- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (010)سورة يونس
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم ، على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإعجاز من الحروف المقطعة في القرآن الكريم :
في سورة يونس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة ، بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)﴾
﴿ الم (1) ﴾
﴿
﴿ كهيعص (1) ﴾
﴿ حم (1) ﴾
﴿
هذه الحروف سمَّاها بعض المفسِّرين : فواتح السوَر ، وقال بعضهم الآخر : الله أعلم بمراده ، وقد روي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الحروف : " إنها أوائل أسماء الله الحُسنى " ، وقد روي عنه رضي الله عنه تفسير هذه الحروف الثلاثة :
﴿
﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) ﴾
﴿ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) ﴾
على كل وهناك رأيٌّ رابع أو خامس وهو أن القرآن الكريم المُعْجِز الذي تحدَّى الله به بني البشر ..
﴿
هناك آياتٌ بهذا المعنى توضِّح أن الإنس والجنَّ قاطبةً لا يستطيعون أن يأتوا بآيةٍ من آيات الله عزَّ وجل ، فلذلك من جنس هذه الحروف ، كيف أن التراب بين أيدينا منه تخرُج النباتات كلُّها ، التفاح ، لو اجتمع الإنس والجن على أن يأخذوا تراباً ليصنعوا منه فاكهةً لا يستطيعون ، فهناك إعجاز ، التراب موجود ، والماء موجود ، هذا الحشيش الذي تأكله البقرة يُصنع منه لبن سائغ للشاربين ، هذه كلها آيات الله عزَّ وجل ، المواد الأوليَّة موجودة ، ولكن الإعجاز في خلقها ، في تكوينها ، في صنعها ، كذلك قال بعضهم : إن هذا القرآن الكريم المُعْجِز هو من حروفٍ نعرفها جميعاً ؛ ألف ، باء ، تاء ، ثاء ، جيم ، حاء ، خاء .. ثمانية وعشرون حرفاً ، رُكِّبت آيات هذا الكتاب من هذه الحروف ، والله سبحانه وتعالى كما قلت قبل قليل : تحدَّى البشر إنساً وجنّاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن ..
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
أنواع الإعجاز :
قد سمعت أن هناك من لَقَّمَ آيات القرآن الكريم لحاسب إليكتروني آيةً آيةً ، حرفاً حرفاً ، فوجد أن كل سورةْ تبدأ بحروفٍ مثل هذه الحروف لو أحصيت حروف هذه السورة لوجدت أن أكثر حرفٍ تكرَّر فيها هو الألف ، ثم اللام ، ثم الراء ، وفي سورة
وهناك إعجازٌ بلاغي
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ﴾
الحروف في القرآن الكريم رموز يتحرك بها الذهن :
إنَّ هذه الحروف جعلها الله رموزاً كي يتحرَّك هذا الذهن ، الوضوح الشديد يفقد الحافز لفهم الكتاب ، لكن هذه الرموز لعلَّ الإنسان يُستثار بها فيتَّجه إلى تفسيرها ،
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
الأحوال الطيبة في النفس نتيجة الاتصال بالرسول الكريم :
هذه الأحوال الطيّبة التي تنشأ في النفس من اتصالك برسول الله صلى الله عليه وسلَّم حيَّاً أو ميتاً ، هذه الأحوال الطيّبة ، هذا الشعور بالسعادة ، هذا الشعور بالقُرب من الله عزَّ وجل ، هذا الإحساس بالطمأنينة يكون عندما تذكر النبي عليه الصلاة والسلام ، لذلك :
﴿
صلاة التجلّي ، أي أن قلب النبي عليه الصلاة والسلام مهبطٌ لتجلّيات الله عزَّ وجل ،
(( عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إذا سمعتم المؤذنَ فقولوا مثلَ ما يقولُ ثم صلُّوا عليَّ فإنَّهُ من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهِ عليْهِ عشرًا ثم سَلُوا اللهَ ليَ الوسيلةَ فإنَّها منزلةٌ في الجنةِ لا تنبغي إلا لعبدٍ من عبادِ اللهِ وأرجو أن أكونَ أنا هو فمن سأل اللهَ ليَ الوسيلةَ حلَّتْ عليْهِ الشفاعةُ . ))
النبي عليه الصلاة والسلام أحمدُ الخَلقِ وأرحمُهم :
إذاً لمعرفته الشديدة بفضل الله كان أحمدَ الخلق ، ولأنه كان أحمدَ الخلق كان أَشَدّهم صلةً بالله عزَّ وجل ، ولأنه كان أشدّهم صلةً بالله عزَّ وجل كان ألطفهم في نقل العبادِ من أحوالهم العادية إلى أحوال القُرب والتجلي ، لذلك أحياناً الإنسان على شكل مصغر جداً جداً إذا حضر مجلس علم ، وكان هناك إخلاص ، وليس هناك دنيا ، تحفُّ به الملائكة ، يقول لك : ارتاح قلبي ، شعرت بسعادة ، هذا نموذج مصغَّر مليار مرَّة ، ألف مليار ، إذا حضرت مجلس علم ، وكان فيه إخلاصٌ من الطرفين ، من المتكلِّم والمستمع ، التجليات تهبط على هذا المجلس ..
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ . ))
فكيف لو أُتيح لك أن تجلس في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام ؟
(( عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا – نأتي إلى البيت ، من حديث إلى حديث ، ومن مشكلة إلى مشكلة ، هذه الأحوال الطيبة التي عشناها في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام تضيع منا ، فظن حنظلة أنها نفاقاً - قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا – نزل إلى مستواه - فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . ))
هذا تعريف النبوَّة ، النبوَّة إقبالٌ دائمٌ على الله ، وما دام الإنسان على الله مقبلاً دائماً فهو بنوره مستنير ، أنَّى له أن يغلط ؟
الأنبياء معصومون :
لذلك من هنا كانت عصمة الأنبياء ، الأنبياء معصومون ، وأي امرئٍ ينسب إلى نبيٍّ من الأنبياء غلطاً أو خطيئةً فقد جهل معنى العصمة ..
﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾
فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ....أما نحن معاشر الأنبياء فتنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة .... ))
يفهم الناس الجهلاء هذا الكلام ساعة طاعة ، وساعة معصية ، أعوذ بالله ، ساعة إقبال وساعة فتور ، النبي الكريم بإقباله العالي على الله سبحانه وتعالى شفَّت نفسه فأصبح يرى ما لا يراه الناس ، ويسمع ما لا يسمعون .
لو ارتقت نفسك لرأيت أن هذه الوردة سخَّرها الله سبحانه وتعالى إكراماً للإنسان ، إذاً :
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدل على أنه واحد
***
فالإيمان كلَّما ارتقى بالإنسان كشف عن بصيرته ، وصار بصره حادَّاً ، لكن يوم القيامة كل إنسانٍ يملك هذا البصر الحاد ، ولكن متى ؟ بعد فوات الأوان .
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ﴾
بطولة الإنسان أن يرى الحقيقة قبل فوات الأوان :
رأيت الحقيقة ، ولكن بعد فوات الأوان ، ولا تنفع في هذه الساعة رؤية الحقيقة ، والبطولة أن ترى الحقيقة قبل أن يفوت الأوان ، أن ترى الحقيقة وأنت في الدنيا ، تستطيع أن تتوب من ذنوبك ، تستطيع أن تتقرَّب إلى ربك ، البطولة أن ترى الحقيقة وأنت في الدنيا ، تتعرَّف إلى خالقك ، تقرأ كتابه ، تفهم آياته ، تستقيم على أمره ، تُجالس أهل الحق ، تدعو إلى الله سبحانه وتعالى ، تذكر الله كثيراً ، هذه البطولة ، لكن إذا جاء الموت ، فرعون عرفه..
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
قال له :
﴿
أحياناً الطالب يأتيه في الامتحان سؤالٌ لا يُجيب عنه إطلاقاً ، الورقة بيضاء ، يذهب إلى البيت ، يفتح الكتاب فيعرف جواب السؤال ، ولكن متى ؟ بعد فوات الأوان ، الورقة قُدِّمَت بيضاء وسوف تنال علامة الصفر ، فإذا عرفت الآن جواب السؤال نسخر منك ، نقول لك : بعد فوات الأوان ، فهذا كله عن معنى اللطيف ، النبي عليه الصلاة والسلام إذا أحببته ، إذا صلَّيت عليه ، إذا ذكرت أخلاقه ، إذا تعلَّق قلبك به ، يرقى بك إلى الله بلطف من دون أن تشعر ، وأما الراء ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أرحم بالخلق من النبي عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك قال الله في حقِّه :
﴿
﴿
الرحمة كلُّها عند الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو أرحم الخلق بالخلق أُوتي رحمةً من هذه الرحمة .
الكون كلُّه آياتٌ تدلّ على عظمة الله :
الآيات جمع آية ، والآية العلامة الدالَّة . في حياتنا علاماتٌ كثيرة ، علاماتٌ تدلُّ على المرض ، علاماتٌ تدلُّ على الصحَّة ، علاماتٌ تدل على عظمة الله سبحانه وتعالى ، فالجبال من آيات الله ، والشمس والقمر من آيات الله ، والمجرَّات من آيات الله ، والنجوم في كبد السماء من آيات الله ، والمسافات بين النجوم من آيات الله ، وخلق الإنسان من آيات الله ، والماء من آيات الله ، والهواء من آيات الله ، وابنك الصغير الذي يلعب في البيت من آيات الله..
﴿
﴿
فالآية هي العلامة الدالَّة على شيء ، فالكون كلُّه آياتٌ تدلّ على عظمة الله ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ﴾
وكتاب الله سبحانه وتعالى آياتٌ دالّةٌ على عظمته ، وعلى حكمته ، وعلى قدرته ، وعلى رحمته ، وعلى علمه ، وعلى تشريعه ، وعلى الحلال والحرام ، والحق والباطل ، والخير والشر ، وما يجوز وما لا يجوز ، وعلى سنن الله في خلقه ، وعلى العِبَرِ المستنبطة من التاريخ ..
آيات الله تدل على حكمته ورحمته ولطفه :
﴿
لو أنَّ الله سبحانه وتعالى قال : قل للمؤمنين يحفظوا فروجهم ويغضّوا من أبصارهم ، هناك معنى خطير تلاشى ، وهو أن طريق حفظ الفرج غض البصر ، لذلك قدَّم غضَّ البصر على حفظ الفرج ، فالتقديم آية ، والتأخير آية ، والإيجاز آية ، والإطناب آية ، والسكوت عن الشيء آية ، إذا سكت القرآن عن شيء فسكوته آية ، لأن هذا الشيء متبدِّل ، ومتغيّر ، ومتطور ، ولا علاقة له بإقبال النفس على خالقها ، إذاً سكت عنها .
إن الله أمركم بأشياء ، ونهاكم عن أشياء ، وسكت عن أشياء رحمةً بكم ، فالشيء الذي ذكره الله آية ، والشيء الذي سكت الله عنه آيةٌ على حكمته ، وعلى رحمته ، وعلى لطفه ، وعلى رأفته بالعباد ..
كتاب الله منهج للخلق :
أما :
بشكلٍ أو بآخر آلة معقَّدة جداً ، مع هذه الآية نشرة استعمال بكل اللغات ، فمتى طبَّقت ما في هذه النشرة ضمنت سلامة الآلة ، وضمنت قيامها على أحسن وجه ، وضمنت لها أعلى مردود ، وأقل جهد ، وأقل نفقات ، ضمنت سلامتها من كل شيء ، فإذا ضربت بهذه النشرة عُرض الحائط عطبت الآلة ، وخسرتها ، وخسرت ثمنها ووظيفتها .
فآيات الكتاب ، هذا الكتاب منهج الله في خلقه ، سواءٌ أكان معنى الكتاب جميع الكُتُب السماويَّة ، أو كان معنى الكتاب القرآن الكريم وحده ، فكلاهما يدل على أن هذا المنهج منهج الإنسان في الحياة ، وهو كتابه المقرَّر ، أي ما قولكم بطالبٍ جامعي على مشارف التخرُّج ، وبقيت عليه مادَّةٌ أساسيَّة إذا نجح فيها تخرَّج من الجامعة ، وإذا تخرَّج دخل في وظيفةٍ راقية ، وإن دخل في هذه الوظيفة الراقية كان له دخلٌ كبير أتاح له أن يتزوج ، وأن يبني أسرةً ، وأن يفعل ما يفعل ، فإذا كان قبل الامتحان بيومين ، وبدأ يقرأ قصصاً لا علاقة لها بالكتاب المقرر ألا يُعدُّ هذا الطالب غبيَّاً ؟ يقول لك : هذه الكتب قيّمة ، هذه قصص ممتعة ، للمؤلِّف الفلاني ، نقول لك : عندك كتاب مقرَّر إذا قرأته وفهمته تخرَّجت في الجامعة ، وضمنت مستقبلك .
كذلك الإنسان في الدنيا ، أي كتابٍ تقرؤه ، أي شيءٍ تُطالِعَه إن لم يكن له علاقةٌ بالقرآن الكريم ، أو بمنهجك في الحياة فهو ضياعٌ للوقت ، لذلك :
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ دخلَ المسجدَ ، فَرأى جَمْعًا مِنَ الناسِ على رجلٍ ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا رسولَ اللهِ رجلٌ عَلامَةٌ ، قال : وما العَلامَةُ ؟ قال : أعلمُ الناسِ بِأنْسابِ العَرَبِ ، وأعلمُ الناسِ بِعَرَبِيَّةٍ ، وأعلمُ الناسِ بِشَعْرٍ ، وأعلمُ الناسِ بِما اخْتَلَفَ فيهِ العَرَبُ . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : هذا عِلْمٌ لا يَنْفَعُ ، وجَهْلٌ لا يَضُرُّ. ))
بلا فائدة ، تعلَّم كتاب الله ، فيه الحق والباطل ، فيه طريق الخير ، طريق السعادة ، طريق النجاة في الدنيا والآخرة .
معاني اسم الله تعالى الحكيم :
إذاً :
القرآن يوجِّه النفوس إلى طريق سعادتها ، لذلك في السورة الواحدة ترى آيات كونيَّة ، وترى وصفاً للنار وأهلها ، وترى وصفاً للجنَّة وأهلها ، وترى تبشيراً ، وترى تحذيراً ، وترى قصَّةً ، القصَّة مع الآية مع التحذير مع التبشير مع مشاهد القيامة هذا بمجموعه يحمل النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى .
إذاً : حكيم ، صياغته حكيمة ، موضوعاته حكيمة ، تنويع موضوعاته حكيمة ، عمق موضوعاته حكيمة ، حجم موضوعاته حكيمة ، لو كان القرآن عشرة آلاف صفحة لم يكن حكيماً ، أي فوق طاقة الإنسان ليقرأه ويستوعبه ، جعله موجزاً ، جعله بليغاً ، فيه من كل علمٍ طرف ، فيه أصول العلوم كلها ، أصولها لا تفصيلاتها ، فيه مناهج السعادة ، الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ، حكيم ، حكيم في موضوعاته ، حكيم في حجم موضوعاته ، حكيم في عددها ، حكيم في تنوُّعها ، حكيم في صياغتها ، أي أن الله عزَّ وجل يصوغ الآيات صياغات حكيمة جداً ..
﴿
قصَّة ، لكن الله سبحانه وتعالى ترك القصَّة وعَقَّبَ عليها بتعقيبٍ يشبه أن يكون قانوناً :
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
يقرأ الآية مؤمن واقع في أزمة ، خائف من جهة ، عنده مشكلة ، يمكر به بعض الناس ، يقرأ هذه الآية فيصبح قلبه مطمئناً لحفظ الله سبحانه وتعالى ولتوفيقه ، قال :
﴿
حكيم .
﴿
إلى هذا المكان ، لو أن إنساناً في هذا العصر قرأ هذه الآية لقال : الآن يوجد طائرات حديثة ، يوجد طائرات أسرع من الصوت ، تركب الطائرة الساعة الثامنة وأنت في لندن تكون في الساعة العاشرة في واشنطن ، تَعْبُر المحيط الأطلسي في ساعتين ، ربنا عزَّ وجل قال :
من معاني الحكيم أيضاً أنه مُحْكَم ، معنى محكم أي لا خلل فيه ، ولا نقص ، ولا تناقض ، بمعنى أي كتاب لبني البشر إذا قرأته قراءةً واعية سرعان ما تكشف التناقض ، أو تكشف الخلل ، أحياناً المؤلِّف يوسع في فصل توسيعاً شديداً جداً ، ويوجز في فصل ، معنى هذا أن معلوماته في هذا الموضوع واسعة ، وفي هذا الموضوع ضعيفة ، الكتاب غير متوازن ، هناك فصل موسَّع جداً وفصل ضيّق ، إذاً هو غير حكيم ، لكن قوله تعالى :
﴿
من معاني الإحكام أيضاً الترابط ، بعضهم قال لجهله الفاضح : ليس بين آيات القرآن ترابط . هذا جهلٌ فاضح ، ما من آيةٍ إلا وآخذةٌ بعنق أختها ، وكأنَّ السورة عِقْدٌ منظوم ، لكن كتاب الله يحتاج إلى نفسٍ طاهرةٍ كي تَعِيَه ..
﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) ﴾
من معاني هذه الآية : المُطَهَّر يفهم كتاب الله .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
الترابط بين آيات القرآن الكريم وكلماته وحروفه :
البعيد عن الله سبحانه وتعالى ، المتلبِّس بالمعصية ، من كان قلبه نجساً يقرأ القرآن فلا يفهم منه شيئاً ، يراه متناقضاً ، يراه غير منتظم ، غير مترابط ، لكن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) ﴾
هنا
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) ﴾
هذه ثم وهذه الفاء ، تنويع ؟ هذا عمل الإنسان ، يقول لك : نَوِّع ، ثم ، ثم تكرار ، ضع مرَّة ثم ومرَّة الفاء ، أي أستاذ الإنشاء أستاذ التعبير إذا شاهد في الموضوع تكراراً يضع خطوطاً حمراء ، ويقول لك : هذه تكرار ، والتكرار يُضعِف الموضوع ، نوِّع ، فلمَّا قال ربنا :
﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) ﴾
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ﴾
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) ﴾
يوجد سورة واحدة :
﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) ﴾
ما علاقة هذه ؟ هذه في المعاملات ، قال بعض المفسرين : إذا كان التطفيف بحق إنسانٍ يقتضي الهلاك فكيف التطفيف بحق الله سبحانه وتعالى ؟ هناك تناسب في الآيات ، في الحروف ، في الكلمات ، في السور ، هذه من معاني الحكيم المترابط ، من معاني الحكيم كما قلت قبل قليل : أي الذي لا خلل فيه ، ولا غلط ، ولا رَيْب ، ولا نسيان ، ولا ضعف ، ولا تناقض ، ولا تضارب بين الآيات .
معان أخرى من معاني الحكيم :
من معاني الحكيم الذي أَحْكَمَ فيه الله سبحانه وتعالى الحق والباطل ، والخير والشر ، والحلال والحرام ، وما يجوز وما لا يجوز ، هذه الآيات حكمت على هذا الشيء بأنه حق وهذا باطل ، لذلك :
﴿
ليس هناك أيّ مناقشة إطلاقاً ، لا يجوز البحث في هذا الموضوع ، لأن الله سبحانه وتعالى قضى في الربا حكمه ، حكيم ، إما أن هذا القرآن حكم على شيءٍ بالإباحة ، و شيءٍ بالحرمة ، وشيءٍ بأنه حلال ، وشيءٍ بأنه حرام ، وهذا حق ، وهذا باطل ، وهذا يجوز ، وهذا لا يجوز ، من معاني الحكيم ، أي الحاكم .
الآن هناك كتب تخاطب العقل فقط ، فهي مملَّة ، وكتب تخاطب الوجدان فقط ، ممتعة ، لكن غير نافعة ، الكتب التي تخاطب العقل فقط نافعة غير ممتعة ، جافَّة ، لكن القرآن الكريم فيه تنويع ؛ فيه قصَّة ، فيه صورة ، فيه مشهد ، فيه تاريخ ، فيه آية ، فيه إشارة ، فيه عبارة ، فيه مثَل ، حكيم .
خلقه ، هل يوازَن بين المخلوق والخالق ؟ لا ، إذاً لا يوازَن بين كلام الله وبين كلام خلقه
تعجب الناس من إرسال الله تعالى رسولاً لهم :
﴿
الذين يعجبون أن يُرْسِلَ الله سبحانه وتعالى رسولاً لا يعرفون قدر النبي عليه الصلاة والسلام ،
الأنبياء والرسل من الرجال حتى يكونوا حجة على الناس :
على كل كلمة :
(( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه . ))
لا يمكن أن تقوم الحجَّة إلا إذا كان النبي بشراً .
﴿
(( اللَّهمَّ إنَّما أنا بشَرٌ أغضَبُ كما يغضبُ البشرُ فأيُّما مسلِمٍ سببتُه أو لعنتُه وليسَ لذلِكَ بأَهلٍ فاجعل ذلِكَ لَهُ صلاةً وزَكاةً وقربةً تقرِّبُهُ إليكَ يومَ القيامةِ . ))
أي أنا من طبيعتكم ، لذلك هو الحجَّة علينا ، هذا بشر من طينتكم ، من جبلَّتكم ، من طبيعتكم ، أودعت فيه ما أودعته فيكم ، ومع ذلك استَعَمَل فكره ليعرفني فعرفني ، وجاهد ليعرِّف الناس بي فعرَّفهم بي ، استحقَّ أن يكون نبيَّاً .
الأنبياء والرسل يُرسَلون من أقوامهم وليسوا غرباء عنهم :
لذلك :
﴿
علم فيك الخير فأسمعك ، تعجب تقول :
تعريف الإنذار :
الإنذار لفت النظر لخطر سيقع بعد فَسْحَةٍ من الوقت ، هذا هو الإنذار ..
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ
﴿ لَ
الوعد الذي وعده الله للإنسان من مقعد صدقٍ عنده هذا يعدل الدنيا وما فيها :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
هذا الوعد الذي وعدك الله به من مقعد صدقٍ عنده ، هذا يعدل الدنيا وما فيها ، لذلك إذا قتل أحدنا في أيَّام شدَّة وجود الحشرات المنزليَّة أي ( الناموس ) إذا قتل ناموسة هل لها قيمة عند أحد ؟ هل يحاسبك عليها أحد ؟ هل عليك أي مؤاخذة فيها ؟ لا شأن لها ، إذاً جناحها ؟ قال :
(( عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ . ))
أي أن الدنيا ؛ بمالها ، بنسائها ، ببيوتها ، ببساتينها ، بمتعها ، بشهواتها لو أنها
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين