وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 04 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 9 - 13 غزوة الأحزاب 1
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

بين يدَي غزوة الأحزاب:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الرابع من سورة الأحزاب.

وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية التاسعة، وهي التي تبدأ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9)﴾ وتستمرُّ الآيات من الآية التاسعة وحتَّى الآية السابعة والعشرين، تتحدَّث هذه الآيات عن غزوة الخندق، وقد رأيت أن أشرح لكم قبل أن نفسِّر الآيات غزوة الخندق، فإذا تُلِيَت الآيات نكون كأننا ألقينا ضوءاً على تلك الآيات التي تتحدَّث عن غزوة الخندق.

 أيها الأخوة الأكارم؛ النبي عليه الصلاة والسلام مُشَرِّعٌ في أقواله، ومشرِّعٌ في أفعاله، فإذا كانت أقواله شرحاً لكتاب الله عزَّ وجل، فإن أفعاله شرحاً مُفَصَّلاً ووافياً لأقواله، وسِيَرُ الصحابة أيضاً فيها الفوائد، والفكر، والعِبَر الكثيرة. 

فقبل كل شيء هذه الموقعة أو الغزوة هي الغزوة الثالثة، غزوة بدر، وغزوة أُحُد، وغزوة الخندق. 


  حيثيات ما بعد غزوة أُحُد:


بعد غزوة أحد وإجلاء بني النضير ثارت ثائرة اليهود، فتحرَّك زعماء اليهود واتجهوا إلى مكَّة المكرَّمة، والتقوا بزعماء قريش، وقالوا لهم: "إنَّا سنكون معكم إلى أن نستأصل النبي وأصحابه".

أيها الأخوة الأكارم؛ من أخطر الغزوات التي مرَّت على المسلمين غزوة الخندق، لا لشيء إلا لأنها غزوة استئصال، ليست غزوة نصرٍ أو هزيمة؛ بل غزوة وجودٍ أو عدم وجود، تتميَّز غزوة الخندق بأنها غزوةٌ مصيريَّة، أي مصير الإسلام، وجود المسلمين، بقاء هذه الرسالة كان مخطَّطاً له أن ينتهي في هذه الغزوة، فقال زعماء اليهود لزعماء قريش: "سنكون معكم حتَّى نستأصِلَ محمَّداً وأصحابه". قال أبو سفيان: "مرحباً وأهلاً، وأحبُّ الناس إلينا من أعاننا على أعدائنا، ولكن لا نأمنكم إلا إذا سجدتم لآلهتنا، حتَّى نطمئنَّ لكم" ففعلوا، ضحوا بعقيدتهم، وضحوا بمبادئهم، وضحوا بمقدَّساتهم، وسجدوا للأصنام، كل هذا من أجل أن يستأصلوا النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وأن يطفئوا نور الله عزَّ وجل، عندئذٍ قالت قريشٌ لأُولئك اليهود: "يا معشر اليهود إنكم أهل كتاب، أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمَّد، أَفَديننا خيرٌ يا معشر اليهود- الوثنيَّة والشرك والأصنام- أم دين محمَّد؟ أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟" فقالوا:  "بل دينكم خيرٌ من دينه، وأنتم أولى بالحقِّ منه، وأنتم أهدى سبيلاً، لأنكم تعظِّمون هذا البيت، وتقومون على سقايته، وتنحرون البُدن، وتعبدون ما كان يعبد آباؤكم، فأنتم أولى بالحقِّ منه" ، فأنزل الله فيهم: 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)﴾

[ سورة النساء ]

هذه بدايات غزوة الخندق، بل إن آيةً أخرى تعنيهم، قال تعالى: 

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾

[ سورة الجاثية ]

حينما سجدوا لأصنام قريش، وهم أهل كتاب، اتخذوا أهواءهم في استئصال الرسالة الإسلاميَّة آلهةً لهم.. ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(23)﴾ لذلك النبي عليه الصلاة والسلام من أدعيته الشريفة كان يقول: "اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه" .

بعض زعماء اليهود ماذا قال لقومه ؟ قال: "يا قوم، قد رأيتم ما رأيتم، فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمَّداً، والله إنكم لتعلمون إنه لنبي، قد بُشِّرنا به وبأمره، بشَّرنا به فلان وفلان -وسمَّى اسمين من أعلم علماء اليهود- وهما أعلم يهودٍ جاءانا يَتَوَكَّفان قدومه، وأمرونا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس، وأمرانا أن نُقْرِئَهُ السلام، ثم ماتا على دينهما، ودفنَّاهما بحرَّتنا هذه" . أي من أعلم علماء اليهود جاءا إلى معشر اليهود في المدينة، وبشَّرا بقدوم النبي، وقد أمراهم باتباعه صلى الله عليه وسلَّم، لذلك قال تعالى: 

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)﴾

[ سورة البقرة ]

ومع ذلك سجدوا لأصنام قريش. 

 

بدايات معركة الأحزاب وحيثيات أحداثها الأولى:

 

1 ـ مشاورة النبي أصحابَه في أمر عدوِّهم:

أيها الأخوة؛ الآن بدايات هذه المعركة أن قبيلة خُزاعة أرسلت موكباً قطع الطريق بين مكَّة والمدينة في أربع ليالٍ، ويُحْمَل الخبر إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أجمعوا عليه، دعا الناس، وأخبرهم خبر عدوِّهم، وشاورهم في أمرهم، لذلك ربنا سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يشاور أصحابه، قال: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلَّم المعصوم، الذي هو خير خلق الله كلهم، الذي هو المخلوق الأول، الذي هو سيِّد الأنبياء والمرسلين، الذي هو حبيب الله، الذي هو خاتم رسل الله، هذا النبي المعصوم الذي يوحى إليه أُمِرَ أن يستشير أصحابه، فما بال شخصٍ ليس نبيَّاً لا يستشيرُ أصحابه؟! مشاورة الأصحاب من سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد أن عَلِمَ أن قريشاً وغطفان وخزاعة قد ائتمرت جميعاً على حرب النبي عليه الصلاة والسلام، واستئصاله، وإطفاء دعوته، وأعدوا لهذا عُدَّته، وقطعوا الطريق بين مكَّة والمدينة تمهيداً لهذه الغزوة، جمع أصحابه، وأطلعهم على ما وصل إليه، وأخبرهم بكل شيء، بل إنَّ عمَّه العبَّاس رضي الله عنه أسلم قبل بدر، وبقي في مكَّة عيناً للنبي عليه الصلاة والسلام، فكان عمُّه العبَّاس يرسل له الأخبار تباعاً، وأي أخبار؟ الأخبار الخطيرة، هو كان مع زعماء قريش، وقد وصل إلى النبي تفاصيل هذه الغزوة، واتفاق قريشٍ مع اليهود، واتفاق قريشٍ مع غطفان وخزاعة، فالنبي عليه الصلاة والسلام على بيِّنةٍ من أمره، وها هو ذا يشاور أصحابه في أمر هذه الغزوة الكبيرة الخطيرة المصيريَّة.  

2 ـ اقتراح سلمان الفارسي حفْرَ خندقٍ:

قال سلمان الفارسي: "يا رسول الله إنَّا كنَّا بأرض فارس إذا تخوَّفنا من الخيل، وإذا حوصرنا خندقنا عليها" ، أي حفرنا خندقاً، حمانا هذا الخندق من خيل العدو.

 النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام أُعْجِبوا بهذه الفكرة، ولاسيما أن قوَّة قريشٍ تكمن في الفرسان، وهم يمتطون خيولهم، أي القوة الضاربة في قريش الفُرسان، عندهم خيولٌ كثيرة، وعندهم فرسانٌ كُثُر، فما دامت قوتهم الكبيرة تكمن في الخيل، وعليها الفرسان، فالخندق سلاحٌ فَعَّالٌ يقف في وجه هذه الغزوة الشرسة.   

3 ـ إشراف النبي عليه الصلاة والسلام على مكان حفر الخندق:

النبي عليه الصلاة والسلام ذهب بنفسه إلى موقع الخندق، واستشرف معالم الخندق، وحدَّد مكانه، وأمر أصحابه أن يحفروا هذا الخندق الذي يزيد طوله عن ستَّة كيلومترات، ويزيد عمقه عن ثلاثة أمتار، ويزيد عرضه عن سبعة أمتار، وقد اختار النبي عليه الصلاة والسلام هذا الخندق بين حَرَّتين وجَبَلَيْن، بمعنى أنه المنفذ الإجباري إلى المدينة، وكان بنو قُرَيْظَة ظَهْرَ المسلمين في المدينة، وبين النبي عليه الصلاة والسلام وبين بني قريظة معاهدةٌ وعهدٌ بألا يوقع طرفٌ بالآخر أذىً، بقيت الجبال والحرَّات حواجز منيعة، والمنفذ الوحيد إلى المدينة هذه الفُرْجَة التي تزيد على ستة كيلو مترات. ومَن ذهب منكم إلى المدينة المنوَّرة، وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى منطقة غزوة الخندق حيث جبل سِلعْ، وحيث مساجد الصحابة الكرام، في هذا الموقع حُفِرَ الخندق.  

وقد عَمِلَ صلى الله عليه وسلَّم في حفر الخندق مع المسلمين بنفسه، كان كأحد المسلمين يحفر، وينقل التراب، وكان كواحدٍ منهم، وحمل التراب على ظهره الشريف، وهذا من دلائل نبوَّته عليه الصلاة والسلام، هذا من تواضعه، هذا من قدوته، هذا من أنه هو المثل الأعلى.  

4 ـ تخفيف النبي على أصحابه وطأة المشقة والجوع بترديد الشعر:

لكن في أثناء حفر الخندق كان العمل شاقاً ومرهقاً، ولاسيما وفي المدينة موجة جوع، عامٌ فيه قَحْطٌ، وفيه مجاعةٌ، وفيه موجة بردٍ شديدة، جوعٌ وبردٌ وخوف، والخندق في ظاهر المدينة، فقال كُتَّاب السيرة: "لقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم تعبٌ وجوعٌ وبرد، لأنه كان في زمن عسرةٍ وعام مجاعة، ولما رأى صلى الله عليه وسلَّم ما بأصحابه من النصبِ والجوع، قال متمثِّلاً بقول عبد الله بن رواحة -أحد أصحابه وكان شاعراً - كان عليه الصلاة والسلام في أثناء الحفر يقول: عن أنس بن مالك:

(( اللهم لا عيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ فَأَصْلِحِ الأَنْـصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ. ))

[  صحيح البخاري ]

اللهمَّ لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة           فارحم الأنصــــار والمهاجــــــرة

اللهمَّ لا خيرَ إلا خيــــرُ الآخـــــرة           فبارك في الأنصار والمـهاجرة

اللهمَّ إن الأجر أجـــــر الآخــــــــرة           فــــــــارحم الأنصار والمهــاجرة

اللهمَّ لا خيرَ إلا خيـــــرُ الآخـــــرة           فانصــر الأنصـــار والمهـاجرة

* * *

هذا الشعر الذي يبُثُّ الحماسة في نفوس أصحابه، ويخفِّف عنهم متاعب الجوع، والخوف، والبرد، والجهد الشاق، فأجابوه رضي الله عنهم:

(( عن أنس بن مالك: كَانَتِ الأنْصَارُ يَومَ الخَنْدَقِ تَقُولُ : نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا علَى الجِهَادِ ما حَيِينَا أبَدَا فَأَجَابَهُمْ اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ... فأكْرِمِ الأنْصَارَ والمُهَاجِرَهْ.  ))

[  صحيح البخاري ]

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ينقل التراب، وقد وارى التراب جلد بطنه الشريف، متمثلاً قولَ ابن رواحة: عن البراء بن عازب:

(( رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الأحْزَابِ يَنْقُلُ التُّرَابَ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، وَهو يقولُ: لَوْلَا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فأنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا، إنَّ الأُلَى قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبيْنَا. وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: أبَيْنَا أَبَيْنَا. ))

[ صحيح البخاري ]

وأعاد أبينا ثلاث مرَّات:

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً                أَبَيْنَــا أبَيْنَا  أَبَيْنَا

* * *

هكذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾

[ سورة الشورى ]  

5 ـ النظام الكامل لأصحاب النبي واستئذانهم في مغادرة مكان العمل للحاجة:

في أثناء الحفر كان المسلم إذا نابته نائبةٌ، وبدت له حاجةٌ لابدَّ منها كان يذكرها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ويستأذنه في اللحاق بها، فإذا قضى حاجته، رجع إلى ما كان عليه من عمله رغبةً في الخير والثواب، هذا من أخلاق أصحاب رسول الله، لذلك نزل في حقِّهم: 

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)﴾

[ سورة النور ]

لكن بعض المنافقين كانوا يتسلَّلون لِواذاً، أي يخرجون من ساحة المعركة، ومن ساحة الحفر، ومن ساحة الخندق إلى بيوتهم يستريحون، ويبتعدون عن صخب المعركة، وعن هول المشقَّة.  

6 ـ عدم جواز ترويع المسلم وأخذ حاجاته الأساسية مزحًا:

أحد أصحاب النبي وهو زيد بن ثابت كان غلاماً، وكان ممن ينقل التراب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنه ِنْعمَ الغلام غلبته عيناه في الخندق فنام، فأخذ عمَّارة بن حزمٍ سلاحه وهو نائم، فلمَّا قام فزع على سلاحه، فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: يا غلام قد نمت حتى ذهب سلاحك ثم قال: من له علمٌ بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمَّارة: " أنا يا رسول الله، وهو عندي، فقال عليه الصلاة والسلام: ردَّه عليه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يُرَوَّع المسلم، وأن يؤخّذ متاعه لَعِبَاً. هذا حكمٌ شرعي، أن تأخذ حاجةً أساسيَّةً، أن تأخذ جواز سفر إنسان مازحاً كي يفزع، وكي يبحث عنه، أن تأخذ أداة من أدواته الأساسيَّة، هذا ليس من الكمال في شيء.  

7 ـ الكلّ يعمل:

وقد رُوي أن أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما كانا ينقلان التراب بثيابهما، أروع ما في المعركة أن الكلَّ يعملون، وعلى رأسهم النبي عليه الصلاة والسلام، هو واحدٌ منهم، هو ينقل التراب على ظهره الشريف، ويرتجز بهذه الأبيات، ويبثُّ الحماس في أصحابه، وكانا أبا بكرٍ وعمر صاحباه ينقلان التراب بثيابهما لقلَّة الأوعية.   

8 ـ قوة النبي الجسمية:

الآن هناك شيء لا يكاد يصدَّق هو أن أصحاب رسول الله في أثناء حفر الخندق يقول أحدهم وهو عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان، والنعمان بن مقرِّن المزني وستَّةٍ من الأنصار في أربعين ذراعاً، كل عشرة أصحاب كرام خَطَّ لهم النبي أن يحفروا أربعين ذراعاً فحفرنا المكان الذي خُصِّصَ لنا، وقد ظهر لنا من بين الخندق صخرةٌ بيضاء كَسَرَت حديدتنا، أي في أثناء الضرب كُسِرَت المعاول، وشقَّت علينا، فقلنا: يا سلمان: ارقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فأخبره خبر هذه الصخرة ـ أي إذا تركناها ينبغي أن ينحرف الخندق، فهل يوافق النبي وهو قائد الجيش على أن ينحرف الخندق؟ إن تركناها انحرف الخندق، وصلابة هذه الصخرة أكبر من معاولنا، فقال: يا رسول الله، بأبينا أنت وأمِّنا خرجت صخرةٌ بيضاء من الخندق فكسرت حديدتنا، وشقَّت علينا حتى ما نستطيع لها محاولةً، فمرنا فيها بأمرك، فإنَّا لا نحب أن نجاوز خَطَّك -الخط الذي رسمته لنا - فهبط النبي عليه الصلاة والسلام مع سلمان في الخندق، ورقينا نحن التسعة على شقَّة الخندق لننظر ماذا سيفعل، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلَّم المِعْوَل، وقال: عن البراء بن عازب:

(( لما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بحَفْرِ الخَنْدَقِ عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال : بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال : اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ ))

[  فتح الباري لابن حجر : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]

بسم الله، بسم الله، وضرب ضربةً فكسرت ثلث الصخرة، وبَرِقَتْ برقةٌ فخرج نورٌ من قِبَل اليمن كالمصباح في جوف الليل المظلم، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلَّم وقال: أُعطيتُ مفاتيح اليمن.

﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾

[ سورة الجن ]

تراءى للنبي عليه الصلاة والسلام أن اليمن سوف تُفْتَح عليه، ثمَّ ضرب الثانية فقطع ثُلُثَا الصخرة، فخرج نورٌ من قِبَل الروم، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلَّم وقال: ((أُعطيتُ مفاتيح الشام والمغرب، والله إني لأبصر قصورَهم الحمر)) ثمَّ ضرب الثالثة فقطع بقيَّة الصخرة، وبرقت برقةٌ فكبَّر وقال: ((أُعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب في مكاني هذا، إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن)) وجعل صلى الله عليه وسلَّم يصف لسلمان الفارسي أماكن فارس، ويقول سلمان: صدقت يا رسول الله هذه صفتها، أشهد أنَّك رسول الله، وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلَّم، ثمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه فتوحٌ يفتحها الله بعدي يا سلمان، تصوَّروا النبي عليه الصلاة والسلام محاصر، محاصر من قِبَل عشرة آلاف مقاتل، لم يأتوا لهزيمته، بل أتوا لاستئصاله، ومع ذلك ثقته بأنه نبي لا يهزُّها شيء، وثقته بأن الله ناصره لا يهزُّها شيء، وثقته بأن المسلمين سوف ينتصرون من بعده لا يهزُّها شيئاً، وهو في وضعٍ حَرِج. 


  موقف المنافقين قبيل غزوة الأحزاب:


عندئذٍ قال المنافقون: "ألا تعجبون من محمَّد يُمَنِّيكم، ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تُفْتَح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الخوف، لا تستطيعون أن تبرزوا، هيهات هَيهات، مِن أين لمحمَّدٍ مُلك فارس والروم، وهم أعزُ وأمنع من ذلك؟ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز قيصر وكسرى، وأحدنا الآن لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط"، هكذا قال المنافقون. 

المنافقون شكَّكوا في وعد النبي، شكَّكوا في الغيب الذي أطلعه الله عليه، شكَّكوا في نبوَّته، قالوا: "أيعدنا صاحبكم أن تُفْتَح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط؟" ما هذا الكلام؟ 

يروي التاريخ أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول حينما فُتِحَت هذه الأمصار في زمن عمر وعثمان وما بعدهما: "افتحوا ما بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينةٍ، ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أُعطي محمَّدٌ صلى الله عليه وسلَّم مفاتيحها قبل ذلك"

 

تبشير النبي أصحابَه بالنصر ووعدُه إياهم بكنوز قيصر وكسرى:


النبي عليه الصلاة والسلام كان يبشِّر المسلمين ويثبِّتهم ويقول: عن أبي هريرة:

(( هلك كِسرى، ثم لا يكون كِسرَى بعدَه، وقيصرُ ليَهلِكَنَّ، ثم لا يكون قيصرٌ بعدَه، و ليُقسَمَنَّ كنوزُهما في سبيلِ اللهِ.))

[ صحيح البخاري ]

(( أبشروا بعون الله ونصره، إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق، وآخْذ المفتاح، وليهلكنَّ قيصر، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقون كنوزهما في سبيل الله. ))

[ السيرة النبوية، وبعضه في الصحيحين  ]

وكان يقول هذا الكلام وهو محاصر، وهو في النهاية الصغرى من خطِّه البياني، أي في أشدِّ حالات الضعف، في أشد حالات قوَّة الأعداء، في أشد أنواع المكر، في أشد أنواع الضغينة والحقد على المسلمين.  

 

معجزات النبي وفضائله قبيل الغزوة:

 

1 ـ معجزة طعام جابر بن عبد الله:

مما ورد في السيرة الشريفة حول هذه المعركة، أن جابر بن عبد الله ألمَّ به جوعٌ شديد، فاستأذن النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى بيته، وقال بعض أصحابه: "لبثنا ثلاثة أيَّامٍ لا نذوق زاداً" ، واستأذن جابرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم -كما قلت قبل قليل- ي الانصراف إلى بيته فأذن له، قال جابر: فجئت لامرأتي، وقلت لها: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم جائعاً جوعاً شديداً، أفعندكِ شيء؟ قالت: عندي صاعٌ من شعير وعَنَاق- والعناق شاةٌ صغيرة - فذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلت اللحم في بُرْمَة- أي في قدر - فلمَّا أمسينا جئت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فساررته- أي بيني وبينه- وقلت له: يا رسول الله، طُعَيمٌ لي - أي أكل قليل لي- فقم أنت يا رسول الله ورجل ورجلان فَكُلا، فشبَّك عليه الصلاة والسلام أصابعه في أصابعي، وقال: كم هو الطعام؟ فذكرت له - أي صاعاً من الشعير، وشاة صغيرة، يكفي أربعة أشخاص أو خمسة - قال: كثيرٌ طيِّب، وصاح عليه الصلاة والسلام بكل أصحابه، وقال: عن جابر بن عبد الله:

(( قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وطَحَنْتُ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أنْتَ ونَفَرٌ، فَصَاحَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: يا أهْلَ الخَنْدَقِ إنَّ جَابِرًا قدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلًا بكُمْ. ))

[ صحيح البخاري ]

تفضَّلوا، وسار النبي صلى الله عليه وسلَّم يقدم الناس، قال جابر: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله - طعام لخمسة أشخاص، والنبي دعا أهل الخندق، وهذه أيضاً من معجزاته صلى الله عليه وسلَّم - وإنها والله لفضيحة - هكذا يقول جابر - قال جابر: "فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وإنها والله لفضيحة، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" .  

أقبل الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأمرهم أن يدخلوا عشرةً عشرة، وأكلوا جميعاً من هذا الطعام الذي صنعه جابر، وهذه أيضاً من معجزات النبي صلى الله عليه وسلَّم. 

2 ـ سلمان منَّا أهل البيت:

تنافس المهاجرون والأنصار في أثناء حفر الخندق في سلمان الفارسي، سبب التنافس أنه رضي الله عنه كان رجلاً قوياً يعمل عمل عشرة رجالٍ في الخندق، فكان يحفر في كُلِّ يومٍ خمسة أذرعٍ في عمق سبعة أذرع، فقال المهاجرون: سلمان منَّا، وقال الأنصار: سلمان منَّا، وقال عليه الصلاة والسلام: لا منكم، ولا منكم، سلمان منَّا أهل البيت، وهذا أصل هذه الكلمة التي قالها عليه الصلاة والسلام. 

النبي عليه الصلاة والسلام قال: "أنا جَدُّ كل تقي ولو كان عبداً حبشياً" ، حينما يطيع الإنسان الله عزَّ وجل، وحينما يصطلح معه، صار من أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لهذا ورد :"أشراف أمَّتي حملة القرآن وأصحاب الليل، الذين حفظوا كتاب الله، وعقلوه، وفهموه، وتلوه على الناس، وأصحاب الليل هم الذين يقومون صلاة الليل، هؤلاء أشراف أمَّتي"

 

استراتيجية النبي عليه الصلاة والسلام قبيل الغزوة:


الآن لما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من حفر الخندق، أقبلت قريشٌ ومن معها، فنزلت قريشٌ بمجمع الأسيال، ونزلت غطفانُ ومن معها إلى جانب أُحد، وعَسْكَرَ النبي صلى الله عليه وسلَّم بالمسلمين في سفح جبل سَلع، فجعل بذلك ظهر عسكره إلى سلع، والخندق بينه وبين الأحزاب، وجعل النساء والذراري في الآطام، واستعرض النبي صلى الله عليه وسلَّم الغِلْمَان، وكانوا بأجمعهم من بلغ ومن لم يبلغ يعملون في الخندق، أصحاب النبي هم وأولادهم يعملون جميعاً في الخندق.

فلمَّا قرب اللقاء مع العدو استعرض النبي الغلمان، وحان الأمر، فأمر من لم يبلغ أن يعود إلى بيته، وأمر من تجاوز الخمسة عشرَ عاماً أن يبقى معه في المعركة، يروي كُتَّاب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأبا سعيد الخِدْرِيّ، والبراء بن عازب، وأعطى النبي لواء المهاجرين لزيد بن حارثة، ولواء الأنصار لسعد بن عبادة، وبعث مسلمة بن أسلم في مئتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمئة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير تخوفاً على الذراري من غدر بني قريظة، لأن النساء والذراري في المدينة، وموقع الخندق خارج المدينة.  

 

مفاجأة المسلمين للمشركين بحفر الخندق:


ولمَّا نظر المشركون إلى الخندق قالوا: "والله إنَّ هذه لمكيدة، وما كانت العرب تكيدها"، تفاجؤوا.

وصار المشركون يتناوبون، فيغدو أبو سفيان في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد في أصحابه يوماً، وعمرو بن العاص يوماً، وهبيرة بن أبي وهب يوماً، وعكرمة بن أبي جهل يوماً، وضرار يوماً، فلا يزالون يجولون ويتحرَّكون وهم حائرون في هذا الموقف الجديد، فوجئوا بالخندق، كان حاجزاً بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، وكان التراب الذي حُفِر قد وضع في الطرف الذي إلى جانب النبي، فصار ساتراً ترابياً، وعقبةً كأْدَاء، وحفرةً عميقة، والمدخل إجباري.   


بدايات المعركة: 


1 ـ محاولات فاشلة من المشركين لاختراق الخندق:

أقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرسٍ له ليوثِبَهُ الخندق، فوقع في الخندق حيث دُقَّت عنقه، وتحطَّم مع فرسه، وقيل: رمي بالحجارة، وضربه علي رضي الله عنه بالسيف فقطعه نصفين، وكَبُرَ ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام: إنَّا نعطيك الديَّة على أن تدفعه إلينا لندفنه، فردَّ عليهم رسول الله بأنه خبيث الديَّة، فلعنه الله ولعن ديَّته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أَرَبَ لنا في ديَّته - خذوه -.  

2 ـ  نقض بني قريظة عهدهم مع النبي:

الحقيقة أن الأمر وصل إلى منطقةٍ حرجة وهي أن هذا المانع الترابي، وذاك الخندق الذي حال بين المشركين وبين المسلمين صار عقبةً كأَدْاَء، أما ظهر المسلمين فهو مفتوح، وظهر المسلمين يحتلُّه بنو قريظة، ولابدَّ لبني قريظة من أن ينقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حتَّى يسهُل على المشركين أن يأتوا من ظهر النبي وأصحابه، ما الذي حصل؟ توجَّه زعيم اليهود إلى زعيم بني قريظة بالذات، وحاول معه كثيراً أن ينقض عهده مع محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، قال: جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال، وبغطفان حتى أنزلتهم بجانب أُحُد، قد عاهدوني، وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذلِّ الدهر، وكل ما يُخشى، فإني لم أر من محمدٍ إلا صدقاً ووفاءً- زعيم بني قريظة- ولا زال حُيي زعيم اليهود يحاور زعيم بني قريظة إلى أن أقنعه بنقض عهده مع محمَّد، وعاهده أن قريشاً إذا ذهبت ولم تقتل محمداً فهو معه في كل ما يصيبه من ضَرَّاء، عندئذٍ أزمع زعيم بني قريظة أن ينقض عهده مع النبي صلى الله عليه وسلًّم، ومزَّق العهد الذي بينهم، وكان في حِلٍّ من هذا العهد.   

3 ـ تحقُّقُ النبي مِن خبر نقض العهد:

الخبر سرى إلى المسلمين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتأكَّد منه، ماذا فعل؟ سيدنا عمر أخبر النبي بهذا الخبر المزعج وهو في أحرج الأوقات، قال: "يا رسول الله بلغني أن بني قريظة قد نقضت عهدها معك، وحاربت مع أعدائك؟" فاشتدَّ الأمر على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وشقَّ عليه ذلك، وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وأرسل معهما عبد الله بن رواحة، وقال لهم: انطلقوا حتَّى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ انظر إلى التحقق دائماً، خبر وصل، إشاعة، قد يكون إشاعة، فكَّلف هذين الصحابيين الجليلين أن يذهبا إلى بني قريظة، ويتحقَّقا بنفسيهما من هذا الخبر الخطير، وكان عليه الصلاة والسلام قائداً حكيماً فقال: فإن كان حقاً فألحنوا إليّ لحناً أعرفه دون القوم- أي إذا كانوا فعلاً نقضوا العهد، لا تقولوا لي هكذا أمام المسلمين- ألحنوا لي لحناً- أي كلام لا يفهمه إلا أنا وأنتم لئلا تضعف معنويات المسلمين، هذا هو الهدف- فخرج القوم حتى أتوا بني قريظة فوجدوهم قد نقضوا العهد، ونالوا من النبي صلى الله عليه وسلَّم، وتبرَّؤوا من عقده وعهده، وقالوا: لا عهد ولا عقد بيننا وبين محمد، وقالوا: مَن رسول الله؟ من هو هذا؟  فشاتمهم سعد بن عبادة، وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدَّة، فقال سعد بن معاذ: "دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة". 

ثمَّ أقبل سعد بن عبادة وسعد بن معاذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَكَنُّوا له عن نقضهم العهد، وقالوا: "عَضْلٌ والقَارَّة"، أي هما قبيلتان نقضتا العهد فيما مضى، فَكَنَّيا عن نقض العهد باسمي هاتين القبيلتين، أي غدروا كغدر عَضْلٍ والقارة بأصحاب الرجيع: فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين نصرٌ من الله وفتحٌ قريب، ثمَّ تقنَّع بثوبه، واضَّطجَعَ، ومكث طويلاً، أي هذا الخبر كان أشد خبراً في أثناء المعركة، فاشتدَّ على الناس البلاء والخوف حين رأوه قد اضَّطجع، ثم رفع رأسه فقال: أبشروا بفتح الله ونصره.

 

هؤلاء هن نساء الصحابة:


وعن عبد الله بن الزبير قال: "كنت يوم الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء، وكان حسَّان قد أصابته وعكةٌ فأقعدته، واتفق أن يهودياً جعل يطوف بذلك الحصن، فجاءت صفيَّة إلى طرف الحصن، وألقت عليه عموداً فقتلته به" ، وكان هذا اليهودي كأنه قد أُرْسِلَ من قِبَلِ قومه ليتجسَّس، فلمَّا قُتِل عرفوا أن المدينة مُحَصَّنة وأنها في مَنَعَةٍ من أن ينالها اليهود. 

 

غزوة الأحزاب من خلال وصف القرآن لها:


أيها الأخوة؛ الآن جاء العدو إلى المدينة، وقال الله عزَّ وجل: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10)﴾ انظر الظن، أين الله؟ أحياناً الإنسان يقول: أين الله؟ في ساعة الشدَّة..﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾ وظهر المنافقون، حتَّى قالوا:  "كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط" ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا(13)﴾ .

 

وجهًا لوجهٍ عليّ بن أبي طالب وعمرو بن وُدّ:


أيها الأخوة؛ عَظُمَ البلاء على المسلمين، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى عُيَيْنة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان.

طائفةٌ من المشركين أقبلوا، وأكرهوا خيلهم على اقتحام الخندق من مضيقٍ به، فيهم عكرمة بن أبي جهل، وهُبَيْرَةَ بن أبي وهب، وضرَّار بن الخطَّاب، وعمرو بن عبد ود بن أبي قيس، ونوفل بن عبد الله، فقال عمرو بن عبد ود: "من يبارز؟"، وكان من أشجع الفرسان، فقال عليٌ رضي الله عنه: "أنا له يا نبيَّ الله"، فقال عليه الصلاة والسلام: اجلس إنه عمرو بن عبد ود، أي هذا من أشجع الفرسان، وقد خاف النبي عليه، فقال عليٌّ رضي الله عنه: "وإن كان عمراً، أنا له"، عندئذٍ أذِنَ له النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن تأكَّد من عزيمته في مواجهة هذا الخصم المعروف ببأسه، وأعطاه سيفه ذا الفَقَار، وألبسه درعه الحديد، وعمَّمه بعمامته وقال: اللهمَّ أعنه عليه، إلهي أخذت عبيدة مني يوم بدر، وحمزة يوم أُحد، وهذا أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين، فلمَّا وصل عليٌ إليه، وكان مُلَثَّماً، قال عمرو: "من أنت؟" لأن علياً كان مقنَّعاً بالحديد والعمامة، قال: "أنا عليُّ بن أبي طالب"، فقال عمرو: "غيرك يا بن أخي من أعمامك من هو أشدُّ منك"، أي أنت صغير، فقال عليٌّ: "يا عمرو، إنَّك كنت قد عاهدت الله لا يدعوك رجلٌ من قريش إلى واحدةٍ من ثلاث إلا قبلتها"، فقال عمرو: "أجل"، قال: "وأنا أدعوك أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتسلم لربِّ العالمين"، فقال:    "يا بن أخي أَخِّر عني هذه"، قال: "وأخرى ترجع إلى بلادك، فإن يكُ محمد صلى الله عليه وسلَّم صادقاً كنت أسعد الناس به، وأن يكُ كاذباً كان الذي تريد"، قال عمرو: هذا ما لا تتحدَّث به النساء أبداً، كيف وقد قدرت على استيفاءِ ما نذرت؟ ما هي الثالثة؟ " فقال علي: "البِراز".. أي المقاتلة.. فقال عمرو ضاحكاً: "إن هذه لخصلةٌ ما كنت أظن أن أحداً من العرب يروّعني بها، لمَ يا بن أخي؟ ما أحبّ أن أقتلك؟ فإن أباك كان لي صديقاً، وكنت لي نديماً، فإني أكره أن أسيل دمك"، فقال عليٌ: "ولكني والله أحبُّ أن أقتلك، وما أكره أن أهريق دمك"، فغضب عمرو، وأخذته الحَمِيَّة، واستعدَّ للنزال، وتنازلا- من دون أن أذكر التفصيلات- إلى أن ضربه عليٌ رضي الله عنه ضربةً قاضية أوقعته غريق دمائه. 

 

دعاء النبي على قريش:


شيءٌ آخر هو أن قريشاً بعد أن قُتِل استعادت هؤلاء الذين اجتازوا الخندق، وبدأت تُرسل الطلائع ليلاً، وتغير على المسلمين بالنَبْلِ، فأقام المسلمون في شدَّةٍ من الخوف، ودعا النبي صلى الله عليه وسلَّم على الأحزاب: عن عبد الله بن أبي أوفى: 

(( كتبَ إلَيْهِ عبدُ اللَّهِ بنُ أبِي أوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، فَقَرَأْتُهُ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا، انْتَظَرَ حتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ خَطِيبًا قالَ : أيُّها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم. ))

[ صحيح البخاري ]

ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا صريخ المكروبين، يا مجيب المضطرين، اكشف غمي وهمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي- أعتقد أنه لا توجد معركة زلزلت أصحاب النبي كهذه المعركة- وقال المسلمون لرسول الله: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ؟ قَالَ: نَعَمِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، وآمنّا في أوطاننا ، هذا الدعاء قاله وقتها النبي عليه الصلاة والسلام. 


  مكث المسلمين في الخندق شهراً:


أقام المسلمون في الخندق قريباً من شهر، ومن قبل شهر حفرٍ، وشهر لقاء، مناوشات، وبرد، وجوع، وتعب، وخوف، وكان صلى الله عليه وسلَّم يختلف إلى ثُلْمَةٍ في الخندق، فإذا أخذه البرد عاد إلى قُبَّته فأُدْفِئ ثم يخرج ليطمئنَّ إلى الثلمة، ثم قال: "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثلمة الليلة ، فسمع صوته سعد بن أبي وقَّاص، وقال سعد: "يا رسول الله، أتيتك أحرسك، فقال النبي: عليك هذه الثلمة فاحرسها" ، ونام النبي صلى الله عليه وسلَّم، ثم قام يصلي، وكان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، هذه سنَّته، إذا أمرٌ صعب، كربٌ شديد، افزع إلى الصلاة ؛ صلِّ، وابتهل، وتوسَّل، ثمَّ خرج النبي عليه الصلاة والسلام من قبَّته فقال: هذه خيل المشركين تطوف بالخندق ، ثم نادى صلى الله عليه وسلَّم: "يا عبَّاد بن بشر" فقال: "لبيك"، قال: "هل معك أحد؟"، قال: نعم، أنا في نفرٍ حول قبَّتك يا رسول الله، فبعث صلى الله عليه وسلَّم عبَّاد يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف به، ثم قال: اللهمَّ ادفع عنا شرَّهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك ، وإذا أبو سفيان في خيلٍ يطوفون في الخندق، فرماهم المسلمون حتَّى رجعوا. 

 

نزول جبريل على النبي بالبشرى:


نزل جبريل الأمين على النبي عليه الصلاة والتسليم، فبشَّر النبي عليه الصلاة والسلام أن الله سيرسل عليهم ريحاً وجنوداً، وأعلم النبي أصحابه بذلك، وهذه طبعاً نبوءةٌ لها أهميَّتها في مثل هذه الظروف، وصار يرفع النبي يديه قائلاً: شكراً لك يا رب، شكراً لك على فَرَجِكَ ونصرك، وعُرِفَ لأول مرَّة بعد شهرين في وجهه السرور. 

وللمعركة تتمَّةٌ نتابعها في درسٍ قادم، وبعدها نقرأ الآيات، فإذا قرئت الآيات عرفنا كل آيةٍ كيف أبعادها، وما مدلولها، وما مضمونها.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور