الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
في الحياة الدنيا حق وباطل فقط ولا ثالث لهما :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي في سورة يونس إلى قوله تعالى : ﴿ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ ﴾ .. ليس في الحياة إلا شيئان : حقٌّ وباطلٌ ، فإن لم يكن المرء على الحق فهو في الباطل ، في طعامه ، وفي شرابه ، وفي كسبه ، وفي زواجه ، وفي عقيدته إن لم يكن مع الحق فهو مع الباطل ، ليس هناك مرتبةٌ ثالثة ، حق أو باطل ، وليس في الآخرة مرتبةٌ ثالثة ، فو الذي بعث محمداً بالحق ما بعد الدنيا من دار إلا الجنَّة أو النار ، أي الموقف حاسم ، يجب أن تتخذ قراراً مصيرياً ، إما أن تكون مع الحق ، وإن لم تكن كذلك فلابدَّ من أن تكون مع الباطل ، إما أن تحبَّ المؤمنين ، وإن لم تكن كذلك فسوف تحبُّ الفاسقين ، إما أن تكون سعيداً ، وإن لم تكن كذلك فلابدَّ من أن تكون شقيَّاً..
(( عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة ، فقال : يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها ، فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ والناسُ ، بنو آدمَ وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ قال اللهُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . ))
[ ابن العربي : عارضة الأحوذي :صحيح ، أخرجه الترمذي ]
﴿ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ ﴾ إلى أين أنتم ذاهبون ؟ ماذا في الدنيا ؟ هل فيها غناءٌ عن الآخرة ؟ هل وحدها تسعد الإنسان ؟ ﴿ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ ﴾ ، عندما يسير الإنسان في طريقٍ مسدود ، أو طريق مهلِك يقول له صاحبه المشفق عليه : إلى أين أنت ذاهب ؟ هذا طريق الشقاء .
ثمن الحقيقة التجرُّد عن الهوى :
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ هناك علاقةٌ ترابطيَّةٌ كما يقولون ، الفاسق لا يؤمن ، وإن لم يكن الرجل مؤمناً فلابدَّ من أن يفسق ، أي كلا الطرفين يكون سبباً للآخر ونتيجةً له ، ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ﴾ معنى فسقوا أي خرجوا عن أمر الله ، كل إنسانٍ خرج عن أمر الله لن يؤمن ، لماذا ؟ لأنك إذا ناقشته سوف يدافع عن انحرافه ، لن يناقش الأمر مناقشة موضوعيَّة ، لن يتجرَّد عن هواه ، متلبِّسٌ بالهوى ، غارقٌ في شهوته ، غارقٌ في انحرافه ، إذا ما ناقشته فسوف يدافع عن انحرافه ، هذه فكرةٌ أساسيَّة ..﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .. الفاسق لا يؤمن ، لو أنَّ إنساناً تلبَّس بالربا ، وحضر مجلس علمٍ ذُكِرَ فيه الربا وتحريمه ، قد يقول : هذا الأستاذ لا يعرف الحقيقة ، الربا الآن لابدَّ منه ، لماذا يرفض هذا المستمع هذه الحقيقة ؟ لأنه متلبِّسٌ بها.
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) ﴾
[ سورة الماعون ]
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
[ سورة القصص ]
لذلك : ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي من القوانين الثابتة ، من سنن الله في خلقه أن العاصي لا يؤمن ، المنحرف فاسق ، وأن الذي لا يؤمن لابدَّ من أن يحمله عدم إيمانه على الفسق ، العلماء قالوا : بين الفسق والإيمان علاقةٌ ترابطيَّة ، أي أن الفسق يؤدِّي إلى عدم الإيمان ، وعدم الإيمان يؤدي إلى الفسق ، فحيثما تلبَّس الإنسان بأحدهما قادته إلى الثانية ، فيه فسق يردُّ الحق ، إذا كان يؤثر الاختلاط ، وذكرت له أن الاختلاط حرام يقول لك : لا ، هذا كلامٌ غير صحيح .. رجل متلبِّسٌ بشرب الخمر فتعلَّق بكلمةٍ موضوعةٍ في الإنجيل " أن قليلاً منه ينعش الروح " ، تعلق بها ، وتعلَّق بآيةٍ قال : ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ لم يقل : حُرِّم عليكم ، لماذا يردُّ الحق ؟ لماذا يتعلَّق بالباطل ؟ لأنَّه متلبِّسٌ بشرب الخمر .. ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .. لن تستطيع أن تعرف الحق إلا إذا تجرَّدت عن هواك ، إذا تجرَّدت عن الهوى هذا ثمن الحقيقة ، ثمن الحقيقة كي تعرفها أن تكون حيادياً ، أن تقبل الحق ولو كان على نفسك ، هذا الذي يأتي إلى مجلس العلم ، ويصغي للحق ، ويقول إذا جاء في مجلس العلم شيء مقصر فيه : والله الحق عليَّ، إن شاء الله سأتوب من هذا الذنب ، هذا صادق ، وهذا مؤهَّل أن يعرف الحقيقة ، ثمن الحقيقة التجرُّد عن الهوى ، أما من كان متلبِّساً بهواه فلن يؤمن ، بل يكابر ..﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ، أي كل واحد منَّا يحاسب نفسه ، لو كان متلبِّساً بمعصية ، وهناك جلسة معيَّنة من جلسات العلم والإيمان ، رأى نفسه يرد الحق فليعرف السبب ، تلبُّسه بهذه المعصية حمله على ردِّ الحق ، ولو أنه لم يؤمن ، واكتفى بالاعتقاد ، وحضر مجلس العلم ، ولم يَعِ ما يُقال فيه ، ولم يتبنّ ما يُقال فيه ، ولم يفكَّر ، ولم يدقِّق ، ولم يحقِّق ، ولم يبحث بحثاً ذاتياً ، هذا التقليد الأعمى لابدَّ من أن يحمله على الفسق .
إذاً آيةٌ خطيرة من أمَّهات الآيات : ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ علاقةٌ ترابطيَّة ، الفسق سبب عدم الإيمان ، وعدم الإيمان سبب الفسق ، وحيثما تلبَّس الإنسان بأحدهما قادته إلى الأخرى .
الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف :
الآن : ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ .. قلنا في الدرس الماضي : إن الله سبحانه وتعالى بدأ الخلق ، أي خلق الأرض ، وخلق السماوات ، وخلق المجرَّات ، وخلق الشمس والقمر ، وخلق الإنسان ، وخلق الحيوان ، وخلق النبات ، حينما بدأ الخلق تجسَّدت عظمته في الخلق ، تجسَّد علمه في الخلق ، حينما بدأ الخلق ظهرت أسماؤه الحسنى من خلال الخلق ، ظهر عطفه ، ورحمته ، وجماله ، وعلمه ، وقدرته ، وغناه ، لكن ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ لماذا يعيد الله الخلق مرَّةً ثانية ؟ لتظهر عدالته ، نحن في دار عمل وسوف نأتي إلى دار جزاء ..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) ﴾
[ سورة فصلت ]
افعل ما شئت ، كلُّه مسجَّلٌ عليك ، كُلْ من أموال الناس ما شئت أو ترفَّع عنها ، انظر إلى الحرام ما شئت أو غُضَّ بصرك ، قل الصدق أو اكذب ، افعل ما شئت ، كلُّه مسجَّلٌ عليك ، أنت في دار عمل ، وسوف تَرِدُ دار الحساب والشقاء ، وسوف ترد دار الجزاء ، لذلك قالوا : الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف ، للمؤمن ، ودار عذابٍ لغير المؤمن.. ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ ، ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ بدأه وسوف يعيده ، بدأه تجلَّت أسماؤه الحسنى ، وسوف يعيده ليتجلَّى عدله المُطْلَق ، في الدنيا تجد فقيراً وتجد غنياً ، هناك قوي وهناك ضعيف ، فيها صحيح وفيها مريض ، تجد إنساناً له زوجة مطيعة ، وتجد إنساناً له زوجة مشاكسة ، إذا انتهت الحياة بالموت ، ولا شيء بعد الموت يقول هذا الفقير : يا رب لماذا خلقتني فقيراً ؟ ولماذا أغنيت فلانًا ؟ ما ذنبي ؟ وما ميزته ؟ ويقول هذا الضعيف : لماذا خلقتني ضعيفاً ؟ ﴿ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ نحن في دار امتحان ، نحن في دار ابتلاء .
إذا دخل إنسان إلى بيت فخم جداً ربع ساعة ، هل يشعر أن هذا البيت له ؟ لا ، إنه جميل ، ولكنه ليس له ، نحن في دارٍ مؤقَّتة ، نحن مثلُنا كمثل راكب ناقةٍ جلس في ظل شجرةٍ فاستراح قليلاً ثم عاد وركب ومشَى ، كن في الدنيا كأنك غريب ، إذاً : إعادة الخلق من أجل تحقيق العدالة .. وكما قال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه : الغنى والفقر بعد العرض على الله.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) ﴾
[ سورة آل عمران ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) ﴾
[ سورة الأنفال ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
[ سورة التوبة ]
إذاً : الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، بدأه ، وعرفنا من خلال بدئه أسماءَه الحسنى ، وسوف يعيده ، وسيتحقَّق من إعادة الخلق تتحقق عدالته المطلقة .
لله في خلقه كتابان الكون والقرآن :
ثم يقول الله عزَّ وجل : ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ اتضح من الآيتين أن الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية في القرآن الكريم بيَّن أنه :
﴿ خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) ﴾
[ سورة الأعلى ]
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) ﴾
[ سورة الشمس ]
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ﴾
[ سورة الشمس ]
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) ﴾
[ سورة الفرقان ]
أي كأن الذي ظهر أن هذا القرآن الكريم يعدل الكون ..
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) ﴾
[ سورة الواقعة ]
صار عندنا كما قال بعض المصلحين : إن لله في خلقه كتابين الكون والقرآن ، الله سبحانه وتعالى خلق وهدى ..
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) ﴾
[ سورة طه ]
مرَّ معي أن سمكاً اسمه سمك السلمون ، يتوالد في أعالي الأنهار في أمريكا الشماليَّة والجنوبيَّة ، وينتقل برحلةٍ شاقَّةٍ شاقة إلى المحيط الأطلسي ، إلى سواحل فرنسا ، ثم يعود أدراجه إلى مسقط رأسه هناك ، وضع مركزُ بحوث لبعض الأسماك أو لأعدادٍ وفيرة منها قِطعاً معدنيَّة مسجل عليها تاريخ ، هذه الأسماك بعد أشهر عادت إلى مسقط رأسها ، الشيء الذي يُحَيّر العقل أن هذه الأسماك وهي في المحيط الأطلسي كيف عرفت طريق العودة إلى مسقط رأسها ؟ لو أنها انحرفت درجة واحدة لجاءت في مصبِّ نهرٍ آخر ، لو أنَّها انحرفت درجتين لجاءت في أمريكا الجنوبيَّة بدل الشماليَّة ، هل معها بوصلة ؟ معها خرائط ؟ معها إحداثيَّات ؟ هل معها اتصال لاسلكي مع مراكب للتوجيه البحري ؟ كيف عرفت طريقها ؟ بعض العلماء أخذوا بعض الأسماك وحملوها إلى مصبِّ بعض الأنهار في أوروبا وهي صغيرة ، حينما كبرت سارت إلى الأطلسي ، وعادت إلى أمريكا ، لا يزال هذا سرَّاً ، ما الذي يسيِّر هذه السمكة ؟ شيء يعجز عنه علماء البحار ، يعجز عنه المتخصِّصون ، يعجز عنه ربابنة السفن ، وأنت على سواحل فرنسا تحت البحر لا ترى شيئاً ، تتجه إلى مصبِّ الأمازون ؟! هذا من هداية الله عزَّ وجل ، هذه الظاهرة لا تُفَسَّر إلا بالقرآن .. ﴿ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾
الحيوان هداه إلى طعامه ، هداه إلى شرابه ، هداه إلى دوائه ، قد يُصاب الحيوان بمرض ، يذهب إلى البستان يبحث عن حشيشةٍ بعينها فيأكلها فيشفى ، هداه إلى طعامه ، هداه إلى شرابه ، هداه إلى طريقة توالده ، هداه إلى أنثاه ، هداه إلى كل شيء ، لكن الإنسان أعطاه الفكر ، وبالفكر ارتقى الإنسان ، والإنسان هداه إليه ، الحيوان هداه إلى طعامه وشرابه ، لكن الإنسان هداه إليه عن طريق ماذا ؟ عن طريق الكون ، ثم عن طريق ماذا ؟ عن طريق الأنبياء ، وعن طريق الكتب ، وعن طريق ورثة الأنبياء - الدعاة إلى الله - وعن طريق المصائب ، وعن طريق الضيق ، وعن طريق الغنى ، وعن طريق الفقر ، وعن طريق المرض ، وعن طريق الصحَّة :
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ﴾
[ سورة الرعد ]
والله شديد المحال ، إذاً : ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ(34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ﴾ أي هذا الصنم الذي لا يستطيع الحركة من تلقاء نفسه هذا يهديكم ؟!
الابتعاد عن معصية الإله خالق كل شيء :
﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ .. خطر في بالي أحياناً الطالب علاماته لا تؤهله لدراسة الطب في جامعة دمشق ، ولكن تؤهله ليدرس الطب في حلب أو الهندسة في الشام فيحتار ، يعمل موازنات ، طب أم هندسة ؟ هما قريبان من بعضهما ، الطب في حلب ، الطب أرقى لكن في حلب ، يجب أن يستأجر غرفة ، يريد أن يأكل وحده ، عليه أعباء المعيشة ، يوجد مصروف كبير ، لكن لو أن أحداً خيَّروه بين أن يكون طبيباً أو بين أن يكون بمهنة دنيا جداً ، تأخذ مليون ليرة أم تأخذ مليون ضربة ؟ هذه لا تحتاج إلى وقفة ؟ تأخذ مليون ليرة ذهبيَّة أم تأكل مليون ضربة ؟ هذا ليس بخيار ، لكنه شيء بديهي ، فالخيار بين الإيمان وعدم الإيمان ، أي بين السعادة والشقاء ، بين الخلود في الجنَّة ونعيمها وبين الخلود في النار وجحيمها ، بين أن تكون مهتدياً وبين أن تكون ضالاً ، بين أن تكون مستبصراً وبين أن تكون ضائعاً ، بين أن تكون مطمئناً وبين أن تكون خائفاً ، بين أن تكون عزيزاً وبين أن تكون ذليلاً ، بين أن تكون موفَّقاً وبين أن تكون الأمور كلها مُعَسَّرة ، بين أن يحبَّك الله وبين أن تسقط من عين الله ، لا يوجد نسبة ﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ .. كيف يستطيع الإنسان أن ينام وهو على معصية ؟ كيف يعصي الإله خالق الكون ؟ لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت ، كيف تجحد فضل الله عزَّ وجل ؟ كيف تجحد هذه النعم ؟ نعمة البصر هل عرفت من خلق البصر ؟ من خلق السمع ؟ من خلق الشم ؟ من خلق ربع مليون شعرة في رأسك ، لكل شعرة وريد وشريان ، وعصب وعضلة ، وغدَّة دهنيَّة ، وغدَّة صبغيَّة ؟ هل تعرف من خلق في أنفك عشرة ملايين عصب شمّي ؟ هل تعرف من شقَّ هذه العين وجعل في شبكيَّتها مئة وثلاثين مليون مخروطاً ؟ هل عرفت من خلق الأذن ؟ خلق أذنين لتعرف مصدر الصوت من الصيوان ، إلى القناة الأذنيَّة ، إلى غشاء الطبل ، إلى الأذن الوسطى ، إلى الداخليَّة ، إلى قنوات التوازن ، من خلق العظام وأعطاها حداً ، لو أن الأسنان تنمو بازدياد ماذا يحدث ؟ هو القابض والباسط ، أعطى هذه الأسنان نمواً ، ثم أوقفها عند حدِّها ، أعطى هذه العظام نمواً ، ثم أوقفها عند حدِّها، من أمر العظام أن تقف عن النمو ؟ بعض الأطبَّاء قال لي : خط وهمي مرسوم في الفراغ ، إذا العظم وصل إليه يقف عن النمو ، شيء مضحك والله ، خط وهمي مرسوم في الفراغ إذا وصل نمو العظم إليه توقَّف عن متابعة النمو ، لا ، هذا غلط ، الصواب القابض والباسط ، الجامع والمانع ، فالإنسان إذا تأمل في هذا الكون يرى :
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد
***
والله كل شيء كأنه ينطق ويقول : أنا دليلٌ على عظمة الله ، من طعامك ، إلى شرابك ، إلى ابنك ، إلى كأس الماء ، إلى كأس الحليب ، إلى الجبل ، إلى البحر ، إلى السمك ، إلى الطير ..
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد
***
فالله سبحانه وتعالى بقدر ما هو خالق عظيم بقدر ما هو هادٍ حكيم ، هداك في كل شيء .. ﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ أي إذا كنت محتاراً أتدخل كلية الطب أم كلية الهندسة معك حق ، الطب في حلب والهندسة في دمشق ، أي يوجد وجهة نظر ، أنت محتار بين أن تفتح محل أقمشة أم ملبوسات جاهزة ، لكن تأخذ مليوناً أو تُضرَب مليون ضربة ؟! من غير المعقول أن تقول : والله أنا محتاج أن أفكِّر قليلاً ، اتركوني لأفكِّر ، ﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ كيف الإنسان راض بالدنيا ؟!
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
[ سورة التوبة ]
هل تقبلون فيها أنتم ؟ شاب أبوه ملك قال له : يا بني اطلب وتمنَّى ، فقال له : أريد محَّاية حبر، فقط ؟ طلب الدنيا واكتفى بها ، لو طلب يختاً سيعطيه ، لو طلب أكبر قصر سيعطيه إياه ، ولكنَّه طلب محاية ، قلم بيك ناشف فقط ، أكثر لا يريد .
الابتعاد عن الظن لأن معظم الناس عقائدهم وتصوراتهم مبنية على الظن :
﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ ..أي معظم الناس عقائدهم ظن ، تصوراتهم ظن ، منطلقاتهم ظن ، أهدافهم ظن ، أي يتوهَّم السعادة بالمال هذا ظن ، المال لا يُسعِد ، يتوهِّمها بالنساء ، النساء لا تُسعِد ، يتوهمها بالبيت الفخم ، ربَّ كوخٍ حقير صاحبه أسعد الورى ، اللهمَّ صلِّ عليه كان إذا صلَّى قيام الليل رفعت السيدة عائشة رجليها لأن الغرفة لا تتسع لنومها وصلاته ، ودخل عليه عديُّ بن حاتم فتناول اللهمَّ صلِّ عليه وسادةٍ من أدمٍ محشوَّةً ليفاً ، قال لعدي بن حاتم : اجلس على هذه ، قال له : بل أنت ، قال : بل أنت ، قال عدي : فجلست عليها ، وجلس رسول الله على الأرض ، ليس عنده غير وسادة واحدة ، ومع ذلك كان سيّد الخلق وحبيب الحق ، الله عزَّ وجل ما أقسم إلا بحياته ، قال :
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) ﴾
[ سورة الحجر ]
قال له :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) ﴾
[ سورة القلم ]
سيدنا الصدِّيق .. جاء سيدنا جبريل وقال للنبي عليه الصلاة والسلام : قل لصاحبك : إن الله راضٍ عليه فهل هو راضٍ عن الله ؟ ، سيدنا الصديق لم يتحمَّل الكلمة ، مجالات الإيمان لا يعرفها إلا من ذاقها ، الإنسان أحياناً يقيم علاقة مع إنسان من طينته ، إنسان يفنى يعتز بهذه العلاقة .
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميّتُ
[ *** ]
عندما يصير للإنسان وجهة إلى الله عزَّ وجل تحدث له صلة حقيقيَّة ، إقبال حقيقي ..
لا يعرف ما نقول إلا من اقتفى أثر الرسول
***
هذا مثل من يقول لآخر : صف لنا طعم العسل ؟ صعب والله ، ذقه فقط ، من ذاق عرف ، استقم استقامة تامَّة ، وقدِّم أعمالاً صالحة لوجه الله عزَّ وجل ، خالصة من كل شائبة ، ثم تعال وقل لي ماذا حدث لك ، تعال وقل لي أي سعادة عشت ؟ وكيف اطمأننت ؟ وكيف نزَّل الله على قلبك السكينة ؟ وكيف يسَّر لك الأمور ؟ وكيف أصلح لك بيتك ؟ وكيف أصلح لك جسدك ؟ وكيف أصلح لك معيشتك ؟ وكيف أكرمك في الدنيا قبل الآخرة ؟
(( أوحى الله تعالى إلى موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك . ))
[ ابن القيم في مدارج السالكين ما ثبت: ولم يعلق عليه ولم يزد على هذا ]
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾ شخص يعتقد أن المسرحيَّة مثلاً تهذِّب النفوس ، هذا ظن ، وآخر يعتقد أن الاختلاط يهذِّب المشاعر ، وثالث يعتقد أن الموت نهاية الحياة ، لا يوجد شيء ، وآخر يعتقد أن الدراهم مراهم .. وكل إنسان يتصوِّر فكرة متوهماً إيَّاها أنها حقيقة وهو يظنها ظناً ، هذه مصيبة كبيرة ، إذا كان الإنسان على وشك الموت عطشاً ، وتوهَّم الماء بجهة معيَّنة ، وذهب إلى هذا المكان فمات هناك عطشاً ، بين أن تكون متأكِّداً من وجود الماء وبين أن تكون واهماً ، قضية موت أو حياة ، إذا بقي لحياته ربع ساعة ، وقالوا له : في هذه الجهة يوجد ماء ، لكنه ليس متأكِّداً ، هل يستهلك هذه الربع ساعة في مسير إلى مكان غير مؤكَّد ؟ يكون قد غامر بحياته ، لكن إذا كان متأكِّداً أن هنا يوجد ماء ، وذهب إليه فهو على حق .
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ أحياناً الطالب يتوهَّم أنهم قالوا : إن الأستاذ الفلاني يعطي الأسئلة ، ولكن ليس الآن ، بل قبل الامتحان بأسبوع ، لا يدرس أبداً ، هل هذه الفكرة صحيحة ؟ لو أنها كانت صحيحة لقبلنا بها ، أي معقولة ، أما إذا كانت غير صحيحة لم يدرس إطلاقاً ، أمضى السنة كلها باللعب والتسلية ، وكان مقبلاً على فحص بكالوريا ، وفيها يتحقق مصيره ، وقبل الامتحان بأسبوع طرق الباب فطُرِد ، أليس قد غامر بمستقبله ؟ لأنه ظن ، لأن طالبًا قال له : إن الأستاذ يعطي الأسئلة ، لكن هذا ظن .. ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾ ، ﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ ، هذا ظن ، هذه دعوى ..
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ﴾
[ سورة المائدة ]
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) ﴾
[ سورة البقرة ]
كذلك هذا ظن ، افعل ما شئت فالنبي عليه الصلاة والسلام سيشفع لك ، هكذا تفهم الشفاعة أنت ؟ هذا فهم خاطئ للشفاعة ، الشفاعة حق ، ولكن لها معنى أرقى من هذا ، لا يشفع النبي لمن ترك الحق ، وأدار ظهره له ، لكن من تبع النبي ، من تبع سنَّته يشفع له .
شاب دخل الجامعة يقدِّمون له كتباً وطعاماً وشراباً ومكتبات .
القرآن الكريم كتاب الله ولا يمكن لبشرٍ كائناً من كان أن يأتي بمثله :
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ...
أولاً : كلمة ﴿ وَمَا كَانَ ﴾ دقيقة جداً ، تقول مثلاً : الحديد لم يصدأ ، عندك قطعة حديد تأمَّلتها لم تصدأ ، لكن الصدأ من خصائص الحديد ، تقول : لم تصدأ ، لكنك إذا أمسكت قطعة ذهب فماذا تقول ؟ ما كان لها أن تصدأ ، هناك فرق بين أن تقول : لم تصدأ ، وبين ما كان لها أن تصدأ لأن من طبيعة الحديد الصدأ ، ولظروفٍ خاصَّة كانت في مكانٍ جاف لم تصدأ ، أما الذهب ما كان له أن يصدأ ، ليس من شأنه الصدأ ، ليس من خصائصه الصدأ ، لذلك قالوا : هذه العبارة حيثما وردت في كتاب الله فإنها تنفي الشأن لا تنفي الحدث ، تقول على إنسان : لم يسرق ، أما إذا إنسان من عليَّة القوم فتقول : ما كان له أن يسرق ..
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾
[ سورة الأنفال ]
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) ﴾
[ سورة التوبة ]
لا تنفي الحدث ، ولكن تنفي الشأن ، أي أبلغ أنواع النفي في كتاب الله صيغة ما كان ، لأنها تنفي الإرادة ، والاستعداد ، والإمكانيَّة ، والشأن ، والرغبة ، والحدث ... مثلاً : شخص يحمل دكتوراه في الرياضيات فقلت له : اثنان و ثلاثة ؟ فسكت ، تقول : لا يعرف ، لا ، نقول لك : ما كان له أن يجهل هذه الحقيقة ، لكنَّ سكوته له معنى ، اثنان وثلاثة لا يعرفها وهو يحمل دكتوراه بالرياضيات ؟ ما كان له إلا أن يعرف ، قال : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ..
أنا في الأسبوع الماضي بحثت عن مثل يوضِّح هذه الفكرة : لو فرضنا أن واحداً لم يرَ طائرة في حياته ، ولا صورتها ، ولا ركب فيها ، ولا يعرف شيئاً عن إمكانيَّاتها أبداً ، لكنه رأى طفلاً قد صنع طائرة من ورق ، وسحبها في الهواء ، دخل هذا إلى محل حدادة عبارة عن مترين بمترين ، قال له صاحب المحل : هذه الطائرة الحديثة الفلانية ، التي تتسع لستمئة راكب نفاثة ، أنا أصنعها في هذا المحل ، مادام هذا الإنسان لم ير الطائرة يصدِّق ، لكن لو ركب الطائرة ، ورأى حجمها ، ورأى أن علم البشريَّة كله مجموع فيها ، ستمئة راكب بمدينة طائرة ، طعام وشراب ، وهيدروليك ، وأجهزة ، ورادارات ، شيء عجيب في الطائرة ، هل يمكن لإنسان ركب طائرةً كبيرةً نفَّاثةً من أحدث الطائرات أن يصدِّق أنها صنعت في محل متواضع في أحد أسواق دمشق ؟ مستحيل ، لو عرفت الطائرة ما صدَّقت هذا الكلام ، هذا المثل تقريبي .
لو أننا قرأنا هذا القرآن ، وعرفنا ما فيه من تشريعٍ اجتماعي ، ما فيه من حقائق ، ما فيه من ذكرٍ للأولين ، ما فيه من ذكر ليوم القيامة ، ما فيه من نظام الطلاق ، من نظام الميراث ، من نظام الزواج ، من نظام البيوع ، ما فيه من حقائق ، من مشاهد ، من تاريخ ، ما فيه من طُرُق إلى الله عزَّ وجل ، ما فيه من سُنَن ، لو عرفت مضمونه تقول : لا يمكن لبشرٍ كائناً من كان أن يأتي بمثله ، إذا ركبت الطائرة ترفض هذه المقولة ، فإذا لم تركبها ، ولم ترها ، ولم تسمع بها ، وقيل لك : إن هذا القرآن من صنع محمد كان عبقرياً فذَّاً ، كان ذكياً ، جمع العرب بهذا القرآن ، إن لم تقرأه قد تقول : هذا الكلام صحيح ، أما إذا قرأته تقول : هذا ليس من صنع بشر..
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ انظر إلى كلمة من دون الله هل تعلم أن الكون كلَّه من دون الله ؟ دع عنك الجمادات ، ودع عنك الحيوانات ، لا تعقل ، والنباتات ، بقي الإنس والجن ..
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
[ سورة الإسراء ]
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ مستحيل ، لو أننا قرأناه ، أي العنكبوت التي تنسج البيت هي أنثى العنكبوت ، النبي الكريم اللهمَّ صل عليه هل درس علم الحيوان ، وعرف أن العنكبوت ذكر وأنثى ، والأنثى هي التي تنسج البيت ؟ لا أعتقد ، الله عزَّ وجل فقال :
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)﴾
[ سورة العنكبوت ]
الله عزَّ وجل حينما ذكر العنكبوت استعمل تاء التأنيث ، معنى هذا أن من ينسج بيت العنكبوت هي الأنثى .
الحوت ، قال لي بعض الإخوة : إن المريء في الحوت على عِظَم الحوت لا يتَّسع لمرور الإنسان لأنه ضيق ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) ﴾
[ سورة الصافات ]
لم يقل : فابتلعه ، أي بقي سيدنا يونس لقمةً في فمه ، ولم يصل إلى جوفه ، النبي الكريم شرَّح الحوت ؟ رأى الجهاز الهضمي للحوت ؟ عرف ضيق المريء ؟ هذا كلام الله ، إذا صعد الإنسان في الفضاء الخارجي يشعر بضيق النفس ، وهذا جاء في كتاب الله ، أي هذا القرآن إلى الآن شيئاً ليس من السهل أن كتاباً قبل ألف وأربعمائة عام ، العلم تقدَّم تقدُّماً مذهلاً ، حتى هذه الساعة لم يحدث أن اكتشف العلماء حقيقةً تناقضت مع كتاب الله ، هذا مما يؤكِّد أنه من عند الله ، من عند خالق الكون .. ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ مستحيل ..
القرآن الكريم فيه كل شيء فهو دستور للبشر :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)﴾
[ سورة الرحمن ]
لماذا بدأ الله بالجن ؟
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
[ سورة الإسراء ]
لماذا بدأ بالإنس ؟ لأن هذا كلام رب ، قال : لأن الإنس أقدر على البيان من الجن ، والجن أقدر على خرق السماوات من الإنس ..
﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)﴾
[ سورة النور ]
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾
[ سورة المائدة ]
لماذا بدأ هنا بالزانية ؟ قال : لأنها أقدر على الزنا من الزاني ، ولماذا بدأ هنا بالسارق ؟ لأنه أقدر على السرقة من السارقة ، من المرأة .
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
[ سورة التوبة ]
ربنا عزَّ وجل ذكر الأقرباء في هذه الآية لكنَّه بدأها بالأب ، وفي موطنٍ آخر قال:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
[ سورة آل عمران ]
بدأ بالنساء ، وفي موطنٍ ثالث :
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) ﴾
[ سورة عبس ]
بدأ بالأخ ، وفي موطنٍ رابع بدأ بالابن :
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) ﴾
[ سورة المعارج ]
بدأ بالابن ، هذا كلام الله ، في كل موطن قدَّم الله سبحانه وتعالى الشيء المهم ، في موطن اعتزاز الإنسان الاجتماعي قدَّم الأب ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ﴾ ، في موطن الشهوة قدَّم المرأة ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ ﴾ في موطن الاستنجاد قدَّم الأخ ، لأن الأب كبير والابن صغير ، أقرب إنسان إليك أخوك ، في موطن الفدية أغلى شيء الابن قدَّم الابن ، هذا كلام الله , في ثماني عشرة آية قدَّم الله سبحانه وتعالى السمع على البصر ، لأن العلم اكتشف أن استجابة السمع قبل استجابة البصر ، أي أن الجنين يستجيب للصوت وهو في بطن أمِّه ، لكن الطفل المولود حديثاً لا يستجيب للضوء إلا بعد أيَّامٍ ثلاث .
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) ﴾
[ سورة المؤمنون ]
إلا في آيةً واحدة عبَّرت عن أن سرعة الضوء أكثر من سرعة الصوت ..
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
ليس سمعنا وأبصرنا ، في ثمانية مواطن قدَّم الله بذل المال على بذل النفس ، لأنه أيسر ، بذل المال أهون من بذل النفس ، وفي آيةٍ واحدة قدَّم الله بذل النفس على بذل المال ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾
[ سورة الصف ]
في ثمانية مواطن قدَّم المال على النفس ، وفي موطنٍ واحد ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
[ سورة التوبة ]
في موطن البيع القطعي قدَّم الأهمَّ على المهم ، في القرآن الكريم ذُكِرت كلمة ( اليوم ) ثلاثمئة وخمساً وستين مرَّة ، وذُكر الشهر اثنتا عشرة مرَّة ، هل هذا صدفة ؟ آيات الجنَّة تعادل في عددها آيات النار ، آيات الدنيا تساوي آيات الآخرة ، آيات الملائكة تساوي آيات الشياطين ، شيء عجيب ، في القرآن يوجد إعجاز حسابي ، وفيه إعجاز رياضي ، وفيه إعجاز بلاغي ، وفيه إعجاز تشريعي ، وفيه إعجاز علمي ، ما من حقيقةٍ علميّةٍ إلا وذكر القرآن أصولها ، لم يتطرَّق للتفصيلات لأنه كتاب هدايةٍ وإرشاد ، لكن أصول العلم ، الآن أصول العلاقة الزوجيَّة مذكورة في القرآن ، ذكر الله عزَّ وجل أن الزوجة من آيات الله ، وجعل القِوامة للأزواج لسببين : أنه أعلى منها عقلاً وأفقاً وفكراً وإرادةً وتصميماً وخُلُقاً ، ولأنه أنفق من ماله ، فقال الله عزَّ وجل :
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)﴾
[ سورة التوبة ]
درجة واحدة ، أي ينبغي أن يكون الرجل فوق المرأة بدرجة واحدة ، أي أصول العلاقة الزوجية الصحيحة في القرآن موجودة ، أصول البيع والشراء في القرآن ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)﴾
[ سورة النساء ]
إذا كان هذا المشتري يعرف أن هذا البائع مستحكم ، وأخذ منه بالمئة ثلاثمئة ربحاً فهذا الشاري أهو راضٍ ؟ يقول لك البائع : أخي هو قَبل ، نعم لكنه قَبِلَ مضطراً ، هذا اسمه استغلال ، لو كُشِفَ رأس المال للشاري هل يرضى ؟ مقياس البيع الشرعي الرضا .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) ﴾
[ سورة النساء ]
لو دقَّقت في كتاب الله تجد أن فيه نواح تربويَّة ، فيه كنايات لطيفة جداً ، علَّمنا الأدب في التعبير ، كما أن فيه نواح أخلاقيَّة..
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) ﴾
[ سورة القلم ]
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) ﴾
[ سورة ص ]
﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30)﴾ يوجد نواح تشريعيَّة ، ونواح شخصيَّة ، علاقات زوجيَّة ، علاقة الآباء بالأبناء ، لو دقَّقت في القرآن الكريم لرأيت فيه كل شيء ، لأن الله سبحانه وتعالى جعله دستوراً للبشر .
القرآن صدَّق ما جاء به الأنبياء السابقون ومجيئه تصديقٌ لما في كتبهم :
إذاً : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .. سيدنا موسى وسيدنا عيسى ورد في التوراة والإنجيل ذكر النبي عليه الصلاة والسلام .
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) ﴾
[ سورة الصف ]
فجاء النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان مجيئه تصديقاً لما جاء في التوراة والإنجيل ، هذا المعنى الأول .
المعنى الثاني : ولكن تصديق الكتاب ، المعنى الثاني أن ما جاء في القرآن يؤكِّد ما جاء في الإنجيل والتوراة ، لأن الكتب السماويَّة الثلاث من عند الله ، إلهٌ واحد ، والتشريع واحد ، لكن إذا وجدنا في القرآن الكريم تفصيلات لم تَرِد في التوراة والإنجيل فهذا مما ذكره الله عزَّ وجل ، هذا من حكمته ، أي بحسب تعقد الحياة ، بحسب ظهور مشكلات لم تكن ظاهرة من قبل ، فجاء التشريع مقتضباً مرَّةً ، ومفصَّلاً مرَّةً أخرى ..
﴿ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فالقرآن صدَّق ما جاء به الأنبياء السابقون ، ومجيئه تصديقٌ لما في كتبهم ، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام يصدِّق أن هذا الكلام من عند الله ، أي أنه قمَّةٌ في الكمال ، فقد قال سيدنا جعفر للنجاشي :
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف - هذه الجاهليَّة قبل الإسلام - فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه - من نسلِ إبراهيم - وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونَهانا عنِ الفَواحِشِ ، وقَولِ الزُّورِ ، وأكْلِ مالِ اليَتيمِ، وقَذْفِ المُحصَنةِ ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحْدَه ولا نُشرِكَ به شَيئًا ، وأمَرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ . قالت : فعَدَّدَ عليه أُمورَ الإسلامِ ، فصَدَّقْناهُ ، وآمَنَّا به ، واتَّبَعْناهُ على ما جاءَ به ، فعَبَدْنا اللهَ وَحْدَه فلم نُشرِكْ به شَيئًا ، وحَرَّمْنا ما حَرَّمَ علينا ، وأحلَلْنا ما أحَلَّ لنا ، فعدا علينا قَوْمُنا فعَذَّبونا. ))
[ إسناده صحيح أخرجه أحمد (1740) باختلاف يسير، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115) مختصراً ]
على كل إذاً : ﴿ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ بعضهم قال : الكتاب إذا ذُكرت تعني الكتب السماوية كلها ، فما جاء في الكتب السابقة مختصراً جاء في القرآن الكريم مفصَّلاً .
القرآن الكريم كمال مطلق لأنه من الله عزَّ وجل :
﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ لا ريب فيه أي لا شكَّ فيه أنه من الله عزَّ وجل ، وأن فيه الكمال المطلق ، لا يأتيه الباطل ، لا يوجد كتاب من صنع إنسان إلا وفيه غلط ، قد يكون صغيراً أو كبيراً لكن الكتاب الذي لا ريب فيه هو القرآن الكريم .. ﴿ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أنتم تقولون : إن محمداً صلى الله عليه وسلَّم افترى هذا القرآن كله ، الله سبحانه وتعالى يتحدَّاهم أن يأتوا بسورةٍ واحدٍة من عندهم تضاهي هذا الكتاب .
الآية الثانية التي لها علاقة بهذه الآية : ﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)﴾ أي مستحيل ﴿ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي اجمعوا كل من تستطيعون لتتعاونوا على صنع آيةٍ إنكم لن تحقِّقوا هدفكم .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين