- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (010)سورة يونس
الحمد لله العالمين ، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أشد الناس ظلماً من افترى على الله كذباً :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي في سورة يونس إلى قوله تعالى :
كلمة أظلم اسم تفضيل ، أي الأشد ظُلْمَاً ، أي هناك ظالمٌ وهناك أظلم ، من هو الأظلم ؟ من هو الأشد ظلماً ؟ من هو الأكبر ظلماً ؟ من هو الأكثر ظلماً ؟ قال : الذي يفتري على الله الكذب ، الذي يشرِّع من تلقاء نفسه ، الذي يقول : قال الله ولم يقل الله ، الذي يحرِّف ، الذي يزوِّر ، الذي يؤوِّل تأويلات تغطي انحرافاته ، هذا الذي يفتري على الله الكذب ، هذا الذي يضع حديثاً لا أصل له ، أو هذا الذي يأتي بتأويل لا أصل له ، أو هذا الذي يجر الآيات كي تتوافق مع انحرافاته هذا الذي يفتري على الله الكذب ، إنه الأشد ظلماً ، والأعظم ظلماً ، ظلماً لمن ؟ لنفسه أولاً ، وللناس ثانياً .
الافتراء على الله عزَّ وجل سواء بتأويل آياته تأويلاً غير صحيح ، أو الافتراء على النبي عليه الصلاة والسلام بأنه قال ولم يقل ، أو بتوجيه الآيات والأحاديث توجيهاً مغايراً للحقيقة ، هذا الذي يفتري على الله الكذب هو الأشد ظلماً .
كمال التوحيد ألا ترى مع الله أحداً :
ومما جاء في الآثار القدسية في الكتب السماوية السابقة :
﴿ مِنْ دُونِهِ
كمال التوحيد ألا ترى مع الله أحداً .
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ
﴿
هذا هو التوحيد ألا ترى مع الله أحداً ..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
﴿
﴿
(( عن عبد الله بن عباس : كنتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومًا قال يا غلامُ ، إني أعلِّمُك كلماتٍ : احفَظِ اللهَ يحفَظْك ، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك ، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك ،
إذا تيقَّنْتَ أن أمورك كلها بيد الله ، أنا أقول : كلها ، أمورك كلها لا بعضٌ منها ، لقوله تعالى :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
ما أسخف هؤلاء ! ما أحمقهم ! ما أشد غباءهم ! ما أضلهم ! ما أبعدهم عن الصواب!
يروي التاريخ أن أحد التابعين عاصر أحد الولاة من قبل يزيد بن عبد الملك ، فجاء هذا الواليَ أمرٌ لا يرضي الله عزَّ وجل ، فاستشار هذا التابعي فقال له كلمة ، قال له : إن الله عزَّ وجل يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله .
أحد الولاة في عهد سيدنا عمر كتب إلى عمر بن الخطاب أن إنّ أُناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم ، لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسَّهم بالعذاب ، فإن أذنت لي فعلت ، فأجابه سيدنا عمر : سبحان الله ! .. متعجباً .. أتستأذنني في تعذيب بشر ؟ وهل أنا لك حصنٌ من عذاب الله ؟! وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله ؟ أقم عليهم البيِّنة ، فإن قامت فخذهم بالبينة ، ثم ادعهم إلى الإقرار ، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم ، فإن أنكروا فادعوهم لحلف اليمين ، فإن حلفوا فأطلق سراحهم ، وايم الله لأن يلقوا الله بخياناتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم .
يروي التاريخ أن في عهد عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر جفَّت مياه النيل ، والمصريون القدامى كان إذا جَفَّ نهر النيل ألقوا فيه فتاةً في ريعان الصبا حتى يرضى ، ويفيض عليهم بمائه ، فلما جف تكلَّم الناس في موضوع إلقاء فتاةٍ فيه بحسب تقاليدهم السابقة ، سيدنا عمرو بن العاص رأى هذا مخالفاً للشرع ، وتحت ضغطٍ شديد قال : سأستشير أمير المؤمنين ، فلما استشاره بعث إليه سيدنا عمر بالرسالة التالية قال : من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر – إلى النيل رأساً - يا نيل ، إن كنت أنت تجري فلا تجرِ ، وإذا كان الله يجريك فسوف تفيض ، وبعد هذه الرقعة فاض النيل – توحيد - وفعلاً بعد أيام هطلت الأمطار الشديدة ، وفاض نهر النيل ، أي الدين كله توحيد ..
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ
الافتراء على الله عز وجل :
شيء آخر ؛ رد عليهم الله سبحانه وتعالى :
﴿
هذا اختلاقٌ من عندكم ، هذا افتراءٌ على الله سبحانه وتعالى .
من معاني قوله تعالى : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً :
1 ـ الناس أمة واحدة لا فواصل بينهم :
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾
لولا أن فرعون يملك إمكانية الهدى لما أرسل الله له موسى ، هل أرسل موسى تمثيلاً ؟ حاشا لله ، أرسله لأن فرعون يملك إمكانية الهدى ، الناس جميعاً أمةً واحدة ، بمعنى أن بنيتهم النفسية واحدة ، استعداداتهم واحدة ، إمكاناتهم واحدة ، فطرتهم واحدة ، قوانينهم النفسية واحدة ، جُبِلت النفوس على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
وَ ..
﴿
هذه بنيته ، يخاف ، يقلق ، يحب الخير ، يحب السلامة ، يحب المحسن ، يحب العدالة ، وإن لم يكن عادلاً ، يحب الطهارة ، وإن لم يكن طاهراً ، حتى المنحرفون ، حتى اللصوص إذا اقتسموا الغنائم يقتسمونها فيما بينهم بالعدل ، لأن فطرتهم هكذا ، فربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
لذلك لا يوجد فواصل بين الأمم والشعوب ..
﴿
هذا المعنى الأول من معاني :
2 ـ الناس جميعاً مدعوون للإيمان بالله عزَّ وجل :
المعنى الآخر أن الناس جميعاً مدعوُّون للإيمان بالله عزَّ وجل ، قال :
﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ
﴿
خلقهم ليرحمهم ، ورحمة الله مبذولةٌ لكل الناس ، بقي علينا أن نكون أهلاً لها ، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك .
الأهواء فرقت الناس إلى شيع وطوائف :
ما الذي فرَّق الناس شيعاً ؟ وفرَّقهم أحزاباً ؟ وفرقهم قبائل ؟ وفرقهم تجمُّعات ؟ تجمعات عرقية ، وتجمعات إقليمية ، وتجمعات مذهبية ، وتجمعات بحسب العمل والمِهَن والطبقية ، من الذي فرقهم ؟ قال:
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
ما الذي فرق بينهم ؟ الأهواء ، هؤلاء انغمسوا في الخمور ، هؤلاء انغمسوا في كسب المال الحرام ، هؤلاء انغمسوا في مباهج الدنيا الرخيصة ، الانغماس في الدنيا جعلهم هكذا .
الخطأ في العقيدة خطير جداً :
أحياناً يكون عشرة أشخاص على وشك الموت عطشاً ، واحد توهَّم النبع في هذا المكان ، وآخر توهمه في هذا المكان ، وثالث توهمه في هذا المكان ، ورابع أنكر وجود النبع ، وهناك نبعٌ واحد في مكان محدد ، الذي تطابق اعتقاده مع الحقيقة هو الذي ينجو ، وما سوى ذلك يهلك ، وفي وقتٍ محدود تعرف صدق هؤلاء العشرة ، هذا الذي ادّعى أنْ ليس هناك نبع ، وكان هناك نبع خسر حياته ، وهذا الذي ادّعى أن النبع في هذه الجهة ، ولم يكن في هذه الجهة خسر حياته وخسر آخرته ، وهذا حال الناس اليوم ، كل يزعم أن السعادة في هذه الجهة ، بعضهم يراها في المال ، يكتشف بعد فوات الأوان أن المال شيء ، ولكنه ليس كل شيء ، بعضهم يرى السعادة في العلو في الأرض ، يكتشف بعد فوات الأوان أن العلو في الأرض شيء ولكنه ليس كل شيء .
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره ، منهم البراء بن مالك . ))
إذاً :
(( عن عبد الله بن عمر: يا بنَ عمرَ ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ و دمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا ، و لا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا . ))
وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقِرُّ لهم بذاكا
***
فالواحد ينظر إلى قيمه ومعتقداته ، عقيدته صحيحة أم لا ؟ هل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ، خلق شقيهم شقياً من الأزل ، وسعيدهم سعيداً من الأزل ، وانتهى الأمر ، تقول : فيم العمل إذاً ؟ العمل صار تضييع وقت ، هذه عقيدة خطيرة جداً ، هل تعتقد أن الله خلق الكافر كافراً وليس هناك أي تعديل ؟ لماذا أرسل موسى إلى فرعون ؟ أرسله تمثيلاً ؟ فالإنسان يمتحن عقيدته ، الخطأ في العقيدة خطير جداً .
﴿
يمتحن ظنه بالله عزَّ وجل .
النفس تطبِّق أمر الله عزَّ وجل في كل زمانٍ ومكان :
ثم إن ربنا عزَّ وجل قال :
﴿
هل يقينك بأن أسماء الله حسنى كلها ؟ أين الدليل ؟ ماذا تعرف عن أسماء الله عزَّ وجل ؟ ماذا تعرف عن رحمته ؟ ماذا تعرف عن حكمته ؟ عن لطفه ؟ عن غناه ؟ عن قوته ؟
الكون كله آيات تدل على عظمة الخالق :
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)﴾
جسمك كله آيات ، شعرك آيات ، مئتان وخمسون ألف شعرة ، لكل شعرة شريان ، ووريد ، وعصب ، وعضلة ، وغدة دهنية ، وغدة صبغية ، لكل شعرة .
الدماغ آية ، مئة وأربعون مليار خلية سمراء لم تعرف وظيفتها بعد ، أربعة عشر مليار خلية قشرية تجري فيها المحاكمة ، والتخيل ، والتذكُّر ، وكل النشاط العقلي في هذه الخلايا .
العين مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط يوجد بالشبكية ، العصب البصري أربعمئة ألف عصب ، الأذن ، اللسان ، المعدة ، في كل سنتيمتر مربع يوجد ثمانمئة عصارة هاضمة ، مجموع هذه العصارات تفرز لتراً ونصفاً من العصارة الهاضمة في كل وجبة طعام ، والمعدة لا تهضم نفسها ، وحتى هذا التاريخ هناك سؤال كبير : كيف لا تهضم المعدة نفسها ؟ فأنت تأكل اللحم وتهضمها وهي من لحم ، الجهاز الهضمي ، البنكرياس ، الكبد .
بعضهم قال : الكبد خمسة آلاف وظيفة ، لا يستطيع الإنسان أن يعيش من دون كبد أكثر من ثلاث ساعات ، والكبد يستطيع ترميم أي جزءٍ يقتطع منه في أسابيع ، الكبد آية ، مخبر كيماوي ، مخزن ، الكبد عنده إمكانات يحول الدسم إلى سكر والسكر إلى دسم ، الكبد آية .
الكلية مصفاة عاقلة ، الدم يمر فيها في اليوم الواحد مئة وثمانون لتراً من الدم ، أي برميل بكاملة يمر بالكلية كل يوم ، فيها طريق طوله عشرون كيلو متراً ، يمر فيه الدم بالنهار خمس مرات ، أي أن الدم يمشي في الكلية كل يوم مئة كيلو متر ، تصفي الدم من السموم والسوائل الزائدة ، وتفرز ثلاثة هرمونات ، هرمون مضاد لفقر الدم ، وهرمون ينظم ضغط القلب ، وهرمون ثالث ، فالذين يصابون بالتهاب في الكلاوي يرتفع ضغطهم فجأةً ، والكلية وحدها لو توقفت عن العمل لانقلبت حياة الإنسان جحيماً .
أثر الأسيد أوريك أو البولة في الدم مخيف ، هذا السم إذا زادت نسبته في الدم يشل النشاط العقلي ، يوتر الأعصاب ، يخرج الإنسان عن طوره ، تتراكم السموم ، فلما يفرِّغ الإنسان المثانة يجب أن يشكر الله عزَّ وجل شكراً كبيراً ، ويقول : الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) ﴾
الآيات موجودة ، الشمس آية ، القمر آية ، الجبال آية ، المياه العذبة آية ، الأمطار آية ، البحار آية ، أنواع النباتات آية ، أنواع الأطيار آية ، أنواع الأسماك آية .
الآن ابنك آية ، ابنتك آية ، البنت تمسك الوسادة ، وتضعها على صدرها وهي صغيرة ، بنيتها النفسية أُمّ ، والطفل يركب العصا ، كأنها حصان ويمشي ، بنيته النفسية رجل ، عندما يكبرون تجد أن الصفات قد اختلفت ، خشن صوته ، وبقي صوتها ناعماً ، أي صفات الذكورة عندما تظهر عند البلوغ آية من آيات الله عزَّ وجل ، وصفات الأنوثة حينما تظهر آية من آيات الله ، لذلك :
﴿
لم ينظر لخلقه ، لم ينظر لابنه ، لم ينظر لطعامه ، لم ينظر لشرابه ، لم ينظر إلى السماء والأرض ، ويطلب آيةً فيها خرقٌ للقوانين الأرضية !
﴿
أي حتى يسلكوا الطريق التي رسمها الله عزَّ وجل ، ما لم يسلكوا الطريق التي رسمها الله عزَّ وجل فلن يستطيعوا أن يؤمنوا بآيات الله ، فهؤلاء على الرغم من الآيات التي بثَّها الله سبحانه وتعالى ..
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾
الإبل تعيش في الصحراء ، عندها جفن إذا أطبقته ترى طريقها ، ويمنع الجفن رمال الصحراء الدقيقة من أن تؤذي عينيها – الناقة- ، ولها مستودعٌ يكفيها شهراً ، لو أنها لم تأكل شهراً ثلاثين يوماً بأكملها لكان مستودع الغذاء الذي وضعه الله في سنامها يكفيها عن الطعام والشراب شهراً ، وعندها خزَّانات للمياه تكفيها عشرة أيام ، تستطيع الناقة أن تمتنع عن شرب الماء عشرة أيام بكاملها ، وجعل لها خفاً لا يغوص في الرمال ، يتناسب مع الرمال ، وجعل لها جلوساً نظامياً كي يسهل تحميلها ، جعل لها ثفينات ، ثفنة في بطنها ، وثفينات في أرجلها وأيديها ، إذا جلست يستطيع صاحبها أن يحمِّلها ، لو أنها تجلس كما يجلس الحصان على جنبه كيف يحملها ؟ إذاً :
﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾
ألم ينظروا إلى النحل ؟ هذا المخلوق الضعيف الذي يصنع لك شراباً لذيذاً ، شافياً ، مفيداً ، من منا يصدق أن كيلو العسل محصلة طيران أربعمئة ألف كيلو متر ؟ لو كلفنا نحلةً واحدة أن تصنع كيلو من العسل لكلفها أن تطير أربعمئة ألف كيلو متر ، أي حول قطر الأرض عشر مرات ، كيف تختار النحلة رحيق الأزهار ؟ قال :
(( عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده إن مثل المؤمن كمثل النحلة ، أكلت طيباً ووضعت طيباً ، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد . ))
لطيفة ، وإذا رحلت عن هذه الزهرة تركت رسالةً لأختها ، هذه الزهرة قد مصصتُ رحيقها فلا تتعبي نفسكِ بها ، من أعطى هذه المملكة نظامها ؟ عاملات حارسات يقفن على أبواب الخلايا ، فإذا جاءت نحلةٌ من غير هذه الخلية قتلنها ، أو تقول كلمة السر ، فإذا قالت كلمة السر دخلت ، من علَّمها هذا ؟ نحلاتٌ منظِّفات ينظفن الخلية ، فإذا عثرن على جسمٍ أو على حشرةٍ كبيرةٍ لا يستطعن نقلها غلَّفنها بمادةٍ شمعية ، لئلا تفوح منها رائحتها النتنة ، من علم النحل ذلك ؟ الله سبحانه وتعالى ، نحلاتٌ مهمتهن تهوية الخلية ، فإذا كان الوقت شتاءً أغلقن أبواب الخلية بأجنحتها ، وإذا كان الوقت صيفاً فعلن بالأجنحة هكذا فنشأ تيارٌ في جو الخلية رطّب الجو .
من علَّم النحلة أن ترقص لأخواتها رقصةً تعبِّر بها عن بعد الزهر عن الخلية ؟ هناك رقصة تشعر أن الزهر قريب ، وهناك رقصة كأنها تقول للنحلات : استعدوا لسفرٍ طويل ، إذا كانت المسافة عشرين كيلومتراً فما فوق لها رقصة دائرية ، وإذا كان ربع دورة معنى ذلك أن الزهر قريب من الخلية ، من علَّم هذه النحلات ؟ من علم النحلات صنع البيوت السداسية المنتظمة التي يعجز المهندسون عن رسمها فكيف عن صنعها ؟ هناك نحلات وصيفات مهمتها تأمين طعام الملكة ، هناك ملكة ، فإذا جاءت الخلية ملكةٌ أخرى قتلت لأن القيادة يجب أن تكون بيد واحد ، أي أشياء وأشياء عن النحل ، النحل آية من آيات الله .
النمل .. النمل إذا خرج من وكره ، وسار ورأى في الطريق طعاماً يبث رسائل كيميائية في الطريق ، أي أنه يضع نقطة فيها رائحة بحيث أن النملات الأخريات خلال دقائق يسرن على الخط نفسه ، هناك رائحة تجذب النملات إلى الطعام ، وهناك رائحة تنفِّر النملات من المجيء ، إذا وجدت خطراً أو ماء أو شيئاً مخيفاً تعطي إشارات كيمائية معاكسة ، من علم النملة ذلك ؟
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
النمل آية ، النحل آية ، الفراش آية .
دود القز وحده آية ، تصنع خيطاً لا تستطيع الآلات الحديثة حتى الآن صنع خيوط بهذه ٍالنعومة ، وبهذا القطر الرفيع ، حرير .
كأس الحليب آية ، البيضة آية ، الدجاج ، البقر ، الجمل ، أنت محاط بالآيات ومع ذلك :
معاني قوله تعالى : فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ :
المعنى الثاني : أنه إذا أنزل الله عليكم آية ، الله وحده يعرف ما إذا كنتم تؤمنون أو لا تؤمنون ، علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، لم تنزَّل عليهم آية ، الله وحده يعلم لو أنزلها عليهم ماذا يفعلون .
الله عز وجل بيده كل شيء :
حدثني أخ كريم ، رجل عنده محل تجاري له ولإخوته الثلاث ، لكنه أكبرهم ، وقد وضع يده على هذا المحل ، جاءه مرض عضال ، نوبةٌ قلبيةٌ حادة كان على مشارف الموت ، ماذا فعل ؟ طلب آلة تسجيل ، وقال وهو يظن أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة : إن هذا المحل ليس لي ، إنه لأخي فلان وأخي فلان وأخي فلان ، خاف ، فلما زالت عنه هذه النوبة ، طلب هذا الشريط وأخفاه ، وتابع العمل في المحل ، ثم طوَّب المحل لنفسه وحدها ، ووافته المنية بعد ثمانية أشهر ، مات مغتصباً ، أي الإنسان أحياناً إذا شعر بدنو أجله يخاف ، فإذا رفع الله عنه الخوف عاد لمنكر ، عاد ليظلم ، عاد ليأخذ ما ليس له
مرة قاضٍ أراد أن يحكم لفلان ظلماً على فلان ، وصار الشيء بحكم المقرر ، وقف على قوس القضاء ، فإذا ألمٍ في المعدة شديد أخذ على إثره إلى المستشفى ، أين الحكم ؟ الدعوى تأجَّلت ، جاء قاض آخر فحكم بالعدل .
إذاً :
(( عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَدَّ غَدًا مِنْ أَجَلِهِ فَقَدْ أَسَاءَ صُحْبَةَ الْمَوْت . ))
إحصاء الله عز وجل على كل إنسان أنفاسه وحركاته وسكناته :
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
ماذا يفعل ؟ هو الفرق فرق علم وجهل فقط ، إما أن تعلم فتنضبط ، وإما ألا تعلم وسوف تعلم بعد فوات الأوان .
تحرك الإنسان وفق خواطر عدة :
﴿
انظر إلى الموقف اللئيم ، وهو على ظهر السفينة ، والسفينة كريشةٍ في مهبِّ الريح ، والأمواج تتلاعب بها ، والحياة أصبحت على وشك النهاية ، يا رب ، يا رب
بغي الإنسان واقع عليه وليس على من يظلمه :
ربنا عزَّ وجل قال :
الآية الأخيرة :
متاع الحياة الدنيا قليل :
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾
يتلو هذه الآية ويجلس
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين