وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الملك - تفسير الآيات 5 ـ 14 - مصير المكذبين بالغيب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
 اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً، وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيّها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة الملك، ومع الآية الخامسة وهي قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُومًا لِّلشَّيَٰطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ (5)﴾

[ سورة الملك ]

 

جمال الدنيا نموذج مصغر عن جمال الجنة:


أيّها الإخوة الكرام؛ موضوع أن يكونَ في الأرض شيء جميل؛ سماءٌ مزدانةٌ بالنجوم، جبالٌ خضراء، بساتين غَنَّاء، وبحارٌ صافية، هذه المسحة الجمالية التي أودعها الله في الكون لها مهمةٌ خطيرة،  هذه المهمة هي أن الله -سبحانه وتعالى- إذا حدَّثنا عن  الجنة ولم يكن في الأرض مواطن جمالية هذا الحديث لا نفهمه إطلاقاً؛ لأن اللُغة تثير صوراً وتجارب في نفس الإنسان، قل لإنسان  كلمة: بحر،  قلت ثلاثة حروف: الباء، والحاء، والراء، هذه الكلمة أثارت عند السامع صورة البحر، جمال البحر، مَوْج البحر، عمق البحر، اتساع البحر، أثارت في نفس السامع كلّ هذه الصور، لولا أن السامعَ ذهب إلى البحر، وركب البحر، وسبح في البحر، ورأى اتساع البحر، وعمق البحر لما فهم عليك شيئاً، اللُّغة تثير في الإنسان خبراتٍ سابقة، أو صوراً سابقة، لو أن الله -سبحانه وتعالى- أراد أن يُحَبِّبنا بالجنة فوصفها، ولم يكن في الأرض شيءٌ جميل نُعَلِّق عليه كلمات الجنة عندئذٍ لا نفقه شيئاً عن الجنة، فالمواطن الجمالية في الأرض من جبالٍ خضراء، إلى بساتين غنَّاء، إلى جداول رقراقة، إلى بحرٍ جميل، إلى طفلٍ جميل، هذه الصور الجميلة من أجل أن يكون لوصف الجنة مرتكز من واقع الحياة.

زينة السماء الدنيا:


ربّنا -سبحانه وتعالى- زَيَّن السماء الدنيا بمصابيح، فيما سمعت أن الذين عَدُّوا نجوم السماء بأعينهم هذه النجوم لا تزيد عن عشرة آلاف نَجْم؛ النجوم التي نراها بأعيننا، لكن تقدير علماء الفلك أن هناك مليونَ مليون مجرة، وفي كلِّ مجرةٍ مليون مليونِ نجم، فالسماء الدنيا أي هذه النجوم التي نراها بأعيننا هذه سماء دنيا، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ﴾ ، المعنى الآخر من التزيين:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)﴾

[ سورة الكهف ]

الشيء الدقيق هو أن الأرضَ فيها أشياءٌ جميلةٌ، والأشياء الجميلة محسوسة ملموسة بحواسنا الخمس، بعيوننا، بآذاننا، فهناك صور جميلة، وأصوات جميلة، وطعوم طيِّبة ومباهج، الدنيا محسوسة والآخرة خَبَر، من هنا نرقى، فالآخرة خبر،  الجنة وصف، وصف في القرآن، شرح من بيان النبي -عليه الصلاة والسلام- لأن الجنة خبر، والدنيا محسوسة فالذي يُؤْثر الآخرة يرقى عند الله، لو أن الآخرة محسوسة كالدنيا لما ارتقينا إلى الله أبداً، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ ، هناك نوازع، وغرائز، وشهوات، وميول، وأشياء جميلة بدءاً من النساء إلى الطعوم، إلى القصور، إلى البساتين، إلى الممتلكات، إلى مُتَع الحياة، وفي آخرة جاءت في كتاب الله، فالذي يتعلَّق بما هو جميل في الدنيا ولا يعبأ بالمصير هو الذي يسقُط عند الله -عزَّ وجلَّ-، والذي يصدِّق الله -عزَّ وجلَّ- ويؤمن بما وعدَ الله به المؤمنين ولا يأخذُ من الدنيا إلّا ما سُمِحَ له بها إلّا ما وافق منهج الله -عزَّ وجلَّ- هذا الذي يرقى إلى الله -عزَّ وجلَّ-، فالشيء الجميل له وظيفتان:
 1- وظيفةٌ بيانية.
 2- ووظيفةٌ ابتلائية، به تُبْتَلى، وبه تَعرِفُ الآخرة ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُومًا لِّلشَّيَٰطِينِ﴾

 وظائف النجوم:


 قال العلماء: هذه النجوم لها ثلاث وظائف حصراً وما سوى ذلك ظنٌ ووهم:
 الوظيفة الأولى: أنّها مصابيح.
 الوظيفة الثانية: أنّها رجومٌ للشياطين.
 الوظيفة الثالثة: أنّها علاماتٌ نهتدي بها في ظلمات البرّ والبحر ، فالنجوم نهتدي بها، وهي مصابيح للدنيا، ورجومٌ للشياطين، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُومًا لِّلشَّيَٰطِينِ﴾ طبعاً يوجد آيات أخرى تُفَسِّرُ هذا، الشيطان كان يصعد إلى السماء ليسترقَ السمعَ عندئذٍ يتبعُهُ شهابٌ راصد، يُرْجَم الشيطان بشهابٍ من هذا النجم، ليس النجم هو الذي يُلْقى على الشيطان كلياً بل جزءٌ من النجم، شهابٌ من النجم يلقى على الشيطان فيحرقه ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُومًا لِّلشَّيَٰطِينِ ﴾

الحكمة من عدم التفصيل في الآيات الكونية:


وربّنا -جلَّ جلاله- أعطانا من الآيات الكونية الشيء الذي تفهمه عقولنا، ربّنا-عزّ وجلّ- أشار في القرآن إلى أصول العلوم ولم يأتِ بتفاصيل، لماذا؟ لأن الإنسانَ مكلَّف ( افعل ولا تفعل) ، فإذا فعل ما أُمر أن يفعلَ وامتنع عمّا مُنْع أن يفعلَ وصل إلى جنة ربه، أما آيات الكون كلما تقدَّم العلم كشف جانباً من عظمتها؛ لذلك فالقرآن الكريم معجزة المسلمين إلى يوم القيامة،  فالنبي-عليه الصلاة والسلام- كما بيَّنتُ لكم من قبل- كأنّ الله -سبحانه وتعالى- أوحى إليه ألّا يبين ويفصِّل في آيات الكون، وهذه حكمةٌ بالغةٌ منه، إنّه إن شرحها شرحاً مُبَسطاً جداً يفهمه عقول من حوله لأنكرَ عليه هؤلاء الذي أتوا بعد آلاف السنين وقد تطوَّر العلم تطوراً كبيراً، وإنّه إن شرحها شرحاً مفصلاً تعجز عقول من حوله عن إدراكه وقع هؤلاء في مشكلة وهؤلاء في مشكلة، إما أن ينكرَ عليه الذين حوله إذا بيَّن وفصَّل، وإما أن ننكرَ عليه نحن الذي جئنا بعد آلاف السنين وقد توصَّل العلم إلى كشف حقائق الكون، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- فصّل وبيَّن في التكاليف، أما في الآيات الكونية فترك كلَّ عصرٍ يكشف جانباً من عظمة هذا الكون؛ لذلك يُعَدُّ القرآن الكريم مُعجزة المسلمين المستمرَّة، وهذا يؤكِّده قول الإمام عليٍ -كرَّم الله وجهَهُ-: "في القرآن آياتٌ لَمَّا تُفَسَّر بعد" -ذكرتُ هذا كثيراً- أضرب على هذا بعض  الأمثلة: الآية التي وردتْ في القرآن وهي قوله تعالى:

﴿ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)﴾

[ سورة الرحمن ]

هذه الآية وقف عندها المفسِّرون طويلاً ولم يستطيعوا أن يُعطوا تفسيراً قاطعاً لها، أين هذا هو البرزخ؟ ﴿مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾ الآن بعد ألفٍ وأربعمئة عام صوَّرت سفن الفضاء خطوطاً عند تلاقي البحار، هذه الخطوط خطوط تباين، فلما عَكفوا على دراسة مياهِ البحار وجدوا أن كلَّ بحرٍ له مكوِّناته، وله خصائصه، وله كثافته، وله ملوحته، وأن مياهَ أي بحرٍ لا يمكن أن تختلطَ بمياه البحر الآخر، وقد رأوا من خلال سفن الفضاء هذا الخَط بين البحرين، في باب المندب، وبين  الأبيض والأحمر، وبين الأبيض والأسود، وبين الأبيض والأطلسي، هذه الخطوط المتباينة فَسِّرَت بها الآية الكريمة: ﴿مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ* فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ لذلك  بعض العلماء الذين اختصوا بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم انطلقوا إلى معظم بقاع العالم، والتقوا مع قمم العلوم في شَتَّى بقاع الأرض، وكلَّما عرضوا عليهم حقيقةً قُرآنية في اختصاصهم خضعوا، وقالوا: هذا لا يمكن أن يكون من عند بشر؛ لأن مُحَصِّلة العلوم البشرية وصلت بنا إلى هذه الحقيقة، أما أن يأتي بها إنسانٌ قبل ألفٍ وأربعمئة عام فهذا يعني أنَّه رسول الله.
أوضح لكم هذه الحقيقة بمثل آخر: النبي -عليه الصلاة والسلام-وهذا من دلائل نبوته أمرنا أن نذبحَ الشاة بقطع أوداجها فقط دون أن نقطعَ رأسها، لا في عصر النبي ولا بعد عصر النبي، ولا في بيئة النبي، ولا في مراكز الحضارة في عهد النبي، ولا بعد ألفٍ وأربعمئة عام يمكنُ للعلم أن يُفَسِّرَ هذا الأمر النبوي؛اقطع أوداج الدَّابة دون أن تقطع رأسها، ثمّ عُرِفَ أخيراً أن القلب يتلقَّى أمراً بالنبض مِنه ذاتياً من مركزٍ كهربائيٍ ذاتيٍّ، فإن تعطَّل هذا المركز تلقَّاه من مركزٍ بديل في القلب نفسه، فإن تعطل الثاني تلقَّاه من مركزٍ ثالث، إلّا أن هذه المراكز الثلاثة تعطي أمراً بالضربات النظامية؛ ثمانون ضربة في الدقيقة، مهمة القلب بعد الذبح إخراج الدم خارج الدابة، لو أنّنا قطعنا رأس الدَّابة لتعطَّل أمرٌ استثنائي لرفع الضربات من ثمانين إلى مئة وثمانين، القلب البشري يَنْبِض مئة وثمانين نبضة في حالات استثنائية، في الجهد أو في الخوف، فالقلب قلب هذه الدابة يأخذ أمراً بثمانين ضربة من القلب نفسه، وأمراً استثنائياً بمئة وثمانين ضربة من الدماغ، فلو قُطِعَ رأس الدابة لعجز القلب عن إفراغ الدَّم من الذبيحة؛ لذلك  كلام النبي ليس عن خبرةٍ ولا عن تجربةٍ ولا عن ثقافةٍ، ولا عن معطيات أرضية، كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- وحيٌ يوحى وهذا من دلائل نبوة النبي، إذاً: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُومًا لِّلشَّيَٰطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ﴾  هؤلاء الشياطين الذين شَطَّ بهم السير عن منهج الله-عزَّ وجلَّ- وأرادوا إغواء البشر، إذا أرادوا أن يسترقوا السمع كانت هذه النجوم رجوماً لهم، ومصيرهم في الآخرة إلى عذاب جهنم وبئس المصير، ويقول بعض علماء التفسير: واستطراداً يقول الله -عزَّ وجلّ-:

﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ (6)﴾

[ سورة الملك ]

فالشياطين إلى جهنم وبئس المصير.

صور من مصير الكفار يوم القيامة:


﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ (6) إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ (7)﴾

[ سورة الملك ]

إذا أُلقي هؤلاء الكفار في النار، أو إذا أُلقي الجنُّ الذين خرجوا عن منهج الله في النار ﴿سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ﴾ شهيق الدَّابة إذا رأت الشَعير، أي: تطلّع الدابة إلى غذاءٍ تأكله، وشهيق النار أي أنّها تنتظرهم؛ هذه صورة من صور النار، وبعضهم قال: شهيق الكفار حينما يلقون في النار، ﴿سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ﴾  تفور: أي تغلي، تغلي النار من شدة غيظها على أولئك الذين غفلوا عن ربهم في الحياة الدنيا وأساؤوا إلى خَلقه.

﴿ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۖ كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)﴾

[ سورة الملك ]

تَمَيَّزُ: أي تتفرق، أي تتقطع من شدة غيظها، فالحقيقة: الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا ، الإنسان قد ينشغلُ بدنياه، قد ينشغلُ بعمله، قد ينشغلُ بشهواته، بمكاسبه، بملذَّاته، قد ينغمسُ في حمأة الشهوة فهو في غفلةٍ عن ربِّه، أما حينما يصحو حينما يأتيه مَلَك الموت وتنقطعُ عنه شهواته عندئذٍ يتمزَّقُ ندماً لما فعل هو وكلُّ من حوله، تصور أباً يغدق على ابنه كلَّ شيء من أجل أن يدرس، لا يدرس بل يُسيء لوالده، حينما يصحو ويرى فعل أبيه معه، ويرى لُؤْمَه، وردَّ المعروف منكراً على أبيه، حينما يصحو ويستيقظُ ضميره يتمزقُ ويتألم أشد الألم؛ لذلك:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلْإِيمَٰنِ فَتَكْفُرُونَ (10)﴾

[ سورة غافر ]

حينما كان الله يدعوكم إلى أن تؤمنوا به، يدعوكم إلى أن تتعرفوا إلى منهجه، يدعوكم إلى أن تطيعوه، إلى أن تسجدوا له لتسعدوا بقربه، حينما كان يدعوكم وأنتم تستنكفون وأنتم تستكبرون، كان الله يَمْقُتكُم أكبر من مقتكم الآن لأنفسكم ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلْإِيمَٰنِ فَتَكْفُرُونَ﴾ ، والملاحظ ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلْغَيْظِ﴾ النار وكأنّ النار نفسٌ مدركةٌ تغتاظُ من هذا الكافر الذي جَحَدَ نِعَمَ الله -عزَّ وجلَّ-، من هذا الكافر الذي سُخِّر له ما في السماوات وما في الأرض، كان وحده الغافل، وقد قال الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء ]

أيُعْقل أن يكونَ المسخَّر لك صاحٍ وأنت الذي سُخِّرت لك كلُّ ما في السماوات والأرض الغافل؟ فهذا الكافر يرتكبُ في حقِّ نفسه جريمةً، نحن لا نستبعد ذلك كثيراً، أحيانًا بعض المجرمين بعضهم يقتل أباه، بعضهم يقتل أمَّه، بعضهم يقتل أولاده، الناس جميعاً يحتقرون، يتميَّزون من شدة الغضب ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۖ كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾

﴿ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾

[ سورة الإسراء ]

 قال بعضهم: العقل هو الرسول ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ ، الله -جلَّ جلاله- يقول:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ۚ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾

[ سورة النحل ]

قال بعض العلماء: ﴿عَلَى ٱللَّهِ﴾ فعلى تفيد الإلزام، إذا جاءت (على) مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام، وعلى الله قصد السبيل؛ أي وعلى الله بيان سبيل القصد، وعلى الله بيان طريق الحقِّ، بيان طريق السلامة، بيان طريق السعادة، وعلى الله الهدى.

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)﴾

[ سورة الليل ]

فربّنا -عزَّ وجلّ- تولَّى أن يهديَنا، تولى أن يسمعَنا الحقَّ، تولى أن يوصلَ إلينا الهدى، هذا على الله، علينا الاستجابة فقط، علينا أن نستجيبَ.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

فالإنسان قبل أن يعرفَ الله في حكم المَيِّت؛ ماتت نفسه وتحركت أعضاؤه، أما حينما يعرفُ الله -عزَّ وجلّ- كان ميتاً فـأحياه الله بالهدى، هناك حياة الجسد، وهناك حياة القلب، حياة القلب بمعرفة الله وذكره، ﴿إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ﴾ تغلي، ﴿تَكَادُ﴾ تتقطعُ وتتمايزُ أجزاؤها من الغيظ ﴿كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾

معاني النذير:


 الحقيقة هناك آيات كثيرة جداً تبيِّن معنى النذير، قال تعالى يعاتب الكفار:

﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37)﴾

[ سورة فاطر  ]

ما النذير؟ قالوا:

1- كتاب الله، كتاب الله هو النذير؛

لأن الله -سبحانه وتعالى- أنزل هذا الكتاب بيَّن فيه الحلال والحرام، الخير والشر، الحقَّ والباطل، أمر ونهى، وبّين أحوال الأمم السابقة، ومصير الأمم اللاحقة، بيّن فيها أحوال أهل النار وأحوال أهل الجنَّة، فهذا الكتاب هو النذير، كتابٌ من عند الله، ففي التعامل اليومي أحياناً يوجه للموظف إنذار خطي، وهذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا نذير؛ نذير لأنّه ينهانا ويحذِّرُنا ويخوِّفنا ويُعِدنا بعذابٍ أليم في الآخرة، وقال بعض العلماء:

2- النذير هو النبي -عليه الصلاة والسلام- لقول الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿  يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِۦ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)﴾

[ سورة الأحزاب   ]

3-والنذير أيضًا كما قال بعض العلماء: هو الشَيْب.

(( عبدي كبرت سنك، وشاب شعرك، وضعف بصرك، وانحنى ظهرك فاستحِ مني فأنا أستحي منك ))

[ ورد في الأثر ]

إلى متى أنتَ باللَّذَّاتِ مَشغُولُ        وَأنتَ عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسؤُولُ

[ البوصيري ]

 فالنذير هو الشيب، وبعضهم قال:

4- النذير هو سن الأربعين:

فالإنسان إذا بلغ الأربعين بلغ النضج، إذا بلغ الأربعين اكتمل عقله، إذا بلغ الأربعين توازنت انفعالاته، إذا بلغ الأربعين أدرك الحقائق؛ لذلك الأربَعون هي النذير، وقال بعضهم:

5-الستون هي النذير.

 القرآن هو النذير، والنبي -عليه الصلاة والسلام- هو النذير، والشيب هو النذير، والأربعون هي النذير، والستون هي النذير أيضاً، وقال بعضهم: 

6-المصائب هي النذير:

لأن الله -سبحانه وتعالى- كان من الممكن أن يُبقيَ الإنسان قوياً صحيحاً، معافىً، غنياً، وسيماً، متألِّقاً إلى أن يأتيَهُ الموت في ثانيةٍ واحدة، ولكن بهذه الطريقة لا يتوب إلى الله    -عزَّ وجلَّ- بل يبقى في بغيه وعدوانه وانحرافه، ولكن تأتي المصائب فتلفت نظر الإنسان إلى الله، وبقدر الانحراف تأتي المُصيبة، انحراف بسيط مصيبةٌ خفيفة، كلَّما ازداد الانحراف ازدادت شدة المُصيبة من أجل أن تُصيبَ الهدف وأن تُعيده إلى الصواب؛ لذلك قال تعالى:

﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)﴾

[ سورة الروم ]

من نِعَمِ الله على الإنسان أنّه إذا انحرف أذاقه نتائج انحرافه، كان من الممكن ألّا يذوق نتائج انحرافه، ولكن شاءت حكمة الله أن الإنسان إذا انحرف يذيقه نتائج انحرافه، من أجل ماذا؟ من أجل أن يرجعَ إلى الله ﴿ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ، فالمصائب هي النذير.

7- وموت الأقارب هو النذير

كان من الممكن أن نأتي إلى الدنيا دفعةً واحدة، وأن نغادرها دفعةً واحدة عندئذٍ لا يتعظُ بعضنا ببعض، عندئذٍ لا نعرفُ ما هو الموت، لكن هذا الموت التدريجي؛ أناسٌ يموتون، وأناسٌ يَتَّعِظون، كما قال سيدنا عمر: "واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخَطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حِذرنا، الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني" .
  النذير هو القرآن الكريم، والنذير هو النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنذير هو الشيب، والنذير هو سن الأربعين، والنذير هو سن الستين، والنذير هي المصائب، والنذير موت الأقارب، النذير موجود، ولله آياتٌ في كل عصر، آيات الله صارخة، وواضحة، وبيِّنة، وهذه تنذر، ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۖ كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ أي: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ أين عقلكم؟ ألم يأتكم نذير ينذركم؟
إخواننا الكرام؛ نحن أحياء، نحن الآن نتلقَّى النذير، الإنسان إذا وصل إليه الحقُّ صار مُداناً، نحن الآن نستمعُ إلى كلام الله، ما دام القلب ينبض فنحن في بحبوحة أن نعودَ إلى الله، أن نتوب إليه، أن نستجيبُ له، أن نصطلح معه، أن نستقيم على أمره.

﴿ قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍۢ كَبِيرٍۢ (9)﴾

[ سورة الملك ]


أقوال الكفار إذا دُعوا إلى الله:


الآن استمع إلى أقوال الكفار إذا دُعوا إلى الله يقولُ لك: هذه دعوات غيبية؛ نحن واقعيّون، يقولُ لك: هذا الذي يدعوك إلى الله له حظوظ، وله نوايا، وله مطامع في الدنيا، إما أن يطعنَ بالذي يدعوه، فقد قالوا عن النبي أنّه مجنون، وقالوا عنه ساحر، وقالوا عنه كاهن، وقالوا عنه شاعر، وأهل الكفر دائماً يطعنون بمن يدعوهم إلى الله -عزَّ وجلَّ- ويطعنون بدعوتهم ويسفِّهون شخصيتهم ﴿ قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍۢ كَبِيرٍ﴾ 

الحكمة من خَتْمِ الرسالات بمحمد -صلى الله عليه وسلم-:


قد تسأل: ما الحكمة التي أرادها الله من أن الله ختم بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- الرسالات؟ تصوَّر لو أن نبياً جاء في هذا العصر، لسمعت عنه العجب العجاب، قرأت تحليلات من علماء نفس، وتحليلات من بعض الدارسين للتاريخ، قد يفهمونه على أيّة طريقةٍ إلّا أنّه نبي، الكفر أحياناً يُفلسف، الإنسان الكافر حينما أعرض عن الله -عزَّ وجلَّ- معه جهاز خطير وهو الفكر، فالفكر عند الكافر يستخدمه لردِّ الحقّ، ويستخدمُهُ لفلسفة الشر، ولتزيين الباطل، ولتغطية الانحراف، فكر تبريري؛ لذلك: ﴿ قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ فالنبي-عليه الصلاة والسلام- حينما جاء قومه ألم يروا صدقه وأمانته وعفافه ونسبه؟ ألم يقرؤوا هذا القرآن الكريم الذي جاء به؟ هل في هذا القرآن مأخذٌ؟ هل فيه ريبٌ؟ هل فيه خللٌ؟ ألم يروا كماله؟ ألم يروا عفافه؟ ألم يروا علمه؟ ألم يروا رحمته؟ ومع ذلك كذَّبوه ﴿فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍۢ كَبِيرٍ﴾ ، هذه مقولة الكفار في النار:

﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (10)﴾

[ سورة الملك ]


 دليلا الوصول إلى الله: العقل والإخبار:


 دققوا ﴿نَسْمَعُ﴾ هذا الدليل الإخباري، و﴿ نَعْقِلُ﴾ الدليل العقلي، والإنسان لا يصلُ إلى الله إلّا بدليلين؛ دليل عقلي، ودليل إخباري، من خلال التأمُّل في الكون تتعرفُ إلى خالق الكون؛ هذا دليل عقلي، أما في الدِّين هناك حقائق لا يمكن لعقلك أن يصلَ إليها إلّا أن تأتيه عن طريق الوحي، لذلك يأتي السمع للإخبار الإلهي، والعقل للدليل الاستنباطي، أي أنت تتعرف إلى الله من خلال الكون، هذا العقل الذي أودعه الله فيك يحكمُ أن لهذا الكون خالقاً، وأن لهذا الكون مُربياً، وأن لهذا الكون مُسيّراً، وأن هذا الخالق والرَّب والمُسَيِّر، موجودٌ وواحدٌ وكامل، لكن هذا الفكر لا يستطيعُ عن طريق التأمُّل أن يعرفَ لماذا خلقنا الله -عزَّ وجلَّ-؟ هذا يجب أن يعلمكَ الله به، هذا الفكر من خلال التأمُّل لا يمكن أن يعرفَ عن الماضي السحيق شيئاً -عن أصل الوجود- ولا عن المستقبل البعيد شيئاً، هذا العقل الذي أمدَّك الله به لا يمكن أن يعرفَ عن ذات الله شيئاً، فكل شيءٍ عجز العقل عن إدراكه أخبرك الوحي به، صار عندك دليل عقلي تصل به إلى الله، ودليل نقلي يُخبرك عن الله، هؤلاء الكفار ما استخدموا عقولهم كي تصلَ بهم إلى الله، ولا أَصغوا السمع ليتعرَّفوا إلى الله من خلال ما يُلقى عليهم، هم بعيدون عن إعمال عقولهم، وعن إصغاء السمع للدليل الذي جاءهم الوحي به ﴿وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ﴾
أيّها الإخوة الكرام؛ خطأ كبير جداً أن تنقلَ قضيةً من دائرة المسموعات إلى دائرة المعقولات، فالعقل البشري إن استخدمته فيما خُلِقَ له يعطيك أروع النتائج، أما إذا استخدمته لغير ما خُلق له، فإذا جئت بقضيةٍ غيبيةٍ أوحاها الله إلى نبيِّه فجعلتها تحت بساط البحث العقلي، العقل عندئذٍ لا يستطيع أن يعطيك نتيجةً إطلاقاً؛ لأنّك سخَّرته لغير ما خُلق له، أنت بالكون تعرفه وبالوحي يكشف لك كلَّ ما عجز العقل عن إدراكه.

﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (10) فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (11)﴾

[ سورة الملك ]

عودٌ على بدء.

﴿  إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)﴾

[ سورة الملك ]


حقائق الغيب:


الآخرة غيب، والجنة غيب، والنار غيب، أما بهذه العين نرى كلَّ الأشياء المحسوسة، الدنيا محسوسة، ملموسة، مرئية، مسموعة، مُشاهدة، والآخرة غيب، فالإنسان إما أن يخافَ بعينه، وإما أن يخافَ بعقله، كلَّما هبط مستواه يخافُ بعينه، وكلَّما ارتقى مستواه يخافُ بعقله، فهذا الذي تعرَّف إلى الله من خلال الكون، وتعرّف إلى منهجه وخاف منه قبل أن يأتيَ الموت، خاف منه قبل أن يصلَ إلى النار هذا إنسان خشي الله بالغيب، وهذا مما يليق بالإنسان أن يخشاه غيباً، أما شهوداً فما من إنسانٍ على وجه الأرض إذا رأى العذاب إلّا ويؤمن والدليل فرعون.

﴿ وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

فكلّ إنسان كافراً كان أو غير كافر إن جاء الموت كُشِفَت له الحقائق.

﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

البطولة أن تكشفَ الحقائق قبل الموت؛ لذلك الإنسان مع أي شيء خياره خيار قبول أو رفض إلّا مع الإيمان خياره خيار وقت، فإما أن يؤمنَ في الوقت المناسب وإما أن يؤمنَ بعد فوات الأوان، وإيمانه بعد فوات الأوان لا قيمة له إطلاقاً.

﴿ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلْـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِىٓ إِيمَٰنِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾

[ سورة الأنعام ]

فالبطولة أن تؤمنَ قبل فوات الأوان، أن تؤمنَ بالله غيباً، لا تدركُهُ الأبصار ولكن كلَّ شيءٍ في الكون يدل عليه، فجهنم لا نراها ولكن الله أخبرنا بها، إيمانك بها إيمانٌ بالغيب، الجنة لا نراها ولكن الله أخبرنا بها، ويوم الحساب لا نراه ولكن الله أخبرنا به ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ هذا الذي يليق بالإنسان، هذا الذي يرفعه إلى المستوى الذي يليق به.

﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِۦٓ ۖ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (13)﴾

[ سورة الملك ]

أنت مكشوف عند الله، يعلم سرَّك ونجواك، يعلم سرك وما يخفى عنك.

﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِۦٓ ۖ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ(14)﴾

[ سورة الملك ]

هو الخالق ﴿وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾ ، أحياناً وجود الإنسان معك يزعجك، أما الله فهو لطيف.

﴿ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد ]

من دون أن تشعرَ هو معك، خواطرك يعرفها، نواياك يعرفها، تفكيرك مكشوف عنده، نوازعك، البواعث، الأهداف، التصرُّفات، كل شيء يعتلج في نفسك، الله -عزَّ وجلَّ-مطّلعٌ عليه لكنَّه لطيف، الإنسان أحياناً وجوده معك ثقيل يُزْعِجك، يربكك، ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِۦٓ ۖ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ* أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور