- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (033)سورة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
خصوصية نداء الله للنبي بلفظ الرسالة والنبوة دون سائر الأنبياء:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الأحزاب، ولهذه السورةِ أهميَّةٌ خاصَّة في التنظيم الاجتماعي، يقول الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة:
﴿ وَقُلْنَا
وقال:
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ
وقال:
﴿ قَالَ
وقال:
﴿
فمعظم الأنبياء خوطِبوا بأسمائهم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام تكريماً له، وبياناً لعظيم شأنه عند الله، النبي وحده لم يُخاطَب باسم ذاته؛ بل خوطِبَ بوصفه الذي بيَّنه القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
ففي الخطاب ليس هناك إلا خطابٌ بألقاب النبي، وبالتعبير الدقيق بأسماء صفاته، الإنسان له اسم ذات، وله اسم صفة، فقد يكون اسم الإنسان سعيداً، وقد تكون صفته طبيباً، مثلاً، فإذا قلنا: يا سعيدُ، خاطبناه باسم ذاته، أما إذا قلنا: يا أيها الطبيب، خاطبناه باسم صفته، فالنبي عليه الصلاة والسلام - وهذا شيء دقيق- في القرآن الكريم كلِّه لم يُخَاطَب إلا بأسماء صفاته، ومن أبرز أسماء صفاته أنه نبيّ، وأنه رسول.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)﴾
ورود اسم النبي في معرض الإخبار عنه:
قد يقول قائل: لقد ورد اسم النبي، اسم ذاته في بعض آيات القرآن الكريم.
الحقيقة أن الكلام خبر أو إنشاء، الخطاب هو إنشاء؛ الأمر، النهي، التمني، التَرَجِّي، الاستفهام، الحَض، كل هذه الصيغ يجمعها محورٌ واحد وهو الإنشاء، والخبر هو الحديث عن شيءٍ مضى، فالكلام في علم البلاغة يُقسَّم إلى قسمين، خبر وإنشاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام ورد اسم ذاته في معرض الخبر، ولم يرد في معرض الإنشاء أي الخطاب، فقال الله عزَّ وجل:
﴿
أي ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يعرِّفنا أن هذا الرجل الذي أمامكم، الذي ترونه رأي العين، الذي نشأ بين ظَهْرَانِيكُم، هذا الرجل الذي اسمه محمَّد هو رسول الله، لا تخاطبوه باسمه، قولوا له: يا رسول الله، يا نبيَّ الله، إذاً: ورد اسم النبي لا في معرض الخطاب، معرض الإنشاء؛ ولكن في معرض الإخبار، والإخبار هدفه أن يعرِّفنا ربُّنا سبحانه وتعالى أن هذا الرجل الذي تعرفون نسبه، وأمانته، وصدقه، وعفافه، والذي نشأ بين ظهرانيكم أنه رسول..
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144)﴾
لم يَرِد اسم رسول الله اسم ذاته (محمد) إلا في هاتين الآيتين حصراً، وفيهما أخبر الله سبحانه وتعالى أن هذا الرجل - كما قلت قبل قليل - الذي تعرفون صدقه، وأمانته، وعفافه، ونسبه، إنما هو رسول الله، تأدَّبوا معه، اعرفوا قدره، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
هكذا، وفيما سوى هذين الموضعين، حتى في الإخبار، ورد اسم النبي باسم صفاته. مثلاً:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ
لفظ النبوة والرسالة إشعار بالتعظيم وعلوِّ الشأن:
آياتٌ كثيرة تزيد عن عشر آيات ورد فيها ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بأسماء صفاته لا بأسماء ذاته، هذا الموضوع كلُّه مُفَادُهُ أن النبي عليه الصلاة والسلام له شأنه الخاص عند الله، وكفاه فخراً أن الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض أقسم بعمره الثمين قال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
وقد زكَّى الله عقله فقال:
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾
زكَّى لسانه فقال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)﴾
زكّى شرعه فقال:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
زكَّى بصره فقال:
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)﴾
وزكَّاه كلَّه فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
وأقسم بعمره الثمين فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾
قيمة البحث في خصوصية خطاب الله للنبي بلفظ الرسالة والنبوة:
الحقيقة قد يسأل سائل: ما قيمة هذا البحث؟ كلُّكم يرى أن المجتمعات الإسلاميَّة مجتمعاتٌ فيها بعض الضَياع، لماذا؟ يعزو بعض العلماء إلى أن ضياع المجتمع بسبب أن المثل الأعلى فيها قد فُقِد، أي ألف خطبةٍ، وألف مقالةٍ، وألف كتابٍ لا يحدث في النفس ما يحدثه المثل الأعلى في نفوس الناس، لأن الأنبياء فعلوا شيئاً لا يصدَّق، لأنهم صادقون مع ذواتهم صدقاً لا حدود له، لأن حياتهم ليس فيها ازدواجٌ أبداً، ليس عندهم ظاهرٌ وباطن، ليس عندهم موقفٌ معلَن وموقفٌ حقيقي، ليس عندهم شيء للاستهلاك، ليس عندهم حقيقة تخالف غير الحقيقة، إنهم كانوا صادقين، اعتقدوا ما قالوا، وقالوا ما اعتقدوا، فعلوا ما علموا، وعلموا ما فعلوا، فلذلك إذا أردت أن يفتح الله عليك في تعريف الناس بالله عزَّ وجل فكن قدوةً ومثلاً أعلى، لأن القدوة والمثل الأعلى من حيث التأثير تفوق في تأثيرها وقوة فاعليَّتها أضعافاً مضاعفةً من الكلمات البَرَّاقة والخُطَب الرنانة..
بيان عظمة شأن النبي:
أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن لنا عِظَمَ شأن النبي، والذي يَلفت النظر أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يقول في آياتٍ أخرى:
﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)﴾
أي ما عرفت قيمة النبي؟ ما عرفت خُلُقَ النبي؟ ما عرفت سنَّة النبي؟ ما عرفت أخلاق النبي؟ إن عرفت أخلاق النبي كان لك نِبْرَاسَاً، وكان لك مشعلاً وضَّاءً، وكان لك قدوةً، وكان لك أسوةً، وكان لك مثلاً.
﴿
هذا معنى:
وإعراب يا أيُّها: يا أداة نداء، وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نَصب، والهاء زائدة، والنبي بدل من أيٌّها، هذه صياغة مألوفة في اللغة العربيَّة..
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)﴾
المفهوم الصحيح لهذا الأمر الإلهي للنبي: اتَّقِ اللهَ:
المعنى الثاني؛ أن الله سبحانه وتعالى قد يَتَلَطَّفُ بالمؤمنين، فيأمرهم من خلال النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿
النبي عليه الصلاة والسلام لم يطلِّق،
معنى التقوى لغة واصطلاحا:ً
ولكن ماذا تعني كلمة اتقِ الله؟ اتقِ فعل أمر، الماضي وقى، يَقي، قِ، إذاً: وقى مضارعه يقي، وأمره قِ، حرف القاف فقط فعل أمر، لكن اتّقِ ماضيه اتَّقى، ومضارعه يتَّقي، والأمر اتَّقِ، فاتّقى على وزن افتعل، وافتعل فيها معنى المبالغة، أي بالغ في وقاية نفسك من غضب الله، بالغ في وقاية نفسك من سخط الله، بالغ في وقاية نفسك من عقاب الله، اتقِ الله، اتقِ غضبه بإرضائه، اتقِ عقابه بطاعته، اتقِ سخطه باتباع رضوانه، وكيف يُتَبَع رضوان الله؟ بطاعته، فكلمة اتَّقِ الله تعني أطع الله، بشكل مختصر.
مستويات التقوى:
لكن هذه الطاعة لها مستويات؛ من مستويات هذه التقوى أن تطلع على أمرٍ من أوامر الله..
﴿
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
إذاً طاعة الله بامتثال أمره، واجتناب نهيه، والوقوف عند حدوده، والحكمة أن تفعل الشيء المناسب، في الوقت المناسب، في القدر المناسب، في المكان المناسب، مع الشخص المناسب، فأن تأتمر بأمره، وأن تنتهي عن نهيه، وأن تقف عند حدوده، وأن تكون حكيماً في فعلك الذي يوافق الشرع، هذا معنى:
ولكن هناك مستوى آخر للتقوى، أنت إذا وقفت أمام مجموعة قارورات فيها مواد كيماويَّة، كُتِبَ على لاصقة كل قارورة اسم المادَّة التي تحتويها القارورة، فأنت عرفت أن هذا صوديوم، وهذا في الماء يغلي، وأن هذا زئبق، وهو معدن غالٍ جداً، وأن هذا المعدن سام، وأن هذا المعدن رخيص، أنت عرفت خواصَّ المواد من خلال اللصاقات، هذه درجة، لكن لو جئنا بإنسان خبير أعطيناه هذه القوارير بما فيها من مواد من دون لصاقات يعرفها، ويقول: هذا زئبق، وهذا صوديوم، وهذا كلور، يشمُّ رائحته، فلذلك إما أن تعرف الشيء بالتعريف به؛ وإما أن تعرف الشيء بنور الله عزَّ وجل، فالتقوى درجات أوَّلها أن تقرأ أمر الله، وتقول: هذا حلال وهذا حرام، هذه درجة، وأرقى من هذه الدرجة أن تتصل بالله عزَّ وجل فيقذف الله في قلبك نوراً كما قال الإمام الغزالي: بهذا النور ترى الحقَّ حقَّاً والباطل باطلاً، ترى الخير خيراً والشر شراً، ترى الصحيح صحيحاً والخطأ خطأ، لذلك:
﴿
إذاً:
المعنى العام للتقوى: اتق الله وأطعه في كل شيء:
هناك معنىً آخر: أي انظر بنور الله، لو فرضنا خطبت فتاتين، الأولى من أعلى مستوى من المستويات التي تطمح إليها، لكن في دينها رقَّة، دينها رقيق، والثانية مستواها أقلّ، لكن في دينها قوَّة، فإذا نظرت إلى الفتاتين بنور الله تختار صاحبة الدين.. تختار الديّنة، من تزوَّج المرأة لجمالها أذلَّه الله، من تزوَّجها لمالها أفقره الله، من تزوَّجها لنسبها زاده الله دناءةً فعليك بذات الدين تربت يداك. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك. ))
فإذا أردت الزواج، ونظرت بنور الله عزَّ وجل تختار الدَّيِّنة، ذات الدين على ذات الجمال، وإذا عُرِضَت عليك شراكة، أرباحٌ طائلة، وأعمالٌ كثيرة، وسوقٌ رائجة، ومركزٌ تجاريٌّ رفيع، لكن هذه البضاعة محرَّمة بل فيها شبهة، وإنَّ بعض دخلها حرامٌ، وهناك عمل آخر أقلّ مردوداً، أقلّ شأناً، أقلّ فائدة، لكنَّه حلالٌ مئة في المئة، فإذا نظرت إلى هذين العملين تختار الأقلَّ دخلاً، والأقلَّ شأناً، لأنه أكثر صلاحاً وانطباقاً للشرع، فاتقِ الله.
أي إذا دخلت إلى بيتين، بيتٍ فخمٍ جداً، وبيتٍ متواضعٍ جداً، وعلِمت أن صاحب البيت الأول قد جمع هذا المال من طرقٍ لا ترضي الله عزَّ وجل، أي إنسان توفي، وترك أولاداً خمس، أحد أكبر الأخوة اغتصب مال الأبِ كلَّه، واشترى هذا البيت، وأثّثه، وزيَّنه، ثم دخلت إلى بيت رجلٍ آخر متواضعٍ جداً، وعرفت أن صاحبه مستقيم، وأن هذا البيت اشتراه بمالٍ حلال، فإذا نظرت بنور الله تقدِّر الثاني، وإذا نظرت بعين الدنيا تقدِّر الأول، فمعنى:
إذاً المعنى في هذه الآية:
دخلت وغضبت، دخلت إلى البيت فرأيت شيئاً لا يروق لك من زوجتك، اتقِ الله، أي هذه الزوجة يمكن أن تصلحها؛ بحلمٍ، برقَّةٍ، بكلمةٍ، بموعظةٍ، بإعراضٍ، بتأديبٍ، أما أخذتك الحَمِيَّة وطلَّقتها بالثلاث، ونقعت غُلَّتَكَ في هذا الطلاق، بعدئذٍ تعالَ إلى العلماء تسألهم واحداً وَاحداً عن طريقةٍ تفدي بها يمين الطلاق، فأنت يا أخي اتقِ الله في الأول، فلذلك دائماً هناك سؤال كبير: أين عقلك؟ أوضح مثل: لو أن معك جهازاً إليكترونياً تكشف به العملة المزيَّفة، وقبضت مبلغاً من المال كبيراً ثمن بيتك، ولا تملك إلا هذا البيت، والآن صار عُمْلَة، فإذا بهذه العملة كلُّها مزيَّفة، والجهاز في جيبك، ولم تستخدم هذا الجهاز حين القبض، فماذا يقال لك؟ أين عقلك؟ معك جهازٌ يكشف زيف العملة من جَيِّدها، لِمَ لمْ تستخدم الجهاز؟ والإنسان أكرمه الله عزَّ وجل بهذا العقل..
التقوى والطاعة أمران متلازمان:
بالمناسبة، سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام قال الله عنه:
﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾
هذه كلماتٌ دقيقةٌ جداً، أيْ الله سبحانه وتعالى وحده يخلُق ويهدي، ويرزق ويشفي، ويُحيي ويميت، ويغفر، الله سبحانه وتعالى وحده متفرِّدٌ بالخَلْقِ، وبالهداية، وبالرزق، وبالشفاء، وبالإحياء، وبالإماتة، وبالمغفرة يوم القيامة، ما دام الله مُتَفَرِّداً في كل هذا هل هناك أشياء أخطر من هذه الأشياء في حياتك؟ أن تُخْلَق، وأن تُهدى، وأن تُرزَق، وأن تُشْفَى، وأن يحيا الإنسان، وأن يموت، وأن تُغْفَر له ذنوبه، ما دام الله متفرِّداً بهذه الأفعال الخطيرة في حياتك فمن باب أولى أن تفرده بالطاعة، والعبادة، والحب، والإخلاص، وما إلى ذلك.
سبب نزول الآية التالية:
جاء في أسباب النزول أن كفَّار قريش عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يكفَّ عن آلهتهم، وأن يعتقد أنهم يعبدونها من دون الله لتقرِّبهم إلى الله، وهم في المُقابل يكفّون عن دعوته، وعن دلالته، وعن أي شيءٍ آخر، أي مصالح متبادلة، افعل كذا نفعل كذا، تسامح معنا في هذه الموضوعات نَدعْك وشأنك في هذه الدعوة، فهؤلاء الكفَّار هذا عرضهم، والمنافقون أيّدوهم، فقال الله عزَّ وجل:
الإنسان بين منهج الخالق وتعليمات المخلوق:
النقطة الدقيقة هي أن الله سبحانه وتعالى وحده ينبغي أن تطيعه، وأن ما سواه:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أنت أمام منهجين؛ منهج الخالق وتعليمات المَخلوق، منهج الله ومنهج البشر، توصيةٌ من الله أن تفعل كذا، وتوصيةٌ من زيدٍ أو عُبيد أن تفعل كذا، أي لا يوجد تناسب، ليس هناك تناسب بين خالقٍ ومخلوق، بين قديمٍ ومُحْدَث، بين قوي وضعيف، بين غني وفقير، بين عالمٍ وجاهل، بين مُحِب ومبغض، فالشيء العجيب أن يدع الإنسان هدى ربِّه، وأن يتَّبع هوى نفسه، أو أن يتَّبع توجيهات مجتمعه.
إسقاطات على الحياة اليومية:
بعض الأمثلة التي تنبع من حياتنا؛ الله عزَّ وجل يأمرك أن تغضَّ البصر، ويأمرك ألا تكون في مكانٍ فيه اختلاط، وفيه نساءٌ كاسياتٌ عاريات، وبعض الأشخاص يستحيون من الناس في أعراسهم، ويجلسون أمام النساء الكاسيات العاريات وهم مسلمون، ماذا فعل؟ رأى أن طاعة الناس أولى من طاعة الله.
بالمناسبة، هذه الكلمات التي يرددها المسلمون: الله أكبر مثلاً، لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، هذه الكلمات لو وقفنا عند معانيها الدقيقة لأخذنا العَجَب العجاب، أي الله أكبر، أي إنسانٍ يطيع مخلوقاً ويعصي خالقاً فهو ما قال: الله أكبر ولا مرَّة، أنت حينما تطيع زوجتك وتعصي ربَّك، ماذا رأيت؟ رأيت أن طاعة الزوجة خيرٌ من طاعة الله، وأن غضب الزوجة شرّ من غضب الله، هكذا، لمجرَّد أن تطيع مخلوقاً وتعصي خالقاً معنى هذا أنك أشركت، فلذلك:
إيّاكم وطاعة الغافلين :
الآن اسأل طالباً أهمل وظيفته يقول لك: لم نكتب الوظيفة يا أستاذ، أنت كم واحد؟ أنت واحد، لم نكتب، يستأنس كلَّما كثُرَ المقصِّرون، دائماً العاصي يحب الناس كلهم أن يقصروا، اسأل شخصاً مقيماً على معصية تجد أنه ينصحك فيها: أخي لا يوجد فيها شيء، يقول لك: لا تتزمَّت، لأنه خرق الاستقامة من هذه الناحية، دائماً العاصي ينصحك بالمعصية، المقصِّر ينصحك بالتقصير، الذي يطلق بصره في الحرام ينصحك بأن هذا الشيء فوق طاقة البشر يا أخي، أين أذهب بعيوني؟ فالمؤمن الصادق لا يمكن أن يستنصح كافراً، ولا منافقاً، ولا مقصِّراً، ولا متلبِساً بمعصية، لأن الجواب معروف، سوف ينصحك بما هو فيه، فأنت أمام توجيهين، أمام منهجين، أمام قانونين، أمام دستورين، أمام توصيتين، توصية الخالق وتوصية المخلوق، والخالق أولى.
ممكن إذا كنت جندياً بثكنة عسكرية، جاءك أمر من عريف، وأمر مناقض ممن هو أعلى رتبة، هل من المعقول أن تنصاع لأمر العريف وتُغضِب الأعلى رتبة؟ يقول لك: عماد أو عميد، ممكن؟ هذا كهذا؟ أيعصى الله عزَّ وجل ويطاع مخلوق؟! هذا ما قاله الله في الحديث القدسي: "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبَد غيري، وأرزق ويشكر سواي".
العلم والحكمة صفتان لذات الله وتشريعاته وأفعاله:
إذاً:
الله عزَّ وجل له أمر تكليفي، وأمر تكويني، يأمرك بغض البصر هذا أمر تكليفي، ينهاك عن الكذب أمر تكليفي، وهناك أمر تكويني أي ساق لإنسان مصيبة، هذا أمر تكويني، جعله عقيماً، جعله ذا عيالٍ كثير، جعل نسله من البنات فقط مثلاً، فهذا أمر تكويني،
وجوب الانقياد إلى الوحي وتعليماته:
الوحي كمالٌ مطلَق لا نقص فيه:
﴿ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
الوحي لا يوجد فيه خطأ أبداً، أي الوحي فيه حق مُطْلَق، فيه كمالٌ مطلق، فيه عدلٌ مطلق، كما قال بعض العلماء: "الشريعة عدلٌ كلها، مصلحة كلها - لصالح البشر، أي مصلحتك الحقيقيَّة في الشرع، في الزواج، في الطلاق، في العمل- الشريعة رحمةٌ كلها، الشريعة عدلٌ كلها، مصالح كلها، وكل أمرٍ خرج من العدل إلى نقيضه، ومن المصلحة إلى ضدِّها، ومن الرحمة إلى خلافها، فليس من الشريعة ولو أُدْخِل عليها بألف بابٍ وباب".
يجب أن تعلم علم اليقين أن هذا الشرع رحمةٌ كله، مصلحةٌ لك، ولأسرتك، ولأولادك، ولمجتمعك، ولبلدك، ولأمَّتك كلِّها، ورحمةٌ كلُّه، عدل ورحمة ومصلحة، وكل أمرٍ خرج من الرحمة إلى خلافها، من العدل إلى نقيضه، من المصلحة إلى ضدِّها، فليس من الشريعة، ولو أُدخِل عليها بألف تأويلٍ وتأويل، مهما حاولت أن تقول: هذا من الشرع، ليس من الشرع ما دام خلاف المصلحة، خلاف مصلحتك، خلاف المنطق، خلاف الواقع، خلاف الفطرة، خلاف العقل، خلاف النقل، ليس هذا من الشريعة، ولو أُدْخِلَ عليها بألف تأويلٍ وتأويل.
أي انحرافٍ عن منهج الله له مضاعفات خطيرة على كل المستويات:
إذاً:
الله تعالى خبير بالنوايا والمقاصد البعيدة:
إشارات الآية التالية ومفهوماتها:
أنت إذا كنت في شركة، وأردت أن تطبِّق أمر الله عزَّ وجل، الشركاء لا يرضون عن ذلك، هنالك أرباح طائلة يجنيها الشركاء من بعض الأساليب غير المشروعة في كسب المال، فإذا قلت: أنا لا أوافق على هذا الشيء، تنتهي الشركة طبعاً، لا يتركونك في الشركة، فدائماً وطِّن نفسك أن طاعة الله لها ثمن، ولا يمكن أن تجمع بين الدنيا والآخرة ببساطة.. لأن من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه.. هذا ليس تشاؤماً، ولكن من طبيعة الأمور أنك إذا أردت أن تقيم منهج الله عزَّ وجل فهناك معارضون، هناك متضرِّرون، هناك من يُسَفِّه هذا الاتجاه، هناك من يقف في طريقك، هناك من يكيدُ لك، جاءت الآية الكريمة:
من نتائج وجود المعارضين التوكُّل على الله وحده:
أقوى جهة في الكون توكَّل عليها، الله معك، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
(( (( من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. )) ))
إذاً:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين