وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الملك - تفسير الآيات 20-26 - غرور الكافرين وهداية المؤمنين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس من سورة الملك، ومع الآية العشرين:

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

﴿ أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ ۚ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّۢ وَنُفُورٍ (21)﴾

[ سورة الملك ]


أنواع وطرق عذاب الله-عزَّ وجلَّ-:


أيّها الإخوة الكرام؛ آيات القرآن الكريم مُترابطة وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ الٓر ۚ كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)﴾

[ سورة هود ]

الإحكام هو الترابط، فربنا -سبحانه وتعالى- حينما قال:

﴿ ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ (16)﴾

[ سورة الملك ]

قد يأتي بالعذاب من تحت أرجلنا.

﴿ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)﴾

[ سورة الملك ]

 وقد يأتي العذاب من فوق رؤوسنا، وهناك آيةٌ تؤكِّد هذا المعنى:

﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام ]

فقد يأتي العذاب من السماء حاصباً، وقد يأتي من تحت الأرض خسفاً، وقد يأتي لُغْماً أو قصفاً، على كلٍّ عذاب، وكل هذه الأنواع من أنواع العذاب ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ﴾ ، فإن كنتم قد أمنتم فلعلَّكم تعتمدون على جندٍ لكم يحمونكم من هذا العذاب، فمَنْ هؤلاء الجند الذين يحمونكم من عذاب الله؟ هذا هو أصل الآية ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ تضطربُ من تحت أرجلكم، ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾

﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)﴾

[ سورة الملك ]

كيف أهلكناهم ودَمَّرناهم، الآن هذا الذي يعصي الله وهو مطمئن، يعصي الله ولا يتوب ثم لا يفكِّر في أن يرجع إليه تائباً، هذا الذي يقترف المعاصي والآثام دون أن يعبأ بالمستقبل، فعلى أي شيءٍ يعتمد؟ حينما قال عليه الصلاة والسلام:

(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ  ))

[ رواه الترمذي -وقال: حديث حسن -عن أبي هريرة ]

فهذا الذي لا يعبأ بمنهج الله ولا يلتزم به، هذا الذي لا يفكِّر حينما يتحرَّك أهو على صواب أم على خطأ؟ يفعل ما يجوز أو ما لا يجوز، ربه راضٍ عنه أو ساخط؟ هذا الذي يتحرَّك حركةً عشوائية همُّه أن يستمتع بالحياة الدنيا دون أن يعبأ بخالقٍ خَلَقَ وأمرَ ونهى، دون أن يعبأ بمنهجٍ قويم أرسله الله هدايةً للعالمين، هذا الذي يتحرك حركة عشوائية، هذا الذي يَعْصي الله ولا يعبأ بقصص الأنبياء السابقة ولا بهلاك الأمم السابقة هذا ما موقفه؟ لعله يعتمد على جندٍ إذا جاء عذاب الله -عزَّ وجلَّ- يمنعون عنه هذا العذاب، أهو الأمر كذلك؟

﴿ أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ (20)﴾

[ سورة الملك ]


أنت في قبضة الله:


أنت في قبضة الله ونحن جميعاً في قبضة الله، لو كنت مع أقوى الأقوياء فماذا يستطيع أن يفعل هذا القوي لو أن نقطةً من الدم تجمَّدت في عروق الدماغ فشكَّلت خثرةً دماغية فأصابته بالشلل أو بالعمى أو بالصمم أو بفقد الذاكرة؟ نقطة دمٍ إذا تجمَّدت في أحد فروع شرايين الدماغ تجعل حياة الإنسان جحيماً، لو كنت في الدنيا مع أقوى الأقوياء ومُلازماً له، لو كنت كَظِلِّه، فماذا يستطيع أن يفعل هذا القوي معك؟ ﴿ أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى﴾ هذا اسمه استفهام إنكاري، ليس لكم جندٌ يحمونكم من عذاب الله.

﴿ لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

(( عَنْ بَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهَا فَيَقُولُ: قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا فَإِنَّهُ مَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حَتَّى يصبح ))

[  رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (ضعيف) ]

﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

(( يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ  ))

[  أخرجه الترمذي واللفظ له، وأحمد عن عبد الله بن عباس  ]

هذا هو التوحيد، فالإنسان حينما يوحِّد يرتاح قلبه، كأن الله -سبحانه وتعالى- يبيّن لنا: أيها الإنسان المُغْتَر الواهم الجاهل أنت حينما تعصي وتقترف الآثام على ماذا تعتمد؟ أتعتمد على جندٍ يحمونك من عذاب الله؟ أتعتمد على قوةٍ تحول بينك وبين قضاء الله وقدره؟ أنت في قبضة الله.

﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

من يملك السمع والأبصار والأفئدة؟ من يملك الحركة؟ من يملك العقل في الرأس؟ إن الذي يفقد عقله يتوسط له أقرب الناس ليجعلوه في مستشفى الأمراض العقلية، فأنت لا تملك عقلك، ولا حركتك، ولا سمعك، ولا بصرك، ولا من حولك، ولا ما حولك ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ﴾ ، أنت حينما تُخَاصم قوياً وتعتمد على قويٍ ندٍ له فالأمر معقول جداً، حينما تعتمد على قوي ثم تخاصم قوياً، فإن أراد أن يصل إليك احتميت بالقوي الذي تعتمد عليه؛ هذا هو المنطق، أما إذا كنت تجترئ على الله -عزَّ وجلَّ- فمن هي الجهة في الأرض التي تستطيع أن تمنع عذاب الله؟ من هي الجهة في الأرض التي تستطيع أن تحول بينك وبين أمر الله ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ﴾، إنك حينما تعصي لعلك معتمدٌ على جهةٍ تحميك من الله -عزَّ وجلَّ-؟! هذا منتهى الجهل والغباء والجنون ﴿وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ﴾ ، حدَّثني أحد المرضى وهو مصابٌ بمرضٍ خطيرٍ في القلب ومرض خطير في المعدة، قال لي: إنَّ أدوية مرض القلب تؤذي المعدة، وأدوية المعدة تؤذي القلب، فماذا أفعل؟
نحن في قبضة الله، نحن لا نحتمل أي مَسّ، هناك آلامٌ لا تُحْتَمل، وهناك آلامٌ تُخرِح الإنسان عن طوره.
أيها الإخوة الأكارم؛ آيةٌ دقيقة فالإنسان حينما يعصي الله على ماذا يعتمد؟ أيحميه ماله؟ مرَّة كنت عند طبيب فجاءه اتصالٌ هاتفي وأنا سمعت بأذني، يقول المتصل به: أي مكانٍ في العالم وأي مبلغٍ ندفعه، فقال له: والله لا يوجد أمل، المرض الخبيث للدرجة الخامسة لايوجد أمل، فماذا يفعل المال؟ لا يفعل شيئاً، لو أنك معتمدٌ على قوي فالقوي يتخلَّى عنك في الوقت الحرج أحياناً ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ﴾ ، فالإنسان بالمنطق السليم حينما تخاصم قوياً ينبغي أن تعتمد على قويٍّ ندٍ له، أما إذا أراد أن تخاصم الله -عزَّ وجلَّ- وأن تعصيه جهاراً، وأن تنتهك حُرماته، وأن تؤذي مخلوقاته وتتطاول عليهم وتأخذ أموالهم وتنتهك أعراضهم ولهم ربٌ كبير، فعلامَ تعتمد؟ أنت ضعيف، الإنسان في قوته، وطغيانه، وجبروته حياته متوقفةٌ على نبضات قلبه، فلو توقَّف القلب فجأةً لانتهى الإنسان، نريد أيها الإخوة أن نأخذ هذه الآية ونطبِّقها تطبيقاً عملياً، كل واحد منَّا إذا خرج عن منهج الله فما الذي يحميه من عذاب الله؟ ما الذي يحميه من قضاء الله؟ ما الذي يحميه من حكم الله؟ لا شيء، إن الله -عزَّ وجلَّ- له علينا تقريباً للحقيقة مليون سبيل وسبيل، فكل مكانٍ في الجسم مُعَرَّضٌ لورمٍ خبيث، بل إن أحدث الأبحاث الآن تشير إلى أن في الإنسان مورِّثاً متعلِّقاً بالورم الخبيث، وهذا المورِّث إما أن يُجَمَّد وإما أن يُفعَّل، ففي أي مكان تنتهي حياة الإنسان؟ وقد تنتهي بعد سنواتٍ طويلة ملؤها العذاب والشقاء، الإنسان ضعيف، فعلام يعتمد؟ على ماله؟ قد تنشأ مشكلةٌ لا يحلها المال، على من حوله؟ قد تأتي مصيبةٌ لا يحلها من حوله، فأنت حينما تعصي على ماذا تعتمد؟ هنا السؤال، ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ﴾ إذا جاء قضاء الله وقدره ما الذي يحميك؟

﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِاْىٓءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍۢ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ(23) يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى(24)﴾

[ سورة الفجر ]

أيها الأخوة؛ قبل أن تخالف منهج الله، وتخترق خطَّ الاستقامة، وقبل أن تصل مع الله إلى معصية فكِّر، هل هناك جهةٌ تحميك من عذابه؟ وعذاباته لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فالذي نسمع عنه أن الإنسان بأجهزته المعقدة، وأعضائه المعقَّدة، وتركيبه المعقد، هناك مليون خطر ينتظره في جسمه، مليون خطر ينتظره في بيته، في عمله، في سفره، في إقامته، فإن لم يكن على منهج الله، ولم يكن مطيعاً لله، ولم يحتمِ بحمى الله، ولم يستظل بظل الله ولم يفتقر إلى الله فمن الذي ينجده؟ من الذي ينقذه؟ من الذي يحميه؟ ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ﴾ ، أيها الإخوة الكرام ﴿إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ﴾ .

غرور الكافرين:


الغرور هو أن تتوهم شيئاً لا أصل له، لا أساس له، الإنسان أحياناً قد يرى عُلْبَةً ثمينة فيظن أن بها شيئاً ثميناً فإذا فتحها لم يجد فيها شيئاً، فنقول: اغتر بها، وقد يُعطي بعض الأشياء حجماً كبيراً فإذا تعمَّق فيها لم يجدها شيئاً، المال مثلاً؛ الإنسان في أول حياته يظنه شيئاً عظيماً، أما في منتصف حياته يظنه شيئاً ولكن ليس كل شيء، ثم حينما تنكشف الحقيقة يراه ليس بشيء وهكذا كل حظوظ الدنيا.
 ﴿إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ﴾ أي أن الكافر لا يوجد لديه إلا حلَّ واحد، فإما أن تعرف الحقيقة أو أن تجهلها، فإن عرفت الحقيقة تأدَّبت مع الله والتزمت أمر الله وبادرت إلى طاعة الله وكنت مستسلماً لله، واعتمدت عليه وحده، المؤمن لا يعتمد لا على ماله ولا قوته ولا على ذكائه، ماذا قال قارون؟

﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

إن عرفت الحقيقة اعتمدت على الله وحده وافتقرت إليه ولُذت بحماه، وكان الله ملجأً وحصناً وقوةً لك، أيها الإخوة الكرام؛ أيُّ شيءٍ تعتمد عليه سوى الله، من محبة الله لنا، ومن تربيته لنا، هذا الشيء الذي اعتمدنا عليه يزيحه من تحتنا من أجل أن نتَّعظ، من أجل أن نقبِّل عليه ولا نغتر، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ﴾ ،  معنى ذلك أن الكافر الذي استغنى عن طاعة الله مغرور، فمثلاً: إذا كان هناك شخص معه شيك بمئة ألف، ولكن الشيك مزوّر وليس هناك رصيد، هو واهم أنه شيكٌ صحيح و مليء، فكل إحساسه بالقوة مبني على اعتقاده أنه صحيح، فلو اكتشف أنه مزوّر أو أنه لا رصيد له انهار، فالكافر على شيء من الغرور، إن اعتمد على غير الله فهو مغرور، قد تعتمد على شخصٍ قوي يتخلى عنك في أحرج الأوقات وأصعبها، لأنك كنت مُغْتَرَّاً به، يا أيها الذين آمنوا:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ (5)﴾

[ سورة فاطر ]

قد تعطي الدنيا حجماً أكبر من حجمها بكثير فأنت مغترٌ بها، وقد يأتي الشيطان فيوسوس فتصدِّق فكان الشيطان هو الغَرور، هو الذي أغرَّ الإنسان وغرَّر به، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ ٱلْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ﴾ ، الكافر حينما يعتمد على جهةٍ غير الله -عزَّ وجلَّ- مغترٌّ بها، وأعطاها حجماً غير صحيح، توهَّم شيئاً لا أصل له، هذا فيما يتعلق بالوجود.

البقاء والرزق بيد الله وحده:


أما فيما يتعلق بالرزق، فالإنسان حريصٌ على شيئين: على بقائه وعلى رزقه، فعلى بقائه؛ أنت حيٌّ تُرزق لأن الله شاء لك أن تبقى حيّاً، فإذا أراد الله شيئاً وقع، كل شيءٍ أراده الله وقع، وكل شيءٍ وقع أراده الله، وأما الرزق ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ﴾ فالرزق أصله عند الله -عزَّ وجلَّ-، بعض البلاد في إفريقيا أصابها الجفاف سبع سنواتٍ متتاليات فهلك كل شيءٍ، يقال لك: صقيع بسيط أصاب الغوطتين، مئة مليون ثمن الفواكه التي أُتلفت في صقيع بسيط قبل أسابيع، والخسارة مئة مليون! أحياناً يصل صقيع إلى محصول أساسي فتبلغ الخسارة ألف مليون أو ثلاثة آلاف مليون، فاللَّهُ هو الرزَّاق، فلو أن الأمطار جاءت موزعةً توزيعاً مناسباً لرأيت الخيرات ولأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾

[ سورة الجن ]

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)﴾

[ سورة المائدة ]

وقس على ذلك القرآن الكريم.

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)﴾

[ سورة الأعراف  ]

﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ﴾ ، إذا أقلعت السماء عن أن تمطر فماذا نفعل؟ سنفقد عندئذ معظم المحاصيل، لقد أنتجت بلادنا مرةً -بفضل الله ورحمته- ثلاثة ملايين طن من القمح، واحتياجاتنا القصوى مليون طن واحد وأحياناً مائتا ألف طن، فلو أن السماء لم تمطر والأرض لم تنبت فماذا نأكل؟ هناك كوارث في بعض البلاد تجعل المحاصيل كلّها تالفة، كل شيء ينبغي أن يُستورد، فترتفع الأسعار إلى درجةٍ جنونية ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ﴾ ، هنا توجد نقطة دقيقة: كل واحد منا له عمل، فهو في عمله مادام يملك هذه الإمكانات؛ إمكانات العمل، فلو فقد عقله فجأةً انتهى عمله، وكل واحد الله -عزَّ وجلَّ-يسَّر له عملاً لأن عنده قدرات وإمكانات، فهذا عمل في التعليم، وهذا عمل في طب، وهذا في الهندسة، وهذا في الصناعة، وهذا في التجارة، وهذا في الزراعة، وهذا في الخدمات، لولا أن الله -سبحانه وتعالى- أعطاك بعض القدرات التي توظِّفُها في كسب الرزق، ووَفَّقَك لما أكلت شيئًا، وكلُّ واحد منا له مكان يأوي إليه، له طعامٌ يأكله، له بيتٌ يدخله مساءً، لولا أن الله تفضَّل علينا لما أمكننا أن نكسب أرزاقنا، إذاً رزق الله -عزَّ وجلَّ- يبدأ بماء السماء، يبدأ بالسماء تُمطِر، والأرض تُنبِت، شيء آخر؛ لو أن الإمكانات التي أودعها الله في الإنسان، كان هناك إنسان يحتل مكانة رفيعة وعمل جيد ففقد بصره فجأةً، طبعاً سُرِّح من عمله ثم يقول لأحد أصدقائه: والله أتمنى ألا أملك من الدنيا إلا معطفاً أتسول به على الطريق وأن يُردَّ إليَّ بصري، فهناك مصالح أساسها البصر، ومصالح أساسها اليد.
يقول الله-عزَّ وجلَّ-: ﴿أَمَّنْ هَٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ ۚ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّۢ وَنُفُورٍ﴾ العتو: العِناد، لجوا: ضجروا ، فالإنسان المؤمن يتلقَّى أمر الله -عزَّ وجلَّ-بالرضا والقبول، أما الكافر يرفض أمر الله -عزَّ وجلَّ-، لذلك قال العلماء: "هناك معصيةٌ أساسها الكِبر" ، الكافر الذي يُعانِد الحق يستكبِر عن أن يطيع الله -عزَّ وجلَّ-، ﴿بَل لَّجُّواْ﴾ أي اضطربوا، في عتوٍ أي في إصرارٍ، ونفور: أي نفوسهم ابتعدت عن منهج الله -عزَّ وجلَّ-، فهناك من يحب أمر الله، ويحب طاعة الله، ويحب أن يقوم بشعائر الله -عزَّ وجلَّ-، وهناك من يرفض هذا كلّه، ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ (22)﴾

[ سورة الملك ]

هذه الموازنات في القرآن رائعة:

﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ (18)﴾

[ سورة السجدة ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ (35)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)﴾

[ سورة العنكبوت ]

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص ]

﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

لا يستوي الأحياء ولا الأموات.

﴿  وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ (20) وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلْحَرُورُ (21)﴾

[ سورة فاطر  ]

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر ]


 طريق الإيمان وطريق الضلال:


هنا: ﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ﴾ هذه الآية دقيقة فالطريق غير الصحيح طريق وعر فيه مرتفعات ومنخفضات وأشواك وحُفَر وأكمات، طريق الباطل طريقٌ وعر فيه ألغامٌ كثيرةٌ جداً، وكلُّ معصية فيها بذور نتائجها، فالمعصية عدوان، عدوان على حق الله، عدوان على الناس، فالإنسان إذا تفلَّت من منهج الله كمركبةٍ خرجت عن الطريق المعبَّد إلى طريقٍ كلّها أحجار وصخور وحفر وأوحال، فالذي يمشي على غير منهج الله -عزَّ وجلَّ- يمشي مُكِبَّاً أي يمشي في طريقٍ وعرةٍ تستلزم أن يقع؛ هذا معنى.
والمعنى الثاني: إذا أغمض الإنسان عينيه وقع، وإذا مشى في طريقٍ وعرةٍ وقع، وحينما ينقطع الإنسان عن الله -عزَّ وجلَّ- يفقد رؤيته الصحيحة، ما دُمت متصلاً باللَّه فهناك رؤيةٌ صحيحة تهديك إلى سواء السبيل، وهذا معنى قول الدعاء: (اللهمَّ أرنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه) هناك من يرى الحقَ باطلاً، وهناك من يرى الباطل حقاً.
﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ﴾ يمشي في طريقٍ وعر، هذا الطريق الوعر من لوازمه أن الذي يمشي فيه يقع على وجهه، والإنسان إذا وقع على وجهه تَشَوّه، أو أن المنقطع عن الله -عزَّ وجلَّ- أعمى لا يرى، والإنسان يمشي على طريق معبَّدة وفيها منعطفات فلو أطفأ أنوار مركبته فلا بدَّ من حادث فالإنسان ما دام موصولاً باللَّه -عزَّ وجلَّ- فهناك نورٌ يقذفه الله في قلبه.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِۦ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28)﴾

[ سورة الحديد ]

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ (29)﴾

[ سورة الأنفال ]

الإنسان قبل أن يتحرَّكَ يتحرَّك برؤية، فإما أن تكون هذه رؤية صحيحة أو رؤية غير صحيحة، المؤمن موصول نوره في قلبه ورؤيته صحيحة وعمله طيّب، ﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ﴾ لم يقل الله -عزَّ وجلَّ-: أفمن يمشي مكباً على صراطٍ غير مستقيم، لا؛ لأن هذا الذي يتحرَّك بلا منهج يتحرَّك بعيداً عن أي طريق، الطريق مرسومة ومعبَّدة ومسهَّلة وممهدة، أما الإنسان إذا خرج عن منهج الله لا يُسمى هذا الخروج طريقاً، فقد صار في أرض وعرة ليست طريقاً، الآية دقيقة ﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا﴾ رافع الرأس، أولاً يرى والطريق ممهد، ويوجد هنا شيئان؛ عوامل التعثُّر إما العمى وإما وعورة الطريق، وأما الثاني ﴿يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ﴾ .

 المؤمن يحيا على بصيرة:


جمال حياة المؤمن أيها الإخوة وروعتها هي أنَّ كل شيءٍ في حياته له حكمٌ شرعي؛ هذا يجوز وهذا لا يجوز، هذا يفعله وهذا لا يفعله، فالأحكام الشرعية كما تعلمون تبدأ بالفرض، ثم بالواجب، ثم بالمندوب، ثم الإباحة، ثم الكراهة التنزيهية، فالكراهة التحريمية، فالحرام، فأيُّ شيءٍ في حياته إما مباح، أو محرَّم، أو فرض، أو واجب، أو سنَّة، أو مستحب، أو مندوب، أو مكروه، أو مكروه كراهة تحريمية، أو حرام، فهو يمشي على منهج، ومنهج الله -عزَّ وجلَّ-دقيقٌ جداً يُغَطِّي كل أحواله من دون استثناء، في أخصّ خصوصيَّاته، في أخصِّ العلاقة بينه وبين أهله، بينه وبين أولاده، بينه وبين جيرانه، مع من فوقه، مع من دونه، مع من هم في مستواه، في عمله وفي الطريق، في السفر وفي الحضر، في العلاقات العامة، في العلاقات الدولية؛ شرعٌ كامل.

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ۚ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍۢ لِّإِثْمٍۢ ۙ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)﴾

[ سورة المائدة ]

فالإنسان أيها الإخوة حينما يعرف الله المعرفة التي تحمله على طاعته، هناك معرفةٌ لله -عزَّ وجلَّ-لا تكفي لطاعته، فمن قال: "لا إله إلا الله بحقِّها دخل الجنَّة، قيل: وما حقِّها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله" فهل كل إنسان قال: لهذا الكون إلهٌ عظيم، يكون مؤمناً؟  كل إنسان قال: لهذا الكون خالق، هذا مؤمن؟ هذا الإيمان لا يكفي، فإبليس اللعين قال:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص ]

هذا إيمان ولكن هذا الإيمان لا يكفي، هذا إيمان إبليسي، لذلك الإنسان حينما يبلغ في الإيمان درجةً تحمِله على طاعته، الآن لا شيء أَحْوَج إليه من أن يعرف منهجه.

أهمية المنهج:


أيها الإخوة؛ الإنسان قبل أن يفكَّر في طاعة الله قد لا يحتاج إلى منهج الله، سواءٌ عليه عرفه أو لم يعرفه فإنه لا يطبِقه، أما حينما تتنامى قناعاته وينمو إيمانه إلى درجة يعزم على طاعة الله فهو الآن في أمسِّ الحاجة إلى منهج الله، الآن دخل في المرحلة المدنية، فأصحاب النبي -عليهم رضوان الله- عاشوا في مكة مرحلةً مكَّية فلّما انتقلوا إلى المدينة دخلوا في مرحلة التشريع، تفكر في الكون، تفكّر في السماوات والأرض، تفكر في خلق الإنسان، تفكر في طعامه وشرابه، في خلقه، مما خُلِق؟ إلى أن تقول: لهذا الكون إلهٌ عظيم لا بدَّ من طاعته، الآن بعد أن يحمِلك إيمانك على طاعة الله، بعد أن تعقد العزمِّ على طاعة الله ليس هناك شيءٌ أنت في أمسِّ الحاجة إليه إلا أن تعرف منهج الله، لذلك معرفة الأحكام الشرعية جزءٌ أساسيٌ من الدين؛ لأنك بالكون تعرفه لكن بالشرع تعبده، ألم يقل الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

فكيف أعبده؟ علّة وجودنا على هذه الأرض أن نعبده، فلا بدَّ من معرفة أمره، فالتاجر يجب أن يعرف أحكام البيوع، كل إنسان في بيته يجب أن يعرف أحكام الزواج، حقوق الزوجة، حقوق الزوج، تربية الأولاد، حقوق الوالدين، حقوق الجيران، البيع والشراء، صحَّة البيع، الإنسان في بيته وفي عمله يجب أن يتقن الأحكام الفقهية المتعلقة في بيته وعمله من أجل أن يعبد الله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾، ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فالعبادة علَّة وجودنا؛ فلذلك كان في الدين شيئان أساسيان: تعرفه فتطيعه، والشيء الثاني تسعد بقربه، يمكن أن ينضغط الدين كله إلى كليات ثلاثة: جانب معرفي، جانب سلوكي، جانب جَمالي، فالمعرفي هو السبب، والسلوكي هو الأصل، والجمالي هو الثمرة، إذاً لا بدَّ من أن نعرف منهج الله ﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، فالمنهج الإلهي مفصل إلى درجة أنه لا يجوز لك أن تسوق غنمتين للذبح معاً، رأى النبي أحد أصحابه يذبح شاةً أمام أختها، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( أتُريدُ أن تُميتَها مَوتَتَينِ؟! ))

[ أخرجه الطبراني، والحاكم، والبيهقي عن عبد الله بن عباس ]

 رأى النبي-عليه الصلاة والسلام- رجلاً يسحب شاةً من رجلها ليذبحها، قال:

(( يا جزار سقها سوقًا رفيقًا  ))

[ رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الوحين بن عطاء ]

فمنهج الله -عزَّ وجلَّ-يصل إلى ذبح الحيوان، يصل إلى أدق تفاصيل الحياة، لا بدَّ من أن نعرف منهج الله ومعنى ذلك أن شغل المؤمن الشاغل بعد أن يعرف الله المعرفة التي تحمِلُه على طاعته، فالمعرفة المطلقة لا توجد، لا يعرف الله المعرفة الكاملة إلا الله، وأعظم البشر عرفوا جانباً من كمالات الله، وأنا أقول: حينما تعرف الله معرفةً تكفي أن تعقد العزم على طاعته عندها أنت في أمسِّ الحاجة إلى منهجه، لذلك المؤمن عرف الله وعرف منهجه فلم يعد هناك صراعات، ولم يعد هناك تردد.

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا﴾

[ سورة الأحزاب ]

لن تسمى مؤمناً، إذا كانت القضية فيها أمر إلهي قطعي أو أمر نبوي قطعي- المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، أعطى حكماً في موضوعٍ ما- أنت حينما تأخذ هذا الموضوع وتضعه على بساط البحث وتدرسه، تأخذ به أو لا تأخذ به، فإن قَنِعْتَ به تأخذه، اطمئن أنت لست مؤمناً، فحينما تأخذ أمراً إلهياً، أمراً قرآنياً، أو أمراً نبوياً وتُخضعه للدراسة العقلية تأخذ به إذا قنعت به، ولا تأخذ به إن لم تقنع به فصف نفسك بأنك لست مؤمناً، والدليل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ ، الحرامُ حرام، والمُباح مباح، والفرض فرض، والمندوب مندوب، والمستحب مستحب، المكروه مكروه، والمحرَّم محرَّم؛ هذا هو المؤمن، وهذه العبادة لله -عزَّ وجلَّ-، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ (أي أمر الله) ورَسولُهُ (أي أمر رسوله) أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك  ]

قد تتألَّقُ الدنيا أمامك لكن الطريق الذي تسلكه إليها طريق غير صحيح، هذه الدنيا تركُلها بقدمك لأنك مؤمن، فالدنيا كلّها تحت قدمك أمام طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، هذا هو الحق فالأمر الإلهي أن تُخضعه لعقلك وتفكِّر فيه أأفعله أم لا؟ فاطمئن إلى أنك لست مؤمناً، حينما تفعل هذا ﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، لذلك رتبة العلم أعلى الرُتب، لذلك إن الوقت الذي تُمضيه في معرفة الله ومعرفة أمره ونهيه هو أخطر وقتٍ في حياتك، فليس هناك شيءٌ في الحياة الدنيا يعلو على أن تعرف الله وتعرف أمره ونهيه؛ لأنك تسعد بطاعة الله وتشقى بمعصيته، وما من مشكلةٍ على وجه الأرض- وأنا أعني ما أقول- في كل بقاع الأرض، وفي كل الأزمان إلا بسبب معصيةٍ لله، وما من معصيةٍ لله إلا بسبب جهلٍ بأمره ونهيه، فالإنسان إذا ركب طائرة خاصَّة وهو لا يعرف كيف يحرِّكها، فكم هي نسبة وقوع الحادث بالمئة؟ النسبة هي مئة بالمئة، فأنت تركب طائرة لا تعرف كيف تحرّكها؟! كيف تحلق بها؟! كيف تهوي بها؟! كيف تخفف سرعتها؟! معنى هذا أن الحادث محقق، والإنسان في حياته مطبات كثيرة ومغريات كثيرة، فالفتن يقظة، والشهوات مستعرة، وهناك ضغوط كثيرة ومغريات كثيرة، فلن تستطيع أن تنجو من هذا كلّه إلا بمعرفة منهج الله، لذلك المؤمن الصادق يطبِّق منهج الله ولا يعبأ بأحد، قل الله ثم ذرهم في غيِّهم يعمهون؛ هذا هو المؤمن.
﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا﴾ رافع الرأس، صحيح الرؤية والطريق معبَّد؟ أوضح لكم مثلاً: اركب مركبةٍ جديدةٍ على طريقٍ معبَّدٍ جيد، لا تسمع لها صوتاً، لكن هذه المركبة لو نزلت بها إلى طريقٍ وعر لكسَّرتها، هذه المركبة ليست لهذا الطريق بل لطريقٍ معبَّد، وأنت بُنْيتك، ونفسيتك، وفطرتك، وجسمك، وكل إمكاناتك مصممة بمنهج الله، فالإنسان عندما يتزوَّج، وعندما يؤدي العبادات، يضبط لسانه، يضبط سمعه، يضبط بصره، يضبط يده، يضبط رجله، يتحرك وفق منهج الله يسعد، الحياة جميلة جداً في طاعة الله، والحياة مريرة في معصية الله، والدليل الله -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾

[ سورة طه ]

مَنْ: اسم شرط جازم تفيد معنى الشرط، والشرط في الأساس حَدَثان لا يقع الثاني إلا إذا وقع الأول، يوجد ترابط حتمي بينهما، فإذا قرأت في القرآن جملة شرطية مُصَدَّرة بمَنْ الشرطية فمعنى هذا أنه قانون ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ .
والله أيها الإخوة؛ لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفَت، إذا وجد شخص واحد في الخمس قارَّات أعرض عن ذكر الله ويحيا حياةً طيبةً فإن هذا الكلام ليس كلام الله، مستحيل؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ-مُطلق، كلامه مطلق، كلامه قانون ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَى﴾ ، قال له: "يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ قال: عبدي قد عاقبتك ولم تدري" ، من مصيبة إلى مصيبة، من مشكلة إلى مشكلة، شيءٌ ثانِ:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

اطمئنوا أيها الإخوة ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً﴾ رغم أنف كل الظروف، رغم أنف كل العقبات، رغم أنف كل المُشكلات ﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً﴾ ، آيةٌ ثالثة، والله أيها الإخوة لو أرددها مليون مرَّة لا أشبع منها، الآية تقول: ﴿أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ تقول: هذا في الآخرة، لا في الدنيا ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ﴾ ، الآخرة مضمونة أما الدنيا ﴿وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ هذا كلام ربنا، هذا كلام خالق الكون، جربه، لا يمكن لإنسان محسن أن يُعامل كالمسيء، شاب مستقيم يُعامل كالمنحرف، وإنسان أمين يُعامل كالخائن، إنسان صادق يُعامل كالكاذب، إنسان مخلص يُعامل كالمنافق، إنسان رحيم يُعامل كالقاسي، مستحيل، كل شيء بثمنه والثمن باهظ ﴿أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ، شاب مستقيم يغض بصره، يصدق في لسانه، يقيم منهج الله في بيته وفي عمله، يرجو رحمة الله، الملائكة تحوطه من كل جانب، موفقٌ في عمله، سعيدٌ في بيته، مستحيل، هذا قرآن كريم، كلام رب العالمين ﴿أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ ، إنسان صادق كالكاذب؟! الأمين كالخائن؟! المخلص كالمنافق؟! المحسن كالمسيء؟! المتكبِر كالمتواضع؟! الرحيم كالقاسي؟!
أقول لكم أيها الإخوة: حتى على مستوى المسلمين حينما يرون أعداءهم بغطرسة واستعلاء وانحراف فلا بدَّ من أن يُظْهِر الله آياته فاطمئنوا، مهما تغطرس العدو، مهما تكبَّر فلا بدّ لله -عزَّ وجلَّ-من أن يظهر آياته الدالة على عظمته.

﴿ قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)﴾

[ سورة الملك ]

أي أطيعوا الله الذي يستحق الطاعة وسيروا على منهجه القويم فهو المنهج الصحيح ﴿قُلْ هُوَ﴾ ، هناك طاعات لغير الله، وهناك مناهج غير منهج الله، ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ﴾ أي أطيعوا الذي خلقكم، سيروا على منهج من فطركم.
 ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ﴾  الفؤاد إذا جاء مع السمع والبصر فهو العقل، أي أعطاك سمعاً تتعلَّم به الحق، وعيناً ترى بها الآيات، وعقلاً يُحاكِم ويصل للحقيقة، فأنت من الممكن أن تؤمن بالله من خلال عينيك ترى بهما آياته الظاهرة، وتعرف منهجه من خلال أذنيك، وتُصدِر أحكاماً صحيحة من خلال عقلك، فالله أعطاك قوة إدراكية، أنت مخلوق تدرِك هذه الطاولة الخشب خلقها الله -عزّ وجلَّ-، ولكن الخشب لا يُدرِك، الحجر لا يُدرِك، الحديد لا يُدرِك، الحيوان لا يُدرِك، مَيَّزَكَ الله على كل المخلوقات بأن جعلك مدركاً، ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ﴾ أي أطع الذي أنشأك وسر على منهجه، ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ كيف نشكر نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة العقل؟ قال: نشكر نعمة السمع بأن نوظِّفه فيما خُلِق له، بأن نستمع بالأذن إلى الحق لا أن نستمع إلى الغناء، كيف نشكر نعمة العين؟ أن نرى بها الآيات لا العورات من خلال اللواقط الهوائية، كيف نشكر نعمة العقل؟ أن نُعْمِلَهُ فيما خُلِق له بالتفكُّر في خلق السماوات والأرض، ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي لعلّ الإنسان يوم القيامة يرى نفسه في النار يتلوَّى في لهيبها، لعل الله -عزّ وجلَّ- يعاتبه، يقول: أنت وصلت إلى القمر، ووصلت إلى قاع المحيطات، ونقلت الصورة الملوَّنة عبر القارَّات الخمس، وفعلت المستحيل، وصنعت الهاتف الفضائي ونقلت كل شيء، لو بذلت من هذه الإمكانات التي أعطيتك إيَّاها واحدًا بالمليون لعرفتني، هناك مُنجَزَات في العصر مذهلة، فهناك أشياء مألوفة ولكنها مذهلة، تكتب رسالة وترسلها عن طريق جهاز فتصل في الوقت نفسه إلى أمريكا؟! هذا شيء منظور للناس جميعاً، هناك أجهزة تقرأ 450 مليون حرفاً في ثانية واحدة؟! والآن توجد مؤتمرات صحفية تتم عبر خمس قارَّات بالأقمار الصناعية هذا إنجاز كبير جداً، فلو بذل الإنسان واحد بالمليون من هذه الطاقات الفكرية لعرف الله ولسعد به، لذلك الإنسان يوم القيامة:

(( إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليَّ مما ألقى- وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب- ))

[ أخرجه الحاكم، والسيوطي في الجامع الصغير عن جابر بن عبد الله (ضعيف) ]

الندم لا يُحتمل، إنسان يخسر الآخرة، يخسر الأبد من أجل سنواتٍ معدودة أمضاها في المعاصي والآثام؟! ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾

﴿ قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الملك ]

سوف تعودون للحساب، كل حركةٍ، وكل سكنةٍ، وكل عطاءٍ، وكل منعٍ، وكل غضبٍ، وكل رضًى، وكل ابتسامةٍ، وكل عَبوسٍ مسجَّلٌ عليك لماذا فعلت؟ البطل هو الذي يُهيئ لله جوابًا عن كل شيءٍ يفعله الآن.

﴿  فَوَرَبِّكَ لَنَسْـَٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

لماذا فعلت؟ لماذا عبست؟ لماذا ابتسمت؟ لماذا نظرت؟ لماذا غضبت؟ لماذا ظلمت؟ كل شيء بحسابه ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾

﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)﴾

[ سورة الغاشية ]

﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (25)﴾

[ سورة الملك ]

استهزاءً.

﴿ قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26)﴾

[ سورة الملك ]

أنا أنذركم هذا اليوم أما متى يأتي فهذا علمه عند الله، قال الإمام مالك -فيما أذكر- أنه رأى في المنام ملك الموت فقال له: يا ملك الموت كم بقي لي من حياتي؟ أشار له ملك الموت بهذه الإشارة، خمسة، فلما استيقظ قلق، يا ترى خمس سنوات؟ أم خمسة شهور؟ خمسة أسابيع؟ خمسة أيام؟ خمس ساعات؟، فسأل الإمام ابن سيرين فقال له: يا إمام ما تفسير هذه الرؤيا؟ قال له: يقول لك ملك الموت: إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله ﴿قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ .
إخواننا الكرام؛ هذه الآيات دقيقة فالذي يعصي الله -عزَّ وجلَّ-على أي شيء يعتمد؟ هل يضمن سلامة أجهزته لساعة واحدة؟! من أدعية النبي -عليه الصلاة والسلام-:

(( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ))

[ صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ]

 أحياناً يأتي المرض فجأةً، فيصيب الإنسان بشلل.

(( اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ، أرحمُ الراحمينَ أنتَ؛ ارحمْني، إلى منْ تكلُني؟ إلى عدوٍ يتجَهَّمُني، أمْ إلى قريبٍ ملَّكتَهُ أمري؟ إن لمْ تكنْ غضبانًا عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لهُ الظُّلُماتُ وصلُحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ أن تُنزلَ بيَ غضبَكَ أو تُحلَّ عليَّ سخطَكَ، لكَ العُتْبى حتى تَرضَى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بكِ ))

[  أخرجه الطبراني، وابن عدي، وابن عساكر عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (حديث ضعيف ولكنه مشهور عند أهل السير وغيرهم)   ]


 تلخيص الأفكار:


 1- أول فكرة: هذا الذي يعصي الله على ماذا يعتمد؟ هل عنده جندٌ يمنعونه من أمر الله؟!
 2- الشيء الثاني: إنسان يعرف الله وله رؤية صحيحة ويمشي على طريق مستقيم كإنسان أعمى يمشي في طريق وعر من مطبٍ إلى آخر، هل يستويان؟!
3- الشيء الثالث: الله -عزَّ وجلَّ-أعطانا السمع كي نستمع إلى الحق، والبصر كي نرى الآيات، والفكر كي نحاكم الأمور ونأتي بقرارٍ صحيح، فإن عطَّلنا وسمعنا وأبصارنا وأفئدتنا كنا كالبهائم، وهبطنا عن مستوى الإنسانية، ثم إن الله -سبحانه وتعالى- يُنذِرنا: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور