الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي يستحق أن نعبده وألا نعبد سواه :
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع والأخير من سورة المُلك، ومع الآية الثالثة والعشرين وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(23) قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ الله -جلَّ جلاله- هو الذي خلقنا، إذاً هو الذي يستحق أن نعبده وألا نعبد سواه (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها) (ورد في بعض الآثار الإلهية)
﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ﴾ إذاً هو الذي يستحق أن تعبدوه وتحبوه وتخلِصوا له وتطيعوه، هو الذي يستحق أن تعلقوا عليه الآمال، هو الذي يستحق أن تتوكلوا عليه.
﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ﴾ ، أنشأكم وأعطاكم قدرةً تَعَرُّفية وإدراكيّة من أجل أن تعرفوه، أنشأكم وشق لكم الطريق إليه، أنشأكم وأعطاكم قدرةً إدراكية، وهذه القوة الإدراكية هي السمع والبصر والفكر.
تزويد الإنسان بقدرات إدراكية لمعرفة الله -عزَّ وجلَّ- منها :
أيها الإخوة الكرام؛ حاسة السمع من أدقِّ الحواس، حتى هذه اللحظة لا نعرف كيف يستطيع الإنسان أن يفرق بين النغم والضجيج فكلاهما صوت، وكلاهما موجاتٌ صوتية وتبدلاتٌ في الوسط المَرِن الذي هو الهواء، لولا الهواء لما كان هناك من صوت،
وروَّاد الفضاء وهم على سطح القمر يتخاطبون باللاسلكي لأنه لا هواء على سطح القمر، إذًا مهما تكلموا فليس هناك صوت، فمن خلق هذا الهواء؟ هذا الوسط المرن إذا أحدثت فيه اضطراباً انتقل هذا الاضطراب إلى أذنك، ومن نِعَم الله علينا أن هذا الاضطراب يتخامَد، ولولا أنه يتخامد لسمعت هنا في الشام كل أصوات الأرض، كل هَيَجان البحار، كل ضجيج المعامل، كل أصوات الرعود في الأرض، لولا أنَّ الموجة الصوتية تتخامد لكانت حياتنا جحيماً لا يُطاق،
خلق الهواء وهذا الوسط المرن، وجعل الصوت إحداثَ اضطراب في هذا الوسط المرن، ألقِ حجراً في ماءٍ راكد ترى حلقاتٍ تتباعد، أحدثنا اضطرابًا في هذا الوسط المرن فانتقلت أمواج الماء متناميةً، كذلك الصوت في الهواء،
فمن الذي جعل هذين الصيوانين؟ هذان الصيوانان بتعاريجهما واتجاه سطوحهما واختلاف أشكالهما هما اللذان يلتقطان الصوت من كل الجهات،
هذا الصيوان مِن أبدعِ ما صنع الله -عزَّ وجلَّ-، شيءٌ آخر؛ حينما يلتقط هذا الصيوان الأصوات من كل الجهات يسوقها إلى قناة الأذن حيث تصطدم بغشاء الطبل؛ هذا الغشاء المرن، غشاء الطبل ترتبطٌ به عُظيمات السمع، عظيمات السمع تكبِّر الصوت عشرين مرَّة،
فإذا كان الصوت فوق الحد المعقول تخفَّضه عشرين مرَّة، ولا نعلم في عالم الآلات آلةً واحدةً تكبّر وتخفّض في آنٍ واحدٍ، ثم ينتقل هذا الصوت في دهاليز حلزونية فيها أربعون ألف قوس سمعي، هذه الأقواس مرتبطة بالعصب السمعي إلى أن تصل إلى القنوات وإلى الأذن الداخلية وعندئذٍ يقف العلم عاجزاً عن فهم كيف أننا نَطْرَبُ للنغم ونضجر من الضجيج وكلاهما صوت،
ثمَّ إنّ هذه الأذن تنقل هذا الإدراك إلى الدماغ، والدماغ يفسِّر ويدرك، وهناك ذاكرةً سمعية، هذه الأذن هي الحاسَّة الأولى في الليل .
الإنسان يرى بعينه إلى أن يأتي حاجز يمنع الرؤية، فإذا كنت في غرفة فإنك ترى ما في الغرفة، وأنت قابع في البيت فإن أذنك تُغَطِّي كل البيت، فأي حركةٍ وقعت في غرفةٍ أخرى أو خارج البيت تصل إلى أذنك، فأنت بالعين تغطي المكان الذي أنت فيه، و بالأذن تغطي المكان الأوسع ولو كان هناك حواجز تمنع وصول الصورة، أيها الإخوة الكرام:
﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (72)﴾
جعل الله السمع الحاسَّة الأولى في الليل ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ، فهذه الأذن تتلقف الأصوات، لو فرضنا إنساناً يقبع في بيت وعينه تغطِّي غرفة الجلوس، وأذنه تغطي كل البيت بالأصوات، فلو أنَّ حشرةً ماتت وتفسَّخت لما كشفتها العين ولا سمعتها الأذن، فما الذي يكشفها؟ الشم، أنت بهذه الحواس تتصل مع العالم الخارجي، ومن أجل التوافق والتكيّف مع المحيط جعل الله لك السمع والبصر، ولكن السمع له هدف أكبر وأجلّ وهو أن تستمع إلى الحق.
اللغة أرقى أداة اتصال بين أفراد النوع، إنسان يتكلَّم ومجموعٌ كبير يُصغي فهناك اتصال بينهم أداته اللغة، واللغة مقاطع صوتية يُعبَّر بمقتضاها عن الفكر وعن الشعور، فقال ربنا -عزَّ وجلَّ- عن اللغة:
﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ(1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ(2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ(3) عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ(4)﴾
البيان من أخصَّ خصائص الإنسان، فبالبيان تفهم الكلام المسموع، وبالكلام تفهم النصَّ المقروء، وبالكلام تعبِّر عن أفكارك وعن مشاعرك مشافهةً، وبالبيان تعبَّر عن أفكارك ومشاعرك كتابةً، فهناك أربعة نشاطات؛ قراءةٌ وسماع، وكتابةٌ ونُطْق، أما بالكتابة فتنتقل المعارف من جيلٍ إلى جيل، وبالترجمة من أمةٍ إلى أمة، فمعارف البشر متراكمة لذلك قال بعضهم: "ثقافة أية أمّة هي بمثابة عسلٍ استُخلِص من زهرات مختلف الشعوب على مرِّ الأجيال" ، فبالترجمة واللغة تنتقل المعارف من جيل إلى جيل ومن أمَّة إلى أمّة فإذا معارف البشر متراكمة، إذاً هذه الأذن أداة السمع، أداة سماع الحق، أداة سماع الخبر الصادق، أداة سماع الوحي.
﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (10)﴾
أما العين التي حارَ فيها الأطباء، فالعين فيها قرنية، والقرنية غلاف شفاف سَمَّاه الأطباء (غلافاً نبيلاً)، بمعنى أن الغلاف النبيل لا تعترضه أوعيةٌ دموية، لو أن القرنية تتغذى كبقية خلايا الجسم لرأيت الأشياء من وراء شبكة، فلا بدَّ من شبكة أوعيةٍ تغذي القرنية،
إذاً الرؤية غير صحيحة –مغبَّشة-، لكن ولأن القرنية يجب أن تكون شفافةً مئة في المئة جعل الله خلايا القرنية من النوع النبيل، كل خليةٍ تأخذ الغذاء إلى أختها دون أن تُمَدد أوعية بين الخلايا؛ هذه القرنية، بعدئذٍ تأتي القُزحية وتأتي العدسة المرنة التي حار فيها الأطباء؛ لأن الشبكية هي المِحرق -محرق العدسة- والشبكية ثابتة والمسافة ثابتة، فكيف تقع الأشياء بحركتها العشوائية على الشبكية؟ لابدَّ من تحريك المِحرق أو لابدَّ من تغيير شكل العدسة،
ففي العين العدسة يتغير شكلها من احتدابٍ شديدٍ إلى احتدابٍ قليلٍ، فمن يُعطي الأمر أن يزداد الاحتداب واحد بالألف من الميكرون كي يقع الخيال على الشبكية وأنت ترى كرة تتحرَّك في ملعب أو سيارةً تنطلق من مكانٍ إلى آخر، الحقيقة ما يسميه العلماء (المطابقة )شيءٌ تُحار به العقول، شبكية العين مؤلفةٌ من عشر طبقات؛ الطبقة الأخيرة فيها 130 مليون مخروط وعُصيّة، هذه المخاريط والعصيّات تنتهي إلى العصب البصري الذي هو 900 ألف عصب ينتقل إلى الدماغ كي تُقْرأ الصورة.
أيها الإخوة الكرام؛ العين من آيات الله الدالة على عظمته، فبالعين ترى الشيء بحجمه الحقيقي وبألوانه الطبيعية، وأوضح دليل على ذلك أنك إذا نظرت إلى مئة رجل ترى كل واحدٍ بلون، أما لو صوَّرتهم بأرقى الأفلام فتراهم جميعاً بلونٍ واحد، فالعين البشرية عندها القدرة على التمييز بين درجتين من 800 ألف درجة للون الواحد، العين السليمة تميز بين درجتين من 800 ألف درجة للون الواحد، فترى الأشياء بحجمها الحقيقي وبألوانها الدقيقة، وتراها مباشرةً من دون وقتٍ لإظهار الصورة.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته، فالعين تميز بين درجتين من ثمانمئة ألف درجة للون الواحد، والشيء الذي يُحير العقول هو: لماذا جعل الله للإنسان عينين وجعل له أذنين؟ لأن الله -عزَّ وجلَّ- لو خلق لك أذناً واحدة لما عرفت جهة الصوت، فقد تستمع إلى بوق سيارة من خلفك فتأتي إلى أمامها فتدهسك، ولكن هناك جهازاً في الدماغ يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين، والتفاضل بين الصوتين يقدَّر بواحد على ألف وستمئة وعشرين جزءاً من الثانية، والدماغ يعرف عن طريق التفاضل جهة الصوت فيعطي أمراً إلى العضلات للتحرك بعكس جهة الصوت، إذًا أنت بالأذنين تعرف مصدر الصوت، وبالعينين تدرك البعد الثالث، وبعينٍ واحدة ترى الأشياء مُسَطَّحة، وإنك لن تستطيع بعينٍ واحدة أن تضع الخيط في الإبرة -في سمَ الخِياط- قد تحاول هكذا وهناك 10سم بينهما، أما بالعينين فإنك ترى العمق، ترى البعد الثالث، لذلك كل عين تنطبع صورتها في الدماغ في مكان، وصورة العين الثانية تنطبع في مكان منزلق عنه، هذا الانزلاق يشكِّل البعد الثالث، فأنت ترى الطول والعرض والعمق بالعينين.
﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَٰهُ ٱلنَّجْدَيْنِ (10) فَلَا ٱقْتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ (11) وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)﴾
أن تُعْتِق رقبتك من أسر الشهوة، أن تتحرَّر من الشهوات، قال عليه الصلاة والسلام:
(( تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَة، تعس عَبْدُ الخَمِيلَة ، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ... ))
[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ]
إذا تحرَّرت من أسر الشهوات انطلقت إلى رب الأرض والسموات، إذاً أشياء كثيرة يمكن أن تُقال عن العين، ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ﴾ فهو الذي خلق الأذن لا يسمعك؟! هو الذي خلق العينين لا يراك؟!
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا(6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُۥٓ أَحَدٌ(7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ(8)﴾
أي هذا الذي خلق العينين يراك، وهذا الذي خلق لك الأذنين يسمعك، ويسمع صوت نفسك، يسمع خواطرك، يسمع ما تدور به أفكارك، أنت أمام الله مكشوف ﴿هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ﴾﴿هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ﴾ .
هذا الدماغ والله أيها الإخوة؛ أقول ولا أبالغ: إن أعظم شيءٍ في الكون هو الدماغ، هناك 140 مليار خلية استنادية في الدماغ، وفي أحدث كتابٍ قرأته عن الدماغ لم تُعرَف وظيفتها بعد،
في أدق ما قرأته عن الدماغ: الدماغ عاجزٌ عن إدراك ذاته فكيف يعمل؟ 14 مليار خلية قِشرية فيها التخيّل والتصوّر والمحاكمة والذاكرة، فما هي هذه الذاكرة؟ ذاكرة إنسان يعيش ستين عاماً تقريباً فيها 70 مليار صورة ما بين الصور السمعية، والصور البصرية، والصور الشميّة، وهناك ذاكرة للأصوات، فأي إنسان يتصل بك بالهاتف يقول لك: أعرفتني؟ تقول له: فلان، والشيء الذي يحيِّر العقول أن كل إنسانٍ –بكرامته على الله- انفرد بنبرة صوت خاصَّة، فإذا كان في الأرض 5000 مليون إنسان يوجد 5000 آلاف مليون نبرة صوت، وتوجد 5000 آلاف مليون رائحة خاصَّة بهم، فليس هناك إنسان في الأرض يشبهك في الرائحة، وهذا أساس عمل الكلاب البوليسية، يُعطى قطعةً من لوازم المجرم فيبحث عنه بين مئة ألف رجل، فإذا اشتم الرائحة نفسها عرف أن هذا هو المجرم، الإنسان ينفرد برائحة جلد خاصَّة، وينفرد بنبرة صوتٍ خاصة، وينفرد بقُزحيةٍ لا يشركه فيها أحدٌ من البشر؛
لذلك الآن أحدث الأقفال أقفال تعمل على القُزحية، يضع صاحب القفل عينيه على الثقبين فيُفتح الباب، وأي إنسانٍ آخر لن يُفتح الباب له، قزحية العين تتميز بها واحدًا لا شبيه لك، وبصمة اليد، وبلازما الدم، وأحدث بحث في الزمر النسيجية أنه يوجد 2,5 مليار زمرة حتى الآن، ولا يُستبعد بعد حين أن يُكتشف أن لكل إنسانٍ زمرة نسيجية خاصَّة به،
الإنسان فرد ولكرامته على الله جعله فرداً؛ فرداً بشكله، وفرداً ببلازما دمه، وفرداً بقزحيته، وفرداً بنبرة صوته، وفرداً برائحة جلده، ثم سمح له أن يُشَرِّع من الآيات الكُلِّية أحكاماً تفصيليَّة، ثم سمح له أن يُبدع، ثم سمح له أن يختار، فالإنسان مريد والإرادة من صفات الله، والإنسان مُبدع والإبداع من صفات الله، والإنسان يُشَرِّع استنباطاً والتشريع من صفات الله -عزَّ وجلَّ-، والإنسان فَرْد والله -سبحانه وتعالى- فرد، وهذا كلُّه لكرامته على الله
﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ﴾ ما هي هذه الذاكرة؟ فإنسان في الخامسة والخمسين من عمره انطلق من معمله فلم يتعرّف إلى بيته، بقي ساعاتٍ طويلة يقود سيَّارته في شوارع الشام من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، غاب عنه بيته، هذا فقد جُزئي للذاكرة، ويوجد فقد كلي، فإن دخل عليه ابنه قال له: من أنت؟ فكل واحد منَّا خبراته أساسها الذاكرة، كل إنسان صاحب حرفة، أو صاحب شهادة، صاحب اختصاص، طبيب، مهندس، محامي، تاجر، ما خبرته؟ هي عبارة عن خبرات متراكمة كلها مودعة في الذاكرة، من أعطانا هذه الذاكرة ولا يزيد حجمها عن حبة العَدَس؟ فيها 70 مليار صورة، وهذه الذاكرة بعضها شمي، وبعضها صوتي، وبعضها شَكْلي، وبعضها ألوان، أما الأعجب من هذا فأن هذه الصور تُرتَّب في أماكن ثلاثة: أماكن في متناول اليد، وأماكن متوسطة، وأماكن بعيدة، وأماكن مهملة،
فأنت حينما تقتني جهاز هاتف وتُبَلَّغ برقمه تحفظه فوراً، فهذا يوضع في أقرب مكان؛ أسماء أولادك، مهنتك، خصائص حرفتك في أول مكان، أشياء تحتاجها في الشهر مرَّة في المكان المتوسط، أما ذهبت إلى بلد بعيد وأعطاك إنسان رقم هاتف أوعنوان، أو رأيت شكله واسمه، فإنه يوضع في مكان بعيد، وهذه أشياء تُسْقطها من التسجيل، هذا كلُّه تفعله الذاكرة من دون أن تشعر أنت، فهي تصنِّف هذه الصور، لكن ما دمنا في الحديث عن الذاكرة فالاهتمام هو الذي يقوِّي الذاكرة،
إذا كنت مهتماً بشيء نمت ذاكرتك وحفظته،
﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي أعطاك قوةً إدراكية، أنشأك وسمح لك أن تعرفه، أنشأك وأعطاك أجهزةً كي تعرفه، أنشأك ودلَّك عليه، أنشأك وشقَّ لك الطُرق إليه
﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾
كيفية شكر نعم الله -عزَّ وجلَّ-:
أيها الإخوة؛ ذكرت في الدرس الماضي أن شكر هذه النعم؛ نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة الدماغ أن تعملها لما خُلقت له، فهذه العين إذا نظرت بها إلى آيات الله وعظَّمت الخالق فقد شكرت الله عليها، وهذه الأذن إذا استمعت بها إلى الحق وتأثرت به شكرت الله عليها، وهذا الدماغ إذا أعملته في التعرُّف إلى الله، وفي محاكمة القضايا المصيرية، وفي فهم القرآن وفي تعليمه فقد شَكرت الله عليه، وكم من إنسانٍ يستخدم هذه الحواسّ في المعاصي والآثام؛ يطلق بصره في الحرام، يملأ عينيه من الحرام، يتتبع بهما عورات المسلمين، يستمع إلى اللهو الرخيص، إلى اللهو الذي يَصُدُّ عن سبيل الله، يقتني هذه الصحون ليبقى إلى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل يُتابع الفُحش والخنا؛ هذا كلّه بالعين، وقد يستمع إلى الأغاني الساقطة بالأذن، ويفكر في المعصية بالدماغ، فشكر هذه النعم أن تُعملها لما يرضي الله -عزَّ وجلَّ-، أُمِرت أن يكون صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ونظري عبرةً .
حركات الإنسان وسكناته وتصرُّفاته مسجلة عليه وسيحاسب عليها :
﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ﴾ ذرأكم؛ أي خلقكم ونَشَرَكُم، انظر إلى الطرقات في المدينة مليئةً بالأشخاص ذاهبين وآيبين، في كل البلاد وقد ذهبنا إلى بلد مشينا 400 كم ليس هناك انقطاع في البُنيان إطلاقاً، ولم يعد هناك مدن وقرى، مكان واحد متصل و أبنية متصلة، من ذرأ هؤلاء الناس في هذه البلاد؟ في هذه السهول؟ في هذه الجبال؟ في هذه الوديان؟ في هذه السواحل؟ في هذه الصحارى؟ اركب طائرة وانظر كيف وزِّعت هذه البلاد وكيف امتلأت بالناس ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ العودة إليه.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم(26)﴾
الإنسان حينما يعرف مصيره ينبغي أن يحسب حساباً لهذا المصير﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ، تحرَّك كيفما تريد، افعل ما بدا لك، قل ما تريد، وكما قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىٓ ءَامِنًا يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾
كله مسجلٌ عليك.
﴿ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ(181)﴾
كل حركات الإنسان وسكناته وتصرُّفاته، قطيعته ووصله، رضاه وغضبه، عطاؤه ومنعه، بشاشته وعبوسه، كل هذا مسجل عليه ومحاسبٌ عليه، ﴿قُلْ هُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ المصير إليه، فالإنسان حينما يُدفن تحت الأرض يُقال له: "عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت" ، فالمصير إلى الله وهو مطلعٌ علينا وسيحاسبنا على كل أعمالنا؛ لذلك العاقل هو الذي يفكِّر في هذا اللقاء الذي لا بدَّ منه، والأحمق هو الذي يَغْفَل عن هذا اللقاء.
كل متوقَّعٍ آت وكل آتٍ قريب:
﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ(25)﴾
كل متوقَّعٍ آت، وكل آتٍ قريب، نحن في حياتنا الدنيا نكون في الصيف فإذا بالشتاء قد أتى، ونكون في الشتاء فإذا بالصيف قد أتى، فبينما نحن نبحث عن التدفئة إذا نحن نبحث عن المراوح، نبحث عن ثيابٍ تقينا البرد فإذا بنا نبحث عن ثيابٍ خفيفة، إذاً البرد يأتي، والحر يأتي، والأشهر تتتابع، والسنوات تأتي خلف بعضها بعضاً، والفصول تأتي تباعاً، والدنيا ساعة اجعلها طاعة، بربكم أنتم جميعاً كيف مضى هذا العمر؟ كل واحد له عُمْر؛ ثلاثون، أربعون، خمسون، خمسة وخمسون، ستون، كيف مضى هذا العُمْر؟ كساعةٍ من نهار، وهكذا تمضي بقية الأعوام، والدنيا حلم "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا" ، البطولة تكون عند الساعة التي يُقال لك: اذهب معنا، فتقول: إلى أين؟ إلى الدار الآخرة، أي مغادرة، والإنسان أحياناً ينخلع قلبه، فإذا كان مرتاحاً في بلد ما ويحمل إقامة ثم أُعطي مغادرة بلا عودة، ينخلع قلبه، فكيف إذا كان الأمر مغادرة الدنيا بلا عودة وكل شيء سوف نحاسب عنه؟ ﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ﴾
﴿ قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(26)﴾
التوقيت عند الله، أما الحدث فواقع لا محالة.
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيٓـَٔتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تَدَّعُونَ(27)﴾
أي قريباً منهم.
أفضل إنسان شاب نشأ في طاعة الله :
إخواننا الكرام؛ الإنسان وهو شاب يكون قوي الجسم، قوي البُنية، خفيف الحركة، جسمه نشيط، وعنده آمال كبيرة وعريضة، وقد يغفل عن لقاء الله -عزَّ وجلَّ-، لكن الإنسان حينما يمتد به العمر ويصل إلى العمر الحرج؛ عمر قريب من المغادرة، وأحياناً يكون هناك أربعون أو خمسون إنساناً بسن واحدة بالجوار أو طلاب مدرسة، أو زملاء في العمل، أو زملاء في الحِرفة، فالبطولة أن تعرف الله وأنت شاب، وأنت في ريعان الشباب، وأنت صحيحٌ شحيح، وأنت معافىً في جسمك وقويٌّ في بنيتك، هنا البطولة، ففي خريف العمر أكثر الناس يعودون إلى الله، وتجده يلزم المسجد ولكن أين أمضى شبابه؟ أين أمضى فتوَّته؟ أين صرف قوته؟ أين أنفق ماله؟ كيف أمضى السهرات الطوال خلال خمسين عاماً؟ مع من التقى؟ إلى أين سافر؟ ماذا فعل في السفر؟ أما حينما يصل إلى السن الحرِج -سن مغادرة الدنيا- يلزم المساجد، ويؤوب إلى الله وهذا جيد، لكن هذا رجوعٌ فيه ضعفٌ شديد، ريح الجنة في الشباب، يجب عليك أن تكون مستقيماً وأنت شاب، وأنت في رَيْعان الشباب، أما: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً﴾ ، فأنا أقول كما قال هارون الرشيد عندما نظر إلى سحابة فقال: "اذهبي أينما شئت يأتيني خراجك" ، والحقيقة أهل الدنيا مهما امتد بهم العمر، ومهما استمتعوا بالملذَّات، في النهاية إذا حكَّموا عقولهم ثانيةً لعادوا إلى الله، فقد يكون الإنسان مُلحداً فيصبح مصلياً، كان فاسقاً ثم بدأ يلتزم، كان لا يعرف أن يقرأ شيئاً من القرآن على الإطلاق فبدأ يتعلمه، كان يمضي السهرات الطوال في أماكن لا تُرضي الله والآن عاد إلى الله، لكن الذي لم تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة ، أنا لا أغبط إلا شاباً نشأ في طاعة الله، بالبدايات.
ضرورة معرفة الإنسان لله في سن مبكرة:
إخواننا الكرام؛ يوجد أشخاص -أنا والله أحترمهم- عرف الله في الخمسين، أو في الستين، ولكن بيته غير منضبط وغير إسلامي، فلم يستطع أن يضبط أهله ولا أولاده، الإنسان كلَّما بكّر في معرفته بالله شكَّل حياته تشكيلاً إسلامياً، فأحياناً يختار حرفة لا ترضي الله فيضع كل خبراته فيها، كما يضع كل رأس ماله ولا يوجد عنده غيرها فيفعلها مضطراً، كلَّما بكّرت في معرفة الله المعرفة الحقيقة شكَّلت حياتك وفق منهج الله؛ هذا معنى قوله تعالى:
﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍۢ فَٱنْهَارَ بِهِۦ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(109)﴾
عملك جزء من بنيانك، فالمؤمن الصادق يختار عملاً شريفاً.
(( إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها ، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ ))
[ أخرجه الطبراني و صححه الألباني في صحيح الجامع عن أبي أمامة الباهلي ]
فلذلك الإنسان حينما يؤمن باللَّه في الوقت المناسب في سنٍ مبكِّرة يُشَكِّل حياته تشكيلاً إسلامياً، فعملك جزء من بنيانك، وزواجك جزء من بنيانك، ومعارفك وأصدقاؤك جزء من بنيانك، أحياناً ينشأ الإنسان في بيئة سيِّئة وهؤلاء يشدونه إليهم، فكلَّما تاب توبةً نقضوها له، وكلّما عزم على طاعةٍ أفسدوا عليه طاعته، أما إذا آمن في سنٍ مبكِّرة فكل أصدقائه مؤمنين على شاكلته، هؤلاء يقوونه.
(( الجماعةُ رَحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ ))
[ أخرجه أحمد، وابن ابي عاصم، والقضاعي عن النعمان بن بشير ]
(( أوصيكُم بأصحابي، ثمَّ الَّذينَ يلونَهم، ثمَّ الَّذينَ يلونَهم ثمَّ يفشو الكذبُ حتَّى يحلِفَ الرَّجلُ ولا يُستَحلَفُ ويشهدَ الشَّاهدُ ولا يُستَشهَدُ ألا لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا كانَ ثالثَهما الشَّيطانُ علَيكُم بالجماعةِ وإيَّاكم والفُرقةَ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ وَهوَ منَ الاثنَينِ أبعدُ مَن أرادَ بَحبوحةَ الجنَّةِ فلْيلزَمُ الجماعةَ، مَن سرَّتهُ حسنتُهُ وساءتْهُ سَيِّئتُهُ فذلِكم المؤمنُ ))
[ أخرجه الترمذي، وأحمد باختلاف يسير عن عمر بن الخطاب ]
(( ما من ثلاثةٍ في قريةِ ولا بَدوٍ لا تقامُ فيهمُ الصلاةُ إلا قد استحوذَ عليْهِمُ الشيطانُ ، عليكَ بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ ))
[ أخرجه أبو داود، والنسائي ، وأحمد باختلاف يسير عن أبي الدرداء ]
فأنا أنصح أخوتنا الشباب وأخواتنا الشابَّات أن يتعرّفوا على الله في سنٍ مبكرة كي يشكلوا حياتهم وفق منهج الله؛ لأن الإنسان أحياناً عندما يتقدم في السن يستخدم الأطباء تعبير (يتكلَّس عقله) أي يجمد، فإذا كان الإنسان صالحاً وثبت على شيء صالح فليست هناك مشكلة، الإنسان إذا نشأ في طاعة الله وتمسَّك بهذه الطاعة و صار هناك تكلّس ولكنه تكلس تكلساً صحيحاً، أما حينما ينشأ على معصية؛ أي إذا أمضى حياته في لعب النرد فلا توجد قوة تصرفه عنها، عندها يقول لك: لا أقدر لأنني نشأت عليها، كأن يكون مثلاً قد أدمن التدخين، و توجد أشياء كثيرة إذا الإنسان استعملها تصبح جزءاً من حياته، فالبطولة أن تعرف الله في سن مبكرة كي تشكل حياتك تشكيلاً إسلامياً بدءاً من زواجك، إلى عملك، إلى أصدقائك، ومن سعادة المرء أن يعيش مع من كان على شاكلته، بل إن العلماء يقولون: "إن من أكبر إكرام الله للنبي الكريم أنه اختار له أصحابه"، فإذا كان للإنسان جماعة مؤمنة، صادقة، مستقيمة، نظيفة، طاهرة وفيها صفاء فهذه من نِعَمِ الله الكُبرى، إنسان يعيش بين أصدقاء مؤمنين يحبهم ويحبونه، يخلص لهم ويخلصون له، ينصحهم وينصحونه، يأخذ بأيديهم ويأخذون بيده إلى الله -عزَّ وجلَّ-.
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيٓـَٔتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تَدَّعُونَ﴾ أنا أعرف رجلاً أصيب بمرض خبيث ولم يُبلَّغ بهذا المرض، كان في الثامنة والثلاثين من عمره وكان تاجراً من أبرع التجَّار، وكان منغمساً إلى قمة رأسه في الملذَّات، فلَّما علم الخبر اليقيني جاءته نوبات هستيرية فكان يقول: لن أموت، فلما جاءه ملك الموت أقسم لي رجل يسكن في الطابق الأخير من بنائه، قال لي: صرخ صرخةً سمعها كل من في البناء، فالإنسان حينما يغادر الدنيا وهو متلبسٌ بمعصيةٍ يُصعق صعقةً لو سمعها أهل الأرض لصُعِقوا، الإنسان حينما يأتيه ملك الموت إما أن يرى مقامه في الجنة أو مكانه في النار، المؤمن يقول: لم أرَ شرَّاً قط، وإن كانت حياته مفعمةً بالمتاعب يقول: لم أرَ شرَّاً قط، والفاسق وإن كانت حياته مفعمةٌ بالملذات يقول : لم أرَ خيراً قَطْ.
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً﴾ أي قريباً منهم ﴿سِيٓـَٔتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تَدَّعُونَ﴾
﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ ﴾
تقييم الناس من شأن الله وحده:
هذا المعنى دقيق جداً أيها الإخوة؛ تجد همّ الناس الوحيد هو العالم الفلاني والعالم الفلاني، هذا يفهم و هذا لا يفهم، هذا اشترى وهذا فعل، فإذا كان صالحاً فله صلاحه، وإن كان سيئاً فعليه إثمه، فلماذا تتدخَّل أنت؟ إنك محاسب على عملك، فإذا لم يعجبك كل العلماء فهل تنجو أنت من عذاب الله؟ لا، لن تنجو فكل إنسان محاسب عن عمله، قد تجد شخصاً عادياً جداً وهمه الوحيد هو أن يُقَيِّم الناس، وأن يوزِّع ألقاب المديح والذم كيفما يريد، وهو منغمس بآلاف المعاصي، فإذا هذا الإنسان كما تريد أو لم يكن كما تريد فإن هذا لا يُقدم ولا يؤخر بالنسبة لك، ﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا﴾ فهؤلاء الكفَّار امتلؤوا غيظاً من رسول الله، فلو أن الله أهلك النبي وأصحابه فهل ينجو الكافر من عذاب الله؟ ولو أن الله رَحِمَ النبي وأصحابه فهل ينجو من عذاب الله؟ كل إنسان محاسب عن نفسه، فالنقطة الدقيقة: أنه لا علاقة لك بالآخرين، حتى النبي، فلو أن الله شفى نفوس هؤلاء المؤمنين وأكرمهم فإن الكفار معذَّبون، ولو أن الكفار شفوا غيظهم من رسول الله فأهلكه الله فإنهم معذَّبون، فالإنسان لا ينبغي أن يمضي وقتاً في التقييم وفي القيل والقال، فتقييم الناس و البشر جميعاً من شأن الله.
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِنۢ بَعْدِ نُوحٍۢ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًۢا بَصِيرًا ﴾
فأنت أرح نفسك من تقييم الآخرين. طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
(( من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيهِ ))
[ أخرجه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة ]
كلام دقيق واضح كالشمس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، العبرة أن تكون أنت مستقيماً، يولد الإنسان وكل من حوله يضحك وهو يبكي وحده، فإذا جاء ملك الموت كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده، فاعمر قلبك بالإيمان، واجعل علاقتك باللَّه طيبة ولا تعبأ بأحد، قل الله ثم ذرهم في غيِّهم يعمهون. فلو أن الله -سبحانه وتعالى- أهلك النبي وأصحابه فهل معنى ذلك أن هؤلاء الكفار لن يُعذَّبوا؟ لو أن الله رحم النبي وأصحابه فهل معنى ذلك أن هؤلاء لن يُعذَّبوا أيضاً؟ ﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ﴾
﴿ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ(29)﴾
الإنسان أيها الإخوة من سعادته كمؤمن أن يتوكَّل على الله ﴿قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِ﴾
آمنا بوجوده، وآمنا بأسمائه الحسنى، وآمنا بصفاته الفُضلى، آمنا بكماله، آمنا بوحدانيته، آمنا أنه كل شيء، إليه يُرجَع كل شيء، وهو القاهر فوق كل شيء، مع كل شيء، ﴿قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ التوكُّل على الله مُريح، فإذا أردت أن تكون أقوى الناس قاطبةً فتوكَّل على الله، ولكن الناس يجعلون التواكل مكان التوكُّل، التوكُّل محلّه القلب، والسعي محلّه الأعضاء، فالناس يجعلون التوكل في الأعضاء أي يتكاسلون ولا يعملون.
ذكرت مرَّةً عما يسمى بفقر الكَسَل، وفقر القَدَر، وفقر الإنفاق، وغنى البَطَر، وغنى الكِفاية، وذكرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لمن أحبَّه بغنى الكفاية:
(( اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف ، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده ))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة مرفوعًا ]
غنى الكفاية، أما غنى البَطَر؛ فجعله النبي -عليه الصلاة والسلام- أحد أكبر المصائب، قال:
(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))
[ رواه الترمذي -وقال: حديث حسن -عن أبي هريرة ]
ففقر الكسل مَذَمَّة، وفقر القدر عُذر، وفقر الإنفاق وسام شَرَف، "يا أبا بكر ماذا أبقيت لك؟ قال: الله ورسوله"، إذاً: ﴿قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ ، فمن الصعب أن يحتاط الإنسان لكل شيء، فلا بدَّ له من أن يتوكل، وبالتوكل ترتاح أعصابك.
جهاز المناعة عند الإنسان من آيات الله الدالة على عظمته:
اليوم في الخطبة ذكرت أن كتاباً عنوانه:
"الشفاء الذاتي" من أخطر كتب الطب، يؤكِّد فيه مؤلّفه أن ثلاثة أرباع الأمراض إما أن تُشفى ذاتياً وإما أنه لا شفاء لها، وأن هناك أمراضاً مستعصيةً منذ أن عُرِف الطب تشفى ذاتياً، وهذا شيءٌ يحار به الأطباء، ثم اُكتشف أن في جسم الإنسان جهاز مناعةٍ مُدْهِش، هذا الجهاز جوَّال وهو عبارة عن خلايا بيضاء تجوب في أنحاء الجسم، هذه الخلايا عددها كبير جداً،
عند هجوم مرضٍ تتضاعف، وفي حالاتٍ نادرة تتضاعف خمسة أضعاف، هذه الخلايا البيضاء -الكريات البيضاء- يستطلع بعضها تركيب الجرثوم أو الخلية الهجينة ويأتي بشفرتها إلى العُقَد اللمفاوية، وفي العُقَد كريات بيضاء مهمتها تصنيع المصل المضاد -معامل سلاح-، وتوجد كريات بيضاء مهمتها حمل هذه الأسلحة الفتَّاكة والذهاب إلى ساحة المعركة ومقاتلة هذا الجرثوم،
وتوجد خلايا بيضاء رابعة مهمتها تنظيف أرض المعركة من بقايا الجُثَث، فهناك خلايا استطلاعية، وخلايا مصنِّعة، وخلايا مُقاتلة، وخلايا منظِّفة، ثم اكتشف في أواخر السبعينات أن هناك كريات بيضاء اسمها قاتلة بالفطرة، تستطيع أن تكتشف شذوذ الخلايا قبل أن تَشُذَّ، أي جهاز الشفاء الذاتي -وهذا متعلق بالأورام الخبيثة- فقبل أن تشذَّ هذه الخلايا في نموّها تكتشفها وتقضي عليها، ثم إن هناك خلايا لتنظيف الجسم، فالإنسان حينما يمتنع عن التدخين تذهب هذه الخلايا إلى قصباته الهوائية وتأكل ما علِق على هذه القصبات من آثار التدخين، أما أهم عملٍ لهذه الخلايا هو ضبط نمو الخلايا،
لذلك أكثر المصابين بالإيدز يصابون بأورام خبيثة لأن هذا الجهاز يتعطَّل، فيروس الإيدز هو الذي يقضي على هذا الجهاز المناعي المُدهش، وأغرب ما في هذا الجهاز ذاكرته العجيبة، فإذا هاجم جرثوم، أو عرف تركيب جرثوم -شفرته الكيماوية- فإنه ينقلها إلى معامل تصنيع المصل المضاد، وصنع مصلاً مضاداً، فهذا المصل المضاد يُحفَظ في ذاكرته عشرين سنة، فإذا جاء جرثوم مشابه بعد عشرين عاماً عرف نوع المصل المضاد فيصنعه ويهاجمه به، ولولا هذه الذاكرة العجيبة لهذا الجهاز لم يكن للتطعيم معنى إطلاقاً، ويقول مؤلف الكتاب:
"أما أغرب ما في الأمر فهو أن لهذا الجهاز قيادة من خارج الجسم فلا يُعْرَف لهذا الجهاز قيادة داخلية" ، ثم يقول مؤلف الكتاب:
"إن الرضا والهدوء والتوازن والحب يقوّي جهاز المناعة، وإن القلق والحزن والخوف والألم يُضعِف جهاز المناعة، ولا شيء كالشِّرك يجعل حياة الإنسان جحيماً، ولا شيء كالإيمان يجعل حياة الإنسان نعيماً؛ لذلك فإن الشرك يُضعِف جهاز المناعة ومع ضعف جهاز المناعة تنشأ الأمراض"،
﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم* قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ﴾ السين للاستقبال فالأيام المستقبَلة تكشف الحقائق
﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ﴾ .
﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَءَاتَىٰنِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَٰرِهُونَ (28)﴾
عذاب الدنيا تذكيرٌ بعذاب الآخرة :
يقول الله -عزَّ وجلَّ- في نهاية هذه السورة: هناك عذاب أقرب من الآخرة، فالآخرة عذابُها حق.
﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍۢ مَّعِينٍ(30)﴾
فما قيمة هذه البلدة بلا مياه؟! إنها تُهجر، وما قيمة هذه البساتين بلا مياه؟! لقد سمعنا وقرأنا عن أقاليم في إفريقيا أصابها جفاف سبع سنوات فهجرها أهلها، تركوا بيوتهم، تركوا مدنهم، فما قيمة الحياة بلا ماء؟ قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَٰهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ(30)﴾
﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا﴾ والله في بعض الأيام يذيقنا بعض الجفاف، قد تأتي سنواتٌ عِجاف تجف المياه، يموت النبات، يموت الحيوان ﴿فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍۢ مَّعِينٍ﴾ ، الله -جلَّ جلاله-، أي هناك عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة، وعذاب الدنيا تذكيرٌ بعذاب الآخرة.
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾
الملف مدقق