- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (010)سورة يونس
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
سعادة الإنسان منوطة بتطبيق كتاب الله :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي في سورة يونس إلى قوله تعالى:
الحقيقة أن في الإنسان صفاتٍ عديدة بعضها مقبول ، وبعضها جيد ، وبعضها مرذول ، من صفات الإنسان العقلية المرذولة أن يُكَذِّبَ قبل أن يحيط بالشيء علماً ، أي أن يحكم على الشيء قبل أن يعرفه ، كيف أن هناك صفات خُلُقِيَّة مذمومة ، كيف أن هناك صفات خَلْقِيِّة مذمومة هناك صفات عقلية مذمومة ، من الصفات العقلية المذمومة أن تكذِّب بالشيء قبل أن تعرفه ، أن تستخف به دون أن تحيط به علماً ، أن ترُدَّهُ وأنت جاهلٌ به ، هذه صفةٌ عقليةٌ ذميمةٌ في الإنسان ، من صفات السُّذَّج ، من صفات عامة الناس ، من صفات الدهْمَاء ، من صفات المتخلِّفين عقلياً ، أما أن تكذِّب بالشيء قبل أن تعرفه ، قبل أن تحيط به علماً ، قبل أن تدرك حقيقته ، قبل أن ترى أبعاده كيف تكذب به ؟ ربنا سبحانه وتعالى ذمَّ هؤلاء الذين كذَّبوا بالقرآن قبل أن يعلموه ، كم من إنسانٍ في هذا العصر لا يعرف حقيقة هذا الكتاب ؟! يقول : هذا الكتاب ليس لهذا العصر ، فيه غيبيات ، لو عرف أن سعادته وسعادة مجتمعه والإنسانية جمعاء منوطةٌ بتطبيقه لاختلف الأمر .
ضرورة معرفة الحقيقة عن طريق البصر أو السمع :
ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿
إنسان لم ينظر ، إذا جاءه الحق عن طريق إنسان وأسمعه إياه صار هذا الحق حجةً عليه .
﴿
أي إما أن تفكِّر أنت ، إما أن تنظر ، وإما أن تسمع ، وأما الكفار فقد وصفهم ربنا عزَّ وجل فقال :
﴿
لأن منفَذي القلب هما السمع والبصر ..
اختلاف التأويل عن التفسير :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) ﴾
الله عزَّ وجل منزه عن التبعيض ، ليس له شيء بعض منه ، منزَّه ، والتجزيء ، لكن يد الله بمعنى قوته فوق أيديهم ، فالتأويل حينما يتعارض النص مع الواقع عندئذٍ تحاول أن توفِّق بينه وبين الواقع ، هذا هو التأويل ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿
هذه المتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم ، لذلك :
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ
ربنا عزَّ وجل قال :
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
هنا الذنب بمعنى الإحساس بالذنب ، أي إن لم تحسوا على ذنوبكم لم يكن فيكم خيرٌ يرتجى ،
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
من علامات العلماء الصادقين أنهم يشهدون للناس عدالة الله عزَّ وجل
﴿
يكره اليقين ، واليقين هو الموت ..
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) ﴾
ويفر من رحمة الله ، أي من المطر ، وله في الأرض زوجةٌ وولدٌ ما ليس لله في السماء ، هذا التأويل أي أنك أولت الكلام بما يليق بصاحبه ، الكلام لا يُحْمَلُ على نَصِّهِ يحمل على قائله . إذا قال الله سبحانه وتعالى :
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2) ﴾
الفتنة معناها دقيق جداً ، ويليق بكمال الله عزَّ وجل ، الفتنة هي الامتحان وإظهار ما في النفس ، إذا قال سيدنا موسى لرب العزة :
﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا
بمعنى يجب أن تُؤول هذه الآية ، بمعنى هذا امتحانك وبلاؤك ، لتكشف الناس ، لتفرزهم ، لتميز الخبيث من الطيِّب ، هذا هو معنى الآية .
وإذا قال الله :
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ
هذه تؤوَّل بمعنى أنه من يشاء من العباد أن يهتدي فالله عزَّ وجل يهديه ، الإنسان مخير
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
هذه آية محكمة لا تحتاج إلى تفسير ، ولا إلى تأويل ، ولا إلى كتاب تفسير ، أبداً واضحة كالشمس ، معظم آيات القرآن الكريم من هذا النوع ، إن الله لا يحب الكاذبين .
﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ
هذه آيات محكمات . مثلاً :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾
هذه آية محكمة ليس فيها شيء ، لكن :
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
هذه آية متشابهة ..
التأويل هو أن توجِّهَ النصَّ توجيهاً يتناسب مع قائله :
البارحة كنت مع شخص قال لي يا أخي :
﴿
أي ببذل الحد الأدنى من استطاعتكم ، قلت له : لا ، معناها :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
﴿
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
هذه الآيات كلها تتناقض مع هذا التأويل الذي يطابق هوى نفسه ، إذاً التأويل أن توجِّهَ النصَّ توجيهاً يتناسب مع قائله ، يجب أن تفسِّر الانتقام كاسمٍ من أسماء الله بما يليق مع أسمائه الحسنى .
﴿
فالمنتقم ، والجبَّار ، والضار ، والقابض ، هذه كلها أسماءٌ لله حسنى ، يجب أن تؤولها تأويلاً يتناسب مع عظمة الله عزَّ وجل ، ومع كمالاته اللامحدودة .
التأويل هو تحقُّقُ وعد الله ووعيده في الحياة :
هؤلاء تسرَّعوا ، كذَّبوا بهذا القرآن قبل أن يتأملوا في آياته ، في مضامينه ، ما ينطوي عليه من حقيقة ، وما ينطوي عليه من منهجٍ رشيد .
﴿
كذبوا .. قال لي صديق كان يعمل بعمل إداري وزع بلاغاً على من دونه .. كان مدير ثانوية .. البلاغ فارغ ، ورقة بيضاء ، وضع فوقها ورقةً كتب عليها : إلى السادة المدرسين يرجى التوقيع على البلاغ المُرْفَق ؟ قال لي : فوجئت بأن معظمهم وقَّع ، وأما البلاغ المرفق ورقة بيضاء ، أي وَقَّعَ على الورقة ولم يقرأ مضمونها ، هذه صفةٌ عقليةٌ ذميمة ، أن تكذِّب بالشيء قبل أن تحيط به علماً ، أو أن تصدقه قبل تحيط به علماً ، هذه صفةٌ ذميمة ، والأذم منها أن يأتيك التأويل الصحيح وبعدها تدير ظهرك لهذا القرآن :
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ
اتخذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون . إذاً :
وهناك تفسيرٌ آخر لهذه الآية لا يقلّ عن الأول ، تأويل القرآن الكريم وقوع وعده ووعيده ، أي إذا اللهُ عزَ وجل وعد المرابيَ بحربٍ من الله ورسوله ، حينما تدمَّر أمواله وتصادر هذا تأويل هذه الآية :
﴿
هذه آية ، متى يأتي تأويلها ؟ إذا صودر المال كله ، أو احترق ، أو تلف ، أو دمِّر ، تدمير هذا المال تأويل الآية ، إذاً : هم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، لكن تأويله لم يأتِ بعد ، هذه
أما إذا قلت : لن يحضُر المدرس ، هذه ( لن ) تنفي المستقبل مع أنها حرف ناصب ، تنفي المستقبل ، إذا قلت : لمّا يحضر المدرس ، أي حتى هذه الساعة لم يحضر ، لكن احتمال حضوره قائم ، الساعة التاسعة درسه ، صارت التاسعة وخمس دقائق ، التاسعة وسبع دقائق ، لا تقل : لم يحضر ، هذا غلط باللغة ، وإذا قلت : لن يحضر أيضاً غلط ، كأنك علمت الغيب أنت بهذه الطريقة ، لو أنه خبَّر وقال : لن أحضر هذه الساعة ، تكتب للطلاب : لن يحضر المدرس في هذه الساعة ، لن للمستقبل ، وإذا كان في الماضي لم يحضر تقول : لم يحضر ، بعد ما مضت الساعة بكاملها ، والساعة انشطبت ، تكتب : لم يحضر المدرس ، يوقّع الموجه ، الساعة انتهت ، أما إذا كان تأخره لمدة خمس دقائق فلا تقل : لم يحضر ، ولا تقل : لن يحضر ، ماذا تقول ؟ لما يحضر ، أي حتى الآن لم يحضر مع أن احتمال حضوره لا يزال قائماً .
شخص مرابٍ قال لك : لم يصبني شيء ، هذه أموالي تزداد ، وآخذ فوائدها بالمئة ثمانية عشر ، أودعت مئة ألف دولار في بنك أجنبي فصار المبلغ الآن مئة ألف وثمانية عشر ألف دولار ، وما اعتراني ضرر ولا خطر ، وأنا مرتاح من كل هموم الحياة ، مبلغ ضخم يأتيني كل شهر ، أصرفه ، ولست مسؤولاً لا أريد فاتورة ، ولا أريد بياناً ، ولا أريد شيئاً ، نقول له :
شخص مثلاً تجاوز حدوده في علاقته مع النساء ، قال لك : ماذا جرى ؟ نقول له : هذه الآية لمّا يأتِ تأويلها ، إذا وجدت رجلاً في بيتك عندئذ يأتي تأويل الآية :
مَن يزنِ يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ
***
التأويل صار بمعنى آخر ، أي تحقق وعد الله ووعيده .
﴿
لو أن الله استخلفهم في الأرض لكان استخلافه لهم تأويلاً لهذه الآية .
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
إذا رأيت إنساناً ضاقت به الدنيا ، قال لك : الحياة لا تطاق ، همومٌ تكاد تمزِّق قلبي ، كما قال الشاعر :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
***
كل نبل مصيبة .
فكنت إذا أصابتني سهامٌ تكسَّرت النصال على النصالِ
***
أي لم يعد هناك مكان ، إذا قال لك إنسان : الحياة شاقة ، أهون شيءٍ فيها الانتحار ، قل هذا تأويل قوله تعالى :
﴿
ما هو التأويل إذاً ؟ تحقُّقُ وعد الله ووعيده في الحياة ، حيثما تحقق وعد الله ووعيده في الحياة فهذا تأويل الآية ، إن رأيت صاحب مالٍ عريض صودرت أمواله كلها ، ورأيته على وشك الانهيار ، فهذا تأويل قوله تعالى :
بطولة الإنسان أن يعرف ما سيكون قبل أن يكون :
اقرأ القرآن الكريم حيثما وردت آيةٌ فيها وعدٌ أو وعيد ، حيثما وردت آية تأخذ شكلَ قانونٍ ، أي علاقةٌ ثابتة بين متحولين ، ثم رأيتها تقع في الحياة ، فهذا هو التأويل ، فالبطولة لا أن تصدِّق بالشيء بعد أن يحدث ، مثلاً : بناء خطر ، براعة المهندس أن يكشف لك الخطورة قبل أن يقع البناء ، فإذا وقع هل لك أن تكذِّب وقوعه ؟ انتهى الأمر ، من منا يستطيع أن يكذب أن بناء وقع ؟ لكن العلم يفيد قبل أن يقع البناء تخلي البيت من السكان ، الحقيقة إذا وقع التأويل لم يعد هناك ذكاء ، انتهى الأمر . فرعون نفسه لما أدركه الغرق قال :
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا
قال له :
﴿
هذا الإيمان جاء بعد فوات الأوان ، جاء في وقتٍ غير مناسب ، هذا الإيمان لا يجدي ، أي :
﴿
هذه ليست توبة ، التوبة أن تكون وأنت صحيحٌ شحيحٌ ، تخاف الفقر ، وتأمل الغنى ، أن تدفع من مالك الحلال لله عزَّ وجل ، هذا الوقت المناسب .
مثلاً عندما أتنبَّأ بشيء بحسب فهمي لكتاب الله ، البطولة الآن ، لكن بعد أن يأتي الموت ، هذا اليقين ..
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
انتهى الأمر ، فإذا جاء تأويل الآيات انتهى الأمر ، إن آمنت أو لم تؤمن فأنت مرغمٌ بالإيمان ، تأويل القرآن بمعنى وقوع وعده ووعيده .
﴿
إذا صادفت أخوين ، أحدهما مستقيم والآخر غير مستقيم ، الأول طاهر النفس والآخر غير طاهر ، الأول كسبه حلال ، والآخر كسبه حرام ، وزرتهما بالعيد في يوم واحد ، وسمعت من الثاني شكوى ليس لها حدود ، ضيق ، وتبرُّم ، قال لك : الحياة تعيسة ، وسمعت من الأول حمداً من دون حدود هاتان الحالتان تأويل قوله تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
إذاً فُهِم معنى التأويل ، وهو تحقق وعد الله ووعيده ، والتكذيب بعد وقوع التأويل مستحيل ، هذا المهندس بما أوتي من فهمٍ دقيق ، وإدراكٍ عميق ، كشف أن في البناء خطراً ، وأنذر أصحابه بوقوع البناء ، انتهت مهمته ، هم إن كذَّبوه وقع البناء فوق رؤوسهم وقتلهم جميعاً ، وإن صدَّقوه نجوا ، لكن إذا كذَّبوه وهم نائمون رأوا فجأةً البناء ينهار عليهم ، خلال ثوانٍ يصدقون قوله ، لكن متى صدقوه ؟ بعد فوات الأوان ، فالبطولة أن تصدِّق قبل أن يأتي التأويل ، أما بعد أن يأتي التأويل فلن تجد مكذباً إطلاقاً ، لم يبق على وجه الأرض مكذِّب ، البطولة إذا رأيت ما يشبه القنبلة أن تعرف أن فيها فتيل أم ليس فيها فتيل ، لكن إذا جربتها بنفسك لا سمح الله ووقع انفجار ، فإنك خلال ثانية تعرف ، لكن متى ؟ بعد أن أطاحت بصاحبها ، عرف أنها قنبلة أن أطاحت بصاحبها ، هل استفاد من هذه المعرفة ؟ لا ، أما البطولة أن تعرفها قبل أن تنفجر ، هذا التأويل ، أن تعرف ما سيكون قبل أن يكون ، أن تعرف أن هناك يوماً آخر ، فيه ساعة اللقاء مع الله عزَّ وجل ، فيه حساب دقيق ، عن عبد الله بن مسعود : عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن شبابِه فيما أبلاه ، وعن عُمُرِه فيما أفناه ، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيما أنفقَه ، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه . ))
هل أصبحنا بمستوى معلوماتنا ، خلال كذا درس ، خلال سنة من الدروس صار لدينا معلومات دقيقة جداً فهل نحن في مستواها ؟ وهل كل شيء عرفناه طبقناه ؟
علاقة الظلم بالتكذيب :
قال أحدهم : ليس من المعقول أن يكونوا قد صعدوا إلى القمر ، حجمه صغير هل يتسع لمركبة فضائية ؟ كذب بارتياد الفضاء الخارجي :
علاقة الفساد بعدم الإيمان :
كل إنسان محاسب على عمله :
﴿
علاقتك مع نفسك أي أرح نفسك من أقوال الناس ، لا تستجدِ ثناء الناس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، طوبى من وسعه بيته وبكى على خطيئته :
(( عن عقبة بن عامر ، قلتُ يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ ؟ قال :
هذه النصيحة الإلهية ..
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
هذا المثل لا تنسوه أبداً ، معك كيلو من المعدن ، الناس جميعاً ظنوه تنك ، وهو ذهبٌ ، معك كيلو تنك ، أوهمت الناس أنه ذهب ، وصدقوك ، وهو تنك ، فأنت الخاسر
(( قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فقال لي : اغتسل بماء وسدر ، ففعلت ثم عدت إليه فقلت : يا رسول الله عظنا عظة ننتفع بها ؟ فقال : يا قيس إن مع العز ذلاً ، وإن مع الحياة موتاً ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل شيء حسيباً ، وعلى كل شيء رقيباً ، وإن لكل حسنة ثواباً ، وإن لكل سيئة عقاباً ، ولكل أجل كتاب ، وإنه لا بد لك يا قيس من قرين ، يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وهو ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به ، وإن كان فاحشا لم تستوحش إلا منه ألا وهو فعلك. ))
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا (103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾
﴿
كل إنسان محاسب على عمله ، لن تحاسبوا على عملي ، ولن أحاسب على أعمالكم .
* * *
الآيات الكونية كلها تجسيد لأسماء الله الحسنى :
أردت في درس الجمعة أن أجمع بين الآيات القرآنية والآيات الكونية ، الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، وإن لله عز وجل في خلقه كتابين ، القرآن كتاب والكون كتاب ، الآيات الكونية كلها تجسد أسماء الله الحسنى ، ومن أسماء الله الحسنى القوي ، القوي اسم من أسماء الله عز وجل ، أي مما وصل إلى علمي . والإنسان لا يحيط بالعلم الصحيح :
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
إن هذه المجرات التي رصدتها المراصد الفلكية بعضهم يقول : تزيد عن مليون مليون مجرة ، وبعضهم يقول : تزيد عن مئتين وخمسين ألف مجرة ، على كل الرقم كبير جداً.
قال : هذه النجوم من هذه المجرات الشهيرة درب التبان التي نحن فيها ، والمجموعة الشمسية ما هي إلا نجم صغير صغير في هذا الدرب الكبير. على كل الذي يعنينا قال : إن هذه النجوم تتولد فيها تفاعلات نووية كبيرة جداً ، هذه التفاعلات النووية في باطن النجوم تشكل قوة ضاغطة نحو الخارج ، وبحسب قانون الجاذبية كل ما على النجوم يشكل قوة منسحبة إلى الداخل ، فالتفاعل النووي يشكل قوة دفع نحو الخارج ، وجذب نيوتن يشكل قوة دفع نحو الداخل ، هاتان القوتان متوازنتان ، فإذا كانت هاتان القوتان متوازنتين فالنجم في تألقه وشبابه كشمسنا اليوم ، لكن هذا النجم الذي تحدث فيه هذه التفاعلات يفقد من كتلته ولتكن الشمس مثلاً لهذا الفقد في كل ثانية أربعة ملايين طن من كتلتها .
الشمس في كل ثانية تفقد أربعة ملايين طن من كتلتها ، قال : هذا النجم ماذا يحدث له إذا خبا التفاعل النووي في داخله ؟ تصبح قوة الانكماش أشد من قوة الدفع فينكمش على نفسه ، ينكمش هذا النجم حتى يصبح نجما أصغر من ذي قبل ، وإذا صغرت كتلته خرج عن مداره ، وانفلت من نظام الجاذبية ، هذا النجم العلماء في عام سبعة وستين كشفوا من هذا النجم ما يزيد عن مئتي نجم ، سمي هذا النجم : القزم الأبيض ، أي التفاعل النووي في باطنه خفت حدته ، قوة الانسحاب نحو الداخل فاقت قوى الدفع نحو الخارج ، قلّت كتلته ، ازدادت كثافته ، خرج من مداره .
النقطة التي أثارت انتباهي أن هذا النجم حينما زادت كثافته ، معنى الكثافة أي نسبة الوزن للحجم ، احمل كيلو حديد واحمل إسفنجة تجد أن هذا وزنه شديد ، الإسفنجة حجمها أكبر أما الحديد فأوزن ، نقول : كثافة الحديد أشد .
قال : هذا النجم تزيد كثافته مليون مرة عن كثافة الماء ، مليون مرة ، ماذا يعني ذلك ? قال : لو أخذنا من تراب هذا النجم ما ملأنا به علبة ثقاب لكان وزن هذه العلبة خمسة وعشرين طناً ، لو أخذنا من تراب هذا النجم المنكمش الذي سمي قزماً أبيض ، لو أخذنا منه ما يملأ علبة ثقاب لكان وزن هذه العلبة خمسة وعشرين طناً .
تصور خمسة وعشرين طنًاً بحجم علبة كبريت ، حصل فيه انكماش داخلي ، هذا أحد أنواع الانكماشات .
النوع الثاني إذا كان هذا النجم بحجم الشمس هكذا تغدو كثافته ، مليون ضعف عن كثافة الماء ، أما إذا كان بثلاثة أحجام الشمس قوة الدفع نحو الداخل تزيد جداً وتقوى على قوة تماسك الذرة ، فالالكترونات تندمج في النيترونات ويصبح هذا النجم نجماً نيترونياً ، ما معنى هذا الكلام ? قال : أي تصبح كثافته أكثر من كثافة الماء بألفين وخمسمئة مليون مرة ، أي علبة كبريت وزنها حوالي ألفين وخمسمئة مليون طن ، علبة كبريت ، وزن هذه العلبة من تراب هذا النجم ألفان وخمسمئة مليون طن ، شيء فوق التصور ، قال : فإذا كان النجم أكبر من ثلاثة أمثال الشمس ، وانكمش انكماشاً شديداً ، وخرج بسرعة من مداره أسرع من الضوء ، انطفأ هذا النجم وترك في مكانه فجوة كبيرة هذه هي الثقوب السوداء ، التي كشفوا فيها واحداً الآن في الفضاء الخارجي .
ما هذا الثقب الأسود ? قال : إذا دخلته الأرض كلها تصبح بحجم كرة الطاولة - بين بون - الأرض كلها إذا دخلت في هذا الثقب الأسود يصبح حجمها بحجم كرة الطاولة مع بقاء وزنها ، فتصور أرضاً بكاملها ، القارات بكاملها ، المحيطات ، الجبال ، انقلبت إلى حجم كرة ، قال : هذا النجم الذي كشف حتى الآن اسمه : كوكبة الدجاجة ، ثقب خطير خطير ، لو دخلته الأرض لأصبحت بحجم كرة الطاولة .
الماء آية من آيات الله الدالة على عظمته :
الشيء الذي أريد أن أقوله : الماء ، هذا الماء الذي نشربه لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يضغطوه ما استطاعوا .
لو أحضرنا متراً مكعباً من الماء وضعناه بمكبس ، وضعنا فوقه مئة طن ، مئتي طن ، ثلاثمئة طن لا ينضغط ، لذلك يستعملون الزيوت السائلة في نقل الحركة ، الهيدروليك ، أي حركة ميليمتر من جهة السائق تنتقل نفسها للمكبح ، السوائل لا تنضغط ، وهذا الماء الذي نشربه ، إذا أراد أن يتمدد بفعل البرودة لا شيء يقف أمامه ، الفولاذ ينصدع ، الصخر الأصم ينصدع ، إذا كان هذا الماء لا يمكن ضغطه ، وإذا بردناه وتمدد لا يمكن إيقاف تمدده ، بأية قوة على وجه الأرض ، إذا كان الماء بهذه القوة فما هذه القوة الكبيرة في الثقوب الفضائية بحيث إذا دخلتها الأرض بكاملها تصبح ككرة الطاولة ؟!
أقرب شاهد لنا ميزان الحرارة ، فيه فجوة فارغة ، لو وضعته في مكان حار ووصل الزئبق إلى حده الأقصى ينكسر الميزان ، خط الزئبق رفيع جداً ومع ذلك يكسر الميزان .
إذا السوائل حينما تتمدد لا شيء يقف أمامها ، ولا شيء يضغطها ، فما بالك بهذه الأرض وما عليها ? هذا تقريب قليل لاسم القوي ، ربنا عز وجل قال :
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) ﴾
التفكر أعظم عبادة على الإطلاق :
أردت من هذه الفقرة التفكر في آيات الله ، لأن التفكر في آيات الله عبادة ليس مثلها عبادة ، لأنها أقرب طريق إلى الله عز وجل ، لأن الله سبحانه كما قال الإمام علي : لا تدركه الحواس ، ولا يقاس بالناس ، فوق كل شيء ، وليس تحته شيء ، وهو في كل شيء ، ليس كشيء في شيء ، وليس كمثله شيء .
الله سبحانه وتعالى لا تعرفه بالحواس ولكن تعرفه بالآيات ، وآياته مبثوثة في كل شيء :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
***
هذه النظرة المألوفة ألفنا الشمس والقمر ، والطعام والشراب ، لو تعمقت لوجدت أن في كل شيء إعجازاً ، الحياة فيها إعجاز ، طعامك فيه إعجاز ، المطر فيه إعجاز ، هذا كله إذا تأملت فيه تعرفت إلى الله عز وجل :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
وبقدر تفكيرك بآيات الله بقدر خشيتك منه ، لا عبادة كالتفكر ، الذي أرجوه أن يكون لكل واحد منا بعد صلاة الصبح جلسة يتفكر فيها بأسماء الله الحسنى أو بخلقه أو بآياته أو بجسمه أو بحواسه الخمس أو بطعامه ، بشرابه ، بابنه ، بهذه المخلوقات التي بثها الله في الأرض ، أي إن لم تفكروا في آيات الله فالأمر خطير ، والدليل قوله تعالى :
﴿
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
فالإنسان عليه أن يعود نفسه يفكر ، إن شرب كأس ماء يفكر ، أي إذا حرك أصابعه يفكر ، بأطوالها ، بسلامياتها ، بعضلاتها ، بعظامها ، بشرايينها ، بأوردتها ، بأعصابها ، بالجلد ، يفكر بأجهزته ، بجهاز الهضم ، بجهاز التنفس ، بالقلب ، بالدماغ ، بالسمع ، بالبصر .
أي يوجد آيات بثها الله سبحانه وتعالى لا تعد ولا تحصى :
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ﴾
الإنسان في حياة محدودة فيها مسؤوليات كبيرة :
نحن نحاول كل درس أن نحضر آية كونية على اسم من أسماء الله الحسنى فلعل الله سبحانه وتعالى يقربنا إليه ، لأنك إذا عرفت الله عرفت كل شيء :
سيدنا رسول- اللهم صلِّ عليه- حينما كان طفلاً صغيراً دعاه أصدقاؤه للعب ، فقال كلمة كلما ذكرتها يقشعر بدني : لم أخلق لهذا .
هو ونحن لم نخلق للعب ، لم نخلق للمتع الرخيصة ، لم نخلق لتمضية الوقت تمضية عابثة ، لم نخلق لأكل مال بعضنا بعضاً ، لم نخلق للمتعة :
عن معاذ بن جبل أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا بَعَثَ به إلى اليَمنِ قال :
(( عن عبد الله بن عباس سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في خطبةٍ أيُّها الناسُ إنَّ لكم معالمٌ فانتهوا إلى معالِمِكم وإنَّ لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتِكم إنَّ المؤمنَ بين مخافتينِ بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه وبين أجلٍ قد بَقِيَ لا يدري ما الله قاضٍ فيه فلْيأخذِ العبدُ من نفسِه لِنفسِه ومن دنياه لآخرتِه ومن الشبيبةِ قبلَ الهِرمِ ومن الحياةِ قبلَ الموتِ فوالذي نفسُ محمدٍ بيدِه ما بعدَ الموتِ من مُستعتبٍ ))
(( ما بعدَ الدنيا دارٌ إلا الجنةُ أو النارُ ))
لا يوجد حالة ثالثة ، والموت وشيك ، لا يدري أحدنا متى أجله ، أي ثوان يصبح في عداد الموتى ، الموت وشيك : والسعيد من اتعظ بغيره. والشقي من اتعظ بنفسه
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين