وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 04 - سورة يونس - تفسير الآيات 9 – 11 من حكمة الله إعطاء المقصِّر والعاصي فرصةً كي يتوب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  من كانت الدنيا أكبر همه فالنار مثوى له :

في الدرس الماضي وصلنا بتوفيق الله إلى قوله تعالى : 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) ﴾

(( عن عبد الله بن عمر : أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطب الناسَ يومَ فتحِ مكةَ فقال : يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عبيةَ الجاهليةِ وتعاظُمَها بآبائها فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ والناسُ ، بنو آدمَ وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ قال اللهُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . ))

[ ابن العربي : عارضة الأحوذي   :صحيح ، أخرجه الترمذي  ]

هؤلاء ﴿ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾   كانت أكبر همِّهم ، ومبلغ علمهم ، ومنتهى طموحاتهم ، واستغنوا عن رحمة الله ، وأداروا ظهرهم للقرآن ، وجعلوا ما بعد الموت خارج اهتمامهم ، هؤلاء كما قال الله عنهم : ﴿ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ .

 

العمل الصالح من لوازم الإيمان :


 لكن الذي آمنوا لهم حالٌ أخرى ، فربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فالإيمان عمل ، هذا الذي يقول لك : أنا مؤمن ، يجب أن تقول له : متى آمنت ؟ كيف آمنت ؟ ما الدليل على وجود الله ؟ ما الدليل على ربوبيَّته ؟ ما الدليل على ألوهيَّته ؟ متى آمنت ؟ هل خصصت وقتاً كل يوم كي تؤمن ؟ هل جلست مع نفسك تتأمل في ملكوت السماوات والأرض ؟ أمَّا أن يسمع الإنسان شيئاً فيقوله كما سمعه هذا لا يسمى إيماناً ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) ﴾

[ سورة العنكبوت ]

 الإنسان له أن يدَّعي أنه مؤمن ، هذه بيده ، كلمة يقولها : أنا مؤمن ، لكن هل تظن أن الله سبحانه وتعالى سيترك هذا الإنسان يدَّعي أنه مؤمن ، ولا يضعه في مواقف معيَّنة تكشف حقيقته ؟ فربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ، هؤلاء الذي عرفوا الله سبحانه وتعالى ، هؤلاء الذين آمنوا به من خلال آياته ، هؤلاء الذين فكروا في ملكوت السماوات والأرض ، هؤلاء الذي ذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، هؤلاء الذين تعرَّفوا إلى الله في الرخاء ، هؤلاء الذين بَهَرَتْهُم عظمتُه ، هؤلاء الذين ملأت آياتُه نفوسَهم ، هؤلاء الذين آمنوا ، من لوازم الإيمان العمل الصالح ، الإيمان دعوى برهانُه العمل الصالح .. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ أي أنه عرف أن له رباً بيده كل شيء ، إليه مرجع كل شيء ، أي لا حركة ، ولا سكنة ، ولا صغيرة ، ولا كبيرة .. ﴿ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ الأشياء كلها مُعَطَّلَة إلى أن يشاء الله ، لا تأخذُ الأشياء خصائصها ولا فاعليتها إلا إذا شاء الله . 

 

تفسير قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ :


﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ هذه الكلمة فسَّرها المفسِّرون تفسيراتٍ شتَّى ، بعضهم قال : ألم يقل الله قبل قليل : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ إلى مأواهم ، وهو الجنة ، أي إيمانهم وعملهم الصالح يهديهم إلى الجنة ، هذا معنى .

 وهناك معنى آخر ، المعنى الآخر مأخوذٌ من معنى الإيمان ، الإيمان وجهةٌ إلى الله سبحانه وتعالى ، فما دام الإنسان متجهاً إلى الله سبحانه وتعالى أي أنه يوجد صلة ، وتعريف الصلاة كما عرَّفها النبي عليه الصلاة والسلام :

(( عن أبي مالك الأشعري  الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ ، والصَّلاةُ نُورٌ ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ ، والصَّبْرُ ضِياءٌ ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ ، أوْ عَلَيْكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها ، أوْ مُوبِقُها. ))

[  صحيح مسلم   ]

كل إنسانٍ يصلي صلاةً صحيحة يقذف الله في قلبه نوره ، فالصلاة نور ، وبالنور ترى الخير خيراً والشر شراً ، إذاً : المصلي مستنير ، إذاً : المؤمن الذي آمن بالله ، وعمل صالحاً فأقبل عليه ، بإيمانك به عرفته ، بعملك الصالح تقرَّبْتَ إليه ، مثلاً أنت في عطشٍ شديد ، عرفت النبع وذهبت إليه ، لا ترتوي إلا إذا عرفت النبع أولاً ، وذهبت إليه ثانياً ، كذلك آمنت بالله أولاً من خلال آياته الدالة على عظمته ، ثم تقربت إليه بالعمل الصالح ، فإذا آمنت بالله أولاً ، وعَمِلْتَ الأعمال الصالحة ثانياً ، هداك الله إليه . بعضهم قال : إلى جنته .

 وبعضهم قال : أنت حينما آمنت به ، وعملت العمل الصالح تقرَّبت إليه ، بمعنى اتصلت به ، وطبيعة الصلة نور ، وبهذا النور رأيت الخير خيراً فاتبعته ، ورأيت الباطل باطلاً فاجتنبته .


  كل إنسان مفطور على حبّ ذاته ونجاته وسلامته :


نقف عند هذه النقطة قليلاً ، هذا الذي يسرق ، وهو في البيت يقتل ، يقبض عليه فيعدم ، حينما أقدَم على هذا العمل ماذا كان يرى ؟ كان يرى أن السرقة مَغْنَمٌ كبير ، وأنه بجهدٍ يسير يُحَصِّل مالاً كبيراً ، كان في عمى وقتها عن النتائج الأليمة ، عن إعدامه ، عن شنقه أمام الناس ، فالقضية عند الناس قضيةٌ واحدة ، إما أنك ترى ، أو أنك لا ترى ، الكافر في عمى ، لا يرى نتائج الأشياء ، ما من إنسانٍ أُتيح له أن يرى نتائج عمله السيئ فيقدم على هذا العمل ، فالأزمة أزمة رؤية ، إما أنك ترى ، وإما أنك لا ترى .

 لأن الإنسان كل إنسان فُطِرَ على حبّ نفسه ، حبّ السلامة ، حبّ النجاة ، حبّ الفوز ، هذه فطرة الإنسان ، فلأن الإنسان مفطورٌ على حبّ ذاته ، وعلى حبّ سلامته ، وعلى حبّ نجاته ، وعلى حبّ فوزه ، إذا رأى الخير خيراً يتبعه قطعاً ، وإذا رأى الشر شراً يجتنبه قطعاً ، إذاً لماذا يقدم الإنسان على الشر ؟ لأنه يراه خيراً ، لماذا يراه خيراً ؟ لأنه في عمى ، لماذا هو في عمى ؟ لأنه لا يصلي ، هذا ملخص الآية : إذا اتصلت بالله عزَّ وجل قذف في قلبك النور ، فرأيت الخير خيراً فاتبعته ، ورأيت الباطل باطلاً فاجتنبته ، إذاً أنت في نجاة .

 تماماً كمن يقود سيارةً في طريقٍ كله منعطفات ، في ليل أليل ، ما دام المِصباح متألِّقَاً فهو ينجو من هذه الحُفَر والمنعطفات ، لكن إذا انطفأ الضوء فجأةً لابدَّ من أن يتدهور ، وهذا الذي لا يصلي مقطوعٌ عن الله عزَّ وجل ، إذاً هو في عمى ، يرى المعصية مغنماً ، يرى كسب المال بطريقةٍ غير مشروعة مغنماً كبيراً ، وذكاء ، وقدرة على اقتناص المناسبات ، وفوزاً عظيماً ، لكن الذي يرى ، يرى كزالحسيب العليم ، يرى الديَّان ، يرى عدالة الله سبحانه وتعالى ، لابدَّ من أن يذهب المال من حيث أتى ، لابدَّ من أن يتلف المال ، ويتلف صاحبه معه ، فالقضية قضية رؤية .

 سيدنا يوسف لماذا صار عزيز مصر ؟ لأنه حينما راودته هذه المرأة - امرأة العزيز - كان ذا بصيرة ، كان متصلاً بالله عزَّ وجل فرأى نتائج الزنا ، وكيف أنه قبيحٌ لصاحبه ، وكيف أنه خيانةٌ لسيِّدِهِ ، وكيف أنه معصيةٌ لربه ، فقال : 

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) ﴾

[ سورة يوسف ]

فجعله الله عزيز مصر ، ولو أنه لبَّى نداء جسده كما يقولون لكان في أسفل سافلين ، لما كان سيدنا يوسف ، قيل لأحد العارفين : " متى يكون داؤها دواءها - أي النفس - ؟ " ، فقال هذا العارف بالله : " إذا خالفت هواها " ، لأن هواها هو داؤها ، ودواؤها بمخالفة الهوى ، اتباع الهوى هوان ..

واخجلتي من عتاب ربــــــــي         إذا قال لي أسرفت يا فلان

إلى متى أنت في المعاصــي          تســير مرخى لك العنــــــــــان

عندي لك الصلح وهو بـــــرِّي         وعندك السيف والسنــــــــــــان

ترضى بأن تنقضي الليالـــــي          وما انقضت حربك العــــوان

فاستحي من شيبةٍ تـــــــــراهــا          في النار مسجونةً تهــــــــان

واستحي من كتابٍ كــــــــــريمٍ           يحصي به العقل واللســـان

***

 

العمى سببه الانقطاع عن الله عزَّ وجل :


عندما يكون الإنسان في عمى يأكل مالاً حراماً ، فيكون الجزاء عاجلاً ، يتلف الله ماله ، وقد يتلفه مع ماله ، إذا كان في عمى يعتدي على الأعراض ، يُعْتَدَى على عرضه ، ما من مأساةٍ في المجتمع ، راجعوا المحاكم الشرعية ، ما من دعوى طلاق إلا وراءها معصية ، وليس من معصيةٍ إلا وراءها عمى ، والعمى سببه الانقطاع عن الله عزَّ وجل ، لو كنت في قمة الذكاء ، لو حصَّلت أعلى شهادة في العالم ، الذكاء وحده لا يكفي ، الذكاء قوة مدمِّرة ، أما مع الهدى قوة خَيِّرَة ، الذكاء قوة خيرة ، فإن كان الذكي مقطوعاً عن الله عزَّ وجل فهو قوةٌ مدمِّرة ، أي الإنسان بلغ الآن من الذكاء المرتبة العُليا ، أي العقل البشري تطور ، واخترع ، وسخَّر الطبيعة ، واخترع مخترعات تريحه جداً ، نقل الصورة ، نقل الصوت ، غاص في أعماق البحار ، راد الفضاء ، وصل القمر ، اخترع الأجهزة التي تنقل الصور الملونة في لمح البصر ، لكنه في جهلٍ شديد ، وبعدٍ عن الله مديد ، ما الذي حصل ؟

 أطلق لنفسه العنان ، بوحي عقله ، وذكائه ، وأن هذه الدنيا هي كل شيء ، فإذا مرضٌ عضال يصيب العالم المتمدن فيما يزعمون- مرض الإيدز - انحلال المناعة ، وهذا المرض هو بسبب بعدهم عن الله عزَّ وجل ، بعدوا عن الله ، انقطعوا عنه ، كانوا في ضلالة وفي عمى ، فأطلقوا لشهواتهم العنان ، فكان العقاب العاجل في الدنيا قبل الآخرة .

 

من معاني : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ : 


1 ـ  دعم الذكاء بالهدى :

 مهما كنت ذكياً ، مهما كنت مثقفاً ثقافةً عالية ، مهما كنت ذا شأن ، إن لم تدعم هذا الذكاء بالهُدى فالمصير إلى الهاوية ، إلى الدمار ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾

2 ـ الإيمان وجهة إلى الله والعمل الصالح قربة له :

 المعنى الثاني : أن الإيمان وجهة إلى الله ، وأن العمل الصالح قربةٌ له ، وأنك إذا عرفته وتقرَّبت إليه اتصلت به ، في هذه الصلة يحصل النور ، في هذا النور ترى الخير خيراً والشر شراً ، تنجو من مآزق الدنيا ، من متاعبها ، من مهلكاتها ، من ضلالاتها ، من شقائها ، من الضياع ، من القلق ، ﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾

3 ـ من أطاع الله يُسرت أموره ووفق في دينه :

هناك معنى ثالث مستنبطٌ من قوله تعالى : 

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) ﴾

[ سورة الكهف ]

إذا قال ابن لأبيه : أنا أود أن أدرس ، وأبوه كان مثقفاً ثقافة عالية ، بمجرد أن يقول له : أنا أريد أن أدرس ، الأب أعطاه غرفةً مستقلةً في البيت ، أَمَدَّه بالكتب ، أمده بالمراجع ، وضعه في أرقى مدرسة ، أعطاه المال الكافي ، أعفاه من أعباء المنزل ، سجَّله في معاهد إضافةً على مدرسته ، جعل له مدرّسين خاصين ، الطالب قال : أنا سأدرس ، كذلك ولله المثل الأعلى ، إذا قال العبد : يا رب أعنّي على طاعتك ، تُيَسَّرُ له أموره ، يُيَسَّرُ له أمر معاشه ، ييسر الله له زوجةً تعينه على دينه ، توافقه في اتجاهه ، ييسر له عملاً طيباً ورزقاً حسناً ، نقياً ، نظيفاً ، هذا إذا اختار أن يكون من المؤمنين ، المعنى الثالث : ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)﴾

4 ـ العمل الصالح جوهر الحياة :

 المعنى الرابع : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾  إلى العمل الصالح ، لأن جوهر الحياة هو العمل الصالح .. 

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

 أي أنت جئت إلى الدنيا من أجل مهمةٍ واحدة ؛ أن تعمل عملاً صالحاً يصلح للعرض على الله عزَّ وجل كي تسعد به إلى الأبد ، إذاً : 

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[ سورة الكهف ]

إذاً المعنى الرابع : ﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ إلى العمل الصالح ، الله عزَّ وجل يقدِّر على يديه الأعمال الصالحة الكبيرة ، أي إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل  ونسبه إليك .

 

لكل إنسان عمل صالح بقدر نواياه :


ما من مخلوقٍ على وجه الأرض يحب العمل الصالح كسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك قدَّر الله على يديه هداية البشر .

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)﴾

[ سورة سبأ ]

 وجعله بابه الأوحد ، أي امرئٍ أتاه من غيره لا يدخله ، وجعل له المقام المحمود ، والوسيلة العظمى ، إذاً أنت لك عمل صالح بقدر نواياك ، لو أنك تنطوي على نيةٍ صادقة في التقرُّب إلى الله عزَّ وجل ، لأَمَدَّكَ الله بالعمل الصالح ، ولقدّره على يديك ، وجعل الهدى على يديك ، أنت لا تملك إلا شيئاً واحداً ، تملك النية الطيبة والباقي على الله :

(( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عزَّ وجلَّ : أنا اللهُ قدَّرتُ الخَيْر والشَّرّ فطوبى لمن جَعلتُ مفاتح الخير على يديْه ، ووَيْلٌ لمن جَعلتُ مفاتح الشر على يديْه. ))

[ رواه الطبراني ]

قال : إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيم استعملك ؟ انظر ما نوع عملك في الحياة الدنيا مبني على أذى الآخرين أم على نفعهم ؟ هناك أعمال خيِّرة ، هناك أعمال شريرة.

 

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :


 الله عزَّ وجل قال : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ والله هذا عطاء ، هذا الذي يسمَّى العطاء ، أما العطاء في الدنيا فلا يسمَّى عطاء ، إنه ابتلاء ، لأنه منقطع ، هل يصح أن تقول لعطاءٍ قليلٍ يسيرٍ مؤقَّت عطاء ؟ الكريم لا يعطي هكذا ، لذلك قال سيدنا علي : الغنى والفقر بعد العرض على الله ، قال سيدنا موسى : 

﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)  ﴾

[ سورة القصص ]

 أنا مفتقر يا رب للعمل الصالح ، الحقيقة التي لا مراء فيها ولا مجاملة : إذا كانت حياة الإنسان مبنيةً على عمل ، وكسب مال ، وراحة ، واسترخاء ، وطعام ، وشراب ، ونوم ، وخدمة نفسه ، والعناية ببيته فقط ، وليس له عمل صالح ، والله هذا هو الفقر بعينه ، حتى إن بعضهم وجَّه قول سيدنا علي : كاد الفقر أن يكون كفراً ، بعضهم وجَّه هذا القول بمعنى أن الفقر من العمل الصالح هو كفرٌ بالله عزَّ وجل ، أي آمنت به ، وعرفت أنه عظيم ، وعرفت أن هناك جنة عرضها السماوات والأرض ، وهناك نار ، ولا تتقرب إلى الله بالعمل الصالح ؟! إذاً : هذا أحد أنواع الكفر ، كاد الفقر من العمل الصالح أن يكون كفراً . 

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) ﴾

[ سورة الأحقاف ]

 لك عند الله حجم ، حجمك بحجم عملك الصالح ، ماذا فعلت ؟ ماذا ضَحَّيْت ؟ ماذا أنفقت ؟ كم هديت ؟ ألك عملٌ صالحٌ باتجاه الهدى والدعوة إلى الله ؟ ألك عملٌ صالح باتجاه إنفاق المال ؟ ألك عملٌ صالحٌ باتجاه تقديم خدمات للمؤمنين ؟ هل عاونت مؤمناً ؟ هل أنقذته من ورطة ؟ هل عُدَّتَ مريضاً ؟ هل دللت ضالاً ؟ هل ضحيت بوقتك من أجل أخيك ؟ هل عملت عملاً يرضي الله عزَّ وجل ؟ الحقيقة الإنسان لا يتمكن أحياناً أن يقابل إنساناً له شأن ، لا يوجد وقت ، انتظر شهراً ، لكن ربنا عزَّ وجل قال : 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)  ﴾

[ سورة الكهف ]

ربُّ العِزَّة ، خالق السماوات والأرض ، إذا أردت أن تقابله أن تلقاه فعليك بالعمل الصالح ، والدليل : اعمل عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله ، وانظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يتجلَّى على قلبك بالرحمة ، والآية الكريمة هكذا : 

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ – التجليات - قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ﴾

[ سورة الأعراف ]

أحسن ، قال لي شخص كان يمر بمنطقة دُمَر الساعة الثانية عشرة ليلاً - القصة ذكرتها سابقاً - رأى امرأة واقفة حاملة طفلاً ، ومعها رجل ، توقّع أنهم بحاجة ماسة للمساعدة ، وإذا الابن كانت حرارته إحدى وأربعين درجة ، والأم لا تدري ماذا تفعل ، معها زوجها ، قال لي : أخذتهم إلى مستشفى ، ولطبيب مناوب ، ولصيدلي مناوب ، وأخذ إبراً بالمستشفى ، الساعة الرابعة فجراً انتهينا من علاجه ، ثم أرجعتهم إلى دمر مكان سكناهم ، ورجعت إلى بيتي ، أقسم لي بالله مدة أسبوعين أو ثلاثة مغموس بالسعادة ، مغموس غمساً ، وكل واحد منا يجرِّب .. ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ﴾ اخدم إنساناً لله ، لا جزاءً ، ولا شكوراً ، ولا مدحاً ، ولا ذماً ، ولا تقديراً معنوياً ، ولا تقديراً مادياً ، ولا لفت نظر ، ولا كلمة شكر في الجريدة. 

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) ﴾

[ سورة الإنسان ]

 العمل الصالح هو الذي يرقى بك ، الآية الكريمة : 

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) ﴾

[ سورة فاطر ]

 إذا تكلمت بكلام لطيف يعرفه الله سبحانه وتعالى ، يصعد إليه ، لكنك أنت على الأرض ، يصعد كلامك إليه ، أنت على الأرض لكن الذي يصعد بك كلك هو العمل الصالح ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ يرفعك عند الله عزَّ وجل ، لا يرفعك عند الله كلامك ، الكلام اللطيف سهل ، مجاناً .

 

الاستقامة علامة الإيمان :


 لذلك : 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)  ﴾

[ سورة فصلت ]

 علامة الإيمان الاستقامة ، بعد فقرة ثانية .. 

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾

[ سورة فصلت ]

لا تجدي الدعوة إلى الله إلا بالعمل الصالح ، وإذا كان العمل سيئاً أعطت الدعوة عكس المفعول ، أي من دعا إلى الله ، وكان عمله سيئاً فكأنه ينفّرهم من الله عزَّ وجل . 

(( قال داود عليه السلام فيما يخاطب ربه : يا رب أي عبادك أحب إليك أحبه بحبك ؟ قال : يا داود أحب عبادي إلي نقي القلب ، نقي الكفين ، لا يأتي إلى أحد سوءاً ، ولا يمشي بالنميمة ، تزول الجبال ولا يزول ، أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى عبادي ، قال : يا رب إنك لتعلم أني أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى عبادك ؟ قال : ذكرهم بآلائي وبلائي ونعمائي . ))

[  أخرجه البيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس وفي سنده انقطاع ]

 

للأخلاق الحسنة أثر كبير في الدعوة :


 أي أن من دعا إلى الله وكان عمله سيئاً كان سبباً في تنفير الناس من الدين وإبعادهم عنه ، هذا الدين يحتاج إلى سخاء ، وإلى أخلاق حسنة ، زوج أخلاقه شرسة ، وانفعالي ، وكلامه قاسٍ ، وتوبيخه عنيف ، وبخيل على زوجته ، ويقول لها : صلِّي ، مستحيل أن تصلي ، وإن صلَّت فستصلي بلا وضوء كي تغيظه ، حتى إن ربنا عزَّ وجل علمنا كيف ندعو إليه ، قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم : 

﴿ قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25) ﴾

[ سورة سبأ ]

 أنتم تعملون ، نحن أجرمنا ، أي هذا هو الأدب الجَم ، أي إن كنتم تعتقدون أننا مجرمون بهذه الدعوة أنتم مُعفَون من السؤال عن هذه الجريمة ، ونحن لا نُسأل عما تجرمون ، لا ، عما تعملون ، أي يجب أن تنتقي ألطف كلمة .. 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)  ﴾

[ سورة آل عمران ]

 

ملخص علاقة الإنسان بالله منذ أن خلق في الأزل وحتى الأبد :


﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ﴾

[ سورة يونس ]

 المعنى الأول : دعاؤهم ، والمعنى الثاني : الدعوة العبادة ، والمعنى الثالث : ملخص علاقتهم بالله سبحانه وتعالى منذ أن خلقوا في الأزل وحتى الأبد ﴿ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أحياناً تلخِّص علاقتك كلها بكلمات ، علاقة الإنسان مع ربه منذ أن خلقه وحتى الأبد ﴿ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ﴾ أي ما أعظم شأنك يا رب . 

﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ ومن الله السلام ، الطمأنينة ، الأمن ، التجلِّي ، السعادة ، وملخَّص السلام والتسبيح ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .

بعضهم قال : لما دخل سيدنا يونس في بطن الحوت ، كيف دعا ربَّه ؟ قال : 

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)  ﴾

[ سورة الأنبياء ]

 لم يدعُ ، سبَّح الله ، ونزَّهَهُ ، ومجَّده ، قال العلماء : تنزيه الله وتمجيده وتسبيحه أحد أنواع الدعاء ، لذلك النبي الكريم استنبط من هذه الآية دعاء الكَرْب ، فإذا ألمَّت بالإنسان مصيبة يقول : لا إله إلا أنت العليم الحكيم ، لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم ، لا إله إلا أنت ربُّ العرش العظيم ، هذا هو الدعاء ، ولكنه ما دعا ، لقول الله عزَّ وجل :

(( عن أبي سعيد الخدري ، قولُ الرَّبُّ تباركَ وتعالى: مَن شغلَه القُرآنُ عَن مَسألتي أعطيتُه أفضَلَ ما أُعطي السَّائلِينَ ، وفَضلُ كلامِ اللهِ على سائرِ الكَلامِ ، كفَضلِ اللهِ علَى خَلقِه. ))

[ ضعيف الترغيب: ضعيف جداً  ]

لما قال سيدنا يونس : ﴿ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ هذا دعاء ، لكن سيدنا يونس شغله تعظيم الله سبحانه وتعالى ، والاعتراف بذنبه عن طلب الخلاص .

 

أثر الدعاء في فك الكرب :

 

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)﴾ أي إذا الإنسان بضائقة قال : سبحانك يا رب ، ما أرحمك ! مصيبة قاسية جداً ، سبحانك يا رب ما أعدلك ! سبحانك يا رب ما أرحمك ! سبحانك يا رب ما أحكمك ! إنني صابرٌ لحكمك يا رب ، هذا دعاء ويقتضي الإجابة ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ :

عن عبد الله بن عباس كان يدعو عند الكرب :

(( لا إلهَ إلَّا اللهُ العظيمُ الحليمُ ، لا إلهَ إلَّا اللهُ ربُّ العرشِ العظيمُ ، لا إلهَ إلَّا اللهُ ربُّ السمواتِ السبعِ وربُّ الأرضِ ، وربُّ العرشِ الكريمُ . ))

[ صحيح الجامع  : صحيح   ]

قال : هذا دعاء الكرب .

 

معاني قوله تعالى : دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ :


أهل الجنة لا يوجد موضوع يجول في خواطرهم إلا موضوع واحد ، سبحانك اللهم ، ما هذا العطاء ؟ ما هذا النعيم المقيم ؟ ما هذا السرور ؟ ما هذا الأمن ؟ ما هذه الطمأنينة ؟ ما هذا الذي لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ؟ ما هذا النعيم المقيم ؟ ما هذه الجنة ؟ 

﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) ﴾

[ سورة يس ]

 هناك آيات كثيرة ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ قال : تحيتهم من الله ، أي تصور إنساناً عظيماً يقول لك : أهلاً وسهلاً ، رحَّب بك ، سلامٌ عليك ، إذا كان الله عزَّ وجل يقول قال بعضهم : هذا السلام من الله عز وجل ، ﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا ﴾ أي تحية الله لهم سلامٌ عليكم إلى الأبد .. 

﴿  لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61) ﴾

[ سورة الصافات ]

 هذا طموح ، هنا الطموح ، جمع مليوناً يريد مليوناً ثانية ، قال له : ربحت ستة عشر مليوناً في سنة واحدة ، ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾ هذا العطاء الذي لا ينفد :

(( عَنْ عبْدِ اللَّه بنِ الشِّخِّيرِ  أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهُوَ يَقْرَأُ:  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] قَالَ:  يَقُولُ ابنُ آدَم : مَالي ! مَالي ! وَهَل لَكَ يَا بْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ؟ ))

 

[ رواه مسلم ]

والباقي ليس لك ، لغيرك ، تحاسب عليه ، كيف اكتسبته ؟ وكيف أنفقته ؟ إذاً : ﴿ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ .

بعضهم قال : أهل الجنة إذا رأوا طائراً ، واشتهوا أن يأكلوه يكفي أن يقولوا : سبحان الله ! فيأتيهم مشوياً جاهزاً للطعام ، فإذا أكلوه قالوا : الحمد لله ، أي أنه لا يوجد طلبات ، أحياناً إذا كان الشخص غالياً على الثاني كثيراً يقول له : والله هذه الكنزة جميلة جداً ، يقول له : مقدَّمة ، فوراً ، قال له فقط حلوة معناها اشتهاها ، فأهل الجنة يكفي أن يقولوا : سبحان الله لشيء جميل يصبح بين أيديهم ، فإذا تناولوه يقولون : الحمد لله رب العالمين ، هذا المعنى الآخر من معاني : ﴿ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ...

بعضهم قال :

((  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا . ))

[ مسلم ]

 إذا أكل الإنسان طعاماً ، وكان يحبه وشبع فقال : الحمد لله رب العالمين ، يا ربي لك الحمد والشكر والنعمة والرضا ، الحمد لله الذي أطعمني ، وسقاني ، وآواني ، وكم ممن لا مأوى له ، كم من كبدٍ جائعة ، لقد أطعمك الله . 

﴿  فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4) ﴾

[ سورة قريش ]

 هذا المعنى الثالث ، بعدما يتلقى الإنسان النعمة من الله عليه أن يحمد الله . 

بعضهم قال : في كل دعاءٍ يجب أن يبدأ بالتسبيح ، وينتهي بالتحميد ، لقول الله سبحانه وتعالى : 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)﴾

[ سورة الصافات ]

 هذه من أواخر سورة الصافَّات .

 إذاً : ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ بعضهم قال في معنى هذه الآية : الدعوة القضية ، هذا المعنى الثالث للدعوة ، الدعوة الدعاء ، والدعوة العبادة ، والدعوة القضية ، أي أن قضيتهم مع الله تتلخص بالحمد لله ، كان في حياته فقيراً ، كان مصاباً ، كان قد فقد بصره ، فقد ابنه ، له ابن متعلِّق به كثيراً توفاه الله عز‍َّ وجل ، كانت زوجته مشاكسة ، دخله قليل ، عنده أمراض مزمنة ، كل شيء ساقه الله له يكشفه يوم القيامة ، فيذوب محبة لله ، لولا هذه الأمراض لما عرفتك ، لولا هذه المصائب لما عبدتك ، لولا هذا الضيق لما التجأتُ إليك يا رب . 

﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هذه ملخص الملخص . 


ثلاث كلمات أساسيات في الدين :


 لذلك في الإسلام يوجد كلمات أساسية ، بعض هذه الكلمات : لا إله إلا الله ، هذه علامة التوحيد ، بعض هذه الكلمات : الله أكبر ، شعار المسلمين ، الكلمة الثالثة : الحمد لله ، الحمد لله ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد ، هذه ثلاث كلمات أساسيات في الدين . 

 

ربنا حليم إن طلب الإنسان الخير يُعَجِّلُ له به وإن طلب الشر أمهله لعله يتوب :


﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ الشيء الملاحظ أن الله سبحانه وتعالى إذا طلب العبد طلب خير وقال : يا رب اهدني ، يمكن أن يدعو الله عند العصر ، يأتي في صلاة المغرب فيجمعه الله برجلٍ تكلم معه بكلام طيب ، فسأله : أنت أين تحضر ؟ خذني معك ، عند العصر دعا الله عزَّ وجل وعند المغرب كان مهتدياً ، إذا طلب الإنسان الخير فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب له استجابةً سريعةً جداً :

(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي))

[ أخرجه  البيهقي في  شعب الإيمان وهو ضعيف ]


(( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ))

[ رواه مسلم ]

 ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ ﴾ أي أكل مالاً حراماً ، فقصمه ، فمات ، فصار إلى جهنَّم ، يأكل مالاً حراماً ، يسَلِّمه ، ويعتدي على أعراض الناس ، يتركه حياً مثل الحصان ، ويظلم ويمد له في حياته ، ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ كان أهلك الناس كلَّهم إلى جهنم ، لكن ربنا عزَّ وجل حليم ، فإذا طلب الإنسان الخير يُعَجِّلُ الله له به ، فإذا طلب الشر أمهله ، لعله يتوب ، لعله يندم ، لعله يرجع ، لعل الله يخرج من صلبه من يوحِّد الله .

سيدنا جبريل قال لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالطائف :

(( عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أنَّها قالَتْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ ؟ قالَ : لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلال ٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ ، فَنادانِي فقالَ : إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم ، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ : يا مُحَمَّدُ ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ - لأهل الطائف ، لأنهم آلموه ، وردّوه ، وكذَّبوه ، واستهزؤوا به- إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا . ))

[ صحيح البخاري ]

إذا وضع طبيب أسنان الآلة في فم الطفل ، والطفل سبّه ، فهل يطرده ؟ (( اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ )) كلما ارتقى إيمانك تترفَّع عن الانتقام نهائياً ، لو أساء تداريه ، لو ارتكب معصية أمامك لا تيأس منه ، المؤمن ضيِّق الأفق إذا رأى عاصياً يسبّه ، أما المؤمن العالي فإنه يحوطه . 

الإمام مالك كان ماشياً في الطريق فرأى رجلاً سكّيرا ملقىً على الأرض ، والزَبَدُ على فمه ، ويقول : الله ، فآلمه أن يخرج هذا الاسم العظيم من فمٍ سكران ، فأخذه إلى البيت ، ونظَّفه ، وأكرمه ، وأطلقه ، جاء إلى المسجد صباحاً فرأى رجلاً يصلي ، ويبكي ، ويعبِّر عن شوقه لله عزَّ وجل ، فقال : يا هذا من أنت ؟ سيدنا مالك رأى في المنام قال له : " يا مالك طهَّرت فمه من أجلنا فطهرنا قلبه من أجلك " الإنسان لا ييأس من إنسان شارب خمر ، قد يتوب ويسبق العابدين ، لأن الصلحة بلمحة ، وقد يرتكب الإنسان معصية ، وندم ، وقال : يا رب ندمت ، أي ما من شيءٍ أحب إلى الله من شابٍ تائب :

((  للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ فمَن تابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا أنسى اللَّهُ حافِظيهِ – الملائكة - وجوارحَهُ وبقاعَ الأرضِ كُلِّها ، خطاياهُ وذنوبَهُ . ))

[ ضعيف ]

إذا تاب العبد الإسلام يجب ما قبله :

(( عن عمرو بن العاص : حَضَرْنا عَمْرَو بنَ العاصِ، وهو في سِياقَةِ المَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وحَوَّلَ وجْهَهُ إلى الجِدارِ ، فَجَعَلَ ابنُهُ يقولُ : يا أبَتاهُ ، أما بَشَّرَكَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بكَذا ؟ أما بَشَّرَكَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بكَذا ؟ قالَ : فأقْبَلَ بوَجْهِهِ ، فقالَ : إنَّ أفْضَلَ ما نُعِدُّ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ ، إنِّي قدْ كُنْتُ علَى أطْباقٍ ثَلاثٍ ، لقَدْ رَأَيْتُنِي وما أحَدٌ أشَدَّ بُغْضًا لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مِنِّي ، ولا أحَبَّ إلَيَّ أنْ أكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ منه ، فَقَتَلْتُهُ ، فلوْ مُتُّ علَى تِلكَ الحالِ لَكُنْتُ مِن أهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإسْلامَ في قَلْبِي أتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ، فَقُلتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبايِعْكَ ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ ، قالَ : فَقَبَضْتُ يَدِي ، قالَ : ما لكَ يا عَمْرُو ؟ قالَ : قُلتُ : أرَدْتُ أنْ أشْتَرِطَ، قالَ: تَشْتَرِطُ بماذا ؟ قُلتُ : أنْ يُغْفَرَ لِي ، قالَ : أما عَلِمْتَ أنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ ؟ وأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها ؟ وأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ ؟ وما كانَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم ، ولا أجَلَّ في عَيْنِي منه ، وما كُنْتُ أُطِيقُ أنْ أمْلأَ عَيْنَيَّ منه إجْلالًا له ، ولو سُئِلْتُ أنْ أصِفَهُ ما أطَقْتُ ؛ لأَنِّي لَمْ أكُنْ أمْلأُ عَيْنَيَّ منه، ولو مُتُّ علَى تِلكَ الحالِ لَرَجَوْتُ أنْ أكُونَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ ، ثُمَّ ولِينا أشْياءَ ما أدْرِي ما حالِي فيها ، فإذا أنا مُتُّ فلا تَصْحَبْنِي نائِحَةٌ ، ولا نارٌ، فإذا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرابَ شَنًّا ، ثُمَّ أقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ ما تُنْحَرُ جَزُورٌ ويُقْسَمُ لَحْمُها ، حتَّى أسْتَأْنِسَ بكُمْ ، وأَنْظُرَ ماذا أُراجِعُ به رُسُلَ رَبِّي . ))

[  صحيح مسلم ]

 واللهُ سِتِّير ، قال رجل :  يا رب من هذا الذي يعصيك وأنت لا تمطرنا ؟ المطر نزل ، وهذا الإنسان لم يغادر قوم سيدنا موسى ، قال له : عجبت لك يا موسى أأستره عاصياً وأفضحه تائباً ؟ تاب ، عندما يتوب الإنسان إلى الله انتهى كل شيء ، إذا تاب العبد توبةً نصوحاً نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله وانتهت مشكلته . 

الكلمة الحقيقية : هنيئاً هنيئاً لمن تاب توبةً نصوحاً ، وإذا تاب الإنسان يحس أن وزنه قد خف كثيراً ، ينام نوماً عميقاً ، ليس عليه ذنوب ، ولا عليه حقوق ، لو أن الله قبضه في الليل يعلم أن مصيره إلى الجنة ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ سيدنا خالد لو أن الله أراد أن يؤاخذه وهو يحارب النبي عليه الصلاة والسلام ، وأرسل إليه بسهم فمات ، يحارب رسول الله ، بعدها صار سيدنا خالد ، ثم بعد ذلك أصبح سيف الله المسلول .

 عكرمة بن أبي جهل أعدى أعداء الإسلام صار سيدنا عكرمة ، عمير بن وهب ، صفوان بن أمية ، صناديد الكفر ، هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم ، واستشهدوا في المعارك ، ودخلوا الجنة ، فلو أن الله سبحانه وتعالى عجَّل إليهم الشر لقضى عليهم ، فلو أن الإنسان آمن لا ينظر باحتقار لغير المؤمن ، لعله يسبقك ، الآن هو متلبس بمعصية ، لكن لعله يتوب ، كن متواضعاً ، أكرِمه ، هذا العاصي أكرمه ، تقرَّب إليه ، لعله يلين قلبه .

 قيل : إن بشراً الحافي كان مسرفاً على نفسه كثيراً بالمعاصي ، طرق عليه الباب رجل ، فإذا عنده خمر ونساء وجوارٍ ومشاكل ، فخرج إليه غلام ، قال له : قل لسيِّدك : إن كان حراً فليفعل ما يشاء ، وإن كان عبداً فما هكذا تصنع العبيد ، هل العبد هكذا يعصي مولاه ؟ فتبعه حافياً .

 مالك بن دينار دخل مرة إلى المسجد ، وكان حوله أناس كثيرون ، فوقفوا له تعظيماً لشأنه ، فاستحيا من الله وقال : أنا كنت قاطع طريق ، وشقياً من الأشقياء ، تزوج ، جاءته فتاة صغيرة جميلة ، فكانت تخفف من شراسته ، نام مرةً فرأى ثعباناً تنيّناً يتبعه ، وقد انخلع قلبه ، وهو يفرّ منه من وادٍ إلى جبل ، إلى أن أدركه التعب ، وكاد يقع ، فرأى ابنته الصغيرة في المنام ، فأشارت إلى الثعبان فابتعد الثعبان عنه ، قال لها : من أنتِ ؟ قالت : أنا عملك الصالح ، قال : فمن هذا التنين ؟ قالت : هذا عملك السيئ .

 أحياناً الإنسان يحلم بثعبان مخيف ، هذا عمل سيئ ، فاستيقظ وتاب من وقته ، وقبلت توبته ، وصار من كبار العارفين بالله ، فليس للإنسان أن ييئس ، يرى شخصاً لا يصلي فيقول : يباع في العزاء ، لماذا ؟ شخص مقصر ، لا ، اخدمه ، وتقرب له ، لعله يلين قلبه ، إذا أنقذت رجلاً من معصية فلك أجر أكبر بكثير من أن تنقذ إنساناً يصلي .

 

من حكمة الله إعطاء المقصِّر والعاصي فرصةً كي يتوب :

 

إذاً : ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ هؤلاء الكافرون في الجنة ، وفي الآخرة نذرهم أحياء ، يأكلون ويشربون ، ويطغون ، ويعمهون ، فلعلَّهم يهتدون ، دائماً الله عز وجل لا ييئس من الإنسان يحاول ويحاول إلى أن يهتدي ،  ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ﴾ طبعاً ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ من العمه ، والعمه هو غير العمى ، العمى عمى العين ، أما العمه فعمى ا لقلب ، فلان أعمه بالهاء ، أي قلبه أعمى .

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)  ﴾

[  سورة الحج ]

 إذاً من حكمة الله سبحانه وتعالى أنه يعطي المقصِّر والعاصي فرصةً كي يتوب . 

 

النهي عن الدعوة على النفس والمال والولد :


(( عَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ : كَانَتْ رَاحِلَةٌ أَوْ نَاقَةٌ أَوْ بَعِيرٌ عَلَيْهَا مَتَاعٌ لِقَوْمٍ ، فَأَخَذُوا بَيْنَ جَبَلَيْنِ ، وَعَلَيْهَا جَارِيَةٌ ، فَتَضَايَقَ بِهِمْ الطَّرِيقُ ، فَأَبْصَرَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ : حَلْ حَلْ ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا أَوْ العنه – يخاطب ناقته - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَصْحَبْنِي نَاقَةٌ أَوْ رَاحِلَةٌ أَوْ بَعِيرٌ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِ لَعْنَةٌ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . ))

[ أحمد  ]

((  عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ . ))

[ أبو داود ]

 الدعوة على الولد لا تجوز ، ولا على المال ، ولا على النفس ، الله يقصف عمري كي أخلص منكم ، هذه لا تجوز ، في ساعة الغضب يدعو على نفسه ، لا يجوز ، ولا على أولادك ، ولا على أموالك ، هذا مما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام . ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ .

 

تلخيص لما سبق :


إذاً الآيتان : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ هذا الصنف الأول .. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا - عرفوا ربهم - وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ - إلى الجنة ، وإلى العمل الصالح ، وإلى معرفة الحقائق - تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ﴾ أي إذا دعا الإنسان على نفسه ، أو على أهله ، أو على أولاده ، أو على ماله ، الله عزَ وجل لا يستجيب له ، يعطيه مهله ، إذاً : ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ﴾ الخير مُعَجَّل أما الشر فمؤجَّل ـ فالإنسان الذي ينوي الشر ، يطلب الشر فلا يحقق ، يؤخَّر ، يؤخر ، إلى أن يُصِرَّ عليه ، عندئذٍ يكون إخراجه أفضل من كبته ، أما إذا طلب الخير مباشرةً فيهديه الله إلى طريق الخير ، لذلك الآية الكريمة :

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ﴾

[ سورة العنكبوت ]

(( عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً . ))

[ البخاري  ]

(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ ، فَقَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ ؟ ))

[ أحمد ]

﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ﴾ أي تعجيلهم بالخير ، أي أن الله عزَّ وجل إذا سأله العبد خيراً أجابه سريعاً ، فإذا سأله الشر أخَّره إلا أن يصر عليه ، فإذا أصرّ عليه أخرج هذه الشهوة من نفسه ، ثم حاسبه عليها ، لو فعل الله ذلك ﴿ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ الحكمة تقتضي ﴿ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ، الآية التي تدعمها : 

﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)  ﴾

[ سورة طه ]

 الله عزَّ وجل سبقت منه كلمة أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا عمراً محدوداً لا يقلّ ، وسبقت منه كلمة أن تكون الحياة الدنيا تجسيداً لنوايا الإنسان ، لولا هاتان الكلمتان ﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا - إهلاكهم - وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129) ﴾ أي  إن الله سبحانه وتعالى سبقت منه كلمةٌ أن تكون الدنيا تجسيداً لنفس الإنسان ، والأجل المسمى ، لولا هاتان الكلمتان لأهلك الله العصاة ، فالإنسان لا يتدخل في شؤون الله عزَّ وجل ، إذا كان له صديق فاجرٌ فلا يقل : لماذا لا يقصمه الله ؟ لماذا لا يهلكه ؟ هذا تدخل بشؤون الله عزَّ وجل ، " رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده " إن هذا الأمر ليس لك ، فهو له إله يعرف ، وحكيم عليم ، وليس كلما رأيت عاصياً تقول : لماذا لا يهلكه الله ؟ لماذا تركه حياً إلى الآن ؟ أنت ألم تكن جاهلاً سابقاً ؟ لو أن الله أهلك الإنسان بجهله لكان مصيره جهنم ، الله حلم عليك ، واهتديت ، وعرفته ، واستقمت ، والآن يحلم على غيرك ، هكذا الأصول ، فالإنسان لا يطلب تعجيل العقاب للأشرار ، لله حكمةٌ بالغة في مدّهم بالحياة .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور