- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (010)سورة يونس
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العين مكان الإحساس والدماغ مكان الإدراك والقلب مكان العقل :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في سورة يونس عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى :
الحقيقة هذه الآية من الدّقَّة بمكان ، نبدأ بالعين ، هناك عينٌ ، وهناك دماغٌ ، وهناك قلبٌ ، وهناك اتصالٌ بين هذه الأشياء الثلاث ، فهذه الكرة تنطبع في شبكيَّتها الصور ، والعصب البصري ينقل هذه الصور إلى الدماغ ، الدماغ يُدرك ، العين تُحس ، العين مكان الإحساس ، والدماغ مكان الإدراك ، والقلب مكان العقل ، بدليل قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
أحياناً الطفل الصغير يرى ثعباناً أرقماً مخيفاً ، صورة الثعبان انطبعت على شبكيَّته ، ولكنَّه لم يُدرِك ما هو ، لذلك لا يخاف ، ولا يتأثَّر ، ولا ينفعل ، وقد يُدرِك ما هو ، وبين هذا الإنسان وبين الثعبان حاجز منيع لا يتحرَّك ، لكن إذا انطبعت صورة الثعبان في شبكيَّة العين ، وانتقلت هذه الصورة إلى الدماغ ، والدماغ بحكم التجربة والمفهومات التي حصَّلها في سنيّ حياته أدرك أنه ثعبان ، هل تعرفون ما دور العقل ؟ دور العقل هو التحرُّك لاتقاء شرِّه أو للهروب منه ، فمن لم يتحرَّك لم يعقل ، من لم يعرف الخطر لم يُدرِك ، من لم ير لم يُبصر ، فالعين تبصر ، والدماغ يُدرِك ، والقلب يعقل .
أحياناً تُصاب الشبكيَّة بتخريب ، أو تصاب العين ، أو عدستها ، أو جسمها البلوري ، أو خلطها المائي ، أو خلطها الزجاجي ، أو قرنيَّتها ، أو قزحيَّتها بعطب ، فهناك عمىً سببه تخريب جهاز العين ، وقد تكون العين سليمةً مئة في المئة ، لكن مركز الرؤية في الدماغ يُصاب بالعطب ، هناك عمىً في الدماغ ، وإذا جاءت الشهوات فختمت على القلب نقول : هناك عمىً ثالث هو عمى القلب ، فإما أن تصاب العين بعطبٍ فتعمى ، وإما أن يصاب الدماغ بعطبٍ فيعمى ، فتتعطَّل الرؤيَّة ، وإما أن يصاب القلب الذي هو مناط العقل بعطبٍ ، أو يحال بينه وبين الحقائق فهذا هو عمى القلب ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
التعامل بين الإنسان وبين المحيط مبنيٌّ على الإدراك والانفعال والسلوك :
أحد العلماء قال : إن قانون التعامل بين الإنسان وبين المحيط مبنيٌّ على ثلاث مراحل ؛ إدراكٌ ، انفعالٌ ، سلوك .
الإدراك أولاً من لم ينفعل فإدراكه غير صحيح ، من لم يسلك فانفعاله غير صحيح ، الناس درجات ، أُناسٌ في غفلةٍ عن حقائق الدين ، هؤلاء بعدوا عن الدين ، أناسٌ ينفعلون ، أي عندهم عاطفة دينية ، يتأثَّرون ، يتمنَّون نصر المسلمين ، لكنَّ سلوكهم في البيت هوَ هو ، لم يتحرَّكوا ، هؤلاء لا يجديهم انفعالهم شيئاً ، وعاطفتهم المتأجِّجة لا تنفعهم ، ما لم يسلك طريق الحق ويبتعد عن طريق الباطل لا يُعدُّ المسلمُ مسلماً حقَّاً ، لذلك :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
المعاصي حجاب بين القلب وبين عقل الحقيقة :
ربنا عزَّ وجل يقول هنا :
﴿
فالختم على القلب حكمي ، لأن منافذ القلب مسدودةٌ بالشهوات ، إذاً :
صار عندنا العين تنتقل الصور منها إلى الدماغ ، ومن الدماغ إلى القلب ، وتنتقل الأصوات من الأذن إلى الدماغ ، ومن الدماغ إلى القلب ، فقد يُصاب الإنسان بصممٍ جزئي ، أي بعطبٍ في الأذن ، أو بعمى في العين ، وقد تخرَّش أماكن الإدراك في الدماغ فيصاب الإنسان بعمىً منشؤه الدماغ ، وبصمم منشؤه الدماغ ، هذه كلِّها أشياء عضويَّة ، لكن قد يُصاب الإنسان بصمم القلب وبعمى القلب ، وصمم القلب وعمى القلب هذان مرضان منشؤهما نفسي ، أي الاستغراق في الدنيا أن تأخذ الشهوة على الإنسان مداخل قلبه ، أن تسدَّ هذه المداخل ، أن تكون الشهوة همَّ الإنسان ، شغله الشاغل ، عندئذٍ لا يعي القلب على خير :
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) ﴾
أي الأعمال السيئة تكون حاجزاً بين القلب وبين الحقيقة ، شيء دقيق جداً .. مثلاً أنا أضرب بعض الأمثلة : إنسان يرى غرفته ثعباناً ولا يتحرَّك ! هذا مستحيل ، قد تنطبع الصورة في العين والدماغ لا يُدْرِكُها ، وقد يُدرك الدماغ ولا يتحرَّك ، إذاً هو إنسان غير عاقل ، بل مجنون ..
من يعقل الحق يتحرك لتطبيقه :
أنا الذي أريده من خلال هذا الكلام ، أنه مهما استمعت إلى الحق ، ومهما كان الحقُّ واضحاً ، ومهما كانت الأمور واضحةً لديك ، إن لم تتحرَّك فإن الحقَّ لا يُجْدي ، أي هذا كلامٌ خطير ، كلامٌ يسمِّيه بعضهم مصيريَّاً ، أي مصيرك في الدنيا والآخرة متوقِّفٌ على تطبيقه ، فعندما يسمع الإنسان ، ويتأثَّر ، ويثني على المتكلِّم ، وهو كما هو ، نقول : إنه لم يعقل الحقيقة ، لو عقلها لسلك سلوكاً يتناسب مع عقله لها .
النبي الكريم هكذا فهم الدين ، تأتيك المعلومات الدقيقة ، تكون جالساً ولا تبادر من فورك ، أما إذا بلغتك كل هذه المعلومات وأنت بحاجة ترى نفسك تتحرَّك ، هذا شأن الإنسان في الدنيا ، إذا بلغه أن في هذه السيَّارة مخالفة تسبِّب مصادرتها ماذا يفعل ؟ لا يفعل شيئاً حتى يزيل أسباب المخالفة .
إذا بلغك أن هذه البضاعة سوف تُصَادَر ، وتدفع ثمانية أضعاف عن ثمنها جزاءً فماذا تفعل ؟ تبقيها في محلِّك التجاري ؟ من الممكن ألا تنام هذه الليلة ، طول الليل تعمل كي تنقلها ، عندما يكون إدراك الإنسان صحيحاً ، وينتقل الإدراك إلى القلب تجد أنه تحرَّك ، هذا مقياس لنا جميعاً ، أخي والله تباركنا بك يا أستاذ ، والله مجلس علم زاخر ، والحمد لله ، وصافحت يد الشيخ تبركاً ، ومشى الحال ، وأنت أنت في البيت والله ما عقلت شيئاً ، ولا تقدَّمت درجة ، وكلَّه وهمٌ في وهم في وهم ، حتى تتحرَّك ، حتى تغض بصرك ، وتحرِّر دخلك ، وتستِّر عيالك ، وتزيل المخالفات من البيت فالآن أنت عقلت الحق ، أما قبل ذلك فشممت رائحته ، أدركته بفكرك ، ولم ينتقل إلى قلبك ..
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
قال له : " قد كُفِيت " ، أي آية واحدة لو عقلتها قد تقرؤها ، وقد تفهمها ، وقد تسمع تفسيرها ، وقد تفسِّرها لأخيك ، ولكنَّك لم تعقلها ، دليل عقلك لها تطبيقك إيَّاها ، ودليل فهمك لها توضيحك للمعنى ، فإذا وضَّحت المعنى للآخرين فقد فهمتها ، أما إذا طبَّقتها فقد عقلتها ، وقبل العقل لا قيمة لأيِّ شيءٍ آخر .
ربنا عزَّ وجل يقول :
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
هذا الإنسان المقصِّر هل هو كافر ؟ لا ، ليس كافراً ، لأنه يعرف كل شيء ، أهو مؤمن ؟ لا ، ليس مؤمناً ، لأنه ليس بمطبِّق ، إنه من المذبذبين لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء .
مناط العقل في القلب ومنفذا القلب السمع والبصر :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) ﴾
بعض تفسيرات هذه الآية : يرى بهما الآيات ..
﴿
يسأل به عن الحق ..
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10) ﴾
طريق الخير والشر ..
﴿ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَـة ُ(12)فَكُّ رَقَبَةٍ(13) ﴾
أي أن تفكَّ رقبتك من أسر الشهوة ، ما دامت الشهوة أكبر همِّك ومبلغ علمك فلن تعرف الحقيقة ..
(( عن أبي هريرة : تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ كانَ في الحِرَاسَةِ ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له ، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ . ))
الإنسان يقيِّم نفسه بهذا المقياس ، مقدار التحرُّك ، مقدار الاستجابة العمليَّة ، مقدار التطبيق ، هو مقياس عقلك للحق . نذكر بعض الأمثلة ، لو أن أحداً قرأ الآية التالية :
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
هي كآية واضحة ، من الممكن إنسان عادي أن يفهمها ، وهذه الآية لا تحتاج إلى تفسير ، لكن إذا لم يطع الإنسان الله ورسوله ما فاز الفوز العظيم ، فشتَّان بين فهم الآية وبين تطبيقها .
من الممكن أن أحداً يقرأ بلاغَ منع التجوُّل ، يدقِّق في الخط والحروف ، ونوع الطباعة ، ونوع الورق ، شكل التوقيع ، بخط مَنْ ، يدقِّق بالصياغة ، بالرقم والتاريخ ، لكن فاته أن يطبِّق البلاغ ، فاته أن يدخل إلى البيت فوراً ، قد يهلك ، درس في هذا البلاغ أشياء كثيرة ولكنَّه غفل عن مضمونه ، إذاً ما عقله ، لو أنه عرف أن هذا البلاغ يعني أنه من يتجوَّل في الطريق يعرِّض نفسه للهلاك قبل أن تدرس الخط ، والتوقيع ، والحبر ، والورق ، وصياغة البلاغ ، ورقمه ، وتاريخه ، انظر إلى مضمونه واستجب له قبل أن يهلك الإنسان ، فالقرآن الكريم أول شيء فيه يجب أن تستجيب لأوامره ، وأن تنتهي عن نواهيه ، وإلا لا جدوى مما سوى ذلك ..
حال الكافر يوم القيامة :
شيء آخر ؛ ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) ﴾
فهذه الدنيا المديدة بشهواتها وملاذِّها ، وطعامها وشرابها ، ونسائها ، وبيوتها الفخمة ، وبساتينها ، ومقاصفها ، وذهبها وفضَّتها ، ومتعها الرخيصة وغير الرخيصة ، هذه كلُّها تصغر وتصغر حتى تصبح ساعةً من النهار ..
(( عن عائشةَ رضي اللهُ عنها : أنها ذكرتِ النارَ، فبكت، فما يبكيك ؟ !، قالت : ذكرتُ النارَ فبكيتُ، فهل تذكرون أهليكم يومَ القيامةِ ؟ ! فأما في ثلاثةِ مواطنَ ؛ فلا يذكر أحدٌ أحدًا : عند الميزان ؛ حتى يعلم أيخفُّ ميزانُه أم يثقُل ؟ ! وعند الكتابِ ؛ حين يقال : هاؤمُ اقرؤوا كتابِيَهْ ؛ حتى يعلم أين يقع كتابُه ؛ أفي يمينه أم في شماله، أو من وراءِ ظهرِه ؟ ! وعند الصراطِ ؛ إذا وُضع بين ظهراني جهنمَ . ))
أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة ؟ قال عليه الصلاة والسلام: " نعم يا أمَّ المؤمنين ، إلا في ثلاثة مواضع : عند الصراط ، وعند الميزان ، وإذا الصحف نُشِرَتْ .
ففي هذه المواضع الثلاث لا يعرف بعضنا بعضاً ، وفيما سوى ذلك لو وقعت عين الأمِّ على ابنها تعرفه تقول له : " يا ولدي ، يا بني ، جعلت لك صدري سِقاءً ، وبطني وعاءً ، وحجري وطاءً - أي فراشاً - فهل من حسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم ؟ أي أمُّه تتسوَّل منه حسنة ، فيقول : يا أمَّاه ليتني أستطيع ذلك .
السيِّدة عائشة رضي الله عنها بعد أن سمعت قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا - قبل أن يطَّهروا ، قبل الختان- قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ !!! قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَائِشَةُ ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ . ))
فقالت يا نبي الله : أو يرى بعضنا بعضاً هكذا ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
الأمور بخواتيمها :
إذاً :
هذه :
الله عزَّ وجل شهيدٌ على ما يفعل العباد :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
يمكن أنت تعاشر صديقاً لك ظالماً فالله عزَّ وجل يمُده ، من الممكن أن الإنسان ينتهي أجله وصديقه الوفي في أوج قوَّته ، على الله عزَّ وجل الحساب ..
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾
أي سواءٌ عليك أشهدت نهاية الكفَّار أم لم تشهد فنهايتهم محتومة ، سواءٌ عليك أشهدتها أنت بأمِّ عينك أم لم تشهدها ، سواءٌ عليك أكان في العمر بقيَّةٌ تشهد بها مصير الكفَّار ، أم لم يكن في العمر بقيَّة تشهد بها مصير الكفَّار ..
﴿
فانظروا الفاء للترتيب على التعقيب ..
﴿
أما ثم فهي للترتيب على التراخي ، يمكن أن يأكل الإنسان مالاً حراماً ، ويعتدي ، ويبغي ، والله يمد بعمره إلى فترة طويلة ، فالإنسان إذا كان له صديق أو جار تجاوز الحدَّ المعقول ، لا يصلي ، وكلامه بذيء ، ورغم ذلك يزداد قوَّةً ومالاً ، فإن هذا الموقف يجب ألا يحملِك على الشك بقواعد الدين ..
من تمام هداية الله عزَّ وجل أنه قيَّض لكل أمةٍ رسولاً :
﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) ﴾
لكل أمة رسول يبلغها :
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) ﴾
طبعاً :
ارتباط كل شيء بمشيئة الله عز وجل :
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) ﴾
هذا ليس استثناء ، هذا ليؤكِّد أن الأشياء ثابتةٌ لا بذاتها ، ولكن بمشيئة الله ، أنت عمرت بيتاً في الطابق السابع مطمئن ، وهذا البيت حر مُلك ، ودفعت ثمنه ، وانتهيت ، وأسعاره ارتفعت ، تماسك الإسمنت بمشيئة الله عزَّ وجل ، وبقاء الحديد حديداً بمشيئة الله عزَّ وجل ، تقول : هذا البيت قِوامه جيد إلا ما شاء الله ، معنى إلا ما شاء الله أي ليس بذاته قائماً ، لكنَّه قائمٌ بمشيئة الله ، فلو أن الله سبحانه وتعالى غيَّر صفات الحديد لوقع البناء ، ولو غيَّر تماسك الإسمنت لوقع البناء ، ولو غيَّر استقرار الأرض لوقع البناء ، فالإنسان المؤمن الموحِّد ولو سكن بيتاً ووضع في أساساته أربعة أضعاف الكميات القانونيَّة ، والحديد بثخانة اثنني عشر ميليمتراً بمشيئة الله
﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ
بقاؤك في الجنَّة ليس ذاتياً بذاتك ، بل برضا الله عنك ، وبمشيئة الله التي سمحت لك بالبقاء ، فلو أن الله شاء لك غير ذلك لما بقيت فيها ، مثل موظَّف فوقه يوجد أعلى منه ، هذا الموظَّف الأدنى حر بالحركة ، والتصرُّف ، ويمارس صلاحيَّاته ما دام الذي فوقه راضٍ عنه ، وينوي أن يبقى في منصبه ، فإذا أراد الذي أعلى منه أن يُزاح عن منصبه أزيح فوراً .
لكلّ أمة أجل :
إذاً :
منتهى الغباء أن تؤمن بالشيء بعد وقوعه :
﴿
﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(58)﴾
وقبلها في مكسيكو أيضاً حصل زلزال ، فهذه المدينة التي في كولومبيا قالوا : خمسة وثلاثون ألفاً أُبيدوا عن آخرهم ، بدقائق ، بساعات ،
العاقل من يحتاط للأمور قبل وقوعها :
غدير ماءٍ فيه سمكاتٍ ثلاثة ؛ كيَّسةٌ وأكيس منها وعاجزة ، مرَّ بالمكان صيَّادان ، نظرا في الغدير ، أبصرا ما فيه من السمك ، أُعْجِبا بالسمك ، تواعدا أن يرجعا ومعهما شباكها ليصيدا ما فيه من السمك – هذه القصَّة رمزيَّة - فسمعت السمكات قولهما ، أمَّا أكيّسهن أي أعقلهن فقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها .. هذا العاقل .. فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت وارتاحت وأراحت ، وأما الكيَّسة أي الأقلُّ ذكاءً فبقيت في مكانها حتى عاد الصيَّادان ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُد فقالت : فرَّطت ، وهذه عاقبة التفريط ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت فأخذها الصيَّادُ ، فوضعها على الأرض بين النهر والغدير فوثبت في النهر فنجت ، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدت .. قال عليه الصلاة والسلام :
(( عن شداد بن أوس : الْكَيِّسُ - أي العاقل - مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني . ))
وهذا معظم حال المسلمين ، تجده يقول : الله يتوب علينا ، نحن عبيد إحسان ، ولسنا عبيد امتحان ، ماذا سنفعل ؟ حتى الله يتغمَّدنا برحمته ، كلام فارغ ، مقيم على شهواته كلها ، مقيم على معاصيه كلها ، ليس مستعدا أن يتحرَّك نحو الحق ، ليس مستعداً أن يتوب إطلاقاً ، لكن كلام لطيف ، قال :
(( عن عبد الله بن عمر :إن اللهَ تعالى قال لقد خلقتُ خَلْقًا ألسنتُهم أَحْلَى من العسلِ وقلوبُهم أَمَرُّ من الصبرِ فَبِي حلفتُ لَأُتِيحَنهم فتنةً تَدَعُ الحليمَ منهم حيرانًا فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عليَّ يَجْتَرِئُونَ. ))
الكلام ليس هناك ألطف منه أما من حيث السلوك فيأكل بعضنا بعضاً ، يستغل بعضنا بعضاً ، يسحق بعضنا بعضاً من أجل الدنيا ، وكلامهم لطيف ..
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ
لكن الكيَّسة قالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، والأقلُّ ذكاءً حينما واجهتها المشكلة احتالت لها ونجت لكن بعد أن حطَّمت أعصابها..
المذنبات آية من آيات الله عز وجل :
وأما الآيات الكونية فالناس في هذه الأيام يتحدثون عن مذنب اقترب مجيئه إلى الأرض ، هذا المذنب اسمه مذنب هالي ، له دورة إهليلجية ، الشمس تقع في طرف فلكه الإهليلجي ، في الطرف ، أي مضى عليه سبعون عاماً قبل زيارته الأخيرة .
سمي هذا المذنب مذنباً لأنه يجر وراءه ذنباً ، طوله بسيط ، ثلاثون مليون كيلومتر ، طول ذنبه ثلاثون مليون كيلومتر ، له دورة في فلكه ، فلكه كما قلنا قبل قليل على شكل إهليلجي ، أو على شكل بيضوي ، تقع الشمس هنا في طرفه المتطاول ، هذه الدورة تستغرق سبعين عاماً أو ستة وسبعين عاماً بالضبط ، لأن العلماء رأوه في أقرب نقطة له من الأرض في عام 1910 ، وبقي في هذه السنوات الستة والسبعين في طريقه إلى الأرض ، العلماء قالوا : في شهر تشرين الذي نحن فيه لا يرى بالعين المجردة ، لكن في أواخر كانون الأول يستطيع المراقب أن يراه بمنظار مكبر ، متى يراه ؟ بعد غروب الشمسوفي الأسبوع الثالث من كانون الثاني الآتي يُرى بالعين المجردة بعد الغروب من الأفق الغربي ، ثم يمر خلف الشمس ، لم يصل للمنطقة إلى هنا ، يمر خلف الشمس ويضيع ضوءه في ضوئها ، يغيب فترة ، ثم يصل إلى الجانب الآخر من الشمس حتى يصبح مرئياً قبل الفجر.
كان بعد الغروب فصار قبل الفجر ، في نهاية شهر شباط ، وفي نهاية هذا الشهر نتمكن من رؤيته بالعين المجردة قبل الشروق ، في نهاية شباط إذا صعدنا إلى سطح المنزل ونظرنا إلى الأفق الشرقي قبل الغروب نرى مذنب هالي ، متى ؟ قبل الشروق بساعة واحدة ، ثم يُشرق المذنب أبكر فأبكر، أي قبل ساعة ونصف ، قبل ساعتين ، متجهاً نحو الجنوب ، وفي السابع من آذار بالضبط يكون على خط مساو لخط القمر ، يُرى على خط القمر ، وفي أواسط آذار سيمتد ذيله إلى سدس القبة السماوية ، أي إذا كانت القبة السماوية ستة أسداس يحتل مذنب هالي سدس القبة السماوية ، ولكن ليس عندنا في نصف الكرة الجنوبي ، في أستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين هناك يرى ، أما نحن في المنطقة المعتدلة فنراه في الأفق الجنوبي ، وفي الحادي عشر من نيسان يصل إلى أقرب مسافة من الأرض ، وسيكون في مركز القبة السماوية من أستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين ، وسيكون منخفضاً في الأفق الجنوبي ، في هذه الأوقات نراه إذا اتجهنا إلى الجنوب ، إلى الأفق الجنوبي نراه رؤية واضحة ولكن أهل أوروبا لا يرونه أبداً لأنه يأتي في زاوية ميتة بالنسبة لزوايا رؤيتهم .
على كلّ هذا الذيل كما قلنا طوله حوالي ثلاثين مليون كيلو متر ، أنا كنت أظن أنه يوجد مذنب أو مذنبان ، العلماء حتى الآن اكتشفوا ستمئة مذنب ، أول مجموعة تشكل مئة مذنب ، قطر مسارها مليون سنة ضوئية ، رقم مذهل ، هذه المذنبات لها سرعات كبيرة جداً ، المجموعة الثانية أربعمئة وخمسون مذنباً ، تصل الشمس كل دورة تستغرق مليوني سنة ، المجموعة الثالثة مجموعة هالي ستة عشر مذنباً ، دورتها في مدارها أقل من مئتي عام ، مذنبنا ست وسبعون سنة ، يوجد مجموعة رابعة هذه المجموعة مئة مذنب ، دورتها حول الشمس من خمس لعشرين سنة ، يوجد مذنب واحد دورته حول الشمس كل ثلاث سنوات مرة ، هذا يُرى بانتظام ، رئي في عام 1984 ، ورئي ثلاثاً وخمسين مرة قبل هذا التاريخ ، منذ ثلاث سنوات إلى عشرين سنة لمئتي سنة لمليوني سنة لمليون سنة ضوئية .
هذه المذنبات آية من آيات الله سبحانه وتعالى ، لو أنها غيرت مسارها واتجهت نحو الأرض ماذا يحدث ? طول ذنبه ثلاثون مليون كيلومتر ، نحن كل قطر أرضنا حوالي أربعين ألف كيلومتر .
من عرف الله واستقام على أمره فهو عالم بشهادة رسول الله :
وأما الآيات الكونية هذه المذنبات آية من آيات الله سبحانه وتعالى ، لو أنها غيرت مسارها واتجهت نحو الأرض ماذا يحدث ؟ طول الذنب ثلاثون مليوناً ، وقطر أرضنا أربعون ألف كيلو متر ، لذلك :
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ﴾
﴿
الإنسان إذا عرف الله من خلال آياته يخشع قلبه ، وإذا خشع قلبه استقام على أمره ، وكما قلت قبل قليل : علامة العقل الاستقامة على أمر الله ، وقبل أن تستقيم لا يمكن أن تسمى عاقلاً ، ابن آدم أطع ربك تسمى عاقلاً ، ولا تعصه فتسمى جاهلاً ، الحديث الشريف :
(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ))
مادام مستقيماً على أمر الله فهو عالم بشهادة رسول الله ، ومن يحمل أعلى شهادة علمانية وهو يشرب الخمر ويفعل السيئات فهذا جاهل جهالة كبرى .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين