- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (033)سورة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
خصوصية خطاب الله نبيّه بلفظ الرسالة والنبوة:
1– تكريم وتفضيل الله نبيَّه على سائر الأنبياء:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس السابع من سورة الأحزاب.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
2 ـ مقام النبوة يقتضي دوام الصلة بالله:
حينما رأى الصدِّيق رضي الله عنه سيدنا حنظلة يبكي في طرقات المدينة، وقال له: "يا حنظلة مالك تبكي؟" فقال حنظلة: "نافق حنظلة"، قال: "ولِمَ يا أخي؟"، قال: "نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين" - أيْ إذا جلسنا في مجلسه نسعد، إذا جلسنا في مجلسه نرى الجنة من خلال حديثه، إذا جلسنا في مجلسه ينشرح صدرنا، إذا جلسنا في مجلسه تزول عنا الكروب والأحزان- فإذا عافسنا الأهل- ذهبنا إلى البيت، إلى السوق، إلى العمل- ننسى، هذه الحالة الطيبة، الرائعة، المسعدة، هذا التجلي إن صح التعبير، هذا الحال، هذا الصفاء الذي نحن فيه عند رسول الله، إذا ذهبنا إلى بيوتنا، ومارسنا أعمالنا، ودخلنا في الأسواق، وقيل وقال، وكيت وكيتَ، هذا الحال يذهب عنا، إذاً أنا منافق - هذا قول سيدنا حنظلة- سيدنا الصديق لكماله الشديد، ولذوقه الرفيع ما أراد أن يجعل سيدنا حنظلة وحيداً في هذه الحالة مستوحشاً، قال: "يا أخي أنا كذلك - أنا مثلك - انطلق بنا إلى رسول الله". عند النبي عليه الصلاة والسلام حدَّثاه عن حال حنظلة فقال عليه الصلاة والسلام- هنا الشاهد- عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ:
(( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))
(( نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا، أما أنتم يا أخي فساعةٌ وساعة، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم، الملائكة ولزارتكم في بيوتكم. ))
(( إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا. ))
(( لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالِ الَّذِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ فِي مَجَالِسِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَعَلَى فُرُشِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، وَسَاعَةً وسَاعَةً. ))
استنباطات من حديث حنظلة:
يُستنبط من هذا الحديث استنباطان؛ الاستنباط الأول؛ أن في مجلس العلم صفاءً وتجليًّا وراحة نفسية، هذه يتميز بها عن مجالس أخرى.
الشيء الثاني؛ الإنسان لو دامت حالته لكان نبياً، مَن هو النبي؟ هو الذي على دوام صلة بالله عزَّ وجل.
تحذير من فهمٍ مغلوط للحديث:
لكن أيها الأخوة الأكارم؛ إياكم أن تفهموا من هذا الحديث أن كلمة:
من اشتقاقات ومعاني كلمة نبي:
شيءٌ آخر؛ كلمة النبي مأخوذة من نَبَأَ بمعنى ظهر، أي له مكان عليّ، له مكان شامخ، ومأخوذة أيضاً من كلمة أَنْبَأَ بمعنى أخبر.
بين النقل والعقل:
الآن الله عزَّ وجل خلق الكون وأودع فينا العقل، وهناك توافقٌ بين العقل وبين الكون، فمن أعمل عقله في الكون حكم حكماً قطعياً بأن لهذا الكون خالقاً عظيماً، ومربياً حكيماً، ومسيّراً قديراً، وإذا أحكم عقله في القرآن رأى من إعجازه الشيء الكثير، فحكم أيضاً بأن هذا القرآن كلام الله عزّ وجل، وإذا عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن هذا القرآن كلام الله، فالذي جاء به قولاً واحدا هو رسول الله، إذاً: كلام النبي عليه الصلاة والسلام تبيانٌ وتفصيلٌ لهذا الكتاب، انتهى دور العقل، الآن جاء دون النقل، النبي أخبرنا عن سرّ الوجود، عن فلسفة الحياة، عن طبيعة الحياة، ماذا بعد الموت؟ عن الحساب، عن مصير الإنسان، إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، حدَّثنا عن الصراط المستقيم، وعن حوضه الشريف، وعن العرش، وعن الكرسي، وعن إذا الصحف نُشِرَت، وحدثنا عن أصل الإنسان، وعن سرّ وجوده، وعن طبيعة الخلق، وعن أجدى شيءٍ يفعله في الدنيا، وأعطانا الأوامر والنواهي، أي أخبرنا عن الله، أَنْبَأَ بمعنى أخبر، من جهة له مقامٌ رفيع، لأن له مهمتين، مهمة تبليغية، ومهمة أخرى قدوة، أن يكون قدوةً لنا، هذا المقام الرفيع من لوازمه أنه أنبأناً عن الله عزَّ وجل، أخبرنا عنه، رسول الله..
﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)﴾
﴿
بين النبوة والتنبُّؤ:
إذاً النبوة من نَبَأَ بمعنى ارتفع وظهر، ومن أَنْبَأَ بمعنى أخبر، لكن التنبُّؤ شيء آخر، هذا الموضوع دقيق جداً أتمنى أن أضعه بين أيديكم.
متى يتنبَّأ الإنسان؟ إذا عرف القانون، أنت كمهندس إذا رأيت جسراً حديدياً نسي المهندس أن يترك بين أجزائه فواصل تمدد، وأنت تعلم علم اليقين أن المعادن ولاسيما الحديد تتمدد بالحرارة، وأنت في شهر الشتاء القارس، وهذا الجسر مُحكم ورائع، ويؤدي وظيفة كبيرة، تتنبأ وأنت عبد بأن هذا الجسر سوف يلتوي في الصيف، من أنبأك هذا؟ القانون، تمدُد الأجسام بالحرارة، ما دام المهندس قد نسي فواصل التمدد فهذا الجسر لابدَّ من أن يلتوي، أنت لو قرأت القرآن، ودرست الآيات التي تأخذ معنى القانون، إذا قرأت القرآن، واستنبطت منه الآيات التي تأخذ معنى القانون، وقد عبر الله عنها "بكلمات الله":
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
مستحيل إنسان يطبق الهدى الإلهي في زواجه، في بيعه، في شرائه، في معاملته، في علاقته مع نفسه، في حواسه، في صحته، في طعامه، في شرابه، في كل شيء، وأن يصاب بضلالٍ في عقله، أو شقاءٍ في نفسه، مستحيل أن تطبق منهج الله عز وجل، إذاً: إذا انطلقت من حبك الشديد لنفسك، من حبك الذي لا يتناهى لذاتك عليك بطاعة ربك، عليك بتطبيق منهج ربك، ولا أريد أن يكون الإنسان ضحية التجريب، لأن هذا الشرع شرع الله عزَّ وجل، وهذا القانون قانون الله عزَّ وجل، فكل مَن خالفه شقيتْ نفسه، وضلّ عقله. فأي إنسان اعتنق عقيدة بخلاف ما في القرآن، أي اعتنق عقيدةً وضعيةً من وضع البشر، فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً، ما هو الضلال؟ شيء مخالف للواقع، يفاجأ بعد حين أن هذا البناء الشامخ الذي بناه قد تقوَّض وانهار، هذا الضلال..
اعتناق المبادئ الوضعية سبب للشقاء الدنيوي والأخروي:
إذاً: هذا الذي يحدث لأهل الدنيا حينما يعتنقون مبادئ وضعية، يصابون بخيبة أمل كبيرة جداً، هذا لن يحدث في الدين أبداً، لأنك مع توجيه خالق الكون، مع الثوابت؛ خالق الكون، كتابه، رسوله كلها ثوابت، لن يكون في حياتك مفاجأةٌ صاعقة من نوع أن تفاجأ بأن المبادئ التي اعتنقتها مبادئ خُلَّبِيَّة لا أصل لها، لا تستند إلى واقع، لا معنى لها، لم تؤت أكلها إطلاقاً، لم تحقق هدفاً إطلاقاً.
معرفة القوانين الإلهية سبيل إلى التنبؤ بمصير الإنسان:
قانون الاستقامة والتنبؤ بالحياة الطيبة:
إذاً: أنت إذا عرفت القوانين تنبأت، أنت لست نبياً، لكن لو رأيت شاباً مستقيماً، وهو في مقتبل العمر، لا يملك شيئاً، ولا أحد يعرفه، نكرة من نكرات المجتمع، إن رأيته محباً لله ورسوله، مستقيماً على أمره، يحرص على دينه، ورعاً، تقياً، نقياً، قل له: لك مستقبلٌ زاهر، وتأكد أن هذا الكلام لابدَّ من أن يحصل، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿
قانون الربا والتنبؤ بدمار المال:
وإذا رأيت المرابي تنبَّأ له بتدمير المال وأنت مطمئن..
﴿
قانون عدم العفة والتنبؤ بالزواج الفاشل:
إن رأيت شاباً له خبراتٌ قبل الزواج، ذَوَّاقٌ قبل الزواج، فتنبأ له بزواج شقي، لأنه ورد:
قانون العفة والتنبؤ بالزواج الناجح:
إن رأيت شاباً عفيفاً قبل الزواج فتنبأ له أنه سيسعد في زواجه، لأن زواجه مكافأةٌ من الله عزَّ وجل على عفته قبل الزواج، إنها قوانين. أتمنى على كل أخٍ كريم أن يقرأ القرآن الكريم، وأن يستنبط القوانين.
قانون الفسق والتنبؤ بالعذاب:
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾
ما دام الإنسان مقيماً على معصية، ما دام مقيماً على مخالفة، لن يؤمن، لن يُقبل، حجابٌ كثيفٌ بينه وبين الله عزَّ وجل، فإذا قرأت القرآن، وعرفت القوانين، أمكنك أن تتنبأ بما سيكون لا من علم الغيب؛ ولكن من علمٍ بالقوانين تماماً كالذي يتنبأ بأن هذا الجسر لابدَّ من أن يلتوي في فصل الصيف، لأن المهندس نسي الفواصل، فواصل التمدد بين أجزائه، تنبؤ بالقوانين، فإذا قرأت القرآن.
﴿
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
قانون الخيانة والتنبؤ بالفضيحة:
لو تقرأ قوله تعالى:
﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
أيْ أية خيانةٍ على وجه الأرض لابدَّ من أن تفتضح، مهما كنت ذكياً، مهما أحكمت الأمور، ما دامت خيانة فلابدَّ من أن تفتضح، هذا قانون في القرآن الكريم.
من القوانين القرآنية: ثلاثةٌ من كن فيه كن عليه:
ثلاثةٌ من كن فيه كن عليه؛ البغي:
﴿ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
﴿
إذا أنت قرأت حديث النبي المستند إلى فهمه الدقيق لكتاب الله، هذه كلها قوانين، بإمكانك أن تتنبأ، وأنا أقول لك: هذا الشيء طيب جداً..
قوانين تحكم علاقات الناس:
بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين، بشر القاتل بالقتل، تجد أن اكتشاف الجريمة - أنا هذا ما أراه - ليس صادراً عن ذكاء رجال الأمن الجنائي، ولكن بتقديرِ قادرٍ، بتقديرِ حكيمٍ، لسببٍ تافهٍ جداً كُشِفَ الأمر، وظهرت الجريمة، وعوقب المجرم وأعدم، بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين، المرابي بشِّره بمحق المال، والمتصدق بشره بنماء المال، كلها قوانين،
(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. ))
مثلاً عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. ))
هذه قوانين، ليتك إذا قرأت القرآن، أو قرأت سنة النبي العدنان تكتشف هذه القوانين، وأتمنى عليك أن تكتبها، هذه قوانين قطعية الحدوث، فإذا عرف الإنسان أن هذا التيار تيار صاعق، فاستخدم آلة مغلَّفة بعازل، جهله بهذا الموضوع قد يودي بحياته، إذا عرف أن هذا الغاز يسبب انفجاراً، فإذا شَمَّ هذه الرائحة يبادر إلى منع التسرب، لو أنه ضغط على زر الكهرباء لانفجر البيت، إذا عرفت طبيعة الغاز فلن تفعل ذلك.
كل مصيبة بسبب مخالفة منهج الله:
أكاد أن أقول لكم: ما من مصيبةٍ في الأرض إلا بسبب مخالفةٍ لمنهج الله، وما من مخالفةٍ بمنهج الله إلا بسبب جهلٍ به، إذاً: أعدى أعداء الإنسان هو الجهل، فإذا أردت أن تتعلم فعليك بالمساجد، عليك ببيوت الله عزَّ وجل، فيها تتعرف إلى كلام الله، إلى سنة النبي، إلى مواقف النبي، إلى سِيَرِ الصحابة، إلى الأحكام الفقهية.
حياة النبي عليه الصلاة والسلام الزوجية مفحمة بالتقشف والزهد:
النبي بشر انتصر على بشريته :
في الحقيقة لدينا نقطة مهمة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام بشر ؛ لكنه انتصر على بشريته، لو أنه ليس من بني البشر، أو ليس يشعر بمشاعر البشر، ما كانت له هذه البطولة العظيمة، لأنه بشر، يشعر بما نشعر، ويحس بما نحس، ويتمنَّى ما نتمنى، ويتألَّم لما نتألم، هو منا، من بني البشر، لكن حبه لله عزَّ وجل غلب عليه فانتصر على بشريته، وجعل الدنيا تحت قدميه، وأراد أن يكون مثلاً أعلى وقدوةً لأصحابه. ألم يقل عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك رضي الله عنه:
(( لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ، ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ. ))
معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون متقشفاً، أراد أن يكون بعيداً عن مباهج الدنيا، لئلا يدخل على نفس أصحابه أنّ هذه الدعوة فيها مغانم كثيرة، وفيها مكتسبات، ولو بالغ الإنسان الداعية في رفاهيَّته لظنّ الناس به الظنون.
أيها الأخوة الأكارم؛ النبي عليه الصلاة والسلام انتصر على بشريته تماماً، أما نساؤه الطيِّبات الطاهرات فكانت تتمنى إحداهن أن تعيش حياةً بمستوى أنها زوجة رسول الله، فطالبته بأن يرفع النفقة، وهذا الصحابي الجليل الذي طالبته زوجته أن يعطيها كيت وكيت، قال: "اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلّتْ إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلكِ". هذه مشكلة الإنسان إذا كان في مستوى، ولم تكن زوجته كذلك، ينشأ خلافٍ بينهما فهي تريد الدنيا، تريد الظاهر، وهو يريد طاعة الله عزَّ وجل ورضوانه، إذاً هذه مشكلة حُلَّتْ بهذه الطريقة:
الإنسان مجبول على حبّ الدنيا والميل إليها:
إياكم وكبرياءَ قارون:
طبعاً إذا طلب الإنسان الحياة الدنيا بأساسياتها، هذا مقبول منه، طلب الزواج، هذا شيء أودعه الله بالإنسان، فطري، أساسي، طلب مأوى يسكن فيه، طلب مورد رزق، طلب ذرية صالحة، هذه كلها طلبات معقولة لا تنتمي إلى حب الدنيا، أما الذي يطلب الشيء الفخم الغالي ليزهوَ به على الناس، أن يتيه على الناس بما عنده، كما فعل قارون:
﴿
هذا الذي يريد الدنيا ليباهي بها الناس، ليكسر قلوب الفقراء، ليدخلوا عليه فيريهم ما عنده، ليحدثهم عن رحلاته، وعن مصروفه الكبير، وعن متعه، وعن سهراته، وعن نزواته، وعن حجمه المالي، وعن أرباحه، وعن كذا، وعن نوع ألبسته، وعن نوع مركبته، وعن نوع أثاثه، هذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، هذا قلبه مصفَّح.
﴿
لا نتأثر بكلامك، قال تعالى:
معنى قوله تعالى: وَأُسَرِّحْكُنَ سَرَاحًا جَميلاً:
وبعضهم قال: أنتنَّ لستنَّ في مستوى هذه الدعوة، أنتنّ على الهامش، فإذا كان الإنسان مطلبه دنيوي صار على هامش الحياة، أما إذا كان مطلبه أخروياً فقد صار في صميم الحياة.
المؤمن يريد الله ورسوله:
القدوة:
فالقدوة أيها الأخوة؛ إذا أحسن له أجران، أجره هو لأنه أحسن، وأجر من اقتدى به لأنه قدوة، وإذا أساء يعاقب مرتين، مرةً لأنه أساء، ومرةً لأن الآخرين اقتدوا به في الإساءة، فلان فعل هكذا، وفلان قال هكذا، فلان إذاً أفهم منك، هو سمح بهذا الشيء، وأنت لا تسمح فيه، إذاً هو أفهم منك، وسمح فيه، فكل إنسان له مكانة؛ مكانة علمية، مكانة من وجهاء المجتمع، مكانة إدارية وأحسن له أجران، وإن أساء عليه وزران، هذا حساب عَلِيَّةِ القوم.
معنى الفاحشة في حقّ النبي:
بعض علماء التفسير قالوا: الفاحشة هنا بحق نساء النبي ليست كمعناها بحق الناس، الفاحشة هنا معناها إذا أزعجنَ النبي، وطالبنَهُ فوق ما يملك، وحملنه على أن يغير خطَّته في الحياة، وضغطنا عليه، هذه في حق نساء النبي تُعَدُّ فاحشةً، لأن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام إيذاءٌ لله عزَّ وجل..
أمرٌ عظيم وتحذير جليل لزوجات النبي:
احذرْ أيها القدوة أن تخالف بفعلك ما تقوله بلسانك:
لو فرضنا أن أستاذاً دَخَّنَ أمام طلابه، أستاذ ملء السمع والبصر، هو مثقف، وشخصيته قوية، ومعلوماته جيدة، وضابط عمله، فصار ما يفعله شيئاً مبرراً عند الطلاب، مستساغاً، فربما عاقبه الله مرةً على أنه آذى نفسه بهذا الدخان، ومرة على أنه كان قدوةً سيئةً للطلاب.
إذا كذبت الأم على زوجها أمام أولادها عوقبت مرتين، أمام بناتها، قالت له: لم أخرج من البيت، وهنّ رأينها خرجت ورجعت، وهذه أمهنّ وغالية عليهنّ، معنى هذا الكذب وارد، ومقبول، أمهنّ تكذب، وهنّ يكذبن.إذاً: أيتها الأم سوف تحاسبين عند الله مرتين، مرةً لأنك كذبتِ، ومرةً لأنكِ كنتِ قدوةً سيئةً لأولادك.
كل إنسان له مكانة، كل إنسان لو علا على شخص واحدٍ، له حسابٌ خاص، هذا حساب القدوة، عقابٌ مضاعف وأجرٌ مضاعف، أول أجر لك بطاعتك، والثاني لمن اقتدى بك، ويا أيها المسيء أول وزر عليك للوزرك، والثاني لمن اقتدى بك،
الدين ليس فيه حلّ وسط:
سيدنا رسول الله جاءه أحبّ الناس إليه سيدنا أسامة، كان حِبَّ رسول الله، فيبدو أن امرأةً سرقت، وسوف يقام عليها الحد، فجاؤوا يستشفعون بأسامة عند رسول الله، فلما كلمه أسامة تغيّر لون وجه رسول الله، وامتقع لونه، ونبض عرقٌ في جبهته، وقال:
(( عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))
هكذا الدين، الدين ليس فيه حلّ وسط، سيدنا عمر مات ابنه في رجمٍ، وقال قبل أن يموت: أبلغ رسول الله أنَّ أبي أقام عليّ الحَد، بعد الموت أبلغْ رسول الله أن أبي أقام علي الحد،
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)﴾
والله الذي لا إله إلا هو كما قال النبي الكريم:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسام: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))
يوم القيامة يرى النبي بعض أمته تجر إلى النار يقول: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:
(( أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَقِيلَ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، قَالَ: فَأَقُولُ: بُعْدًا، بُعْدًا، أَوْ قَالَ: سُحْقًا، سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي.))
العبرة بدوام الطاعة:
كل إنسان له فورة، أما البطولة ليست بالفورة، بالاستمرار، بالثبات، الثبات نبات، قنت داوم على الطاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: عن عائشة رضي الله عنها:
(( أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ. ))
بشرى عظيمة لنساء النبي؛ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ:
الله تعالى كريم عظيم:
فاتتني كلمة، لما قال ربنا عزَّ وجل:
خضوع المرأة في القول مجلبةٌ لطمع الرجال بها:
بقيت آيةٌ أخيرة:
قصة موسى مع المرأتين في مدين:
لذلك فإن الله علمنا في القرآن الكريم في مكان آخر، لمّا جاءت ابنة سيدنا شعيب سيدنا إلى موسى، قالت له كلاماً لا يحتاج إلى سؤال، ولا إلى جواب، قالت له:
﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ
لو أنها قالت: إن أبي يدعوك، يقول لها: ما المناسبة، لماذا؟ صار هناك سؤالاً وجواباً، فإجابتها إجابةٌ قاطعة:
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ
سورة القصص
ما القصة؟ وليس من أنتُنَّ؟ لماذا أنتن هنا؟ ماذا تفعلن هنا؟ ما شأنكن؟ قال: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ كلمة واحدة..
الابتعاد عن اللين في القول مع الجنس الآخر:
المؤمن إذا خاطب امرأة لا تحل له، ليس له الحق أبداً يلين القول لها، إذا ألان القول لها، وألانت له القول، دخل الشيطان، لأن إبليس طلّاعٌ رَصَّاد، عنده حاسة سادسة، عنده شم دقيق جداً، حينما يشعر أن هذه المرأة خضعت بالقول، وأن هذا الرجل بادلها قولاً ليِّنَاً بقولٍ لين، دخل بينهم، قال: إن إبليس طلاَّعٌ رصاد، وما هو من فخوخه - له أفخاخ كثيرة- بأوثق لصيده في الرجال الأتقياء من النساء، إبليس له كثيرٌ من الشِباك، عنده فخوخ كثيرة، عنده فخ شديد الانضباط، لا يمكن أن يخيب، هو المرأة، لذلك سمّاها النبي عليه الصلاة والسلام: حبائل الشيطان، أي شباك الشيطان، فإن إبليس طلّاع رصّاد، وما هو بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء، فاتقوا الله في النساء. عن أبي سعيد الخدري:
(( إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ. ))
وما من شيءٍ أغلب على الإنسان من ميوله كالميل إلى النساء.
لابدّ من هامش أمان بين الإنسان والمعصية:
لذلك يقول أحد الأنبياء: "ليس الشريف الذي لا يرتكب المعصية، ولكن الشريف الذي يهرب من أسباب المعصية". أي من طريق موبوء بالنساء، من مجلات لا ترضي الله، من أشخاص بعيدين عن الله عزَّ وجل، من حديث عن النساء، لذلك قال العلماء: من كان حديثه عن النساء تُجْرَحُ عدالته، ولا تقبل شهادته، من تنزَّه في الطرقات، لماذا؟ لينظر إلى النساء، من كان حديثه عن النساء، من صحب الأراذل، من أكل في الطريق، من مشى حافياً، من بال في الطريق، من أطلق لفرسه العنان- أسرع في القيادة - من قاد برذوناً، من علا صياحه في البيت، من طفف بتمرة، من أكل لقمةً من حرام، لكن الأكثر قبحاً: من صحب الأراذل، ومن تنزه في الطرقات، ومن كان حديثه عن النساء، لهذا لم يأت في القرآن الكريم كله نهي عن الزنا، ما هذا الكلام؟ جاء النهي عن أسباب الزنا، قال:
﴿
لم يقل: ولا تزنوا،
سورة الأحزاب من حيث الأحكام كسورة النور:
بالمناسبة سورة الأحزاب كسورة النور، من أهم السور المتعلِّقة بالبيوت، وبحفظ الفروج، وبغض الأبصار، وبالحُرُمَات، فنحن في أمَسِّ الحاجة، ولاسيما في هذا الزمان المتفلت إلى مثل هذه السور، وإن شاء الله في دروس قادمة نتابع هذه الآيات.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين