- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (033)سورة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإسلام دين الفطرة:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثالث من سورة الأحزاب.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
أيها الأخوة الأكارم؛ دين الإسلام كما يقال: دين الفطرة، فقد ورد في السيرة المُطَهَّرة أن سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها، قالت: "يا رسول الله إن كنا ندعو سالماً ابناً- سالم مولى أبي حذيفة- إن كنا ندعو سالماً ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عليّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً - هو ليس ابناً لكنه متبنى - فإذا دخل عليّ نظرت في وجه أبي حذيفة فأرى في نفسه شيئاً من دخوله عليّ.
هذا الشاهد يؤكِّد أن الدين الحنيف هو دين الفطرة، فالتطابق تامٌ وشاملٌ بين أحكام الدين وبين طبيعة النفس البشرية، لذلك يمكن أن نوَجِّهَ الأنظار إلى قوله تعالى:
﴿
أي أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه تتطابق مع النفس السليمة الطيبة النقية تطابقاً تاماً، فالشيء الذي يُنْكِرُهُ قلبك إذا كنت صافي الفطرة، سليم السريرة، نقياً من كل زَيْغ، الشيء الذي ينكره قلبك تراه في الدين محرماً، والشيء الذي ترتاح إليه تراه في الدين حلالاً، وحينما سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن البِر قال عليه الصلاة والسلام: عن وابصة بن معبد الأسد:
(( أتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثمِ؟ قال : نعم، فقال : استفتِ قلبكَ : البرُّ ما اطمأنتْ إليهِ النفسُ، واطمأنَ إليهِ القلبُ، والإثمُ ما حاكَ في النفسِ وترددَ في الصدرِ، وإن أفتاكَ الناسُ وأفتوكَ. ))
العقل السليم مقياس:
الله عزَّ وجل أعطاك مقياس العقل، وأعطاك مع مقياس العقل مقياس الفطرة، مقياس العقل من أجل أن تعرف الله عزَّ وجل، لأن مبادئ العقل متوافقةٌ مع مبادئ الكون، فإذا أعملته في الكون هداك إلى الله، العقل أداة معرفة الله، والعقل مناط التكليف، والفطرة مقياسٌ نفسي، ما من إنسان يسأل عالماً عن قضيةٍ أقلقته، مجرد سؤاله عن هذه القضية معنى ذلك أن نفسه لم ترتح إليها، لماذا سأل؟ ما سأل إلا حينما شعر باضطراب، ما سأل إلا حينما شعر بالقلق، ما سأل إلا حينما أنكرت نفسه هذا التصرُّف، إذاً حينما قال عليه الصلاة والسلام لِوَابِصَةَ:
(( جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ، ثَلاثًا، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ
النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ))
هذا حديثُ صحيح، لكن لئلا نستخدم هذا المقياس بتوسُّع، العلماء حينما شرحوا هذا الحديث قالوا: الإنسان سليم الفطرة، نقيّ القلب، نقيّ اليدين، هذا يمكن أن يكون قلبه من دون زيغٍ، أو خللٍ، أو اضطراب مقياساً يتوافق مع الشرع.
الشرع مقياس على كل شيء:
ولكن دائماً وأبداً المقياس الإلهي هو شرعه الحنيف، اعرض ميزان عقلك على أحكام الشرع فإن توافقا فاحمد الله عزَّ وجل على أن كان ميزان عقلك سليماً، اعرض ميزان فطرتك على أحكام الشرع فإن توافقتا فاحمد الله عزَّ وجل على أن ميزان فطرتك سليم، فالعقل ميزان والفطرة ميزان، ولكن العقل قد يضل، والفطرة قد تشوَّه، لا يصح أن يكون العقل ميزاناً، والفطرة ميزاناً إلا إذا تبرَّأ العقل من الحظوظ والمنافع، لأن أهل الدنيا يستخدمون عقولهم لتبرير شهواتهم، يستخدمون عقولهم يفلسفون انحرافاتهم، يفلسفون طغيانهم، يفلسفون أكلهم لأموال الناس بالباطل، يفلسفون اعتداءهم على أعراض الناس، فعقل الشهواني في خدمة شهوته، لكن عقل الحر شهوته منضبطة بمقاييس عقله، فلئلا يضل العقل، لئلا يزل العقل، لئلا ينحرف العقل، كان الشرع ميزاناً على ميزان العقل، فالعقل ميزان؛ لكن هذا الميزان قد يعتريه خطأ، وقد يفقد حساسيته بفعل المصالح، والشهوات، والضغوط، والأهواء، يأتي ميزان الشريعة ليضبط ميزان العقل.
القضية تماماً كما لو أعطينا طالباً في الصف الثانوي مسألة في الرياضيات، وقلنا له: حُلَّ هذه المسألة وَفْقَ عقلك، وهذا هو الجواب، فإذا انتهى حلك بهذا الجواب فاعلم أن حلك صحيح، وإن لم ينته حلك بهذا الجواب فاعلم أن حلك باطل، فمهما فكرت، إذا هداك تفكيرك إلى ما يوافق كلام الله عزَّ وجل فهذا التفكير سليم، وجيِّد، وسديد، وهنيئاً لك عليه، أما إذا فكر..
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)﴾
فكر، تأمل، اطلع، درس.
﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28)﴾
لذلك مقياس فلاحك عند الله، مقياس رُقِيَّكَ عند الله شيءٌ واحد هو اتباعك لأمر الله، واجتنابك لنهيه، ووقوفك عند حدوده، والدليل:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
مقياس الرفْعَةَ عند الله هو مدى التزامك بما أمر الله عزَّ وجل، فما دام عقلك يهديك إلى طاعة الله أنعم بهذا العقل، فإذا هداك إلى معصيته، إذاً: هذا العقل ليس سليماً، عقل مريض، وفي أعلى التفسيرات نقول: هو عقلٌ مسخرٌ للشهوة، أحياناً تجد إنساناً مصراً على الشهوات، إذا حدثته أعطاك أجوبةً مُضحكة، يسخّر ذكاءه لتبرير شهواته، هذا المنطق سمَّاه المناطقة: المنطق التبريري، منطقٌ ساقط لا قيمة له إطلاقاً.
الاختلاط تجاوز لحدود الله:
هذه الفطرة السليمة؛ هذه سهلة بنت سُهَيْل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، إن كنا ندعو سالماً ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عليّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك. أشعر أنه ينزعج، لأن هذا ليس ابناً، هذا أجنبي، فالاختلاط الذي تسببه الصداقات أحياناً، والجوار، والزمالة في العمل، والسهرات المختلطة، هذه كلها فيها تجاوز لحدود الله، وينتج عنها أخطارٌ وبيلة، كثيراً ما ذهب أناسٌ في نزهةٍ مختلطة، وعادوا منها بجحيمٍ عائلي، بل إن بعضهم فَكَّرَ في تطليق زوجته إثْرَ هذه النزهة المختلطة.
حينما آثر زيدٌ- سيدنا زيد بن حارثة - حينما آثر النبي عليه الصلاة والسلام على أبيه وأمه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا زيد بن محمد، أرثه ويرثني، فلما نزل قوله تعالى:
لا إثم على الخطأ:
شيءٌ آخر، قال الله عزَّ وجل:
(( إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. ))
والدين أساسه حينما يعقد القلب على أن يخالف الله عزَّ وجل، على أن يعصيه، هنا الإثم، أما الإنسان فقد يخطئ، قد يسبقه لسانه، قد يتوهَّم شيئاً، ما دامت نيته سليمة وسريرته طاهرة فلا إثم عليه، لأن الله سبحانه وتعالى رفع عن أمة النبي عليه الصلاة والسلام الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وليست عنكم ببعيدٍ قصة الأعرابي الذي ضلّ الطريق وفقد راحلته، فلما أيقن بالهلاك، وعادت إليه، فقال من شدة الفرح: عن أنس بن مالك:
(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ. ))
حُكم خطاب الرجل ابن غيره بلفظ البنوّة:
لكن أحياناً المدرّس في المدرسة يخاطب طالبه يقول له: يا بني، هذا الخطاب ليس حكماً شرعياً، ليس هناك حرجٌ من أن تخاطب طالباً لك، من أن تخاطب ابن أخيك، من أن تخاطب ابن زميلك، ابن جارك، تقول له: يا بني لا تفعل كذا، هذا خطاب تَحَبُّب، وليس حكماً شرعياً ينتج عنه اختلاط أنسابٍ، واختلاطٌ في العلاقات، لأن النبي عليه الصلاة والسلام خاطب بعض أبناء أصحابه وقال: عن عبد الله بن عبا:
(( قَدَّمَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ المُزدَلِفةَ أُغيلِمةَ بني عبدِ المطَّلِبِ على حُمُراتٍ فجَعَل يَلطَح أفخاذَنا، ويقولُ: أُبَيْنِيَّ لا ترموا الجَمْرةَ حتى تَطلُعَ الشَّمسُ. ))
رأى شاباً يرمي الجمرة قبل طلوع الشمس، فقال:
فأجاز العلماء أن تخاطب صغيراً أو شاباً، بأن تقول له: يا بني، وليس هذا من التَبَنِّي في شيء.
من معاني قوله: النَّبيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ:
1 ـ النبي أرحم الخلق بالخلق:
الآن يقول الله عزَّ وجل:
العلماء أجمعوا على أن النبي عليه الصلاة والسلام أرحم بالخلق من أنفسهم، وأحرص على مصالحهم من أنفسهم، وأقرب إليهم من أنفسهم. أحياناً يكون للإنسان إيمان، لكن إيمانه لم يَكْمُل، له مع إيمانه مصالحه، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكله رحمةٌ، وكله عطفٌ، وكله شفقةٌ على المؤمنين، فأمره لا يمكن أن يفسر تفسيراً في غير صالح المؤمنين.
2 ـ ليس في أوامر النبي مصلحة شخصية:
لو قلت لإنسان: فلان اتبع كلامه كلمةً كلمة، قد يكون له مصلحة، قد يأمرك بأمرٍ ليس في صالحك، ولكن في صالحه، فالذي يأمرك بأمرٍ ليس في صالحك، هذا لا يُتَّبع، هذا له مصلحة، له حظوظ، يريد شيئاً من حظوظ الدنيا المادية والمعنوية، فإذا أمرك بأمرٍ فهذا الأمر مشوب بمصلحته الفردية، مشوب بحظوظه النفسية، لكن النبي عليه الصلاة والسلام بَرَّأَهُ الله عزَّ وجل من كل حظّ نفسي، ومن كل مأربٍ شخصي، فإذا أمر المؤمنين فإنما يأمرهم لصالحهم المَحْض، من هنا أمرنا الله عزَّ وجل أن نتبع ما أمر النبي، وأن ننتهي عما عنه نهى وزجر.
أنت دائماً تطيع من يحبك، تطيع من يحرص عليك، تطيع من لا تأخذه في الله لومة لائم، تطيع من إذا أمر تخلَّى عن ذاته، وتخلى عن حظوظه، وتخلى عن شهواته، وتخلى عن مصالحه، مثل هذا الإنسان أمره مُطاع، هل في البشر كلهم رجلٌ تنزَّهَت نفسه عن الأغراض الدنيوية، وعن الحظوظ القريبة، وعن المصالح المادية كرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لهذا ورد: "والله ما آمن والله ما آمن والله ما آمن" قال عليه الصلاة والسلام عن أنس بن مالك:
(( لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين. ))
الحقيقة الإسلام له مظاهر مادية كلكم يعرفها، الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، لكن هذه المشاعر النفسية التي غفل عنها المسلمون اليوم هي أساسٌ في الإيمان، أي هل تؤثر النبي عليه الصلاة والسلام على كل مصالحك؟ سيدنا عمر كلكم يعلم ذلك، قال: عن عبدالله بن هشام:
(( كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الآنَ يا عُمَرُ. ))
3 ـ ليس في دعوة النبي حظوظ ولا نصيب لذاته:
إذا أردت أن ترى شخصاً شَفَّافَاً، ليس لذاته نصيبٌ في أقواله وأفعاله، وليس لحظوظه مكانٌ في دعوته فهو النبي عليه الصلاة والسلام، لا يمكن أن يأمرك بأمرٍ ليس في صالحك، أو أن ينهاك عن شيءٍ هو في صالحك، لا يمكن، وإلا لما كان في هذا المقام الرفيع، وإلا لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى ولاية النبي للمؤمنين:
إذا كان لك حظوظ، ومصالح، ومآرب، ونفس تحب الاستعلاء، لن تكون في الحياة كلها باباً لله عزَّ وجل، لن يسمح الله لك أن تكون باباً له، لن يسمح الله لك أن تكون هادياً إليه إلا أن تتخلى عن حظوظك، وعن مصالحك، وعن نزواتك، وعن رغباتك، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
فلذلك كل هذه الصفات أَهَّلَت النبي عليه الصلاة والسلام ليكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
الإنسان كلما اقترب من الله تخلَّق بأخلاقه واصطبغ بصبغته:
الحقيقة أن الإنسان كلما اقترب من الله عزَّ وجل تخلَّق بأخلاقه، كلما اقترب من الله عزَّ وجل اصطبغ بصبغة الله عزَّ وجل، ماذا يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي؟ يقول:
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،
الله عزَّ وجل يدعونا إليه، لأن دعوتنا إليه لا تزيد في مُلْكِهِ، فإذا آمنا لا يزداد ملكه، وإذا كفرنا لا ينقص ملكه، دعوةٌ خالصةٌ لسعادتنا.
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)﴾
لولا أنه خلقكم كي تعرفوه، لولا أنه خلقكم كي يسعدكم، ما يعبأُ بكم آمنتم أو كفرتم.
تحريم الزواج بنساء النبي بعد موته:
وجوب الاستسلام التام لأحكام النبي عليه الصلاة والسلام:
أحياناً ربنا عزَّ وجل حينما قال:
﴿
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾
بلغ حبّ أصحاب رسول الله، وبلغت ثقتهم بالنبي، وبلغ استسلامهم لأحكامه، وبلغت طاعتهم له درجةً أنه لو حَكَّموهُ في خلافٍ وفي شجارٍ بينهم، الذي حكم عليه موقفه من النبي كالذي حكم له، الآن هذا لا يصح، لو أن القاضي نزيهٌ جداً، لو أصدر حكماً يُجَرِّمُ فلاناً، ويُبَرِّئ فلاناً، الذي وقع الحكم عليه يتبَرَّم، ويقول: هذا قاض إما جاهل، وإما ظالم، وإما مُنحاز، وإما قبض من خصمي مبلغاً كبيراً، فيكيل له التهم جُزافاً، لكن حالة المؤمنين الصادقين مع رسول الله عليه وسلم الاستسلام التام، لماذا؟ لأنه معصوم أولاً.
يا رسول الله، إنك بشر تغضب وترضى، فإذا غضبت أنكتب عنك؟ إذا كنت في حالة غضب شديد أنكتب عنك الأحاديث؟ عن عبد الله بن عمرو:
(( كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبْ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلا حَقٌّ. ))
لا ينطق لسان النبي إلا بالحق في الغضب والرضا، ذات مرةٍ أعرابي قال له: اعدل يا محمد، فقال عليه الصلاة والسلام وكان حليماً: عن جابر بن عبد الله:
(( إنَّ رسولَ اللَّهِ جعلَ يقبضُ للنَّاسِ يومَ حنينٍ من فضَّةٍ في ثوبِ بلالٍ فقالَ لهُ رجلٌ : اعدِل يا نبيَّ اللَّهِ فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ ويحَكَ فمَن يَعدلُ إن لَم أعدِلْ؟ قد خِبتُ وخسَرتُ إن كنتُ لا أعدِلُ قالَ: إنَّ هذَا وأصحابَهُ يخرجونَ فيكُم، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم يمرُقونَ منَ الدِّينِ مروقَ السَّهمِ منَ الرَّميَّةِ فقالَ عمرُ : يا رسولَ اللَّهِ ألا أضربُ عنقَهُ، فإنَّهُ منافقٌ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ : معاذَ اللَّهِ أن يتحدَّثَ النَّاسُ أنِّي أقتلُ أصحابي. ))
قصة وعبرة:
القصة التي تعرفونها جميعاً حينما جاءه سعد بن عبادة وقال: يا رسول الله، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم - أي متأثرون منك - من أجل هذا الفيء الذي قسمته بين أحياء العرب ولم تجعل للأنصار منه نصيباً؟ النبي عليه الصلاة والسلام حكيم، فقال عليه الصلاة والسلام: يا سعد، أين أنت من قومك؟ قال سعد بن عبادة: ما أنا إلا من قومي، أي أنا أيضاً في نفسي شيء، بعض كتاب السيرة قالوا: إن الأنصار حينما وجدوا على النبي في أنفسهم لا حباً بالمال والغنائم، ولكن عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حدّ ذاته شرفٌ عظيم، لقد فاتهم هذا الشرف فتألموا، فتهامسوا فيما بينهم، هذا التهامس أصبح شعوراً عاماً، أدركه زعيمهم سعد بن عبادة، فجاء النبي فقال له: يا رسول الله إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم، هذه القصة فيها من كمال النبي، ومن تواضعه، ومن رحمته، ومن وفائه، ومن حكمته ما لا يوصف.
مرة ذكرت في خطبةٍ هذه القصة وقلت: أعان الله كُتَّابَ السيرة، هذه القصة أين يضعونها؟ إن وضعوها مع حلمه فالأولى أن تكون مع رحمته، أو مع عفوه، أو مع وفائه، أو مع حكمته وحسن سياسته، قال:
هذه القصة خلاصتها تواضع تواضع، عفو عفو، وفاء وفاء، ما نسي الذين نصروه في ساعة العسرة، وهو الآن في أعلى درجات القوة، إنسان بهذا الكمال لا يمكن أن يصدر منه أمر أو نهي لمصلحته، بل لصالح المؤمنين، لهذا قال الله عزَّ وجل:
معنى قوله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ:
لذلك:
هنا نقطة، إذا كانت أزواجه أمهات المؤمنين، لأن النبي عليه الصلاة والسلام حُرْمَةً له وتكريماً، وتقديساً، وتعظيماً من قِبل الله عزَّ وجل، جعل نساءه من بعده بمنزلة أمهات المؤمنين لا يجوز لمؤمنٍ بعد النبي عليه الصلاة والسلام أن ينكح أزواجه من بعده، هم بمرتبة الأمهات.
والتفسير الثاني أن هذه المرأة التي عاشت مع النبي، ورأت من كماله الشيء الكثير، مع من تعيش؟ إنها تعيش مع سيد الخلق.
السيدة عائشة جاءها طبق طعام من ضرتها صفية، أصابتها الغيرة فأمسكت بالطبق وكسرته، هذه الأيام يقول الزوج الظلوم لزوجته: والله أكسر رأسك إذا كسرته، أحياناً كلمات يقولها الأزواج قاسية جداً في منتهى القسوة، أما النبي فما زاد على أن لَمَّ أشتات الطبق وقال: غضبت أمكم، غضبت أمكم، كان حليماً عليه الصلاة والسلام، حلمه، ورأفته، ورحمته، وتواضعه، وصبره، وإيناسه لزوجاته كان شيئاً لا يوصف، أيعقل أن تعيش هذه المرأة التي رأت من كمال النبي أن تعيش مع رجل آخر؟ مستحيل.
﴿
والحقيقة أن هنا نقطة دقيقة، أن المرأة أعلى مرتبة تصلها أن تكون أماً، أما بين الأبوة والرسالة مسافةٌ شاسعة، تكريم النبي لا أن يكون أباً للمؤمنين، أن يكون رسول الله، ولكن رسول الله وخاتم النبيين.
التوارث بسبب الموالاة والمؤاخاة في أول الإسلام:
إبطال ونسخ التوارث بسبب الموالاة والمؤاخاة:
أما حينما استقرَّ الدين، واستقر الإسلام، وأصبح لأصحاب النبي موردُ رزقٍ، واستقرت الحياة استقراراً عائلياً أُسَرِياً طبيعياً، عاد الحكم إلى أن أولي الأرحام كما قال الله عزَّ وجل:
لو فرضنا الآن أن شخصاً ترك دينه، حًرِم من الإرث لاختلاف الدين، أما لو كانت الأسرة كلها مجتمعة على أب واحد، وأم واحدة، ودين واحد فليس من داعٍ لأن تكون هناك تفرقة في الميراث، صار هناك نظام القرابة، هذا معنى قوله تعالى:
بقاء جواز الإحسان بالوصية إلى مَن له ولاء:
أما إذا أراد الإنسان أن يحسن إلى من له ولاء، إلى من له علاقة، هذا لا يمنع، أحكام الإرث شيء، والوصية والإحسان شيء آخر، فأنت يدك طليقةٌ في الوصية، وفي الإحسان إلى كل الناس، لكن علاقات الإرث تعود علاقات القرابة بعد أن جُمِعَ شمل الأسر، وبعد أن دخل الناس جميعاً في دين الله أفواجاً، وبعد أن انتظمهم الشرع الحنيف.
أخذُ اللهِ العهدَ على النبيين بتبليغ رسالاته:
(( لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟ ))
سؤال الله الصادقين يوم القيامة:
تمهيد لدرس غزوة الأحزاب:
1 ـ للإسلام جانبان نظري وعملي:
الحقيقة أن الإسلام له جانب نظري وجانب عملي، الجانب النظري هذه المبادئ، وهذه الأوامر، وهذه النواهي، وهذه الأحكام الشرعية، والأحكام التكليفية، والآيات الكونية، هذا الجانب النظري، القرآن والسنة جانباه النظريَّان، ولكن الأحداث التي وقعت في عهد النبي تعد من الجانب العملي.
2 ـ أهمية القصة وتأثيراتها:
والحقيقة لماذا تعد القصة مؤثرةً؟ لأنها حقيقةٌ مع البرهان عليها، ما قيمة المنطلقات النظرية إذا بقيت حبراً على ورق؟ ما قيمة المبادئ السامية إن لم ترها مطبقةً في الحياة؟ لذلك ربنا عزَّ وجل دائماً يدعم الشيء النظري بالشيء العملي، يدعم القول بالفعل، فغزوة الأحزاب فيها من الدلائل الشيء الكثير، أي احتمال النصر كان في هذه الغزوة صفراً بالضبط.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
تقديم موجز لقصة الأحزاب:
بعض المؤمنين قالوا:
إن شاء الله الدرس القادم بأكمله حول غزوة الخندق، ويجب أن نقف عند كل حدثٍ من أحداثها ونستنبط الموعظة، والقرآن كما أقول لكم دائماً: ليس كتاب تاريخ إنه كتاب واقع، أي هذه الغزوة فيها دلائل وعِبَر تفيدنا جميعاً في حركاتنا اليومية.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين