقق وعود الله تعالى لهم؟


أيّها الإخوة الكرام؛ لا بدَّ من كلمةٍ بين يديّ هذه الآية وهي أن المشكلة الكبيرة عند المسلمين اليوم هي أنّهم يقرُّون بأنّ الله خلق السماوات والأرض، وبأنّ الجنَّة حقّ والنارَ حقّ، لكن المشكلة الكبيرة أنّهم لا يُطبِّقون أمر الله -عزَّ وجلَّ- هذه الظاهرة المرضية؛ مليار ومائتا مليون مسلم-خُمس سكان الأرض-وعودُ اللهِ لهم غير محققة، أين قوله تعالى:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍۢ كَفُورٍ (38)﴾

[ سورة الحج  ]

أين قوله تعالى:

﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)﴾

[ سورة النور ]

هناك وعودٌ كثيرة ليست محققة، لا يمكن أن نسيرَ في طريقٍ أنّ الله -سبحانه وتعالى- يمكن ألّا يحققَ وعدَه، لكن ينبغي أن نسيرَ في طريق آخر، أن نشُكَّ في مصداقِّية إيماننا، كأنّني أحاول أن أضعَ يدي على المشكلةِ أنّ أعدادًا غفيرة، ملايين مُملينة بل ألف ومليون وزيادة لم تتحققْ فيهم وعود الله -عزَّ وجلَّ-، والله -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (111)﴾

[ سورة التوبة ]

معنى هذا يوجد مشكلة، هذه المشكلة هي عدم الالتزام بالأمر والنهي، المسلم يقنعُ ويعتقدُ أنّ الله خالق السماوات والأرض، وأنّ محمداً -عليه الصلاة والسلام- رسول الله، وأنّ هذا القرآن كتاب الله، وأنّه بعد الموت هناك جنّة ونار، وهناك ملائكةٌ تكتبُ الحسنات والسيِّئات؛ هذه عقيدة كلّ المسلمين، أين المشكلةُ؟ في عدم التطبيق.
السؤال التالي: ما الذي يجعلُ هذا المسلم لا يُطبِّق؟ أنا أقول لكم السبب ببساطة، لأنّه لا يعرفُ الله، من عرف أمر الله ولم يعرفِ الله -عزَّ وجلَّ- يتفنَّنُ في التفلُّت من أمره، ويتعلَّقُ بأضعف فتوى، وقد يتعلَّقُ بالمجتمع، يتعلَّقُ بتقاليده بعاداته، يتعلَّقُ بالمنحرفين، يَدَّعي أنّه لا يعلمُ وأنّ الله غفورٌ رحيم؛ لأنّه لا يعرفُ الله، لا يعرفُ من هو الآمر، وماذا عنده إذا هو أطاعه، وماذا ينتظرُهُ إذا عصاه، إذاً مادامت المشكلة أنّ وعود الله ليست محققةٌ في هذه الأعداد الكبيرة جداً من المسلمين، مع أنّ الصحابة الكرام في عدد قليل لا يزيدُ عن عشرة آلاف صحابي وصلتْ راياتُهم إلى مشارق الأرض وإلى مغاربها؛ هذا هو النصر المؤزَّر، قال تعالى:

﴿ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)﴾

[ سورة الفتح ]

﴿ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعْدِهِۦ ۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (160)﴾

[ سورة آل عمران ]

السبب عدمُ الالتزام، سبب عدمُ الالتزام عدم معرفة الواحد الديَّان، الله -عزَّ وجلَّ- في هذه الآيات التي بين أيدينا يبيِّن أنّك إذا أردَتْ أن تعرفَ الله يجبُ أن تتأملَ في مخلوقاته.

ضرورة إعمال العقل في معرفة الله: 


أقول لك هذا المثل البسيط: أنت أمام غرفتَي نومٍ، لم تقعْ عينك على صانعَي هاتين الغرفتين، ألا تستطيع أن تعرفَ من هو الأكثر إتقاناً، من هو الأعلى ذوقاً، من هو الأنصح عملاً من صنعة هذَين النجَّارَين؟

﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ ۖ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلْأَعْلَىٰ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (60)﴾

[ سورة النحل ]

فربّنا -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ تَبَٰرَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(1) ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2) ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ(3)﴾

[ سورة الملك ]

الآية الأولى شُرِحت في الدرس الماضي، ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍ﴾ لما ربّنا -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِى ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

هذا أمر ﴿ٱنظُرُواْ﴾ فعل أمر، وقال علماء الأصول: "كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب" ، نحن حينما فهمنا الأوامر خمسة أوامر: أن تصلي، وأن تصوم، وأن تحج، وأن تزكي، وأن تشهد أنه لا إله إلا الله، الدِّين تراجع، أما حينما تعتقدُ أنّ أي أمرٍ في هذا القرآن أمرٌ يقتضي الوجوب، لماذا يقول الله -عزَّ وجلّ-: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ﴾ ؟ من أجل أن تعرفَه، ولماذا ينبغي أن تعرفَه؟ من أجل أن تطيعَه، ولماذا ينبغي أن تطيعَه؟ من أجل أن تسلَمَ وتسعدَ، وفي النهاية كلّ واحدٍ منَّا -شئتم أم أبيتم- يبحثُ عن سلامتِه وسعادتِه، تعرفُه من أجل أن تطيعَه، وتطيعُه من أجل أن تَسْلَمَ وأن تسعدَ، هذا ملخصُ ملخصِ الملخص، إذاً: ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ﴾ هذه الشمس التي يراها كل الناس، الشمس والقمر من آيات الله، فكلّ شيءٍ علاك فهو سماء، والشمس والقمر من السماء، والنجوم من السماء، وكلّ شيء يعلوك من السماء، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقًا﴾ قال بعض علماء التفسير: "هذه الكواكب التي تدور حول الشمس-المجموعة الشمسية-" : ﴿سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقًا﴾ السماء هنا طباقاً، الطبقة التي فيها القمر هذه سماء، والطبقة التي فيها المريخ هذه سماء، عُطارد والمُشتري وزُحل، هذه النجوم السيَّارة التي حول الشمس هي سماوات، الطبقات التي بعدها سماوات، وكلمة ﴿ سَبْعَ﴾ عند بعض علماء اللُّغة تدلُّ على التَكثير لا على العدد، أي تفيدُ السبعة ومضاعفاتها التكثير، فهناك طبقات من السماء لا يعلمُها إلّا الله، إلى أين هي تمتد؟

آيات الله -عزَّ وجلَّ- في السماء:  


ذكرت هذا كثيراً: إنّ أقرب نجم أربع سنوات ضوئية، القمر ثانية ضوئية ثلاثمائة وخمسة وستين ألف كيلو متر، ذَهَبَتْ مركبة إلى القمر كلَّفت أربعة وعشرين ألف مليون دولار، قطعت من الفضاء الخارجي ثانيةً واحدة، الشمس ثماني دقائق، المجموعة الشمسية ثلاث عشرة ساعة، إن أردنا أن نقيسَ المجموعة الشمسية من أقصاها إلى أقصاها فهي تبلغ ثلاث عشرة ساعة، الشمس تبلغ ثماني دقائق، القمر ثانية، أقرب نجم إلى المجموعة الشمسية مُلته، الكوكب والنجم يختلفان، الكوكب منطفئ، الأرض كوكب والقمر كوكب، أما الشمس نجم، أقرب نجم ملتهب إلى المجموعة الشمسية، وهو يختلف عن الشمس و بعده عنَّا أربع سنوات ضوئية، لو تخيَّلنا طريقاً إلى هذا النجم المُلتهب لاحتجنا إلى خمسين مليون عام كي نصلَ إليه، في المرأة المُسلسلة مليون سنة ضوئية، في بعض المجرَّات أربعة وعشرين ألف مليون، أما أحدث مجرَّة فهي ثلاثمائة ألف بليون سنة ضوئية، اكتشفوها من سنة بمرصد عِملاق على مركبة فضائية أُرسِلَت إلى المشتري، بقيت تسير في الفضاء ست سنوات ورصدت أبعد مجرَّة ثلاثمائة ألف بليون سنة ضوئية، أنت فقط قلْ لي: أربع سنوات ضوئية يقابلها خمسين مليون سنة، فكيف بثلاثمائة ألف بليون سنة ضوئية؟! هذه السماء كم مجرَّة فيها؟ رقم تقريبي مليونُ مليون مجرَّة المكتشفة، المجرّة كم نجم؟ مليونُ مليون نجم، وكلّ نجم له حجم، وله سرعة، وله مسار مُغلق، ويدور حول نجمٍ آخر بنظامٍ من التجاذب عجيب.

﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)﴾

[ سورة الرعد ]

رفع السماء.

﴿ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَيْيْدٍۢ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ(47)﴾

[  سورة الذاريات  ]

فالسماء مرفوعةٌ بغير عَمَد، ما هذه العَمَد؟ قِوى التجاذب، الأرض تدور حول الشمس، ما الذي يربطها حول الشمس؟ قوة جذب الشمس لها، هذه القوة غير مادية، أحياناً تُمسِك بمغناطيس تضعه أمام مسمار، المسمار يتحرَّك، وبينهما مسافة فارغة، معنى هذا يوجد قوى جذب غير مادِّية سموها ساحة مغناطيسية، هذه السماوات المليونُ مليون مجرَّة، لكلّ مجرَّة مليون مليونِ نجم، كلّ نجم يتحرَّك حول نجم آخر، وكلّ نجم له حجم، وله سرعة، وله كثافة، وله نظام، مجموع هذه الحركات تُشَكِّل هذا الكون، لو أنّ هذا الكون توقَّف عن الحركة، ما الذي يحصلُ؟ سيصبح الكونُ كلّه كتلةً واحدة؛ لأن الأكبر يجذب الأصغر، أما بالحركة ينشأ عن الحركة قوى نابذة وقوى جاذبة، من الحركة القوى النابذة تُكافِئ القوى الجاذبة، صار هناك توازن حركي؛ التوازن الحركي -شيء رهيب- أوضِّح لكم الحقيقة: لو أن الأرض تفلَّتت من جاذبية الشمس وسارت في مسارٍ مستقيم في الفضاء ما الذي يحصلُ؟ يموت كلّ كائنٍ على وجه الأرض لأنّ البرودة تصلُ إلى مائتين وسبعين تحت الصفر؛ هو الصفر المُطلق الذي تقف معه الحياة، بل الذي تقف معه حركة الذرَّات لذلك:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِۦ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾

[ سورة فاطر ]

أُهلِكتا، الأرض تدورُ حول الشمس بمسار مغلق، هذه الدورة تستغرقُ ثلاثمائة وخمسة وستين يوم وربع، لو أنّها تفلَّتت من جاذبيتها حول الشمس وأردنا أن نُرجِعها بخيال علمي محض بأَكْبُل أو بحبال لاحتجنا إلى مليون مليونِ حبل من الفولاذ المضفور، قطر كلّ حبلٍ خمسة أمتار، كلّ حبل يملك قوة جذب تساوي مليوني طن، أي الأرض مربوطة بقوة جذب إلى الشمس هي مليون مليونِ ضرب مليوني طن، أردنا أن نزرعَ هذه الحبال على سطح الأرض المقابل للشمس لفوجئنا أنّ كثافة هذه الحبال على الشكل التالي: الحبل قطره خمسة أمتار وبين كلّ حبلين مسافة حبلٍ واحد، نحن أمام غابة من الحبال تُعيق الحركة والبناء والزراعة والصناعة والسفر، قال: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا﴾ أي بعمدٍ لا ترونَها، هل عندنا في الأرض كلَّها مهندس يبني بناء من الطابق الثالث من دون دعامات، ممكن؟ بناء عشرة طوابق يبدأ من الطابق الثالث تحته لا يوجد شيء إطلاقاً، يمكن أن تمشي تحته      وتتحرك حركة كاملة، يبدأ من الطابق الثالث إلى فوق، هذا شيء مستحيل وهكذا الكون ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا﴾
وقد قال: هذه القوة؛ المليون مليونِ طن ضرب اثنين مليون من أجل أن تحرِفَ الأرضَ ثلاثة ملم كلّ ثانية ليتشكَّل مسار مغلق حول الشمس، فتصور أن مليونَ مليون ضرب اثنين مليون طن هي قوة جذب الشمس للأرض من أجل أن تدورَ حولها، ومع ذلك أيّها الإخوة الكرام؛ الأرض مسارها إهليلجي وليس كروياً، الإهليلج له قطر أصغر وقطر أطول، الأرض في القطر الأصغر ترفع سرعتها، لو لم ترفع سرعتها لزادت قوة جذب الشمس لها فترتطم بالشمس، ترفع السرعة لينشأ قوة نابذة تُبعدها عن الشمس، أما حينما تصل إلى القطر الأطول تخفض سرعتها، لو بقيت سريعة لتفلَّتت من جاذبية الشمس، الشيء الثالث؛ ترفع سرعتها بالتدريج وهذا من لطف الله لنا، وتخفض سرعتها بالتدريج وهذا من لطف الله لنا، الرفع بالتدريج تسارع بطيء وتباطؤ بطيء، وإلا ينهدم كل ما على الأرض من أبنية، لو رفعت السرعة فجأةً كلُّ شيءٍ على الأرض يُهدم، هذا معنى قول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ﴾ من أجل أن تعرفَ من هو الله؟ من هو الذي أنزلَ هذا القرآن؟ من هو الذي أرسلَ هذا النبي الكريم؟ ما معنى افعل ولا تفعل؟ ما معنى المنهج الذي أُمرت أن تسيرَ عليه؟ أردْتُ من هذه المقدمة أن أبينَ لكم: أنّه لن تطيعَ الله إلّا إذا عرفته، وأيُّ منهجٍ يُلغي معرفة الله ويؤكِّد على معرفة أمره هذا منهجٌ أعرج، هذا منهجٌ غير صحيح، لا بدَّ من أن تعرفَ الله، لذلك ورد في بعض الآثار القدسية: (يا ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك أحبه بحبك قال: أحبّ عبادي إليّ نقي القلب نقي الكفين لا يأتي إلى أحد سوءًا ولا يمشى بالنميمة تزول الجبال ولا يزول، أحبني وأحبّ من يحبني وحببني إلى عبادي، قال: يا ربّ إنّك لتعلمُ أنّي أحبّك وأحبّ من يحبّك فكيف أحبّبك إلى عبادك؟ قال: ذكرهم بآلائي وبلائي ونعمائي) 

موضوعات الدلالة على الله:


إخواننا الكرام؛ لو جلست لتتحدَّث عن الله -عزَّ وجلَّ- ينبغي أن تتحدَّثَ في هذه الموضوعات الثلاث؛ في آيات الله الدالَّة على عظمته من أجل أن نُعَظِّمَه ومن أجل أن نعظِّمَ أمره بالتالي، ويجبُ أن تتحدثَ عن نعم الله من أجل أن نحبَه، ويجب أن تتحدثَ عن بعض البلاء الذي يسوقه الله لبعض عباده من أجل أن تخافَه ، فلا بدَّ من أن تعظِّمه، ولا بدّ من أن تحبَّه، ولا بدّ من أن تخافه، لذلك: ﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقًا﴾ سماءٌ فوق سماء، و كلّ سماء هناك بحوث طويلة لا تنتهي، نقول نحن مثلاً: في أيام الصيف الحارَّة في درجة ستة وثلاثين أو ثمانية وثلاثين أو اثنين وأربعين أحياناً، أوخمسة وأربعين، شيء لا يُطاق، تركب طائرة حديثة تلاحظ على شاشةٍ أمامك الحرارة التي خارج الطائرة، تُفاجأ أنّه على ارتفاع واحد وأربعين ألف قدم الحرارة هي خمسون تحت الصفر، وأنت في فصل الصيف في الأرض درجة الحرارة خمس وأربعين فوق الصفر، على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم خمسين تحت الصفر، معنى ذلك هذه السماء غير هذه السماء، هذه السماء فيها ضغط جوّي مُرتاح، أما فوق فالطائرة تُحقن ثمانية أمثال حجمها من الهواء من أجل أن ينشأَ ضغطٌ جويٌ في الطائرة مساوٍ لضغط الأرض الجوي، وإلّا لخرج الدم من الآذان، ويضيق الصدر، إذاً كلَّما صعدت إلى السماء وجدت العجب العُجاب.
العبرة من هذه الآيات أن ينطلق الفكر لمعرفة الله -عزَّ وجلَّ- من خلال صنعته، هذا الطريق آمن أيّها الإخوة، الفكر حينما ينطلق لتُعمله في ذات الله تَهْلَك، هناك أناسٌ لا يحلو لهم إلّا الخوض في ذات الله، في أفعال الله، هذه متاهات لا تنتهي، يجب أن تبقى في مخلوقات الله لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:

(( تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا  ))

[ أخرجه أبو الشيخ عن أبي ذر ]

كنت أضرب هذا المثل دائماً: أنّ بقَّالية تحتاج إلى ميزان دقيق جداً، هذا الميزان من أرقى أنواع الموازين وهو غالٍ جداً إلّا أن مهِمَّته محدودة، حساسيته من خمسة غرامات إلى خمسة كيلوغرامات فقط، إن لم تؤمنْ بهذه الحقيقة، أن هذا الميزان لا يمكن أن يَزِن لك كلّ شيء، يزن لك ضمن هذه حدود، إذاً هذا العقل الذي هو ميزان، قال تعالى:

﴿ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ (7)﴾

[ سورة الرحمن ]

أعطاك ميزاناً، هذا الميزان ينبغي ألّا تستخدمه إلّا في مخلوقات الله، أما إذا أردت أن تُعْمِلَهُ في غير ما خُلِق أعطاك نتائج مضحكة، ونتائج عجيبة، وقد يتحطَّمُ، كمن يحاولُ أن يزينَ سيارته بميزان البقالية يحطمه، فكيف لك أن نأخذ الميزان؟ كيف نزن هذه السيارة؟ نسأل المعمل عن وزنها، فكل شيءٍ عجز عقلك عن إدراكه الوحيُّ أخبرك به.

الفرق بين المحسوسات والمعقولات والمغيبات:


هناك دور للعقل ودور للتلقي، العقل يفكِّر في مخلوقات الله فيصل إلى الله، والعقل سيارة يمكن أن توصلك إلى ساحل البحر، أما هذه السيارة مهما كانت راقية، أغلى أنواع السيّارات في العالم لا تستطيعَ أن تخوض بها عُباب البحر هذا مستحيل، هذه المركبة تصلُ بك إلى ساحل البحر ولن تستطيعَ أن تخوضَ بها عُباب الماء، العقل يصلُ بك إلى الله ولن يستطيعَ أن يخوض في ذات الله؛ لذلك دائماً وأبداً اعلم هذه الحقيقة؛ هناك دائرة المحسوسات أدواتها الحواس الخمس، وهناك دائرة المعقولات أداتها العقل، هناك دائرة المغيّبات أداتها الخبر الصادق، فإياك أن تنقُل قضيةً من المغيَّبات إلى المعقولات عندئذِ تكلِّف العقل ما لا يطيقُ، فمهمة العقل التفكُّر في خلق السماوات والأرض.

التفاوت آية عظيمة من آيات الله: 


﴿ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ﴾ التفاوت، بربكم أليست النملة تتفاوت مع الفيل؟ النملة والفيل! هناك سمك زينة طوله ملم أو اثنين ملم وهو فوسفوري شفَّاف، ألّا تتفاوت هذه السمكة الصغيرة مع الحوت الأزرق مائة وخمسين طن وزنه؟ وجبة طعامه المعتدلة أربعة طن، إرضاع أُنثاه ثلاثمائة كيلو، ثلاث رضعات طن حليب كلّ يوم، فهذا الحوت الأزرق ألّا يتفاوت مع سمكةٍ صغيرةٍ جداً؟ التفاوت هنا بمعنى آخر: لن تجدَ في صنعة الله تفاوتاً، كلّ صنعة الله متقنة.

﴿ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ ۚ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ ۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾

[ سورة النمل ]

التفاوت لا في الحجم فالحجوم متفاوتة، وليس في التعقيد التعقيدات متفاوتة ، فهناك حيوان وحيد الخلية (كائن وحيد الخلية)، والإنسان من أعقد المخلوقات في دماغه مائة وأربعين مليار خلية، في قشرة دماغه يوجد أربعة عشر مليار خلية، في رأسه يوجد ثلاثمائة ألف شعرة، والآن هناك موضوعات كثيرة حول الهندسة الوراثية والاستنساخ شيء معقد جداً، فالإنسان من أعقد المخلوقات، وهناك وحيد الخلية خلية واحدة -المتحول الزحاري- إذاً هناك تفاوت؛ تفاوت بالحجم، تفاوت بالحواس، هناك حواس؛ عقدة عصبية حاسة البصر، وفي العين يوجد في الشبكية مائة وثلاثون مليون مخروط وعُصيّة، تفَرِّق بين درجتين من ثمانمائة ألف درجة، يوجد جهاز نطق، وجهاز شم، وجهاز سمع، فالكلب يشم مليون ضعف الإنسان، والصقر يرى ثمانية أمثال الإنسان، فهناك تفاوت بالحجم ، وبالشكل يوجد تفاوت، وفي الألوان تفاوت، وبالحواس الخمس تفاوت، يوجد تفاوت بالقيم، فهناك حيوان غال جداً ثمنه مليون ، وحيوان قتله يحتاج إلى مليون، هناك تفاوت لكن الآية تقول: ﴿ مَا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍ﴾ في الصنعة، هناك شركات الآن تنتج نوعين من البضاعة: نوع للاستعمال المنزلي، ونوع للاستعمال الصناعي، آلة صناعية تعمل باستمرار متقنة جداً، متينة جداً، وهناك آلة تُستعمل في المنزل مرَّة في الأسبوع من المواد البلاستيكية ضعيفة بحسب استعمالها، فهذا المصنع يصنع تارةً آلة منزلية بسيطة غير معقَّدة، غير متينة، وغير مقاومة، وتارةً يصنع آلة من أقسى المعادن، مقاومة، متينة، فيها احتياطات بالغة، هذا المصنع صنعته متفاوتة من حيث الإتقان، لكن الله -سبحانه وتعالى- صنعته غير متفاوتة.

أمثلة عن آيات الله العظام: 


1- البعوضة:

لو أخذنا أحقر مخلوق تراه عينك؛ بعوضة، ما البعوضة؟ جناحاها يرفَّان أربعة آلاف رفَّة في الثانية، لها ثلاثة قلوب؛ قلب مركزي، وقلب لكلّ جناح، وعندها جهاز رادار، وجهاز تحليل، وجهاز تخدير، وجهاز تمييع، تبحث عن ضحيتها بالرادار والضوء مُطفأ، وتأخذُ من دمه شيئاً فتحلّله فإن وافقها مصَّتْ من دمه، من أجل أن يعبرَ الدم خرطومها لا بدّ من تمييع الدم، ومن أجل ألّا تُقتل وهي تمتص الدم يجب أن تُخَدِّرَ، تخدر وتميع وتمتص الدم وتحلل وتأتي بالرادار، إذا كان السطح صقيلاً فلها محاجم تثبت على الضغط، وإذا كان السطح خشناً فلها مخالب، وهذه البعوضة الشيء العجيب فيها أن الإنسان يتعامل معها بطريقةٍ عجيبةٍ جداً ﴿ مَا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍ﴾ ، والآية الكريمة واضحة جداً:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَحْىِۦٓ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِۦ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلْفَٰسِقِينَ (26)﴾

[ سورة البقرة  ]

فالبعوضة فيها تعقيد لا يعلمه إلّا الله، هذه التي لا قيمة لها عندك إطلاقاً، تقتلها وأنت مرتاح، إذاً: ﴿مَا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۢ﴾ أي من تباين في الصنعة، ﴿فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ﴾ أي هل ترى من خلل في الصنعة؟

2- ماء العين:

ذكرت لكم من قبل أن الإنسان قد يذهب إلى القُطب وقد تنخفض الحرارة هناك إلى سبعين تحت الصفر، وقد يستخدم الإنسان كلّ شيء يقيه البرد؛ من ألبسة داخلية صوفية، إلى أحذية فيها فرو، إلى معاطف سميكة جداً، إلى قُبَّعات من الفرو، إلى قطع من الصوف يلفُّها على وجهه، بإمكانه أن يستُرَ كلّ أعضائه عدا العينين يريد أن يمشيَ، العين تلامس الهواء الخارجي والهواء الخارجي سبعون تحت الصفر، والعين فيها ماء والماء يتجمَّدُ عند الدرجة صفر، فينبغي أن يفقدَ كلّ من يسكن هذه المناطق أبصارهم، الله -عزَّ وجلَّ- أودع في ماء العين مادةً مضادةً للتجَمُّد، هذه من آيات الله الدالة على عظمة الله، هذا الماء شأنه شأن أي عنصر في الأرض كلَّما برَّدته انكمش، كلَّما سخنتَّه تمدَّد، إلّا أن هذا الماء ينفرد بخاصّة من بين كلّ العناصر أنّك إذا بردَّته ينكمش وينكمش إلى الدرجة (+4) وبعدها يتمدَّد، لولا هذه الخاصّة لما كنَّا في هذا المسجد، ولما وجدنا على الأرض حياةً، الماء يتجمَّدُ فيزداد حجمه وتقل كثافته فيطفو على السطح، يبقى ماء البحر دافئاً والحياة فيه جيدة، فلو انكمش الماء عند التجمُّد لزادت الكثافة فغاص إلى أعماق البحار، بعد حين تتجمدُ كلّ المحيطات وينعدمُ التبخُّر، وتنعدمُ الأمطار، ويموت النبات، ويموت الحيوان، ويموت الإنسان؛ شيء مُتقن جداً﴿ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ﴾ .

3-الصوص:

يحتاج أن يخرج من البيضة، فينشأ على منقاره نتوء مؤنَّف كالإبرة تماماً يكسر به البيضة، وبعد حين يَضْمُر هذا النتوء وتنتهي مهمَّته، صنعةٌ متقنةٌ ما بعدها صنعة، أنت أمام حقل بطيخ كلّه أخضر فكيف تختار التي نضجت؟ ليست هناك طريقة، أيعقل أن تنبطحَ إلى جانبها وأن تستخدمَ يدك وأذنك كما يفعلُ شاري البطيخ؟! مستحيل عند حقل كبير جداً، الله جعل لها خيط حلزوني يمسكه الفلاح، فإن انكسر بين يديه فالبطيخة ناضجة وإن بقي طرياً فهي غير ناضجة، جعل لهذا الإنسان علامة لطيفة جداً ﴿مَا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ﴾ هل ترى من خلل؟!﴿ ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ أي مرَّتين، ابحث عن خلل، يقولون: الزائدة الدودية- وهذا غلط- الذائدة المُدافعة، قلت لكم في الخطبة اليوم: أن عالماً كبيراً من علماء أمريكا في علم التشريح قال لطلاَّبه قبل ثلاثين عام: أن الغُدة الصنوبرية غدةٌ لا فائدة منها ولا تعني شيئاً، هي غدة في وسط الدماغ حجمها كحجم حبَّة الذرة الصفراء تنتج هرموناً، الآن اكتُشِف أن هذه الغدة من أخطر الغُدَد، ومفرزاتها موجودة في كلّ كائن حي حتى النبات، النبات والحيوان والإنسان، حتى في المخلوقات البسيطة كوحيدة الخلية الهرمون فيها هوَ هو، ولها علاقة بصيانة القلب، لها علاقة بالنوم، لها علاقة بالنشاط والحركة، بمكافحة الأمراض والجراثيم، الآن يوجد ثلاثمائة بحث علمي حول هذه الغدة في عام خمسة وتسعين، فليس كلّ شيء تقرأه يكون هو الصواب، يقول هذا العالِم: إن هذه الغدة لا فائدة منها، أي ليس لها أي دور في حياة الإنسان، فلا يوجد شيء زائد في الكون أبداً. 
﴿ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلْبَصَرُ خَاسِئًا﴾ معنى خسئ فلان أي: أخفق في مسعاه، البصر يبحث عن خلل لا يجده ولن يجدَه، ليس في الأرض أدنى خلل، أنت حينما تراقب حركة سير ترى السيَّارات تبتعد وتقترب أمامك في طريق مزدحم، كيف ترى هذه المركبات بشكلٍ دقيق؟ معنى ذلك أن خيال هذه المركبات تقع على الشبكية دائماً، والبعد بين العدسة والشبكية ثابت والأجسام بعدها متفاوت، إذاً يوجد في العدسة التي في العين عدسة مرنة يزداد احتدابها ويقِل من أجل أن يقعَ الخيال على الشبكية دائماً، هذا الشيء لا يُصدق.
 ﴿ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ إنسان يمشي في الطريق سمع صوت بوق مركبة وهو لا يشعر بعمل غير إرادي يتجه نحو اليمين، فنسأله لِمَ لم تتجه نحو اليسار؟ يقول لك: لأن الصوت من اليسار، ولكن كيف عرفت؟ لا أعلم كيف عرفت، إذا سمع الإنسان صوت بوق يعرف جهة الصوت، ولكن كيف يعرف؟ يوجد جهاز مُعقَد جداً، هناك جهاز بالدماغ يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين، فهناك أذنان بينهما 12 سم، والصوت سرعته ثلاثمائة وثلاثون مترًا في الثانية، معنى هذا أن التفاوت بين 12 سم هو واحد على ألف وستمائة وعشرين جزء من الثانية، فجهاز الدماغ يقيس متى وصل الصوت إلى هذه أولاً أم إلى هذه أولاً؟ الدماغ يعرف جهة الصوت، ويتحرَّك وفق جهة الصوت، اركب مركبة وسّر في طريق، فإذا كان أمامك قطيع غنم أطلق بوق السيارة يتجه الغنم إلى عكس مركبتك، إذاً ليس فقط عندك الجهاز عند بقية المخلوقات هذه الجهاز، شيء دقيق جداً في صنعة الله -عزَّ وجلَّ-؛ فلذلك: ﴿ ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ خاسئاً أي: أخفق في مسعاه ليصل إلى الخلل، فلا يوجد خلل أبداً، أعد النظر آلاف المرَّات لن تجد خللاً، خسئ أي: خاب وخسر، ﴿ وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ وهو متضائل، صغير قميء، لذلك هذا الذي يبحث عن عيبٍ في الخلق سوف يرتد بصره، ﴿خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ أما إذا كان هناك فساد في الأرض -دقيق هذا الكلام- إذا وجد الفساد قال تعالى:

﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾

[ سورة الروم ]

فأنت يمكن أن تضعَ الملح في الحلويات فلا تأكلها، ومن الممكن أن تضع السكر في الطبخ لا تأكله، السكر مادة ثمينة جداً، والملح مادة ثمينة، أما سوء الاستخدام فهو الذي يسبب التلف، فالفساد، ما الفساد؟ سوء الاستخدام، لذلك الشر المطلق ليس له وجود في الكون، أما الفساد للإنسان ﴿ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أما في أصل الصنعة لا يوجد فساد أبداً، فمركبة من أحدث المركبات يقودها إنسان يشرب الخمر ستتدهور، لها منظرها قبيح جداً بعد التدهور، نقول: أي مصنعٍ صنعها؟! لا تحتاج إلى المصنع سيارة متدهورة أي معجونة عجنًا هذه لا تحتاج إلى مصنع أصبحت بهذه الهيئة البشعة لأنّها استُخدمت استخداماً غير صحيح؛ لأن الذي قادَها قادها وهو ثَمِل، إذًا هذا الذي حصل لها، أما إذا رأيتها كاملةً فتقول: من الذي صنعها؟ من أي مصنع هي؟ فإذا كان هناك فساد فبسبب أن الإنسان مخَيَّر ولم يستخدم منهج الله في حياته فـ ﴿ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ﴾ ، 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور