- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (033)سورة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أهمية القدوة في الحياة:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس السادس من سورة الأحزاب.
وصلنا في الدرس الماضي في سورة الأحزاب إلى قوله تعالى:
من لوازم القدوة السير بسيرة النبي الكريم:
ربنا عزَّ وجل يقول:
ما الشخصيَّة التي تتمنى أن تكونها هنا وأنت في عفويتك من دون قصد؟ وأنت تحدِّث نفسك؟ الإنسان يحدِّث الآخرين بوقتٍ قليل، ويحدِّث نفسه بوقتٍ طويل، إذا سافر الإنسان، ما دام ساكتاً فهو يحدِّث نفسه، مثلاً قلت: يا ولد ذهابك غير ضروري، هذا حديث داخلي.
الصراع الداخلي وعلاقته بالقدوة:
أحياناً يقع المرء في صراع، قال لي أحد الأشخاص: لقد كان والدي من كبار التجَّار، من تجار الصوف، وأنا غير متعلِّم، وبعيد عن أصول البيع والشراء، فكانوا يقولون لي: إن هؤلاء البدو لا عليك أن تأخذ من أموالهم، هكذا كلام جهل، فذهبت إلى البادية لأشتري صوفاً، وصرت أزوِّر الوزن، فهذا البدوي سمع مني، وأنا أقول: ثلاثة وعشرون كيلو وثمانمئة غرام، هذا شيء جديد، الغرامات جديدة عليه، فكان مرتاحاً لهذه الأوزان، أما أنا فكنت أحسم عشرة كيلو، فلمَّا اشترى هذه الصفقة، شعر البدوي أنه قد غُبِن، فقال لي باللغة البدويَّة: إن شاء الله تلقاها في صحَّتك. قال لي: بدأت في صراع من وقت ما غادرت مكان الشراء إلى قرية الضمير، وأنا داخل في صراع، يا ترى أعود إليه لأرجع له الفرق، أعترف له بذنبي، قال: ما زلت في صراعٍ مع نفسي، وفي حديثٍ مع نفسي طويل إلى أن اتَّخذت قراراً، قلت: ضع في الخرج، ثم قال لي: رأيت نفسي بعد حين وسط بركةٍ من الدماء، وقد تدهورت بنا السيارة، وتناثر الصوف، وتناثرت البضاعة، فعلمت أنني عندما اتخذت قراراً فُعِلَ بي ما فُعِل..
﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾
إذاً يوجد حديث نفسي، أنت تمضي ساعات طويلة وأنت لا تشعر تحدِّث نفسك، أفعل أو لا أفعل، يجوز أو لا يجوز، ممكن أو غير ممكن، يا ترى هل يرضى الله عني؟ النبي سيشفع لنا، تأتي أحياناً حجج واهية، فأنت في حديث مع نفسك، هذا الحديث دائماً يلوح في ذهنك شخص مهم تعظِّمه، تُبَجِّله، تحترمه، تتمنّى أن تكون مثله، لذلك قالوا: في حياة كل منا شخصيَّة نتمنى أن نكونها، وشخصيَّةٌ نكره أن نكونها، وشخصيَّةٌ نكونها، فأنت لك واقع، وهناك شخصيَّة دائماً تنظر إليها بإكبار، دائماً أنت متشوِّقٌ إلى أن تكون في مستواها، دائماً تتقرَّب منها، دائماً تُقَلِّدها، دائماً تترسَّم خُطاها، دائماً تقفو أثرها، هذه الشخصيَّة التي تتمنى أن تكونها، قل لي من هي أقل لك من أنت، إذا كنت مؤمناً صادقاً الشخصيَّة التي تتمنى أن تكونها، أو أن تكون على طريقها، أو على أثرها، أو أن تترسَّم هُداها هي رسول الله، ما دام هناك أشخاص كثر من أهل الدنيا، من أهل القوَّة، من أهل الأذواق، والمواجيد، والمتع الرخيصة، والحفلات، والسهرات، والندوات، والزيارات، ما دام هناك شخص ليس على الحق تراه قدوةً لك ومثلاً أعلى لك، فبينك وبين الإيمان شطرٌ طويل، ما دام الشخص الذي تتمنى أن تكونه ليس رسول الله، بل زيدٌ أو عُبيد، فبينك وبين الإيمان مراحل فسيحة، فيا أيها الأخوة الأكارم؛ لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، عن أنس بن مالك:
(( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. ))
فربنا عزَّ وجل يقرَّر حقيقةً كبيرة..
وظائف النبي:
النبي عليه الصلاة والسلام له وظيفتان خطيرتان؛ الوظيفة الأولى وظيفة التبليغ، وإذا وقفت أمام روضته الشريفة تقول: يا سيدي يا رسول الله، أشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمَّة، وكشفت الغُمَّة، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد، أنت اعترفت بمهمَّة التبليغ.
بقيت مهمَّة القدوة، مهمة الأسوة التي نصَّ القرآن عليها، هل أنت تتأسَّى برسول الله في بيعك وشرائك؟ في معاملتك لأهلك وأولادك؟ في علاقتك بإخوانك؟ هل تميِّز نفسك عليهم؟ فأنت بعيدٌ عن الاقتداء برسول الله، النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان مع أصحابه ليعالج شاةً قال: وعليَّ جمع الحطب، قالوا: نكفيك ذلك يا رسول الله؟ قال: أعلم ذلك ولكن الله يكره أن يرى عبده متميِّزاً على أقرانه، إذاً القضيَّة خطيرة؛ في بيتك، مع زوجتك، مع أولادك، مع جيرانك، في بيعك، في شرائك، لمن يسألك حاجةً، لمن يستغيث بك، لمن تكون فوقه، لمن تكون دونه، يجب دائماً أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أسوةً لك إذا كنت مؤمناً صادقاً؛ فإن كان غير النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الدنيا، من أهل العلم، من أهل القوَّة، من أهل المَنَعَةَ، من أهل المغامرات، من أهل السياحات، إذا كان هناك رجل دائماً تفكِّر فيه، دائماً تترسَّم خطاه، تقفو أثره، تقلِّده وأنت لا تدري غير النبي ففي الإيمان ضعفٌ شديد، وبينك وبين كمال الإيمان مراحل فسيحة
النبي أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا:
الله سبحانه وتعالى يقول:
وقد يقول قائل: أنا أرجو الله واليوم الآخر ومع ذلك ليس النبي أسوةً لي في كل شؤوني؟ أحياناً يوضَع الإنسان في ظرف فيسأل رجلاً من أهل القانون ماذا أفعل؟ بينما النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف سلك هذا الطريق، فإذا رفضت سنَّة النبي، ورجوت أن تأخذ حقَّك الذي ضمنه لك القانون، ولو كان الشرع ينهى عنه، فليس النبيُّ أسوةً لك، فلذلك جاء التعقيب الآخر:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾
فالأمر لا ينصبُّ على ذكر الله؛ بل على ذكر الله الكثير، فمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً، من لوازم هذا الرجاء الصادق، وهذا الذكر الكثير أن يكون النبي ملء سمعه وبصره؛ بأقواله، وأفعاله، وسنَّته، ورضاه، وغضبه، بسلمه وحربه، بعطائه ومنعه، بمودَّته وجفوته، بعبادته، بصلاته، بصيامه، بحجِّه..
﴿
هذه كلها أدلَّة.
مقياس الشخصية العظيمة في نظر الإنسان:
إذاً: من الممكن أن يكون معنا الآن مقياس؛ ما هي الشخصيَّة الكبيرة في نظرك؟ العظيمة في نظرك؟ التي تأتيك الخواطر تلو الخواطر كي تقلِّدها، وكي تقفو أثرها، وكي تسير على منهجها؟ إنَّ هذه الشخصيّة إن كانت رسول الله فبَخ بَخِ، فذلك محض الإيمان، إن كنت تهتدي بهدي النبي في معاملة الزوجة فأنت مؤمنٌ وربِّ الكعبة، إن كنت تهتدي بهدي النبي في البيع والشراء فأنت مؤمنٌ ورب الكعبة، إن كنت تهتدي بهدي النبي فيمن أساء إليك فأنت مؤمنٌ ورب الكعبة، ما الذي يرفع من مكانتك؟ أن يكون النبي أسوةً لك وقدوة، وحينما طبَّق النبي ما قاله بلسانه فقد أقام الحجَّة على الخلق، لو أن الدعوة إلى الله عملية كلام القضيَّة سهلة جداً، ولكن لن يسمح الله لك أن تؤثِّر في الآخرين، ولن يجري الله الخير على يديك إلا إذا حقَّقت مهمَّتين عظيمتين، مهمَّة التبليغ ومهمة القدوة، لذلك قالوا: "ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجَّةٍ بعد الإسلام". وعن عبد الله بن عمر:
(( أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا ، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يُمضِيَه أمضاه؛ ملأ اللهُ قلبَه يومَ القيامةِ رِضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له؛ ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ. ))
دائماً هذه الآية، متى يكون رسول الله قدوةً لي؟ مثلاً أعلى؟ أسوةً حسنة؟ إذا كنت أرجو الله واليوم الآخر، متى تتجه إلى فلان لتسأله عن هذه البلدة؟ عن فنادقها؟ عن مطاعمها؟ عن أجور السفر؟ عن الإقامة؟ كيف أسكن؟ كيف أعيش؟ كيف آكل؟ كيف أشتري؟ إلى أي مكان أذهب؟ ماذا تنصحني؟ متى؟ متى تتجه إلى زيد من الناس لتسأله إيضاحاتٍ كثيرة عن هذه البلدة؟ إن كنت ترجو أن تزور هذه البلدة، كلام واضح كالشمس، ومتى يكون النبي قدوةً لك وأسوة؟ إذا كنت ترجو الله واليوم الآخر وذكرت الله كثيراً، فهذا ميزان دقيق جداً يوضَع بين أيديكم، قل لي من تعظِّم أقل لك من أنت، قل لي ما الشخصيَّة التي تحترمها احتراماً كبيراً أقل لك من أنت، لأن الإنسان يعظِّم مِن جِنْسِهِ.
الرسول أسوة في الصبر والحلم:
(( لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ، ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ . ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ. ))
وجاهد في الله حقَّ الجهاد، وأُوذي وما أُوذي أحدٌ مثله وصبر، وقد عُرِضَت عليه الدنيا بكل أنواعها، يزوِّجوه أجمل النساء، يجعلوه زعيماً لهم، يعطونه كل الأموال، قال:
أيها المؤمنون لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة؛ في صبره، في حلمه.. جرَّه أعرابي من ثوبه، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام.. قال له أحدهم: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:
(( يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ، قَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ، وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. ))
اقرأ السيرة، هذه السيرة ليست للاطلاع وللاستمتاع، بل للتطبيق، يجب أن يكون النبي في سيرته أسوةً حسنة.
الرسول أسوة في الزوج الصالح والأب الناجح:
السيدة عائشة كسرت طبق طعامٍ وقد أصابتها الغيرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام بحلمه الشديد قال: عن أنس بن مالك:
(( كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فأرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فجَمَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الذي كانَ في الصَّحْفَةِ، ويقولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ. ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حتَّى أُتِيَ بصَحْفَةٍ مِن عِندِ الَّتي هو في بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إلى الَّتي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ في بَيْتِ الَّتي كَسَرَتْ. ))
كان زوجاً ناجحاً، كان أباً ناجحاً، كان صديقاً ناجحاً، كان نبياً عظيماً، كان رحيماً، رؤوفاً.
الرسول أسوة في الرحمة والتواضع:
دخل أحد أصحابه فلم يجد له مكاناً في المجلس، فخلع النبي رداءه وقذفه له، وقال: اجلس عليه، فبكى هذا الصحابيٌّ الجليل، قال: "فداك أبي وأمي ما كنت لأجلس على ردائك، أكرمك الله كما أكرمتني"..
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾
المؤمن مصدِّق لوعد الله ووعيده مستسلم لقضاء الله وقدره:
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾
الله يمتحنك بالرخاء، يمتحنك بالشدَّة، يمتحنك بالصحة وبالمرض، بالقوة وبالضعف، بإقبال الدنيا وإدبارها، يمتحنك بزوجة أحياناً جيِّدة جداً أو سيئة جداً.
أحد الناس عنده زوجة سيئة قيل له: طلقها، فقال: والله لا أطلقها فأغشَّ بها المسلمين، حتى لا يُغَشوا فيها، أنا تحملتها، يمتحنك بولد بار، هل تفسده؟ يمتحنك بولد فاسد، هل تصبر عليه؟ يمتحنك بجار سوء، هل تحسن إليه كما فعل النبي؟ النبي عليه الصلاة والسلام أسوةً لنا..
﴿
فالإنسان يُمْتَحَن في كل الأحوال، فإذا جاء امتحان الله استقبله بالرضا، استقبله بالثبات، استقبله بالشكر..
حَدثان عظيمان يحددان معالم النهاية لغزوة الأحزاب:
الحدث الأول أثر إسلام نعيم بن مسعود في قلب موازين معركة الخندق:
فنعيم بن مسعود كان من غطفان، وقد جاء ليحارب النبي، لكنَّه أعمل عقله، إنما الدين هو العقل، ومن لا عقل له لا دين له، لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، أي ممكن أن ترقى إلى أعلى عليين حينما تستخدم عقلك النَيِّر، ويمكن أن يهوي الإنسان إلى أسفل سافلين حينما يعطِّل عقله، فسيدنا نُعَيْم انظروا بماذا حدّث نفسه، قلنا: إن هناك حديثًا نفسيًا.
قال: يا نعيم - هو يخاطب نفسه - ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نَجْد لحرب هذا الرجل؟ لماذا أنت هنا؟ لماذا جئت لتحارب هذا الرجل؟ إنك لا تحاربه انتصاراً لحقٍّ مسلوب، أو حميةً لعِرضٍ مغصوب ؛ وإنما جئت تحاربه لغير سببٍ معروف، لماذا أنت يا نعيم هنا؟ لماذا أنت حول المدينة؟ لماذا جئت لتحارب النبي؟ حدَّث نفسه، استخدم عقله، قال: إنك يا نعيم ما جئت لتحاربه انتصاراً لحقٍ مسلوب، أو حميةٍ لعرضٍ مغصوب؛ وإنما جئت تحاربه لغير سببٍ معروف، أيليق يا نعيم برجلٍ له عقلٌ مثل عقلك أن يقاتل فيقتل أو يقتُلَ بغير سبب؟ هكذا بلا سبب؟ أن أموت أو أن أُميت بلا سبب؟ هذه مناقشة عقليَّة، ويحك يا نعيم، ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؟
على الإنسان قبل أن يهاجم شخصاً له دعوةٌ إلى الله، له عملٌ طيِّب، له إخوان يستقيمون على أمر الله، قبل أن تهاجمه فكِّر ماذا تفعل؟ إلى أين أنت ذاهب؟ لوجه من تهاجم فلاناً؟ لوجه الشيطان، ماذا أفادك أن تهاجمه وأن تحطِّمه في نظر تلامذته؟ فالإنسان أحياناً يتحرَّك بدافع شيطاني، وهو لا يدري، سيدنا نُعَيْم وقف، قال: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: ويحك يا نعيم، ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؟ ما الذي يحملك على أن تغمس رمحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق؟ ولم يحسم هذا الحوار العنيف بين نُعَيْمٍ ونفسه إلا أنه اتخذ قراراً حازماً، وقام لتنفيذه، تسلَّل نعيم بن مسعود من معسكر قومه تحت جُنْحِ الظلام، ومضى يحثُّ الخُطا إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم، فلمَّا رآه النبي عليه الصلاة والسلام، طبعاً هناك حواجز، وهناك حراسة، وهناك من سأله، وهناك من استوثق من نِيَّته الطيِّبة، وهناك من ساقه إلى النبي، المسلمون ليسوا هكذا ببساطة، المؤمن كيسٌ فطنٌ حَذِر، ولكن هذه التفصيلات لا تعنينا الآن، فلمَّا رآه النبي عليه الصلاة والسلام ماثلاً بين يديه قال: "نعيم بن مسعود؟" قال: نعم يا رسول الله، قال: "ما الذي جاء بك إلينا في هذه الساعة؟" قال: "جئت لأشهد أنه لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، وأنَّ ما جئت به حق" استخدم عقله، فكَّر، ارتفع بهذا التفكير إلى أعلى عليين، ثمَّ أردف يقول: "لقد أسلمت يا رسول الله، وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي - أسلمت بيني وبينك- فمرني بما شئت".
وعندما أسلم سيدنا نُعَيْم أنا أعتقد طيلة تاريخ الدعوة الإسلاميَّة ما مرَّ النبي وأصحابه في مأزقٍ حرجٍ، وضعفٍ شديد، وكاد اليأسُ أن يتسرَّب إلى قلوب أصحابه، لكنَّه مع المنافقين تسرَّب إلى قلوبهم، وتمكَّن من قلوبهم، حتَّى إنهم قالوا:
أقول لكم مرَّةً ثانية: ليست معركة الخندق معركة انتصارٍ أو هزيمة؛ إنما هي معركة بقاءٍ أو فناء، للمسلمين والإسلام على حدٍ سواء.
ذكاء نعيم بن مسعود في تشتيت وتضعيف الأعداء:
في هذه اللحظة الحرجة أجرى الله سبحانه وتعالى على يدي هذا الصحابي الجليل خيراً لا يعلمه إلا الله، فقال عليه الصلاة والسلام: يا نعيم، إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فاذهب إلى قومك، وخذِّل عنَّا ما استطعت، فإن الحرب خُدعة، فقال:
قال: فمضى نعيم بن مسعود من تَّوه إلى بني قريظة، هؤلاء الذين خانوا عهد النبي، وهؤلاء الذين أرادوا أن يجعلوا من ديارهم منفذاً إلى ظهر النبي وأصحابه، وهؤلاء الذين اتفقوا مع الأحزاب على أن يستأصلوا النبي، ذهب إليهم، وكان لهم من قبل صاحباً ونديماً، قال لهم: يا بني قريظة، لقد عرفتم ودّي لكم، وصدقي في نصحكم، قالوا: نعم فما أنت عندنا بمتَّهم، قال: إنَّ قريشاً وغطفان لهم في هذه الحرب شأن غير شأنكم- أي أنتم شيء وهم شيء آخر- قالوا: وكيف؟ قال: أنتم هذا البلد بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وليس بوسعكم أن تهجروه إلى غيره، أما قريش وغطفان فبلدهم وأموالهم وأبناؤهم ونساؤهم في غير هذا البلد - أنتم لكم وضعٌ خاص - وقد جاؤوا لحرب محمَّد، ودعوكم لنقض عهده، ومناصرتهم عليه فأجبتموهم، فإن أصابوا نجاحاً في قتاله اغتنموه، وإن أخفقوا في قهره عادوا إلى بلادهم آمنين، وتركوكم له، قالوا: فماذا ترى؟ قال: الرأي عندي ألا تقاتلوا معهم حتَّى تأخذوا طائفةً من أشرافهم، وتجعلوهم رهائن عندكم، وبذلك تحملوهم على قتال محمدٍ معكم، إلى أن تنتصروا عليه، أو يفنى آخر رجلٍ منكم ومنهم، قالوا: والله أصبت، أشرت ونصحت. ثم خرج من عندهم، وأتى أبا سفيان بن حرب قائد قريش، وقال له ولمن معه: يا معشر قريش! لقد عرفتم ودي لكم وعداوتي لمحمَّد، ولقد بلغني أمرٌ فرأيت حقاً عليَّ أن أفضي به إليكم نصحاً لكم على أن تكتموه، ولا تُذيعوه عني، قالوا: لك علينا ذلك، قال: إن بني قريظة قد ندموا على مخاصمتهم لمحمَّد، فأرسلوا إليه يقولون: إنَّا قد ندمنا على ما فعلنا، وعزمنا أن نعود إلى معاهدتك ومسالمتك، فهل يرضيك يا محمَّد أن نأخذ لك من قريشٍ وغطفان رجالاً كثيراً من أشرافهم ونسلِّمهم إليك لتضرب أعناقهم ثم ننضم إليك في محاربتهم حتى تقضي عليهم؟ فأرسل إليهم يقول: نعم، فإن بعثت اليهود تطلب منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم أحداً، فقال أبو سفيان: نِعْمَ الحليف أنت - جزيت خيراً، لم يخطر على بالنا هذا الشيء - وجزيت خيراً كما قلت قبل قليل.
ثم خرج نعيم من عند أبي سفيان ومضى حتَّى أتى قومه غطفان، فحدَّثهم بمثل ما حدّث به أبا سفيان، وحذَّرهم مما حذَّرهم منه، أراد أبو سفيان أن يختبر بني قريظة - الآن الاختبار - فأرسل إليهم ابنه فقال لهم: إن أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: إنه قد طال حصارنا لمحمَّد وأصحابه حتَّى مللنا، وإننا قد عزمنا على أن نقاتل محمَّداً، ونفرغ منه، وقد بعثني أبي إليكم ليدعوكم إلى منازلته غداً، فقالوا: إن اليوم يوم سبت- مثلما جاء أحدهم وقال: لئلا ينتهك حرمة السبت، وبقي يقصف الأطفال والنساء عشرين عاماً - ونحن لا نعمل فيه شيئاً، ثم إننا لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين من أشرافكم وأشراف غطفان ليكونوا رهائن عندنا، فإننا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم، وتتركونا لمحمَّدٍ وحدنا، وأنتم تعلمون أنه لا طاقة لنا به. فلمَّا عاد أبو سفيان إلى قومه، وأخبرهم بما سمع من بني قريظة، قالوا بلسانٍ واحد: خسئ أبناء القردة والخنازير، والله لو طلبوا منَّا شاةً رهينةً ما دفعناها إليهم.
الخاتمة السعيدة لغزوة الأحزاب: وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَال:
سيدنا نعيم شقَّ صفوفهم، نجح نعيم بن مسعود في تمزيق صفوف الأحزاب، وتفريق كلمتهم، والقصَّة كما تعلمونها، أرسل الله عليهم ريحاً شديدةً اقتلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وأطفأت نارهم، وظلامٌ شديد، وبردٌ شديد، وخذلتهم بنو قريظة، وتخوَّف كل فريقٍ من الآخر..
آخر نقطة في القصَّة: لما كان يوم فتح مكَّة وقف أبو سفيان بن حرب يستعرض جيش المسلمين، فرأى رجلاً يحمل راية غطفان، فقال لمن معه: من هذا؟ قالوا: هذا نعيم بن مسعود، فقال: بئس ما صنع بنا يوم الخندق، عرف تماماً ماذا فعل بهم، والله لقد كان من أشدِّ الناس عداوةً لمحمد، وها هو الآن يحمل راية قومه بين يديه، ويمضي لحربنا تحت لوائه!! المؤمن كيسٌ فطنٌ حَذِر، والحرب خدعة، وقد أجرى الله سبحانه وتعالى هذا النصر المؤزَّر على يدِ رجل.
مرَّة سيدنا سعد استنجد بسيدنا عمر بمأزق مع الفُرس، أمدَّه برجلٍ واحد، واحد هو القعقاع بن عمرو، كان القعقاع وحده بمثابة جيش، هناك واحدٌ كألف وألفٌ كأُف.
الحدث الثاني مع حذيفة بن اليمان:
قال: "فخرجت، وأنا من أشدِّ الناس فزعاً، وأكثرهم برداً"، فقال عليه الصلاة والسلام: عن حذيفة بن اليمان:
(( اللهمَّ احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته.. ))
فوالله ما تمَّت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام حتَّى انتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوف- كل هذا الخوف الذي كان في قلبي انتُزِع- وأزال عن جسدي كل ما أصابني من برد- لم يعد هناك برد ولم يعد هناك خوف - فلمَّا وليت ناداني عليه الصلاة والسلام، وقال:
ثم قام إلى جمله ففكَّ عقاله، وجلس عليه، ثم ضربه فوثب قائماً، ولولا أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمرني ألا أُحْدث شيئاً حتَّى آتيه لقتلته بسهم، عند ذلك رجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فوجدته قائماً يصلي، فلمَّا رآني أدناني إلى رجليه وطرح عليَّ طرف المرط، فأخبرته الخبر فسُرَّ به سروراً شديداً، وحمد الله وأثنى عليه.
إذا أكرم الله الإنسان بشيء فعليه فوراً أن يشكر الله عزَّ وجل، حتَّى إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد سجود الشُكر، الآية الكريمة:
اجعل لربِّك كــل عـزِّك يسـتقر ويثبت فـإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميِّت
* * *
سبحانك! إنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت..
﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
حديث القرآن عن بني قريظة:
أما الحديث عن بني قريظة فله قصَّةٌ طويلة، لخَّصها القرآن في آيةً واحدة قال:
مغزى قصة الأحزاب نصر الله المسلمين في الضعف والشدة:
الحقيقة مَن قرأ قصَّةً، ولم يفهم معناها، أو لم يقف على مغزاها فهناك احتمال، إما أنه لم يقرأها، أو أن الذي أمامه ليس قصَّةً، أما كل قصَّةٍ فلها مغزىً عميق، ومغزى هذه القصَّة أن الله سبحانه وتعالى وأنت في أشدِّ حالات الضعف، وأنت على وشك الدمار والهلاك، يمكن أن يأخذ بيدك وينجيك من كل همّ وبلاء، وأكبر دليلٍ على ذلك أنه ما من مصيبةٍ على وجه الأرض أعظم من أن تُلقى في ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، الأمل صفر، سيدنا يونس:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
انتهت القصَّة، التعقيب جعلها قانوناً..
على الإنسان أن يكون دائماً في خندق الحق:
دائماً كن في خندق الحق، لأن الله هو الحق، ولأن الله قويٌ عزيز، فإذا كنت في صفِّ أعداء الحق فأنت منهزمٌ لا محالة..
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾
ولو عمَّر الباطل سبعين سنة، في النهاية لابدَّ من أن يتهاوى كما يتهاوى بيت العنكبوت، إذا كنت مع الله فلا تخش أحداً، كن مع الله تر الله معك، إذا كنت مع الله كان الله معك، يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ وأكبر مغزى أن المسلمين في بدر حينما كانوا قلَّةً ضعافاً نصرهم الله عزَّ وجل، فقال:
﴿
أما في حنين فقد كانوا أقوى قوَّةٍ في الجزيرة، وقالوا في أنفسهم: لن نُغْلَب اليوم من قلَّة..
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى:
إذاً من الممكن أن نجمع العلم كله في التوحيد، وقال علماء العقيدة: نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل التقوى، أعلى درجة في العلم أن ترى أنه لا إله إلا الله، قال:
﴿
أي لا رافع، ولا خافض، ولا معز، ولا مذل، ولا معطٍ، ولا مانع، ولا ناصر، ولا مُخْذِل إلا الله، أطعه، وتوكَّل عليه ولك الدنيا والآخرة، فإذا استغنيت عنه آخر حديث قدسي: "ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه"..
كـــــــن مــــــــع الله تَـــــــرَ الله معـــــــك واتـــــــرك الكل وحـــــاذر طمعـــــــــك
* * *
أطع أمــرنا نــــــــرفع لأجـــــلك حجبنــــــــا فإنَّا منحنا بالرضا مَن أحبَّنــــــــــــــــا
ولُذْ بحمــــــــــانـــــــا واحتـــــــــمِ بجنابنـــــــــا لنحميك مما فيه أشرار خلـقنــــــــــــا
وعـن ذكرنــــــــــا لا يشغــــــلنَّك شاغـــــــلٌ وأخلص لنا تلقَ المسرَّة والهنــــــــــا
وسلِّم إلينا الأمر في كــــلِّ ما يكـــــــــــن فمـا القرب والإبعاد إلا بأمـرنــــــــــــــا
وسر نحونا في الليل لا تخشّ وحشة وكن ذاكراً فالأنس في طيب ذكرنـا
وجدناك مضطــــراً فقلنــــــا لك: ادعنـــــا نجبْك فقل هل أنت حقاً دعوتنـــــا؟
دعوناك للإحسان أعرضـــــت نائيـــــــــاً فهل تلقى من يحسن لمثلك مثلنا؟
* * *
الإنسان عندما يعتمد على الله عزَّ وجل، ويحسن العلاقة به، ويطيعه، يعش في حياةٍ لا ترقى إليها حياة الملوك، قال أحد العارفين:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين