وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 9 - 24 غزوة الأحزاب2
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الظروف المادية التي تنعكس على نفس المؤمن مسخرةٌ لبناء إيمانه الصحيح:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الخامس من سورة الأحزاب.

في الدرس الماضي بَيَّنْتُ بفضل الله عزَّ وجل الأحداث التي عاشها المسلمون في غزوة الخندق، وأردت من الدرس الماضي أن يكون أرضيةً لهذا الدرس الذي تتعلق آياته بغزوة الخندق، وقبل أن أبدأ بسرد الآيات المتعلِّقة بهذه الغزوة أحبّ أن أضع بين أيديكم الحقيقة التالية، وهي أن المؤمن يمر في حياته الدنيا بظروفٍ معينة، من هذه الظروف ما هي لصالحه، ومن هذه الظروف ما يبدو لأول وهلة أنها لغير صالحه، والحقيقة أن الله يبني إيمان عبده لبنةً لبنة، الله سبحانه وتعالى من خلال الظروف، من خلال المِحَن، من خلال الشدائد، من خلال العطاء، من خلال المنع، من خلال الطمأنينة، من خلال الخوف، هذه الظروف التي تحيط بالإنسان، والتي تنعكس على نفسه؛ تارةً خوفاً، وتارةً قلقاً، وتارةً طمأنينةً، وتارةً انقباضاً، وتارةً انشراحاً، هذه الظروف المادية التي تنعكس على نفس المؤمن إنما هي مسخرةٌ لبناء إيمانه الصحيح. 

 

أمثلة من واقع الصحابة:


لنأتِ بأمثلة، قال ربنا عزَّ وجل: 

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾

[  سورة آل عمران  ]

أي ضعاف، فئةٌ قليلةٌ، مستضعفةٌ، مطاردةٌ، وقريش بخيلها، ورَجِلِهَا، وقوتها، وعتادها، وشأنها، وجبروتها، تريد أن تقهر هذه الفئة المقهورة، فإذا بالأحداث تأتي على عكس ما هو متوقع، ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ هذا الحدث يبني إيمان المؤمنين، أي إذا كنت مع الله فلا تخش أحداً، إذا كنت مع الله فالله معك، إذا كنت مع الله تنقلب موازين القوى كلها. 

ويوم حنينٍ اجتمع المسلمون بأكبر قوةٍ ضاربةٍ في الجزيرة، عشرة آلاف مقاتل فتحوا مكة، ودانت لهم الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وقالوا في أنفسهم: "لن نغلب اليوم من قلة".  

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾

[  سورة التوبة  ]

حينما كنتم ضعافاً، وكنتم مفتقرين إلى الله عزَّ وجل، أيدكم الله بنصره، وأعزكم، وأعلى شأنكم، وحينما اعتمدتم على قوَّتكم الذاتية، وعلى كثرتكم العددية، وعلى أن الناس كلهم دانوا لكم، ألقى الله في قلوب أصحاب رسول الله الخوف فولوا مدبرين. 

إذاً: موقعة حنين بنتْ في إيمانهم لبنة، وموقعة بدر بنت في إيمانهم لبنة، ومعركة أُحُد أيضاً حينما خالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام، كيف أن الكفار تعقَّبوهم وأوقعوا فيهم ما يؤلمهم، ومعركة الخندق وضعتهم في امتحانٍ شديد، أي يجب أن تؤمن، وأن توقن أنه لن تنال من الله ما تريد إلا إذا دفعت الثمن، فكلما ادَّعى الإنسان أنه في مستوى، وهو دون هذا المستوى، ربنا عزَّ وجل يتولى من خلال أفعاله والظروف المحيطة بالإنسان أن يُحَجِّمَهُ، وأن يعيده إلى حجمه الحقيقي، قد ينمو إيمانه من جانب، ولا ينمو من جانبٍ آخر، فلذلك لابدَّ للمؤمن من أن تكون حياته ملوَّنَةً؛ فيها عطاء، فيها منع، فيها صحة، فيها مرض، فيها طمأنينة، فيها خوف، ما الموقف الكامل في الخوف؟ ما الموقف الكامل مع الطمأنينة؟ ما الموقف الكامل مع الصحة؟ مع القوة؟ مع المرض؟ هذه الامتحانات، وهذا البلاء، وهذه الشدائد، وتلك الظروف المعينة، يسوقها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين لينضج إيمانهم، وليبنى إيمانهم بناءً صحيحاً.

 

غزوة الخندق من خلال القرآن:


من خلال هذه المقدمة يجب أن نفهم غزوة الخندق، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ(9)﴾ ..جنود ؛ قريش، وغطفان، وكل القبائل العربية اجتمعت على استئصال النبي وأصحابه، اجتمعوا من كل حَدَبٍ وصوب معهم العُدة، الخيول، الأسلحة، الرماح، الحقد الدفين، ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا (9)﴾ .. ريح قلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نارهم، وإصابتهم بالبرد الشديد، وحاروا في أمرهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وفرّق بينهم، وشتت شملهم، ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا (9)﴾ الملائكة، أي حاربناهم بالرياح العاتية، وبالملائكة الذين قاتلوهم من دون أن تروهم.

 

اطّلاع الله على الأحوال كلها:


﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)﴾ ..أي الله عزَّ وجل بصير، يعرف ما أنت عليه، من إيمان، من توكُّل، من إخلاص، من طهارة، حالك مكشوفٌ عند الله عزَّ وجل، وفي ضوء حالك يسوق الله لك ما يناسبك، فإذا كنت صافي السريرة، طاهر الطويَّة، مخلص النية، إذا ابتغيت بعملك وجه الله عزَّ وجل والله يعلم ذلك فاطمئن لأن الأمر كله بيد الله..ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطّعت أسباب السماء بين يديه.

أقول لكم أيها الأخوة؛ إن هذه المعارك التي خاضها النبي وأصحابه؛ معركة بدر، معركة أحد، معركة الخندق، حُنَيْن، هذه المعارك يمكن أن يعيشها الإنسان بشكل مُصَغَّر، أحياناً يعتدُّ بعلمه فيرتكب حماقةً لا توصف، أين علمك؟ أي عقلك؟ يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها، فيؤتى من مأمنه، إذاً هذه الوقائع وهذه الغزوات يمكن أن نمر بها على شكل فردي، أو على شكل مخفف، أو على شكل صغير، فليست العبرة من هذه الدروس أن نقف على تلك الأحداث التاريخية، لقد مضت، وانقضت، ومات أهلها؛ بعضهم استشهد، وبعضهم مات حتف أنفه، وبعضهم، وبعضهم، ومضى عليهم ألفٌ وخمسمائة عام، أما الدروس والعِبَر التي يمكن أن نستنبطها من هذه الغزوة نستفيد بها كل يوم، فأحياناً الله عزَّ وجل يلوح لك بشبح مصيبة، فأنت إذا كان إيمانك قوياً تعلم علم اليقين أنها بيد الله، وأن الله قادرٌ على أن تقع بك، وقادرٌ على أن يصرفها عنك، ولأتفه الأسباب، فالله عزَّ وجل حينما ينصر المؤمن قد ينصره بسبب صغيرٍ جداً، أي خيوط العنكبوت التي نسجت على مدخل غار ثور هي التي نصرت هذه الدعوة الإسلامية، لسببٍ صغيرٍ جداً، أحياناً يلقي الله في قلب خصمك الخوف منك، شيء لا تراه أنت بعينك، أحياناً خصمك لا يراك، هو ينتظرك ولكن لا يراك، وأحياناً ينتظرك ويراك وفجأةً يلقي الله في قلبه العطف عليك، وأحياناً يلهمك ما يُبْطل تدبيره، الأمر كله بيد الله، فإذا كنت مع الله كان الله معك، وإذا كنت مع الله لا أحد يستطيع أن يقترب منك، إذاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (9)﴾ يا ترى أليس في حياة أحدنا يومٌ عظيمٌ من أيام الله ساق الله له به خير أو صرف عنه شراً؟ فلا أعتقد أن هناك مؤمناً تخلو حياته من أدلةٍ قاطعةٍ على أن الله هو المتصرِّف، وأنه سميعٌ، بصيرٌ، مجيبٌ، عليمٌ، قديرٌ، غَنِيٌ، يصرف هذا الشيء لمن يشاء، وعمن يشاء، بقدر، وبتقدير، وبحكمة.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9)﴾ يرى ويبصر، لذلك قال بعضهم: الحمد لله على وجود الله، أي أنت مع الله القضية سهلة معه، لا يريد الله يميناً، يعرفك، لا يريد وصلاً، ولا يريد دليلاً، ولا يريد إثباتاً، كل هذه الأدلة التي يبحث عنها الناس ليثبتوا حقيقةً أمام القضاة، الإنسان مع الله معفىً منها، لأن الله مطلعٌ على حقيقتك، عن عمر رضي الله عنه:

(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. ))

[ صحيح البخاري ]

 

صورة مِن صور الخوف يوم الخندق:


إذاً: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ (10)﴾ ..هؤلاء اليهود من خلف ظهورهم، ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ (1)﴾ من الوديان المقابلة للمدينة، من فوقكم اليهود، ومن أسفل منكم قريش ومن لف لفَّها، وربنا عزَّ وجل صوَّر الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين والقلق البالغ بصورتين..﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ (10)﴾ .

الإنسان دائماً ينظر إلى شيءٍ ما ويركز عليه بصره، فإذا وقع في اضطرابٍ، وحيرةٍ، وخوفٍ، وقلقٍ، دارت عيناه، لو وقف رأسه تتحرك عيناه يمنةً ويسرةً، باضطرابٍ شديد، حركة العين المضطربة يمنةً ويسرةً هو زيغ البصر، وزيغ البصر كنايةٌ عن قلق الضمير، فهؤلاء أصحاب رسول الله وُعِدُوا بأن تفتح عليهم بلاد قيصر وكسرى، وُعِدُوا بأن يكونوا خلفاء الله في الأرض، معهم رسول الله، يوحى إليه، القرآن يتنزل عليه، هم على حق، ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ فجأةً رأوا أن الأعداء من كل جانب، وأن بقاء الإسلام قضية ساعات، وينتهي الإسلام، وتنتهي هذه الدعوة، وينتهي هذا الدين، ويقتل النبي وأصحابه، وتعود الجاهلية كما كانت، ويشرب الخمر، ويُلْعَبُ بالميسر، ويُتَعامل بالربا، وتعود القَيْنَات والمزامير، إنها مشكلة خطيرة جداً، أين وعود النبي؟ أين إشراقاته؟ أين وعْدَ الله له؟ أين تطمين الله له؟ ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ (10)﴾ ..أي بينهم وبين اليأس قيد أنملة، لكن الأصعب من هذا كله قد تزيغ العين، وقد يبلغ القلب الحنجرة، أما أن يظن الإنسان بربه ظن سوء؟! والله الذي لا إله إلا هو إن أكبر مصيبةٍ يصاب بها المؤمن أن يسيء الظن بربه.  

 

إسقاط على الواقع:


أحياناً يرى أن أهل الكفر والضلال مسيطرون، وأن مشيئتهم هي النافذة، وأن أهل الإيمان مستضعفون، لهذا للنبي عليه الصلاة والسلام كلماتٌ دقيقة لا أنساها، حينما خاطب عدي بن حاتم قال له:  "لعله يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم" المؤمنون فقراء، أحياناً الإنسان يرى المؤمنين جماعة دراويش -لا شأن لهم- فقراء، يعيشون على هامش الحياة، بأعمال متواضعة جداً، دخلهم قليل، هؤلاء الذين يحبهم الله عزَّ وجل، وأهل الكفر والضلال في مراكز رفيعة، وغنى، وقصور وبيوت، وأموال طائلة، أحياناً الإنسان يذهب إلى أوروبا، إذا كان ضعيف الإيمان يتزلزل إيمانه، أمم تعيش برفاه كبير، بنِعَم لا تعد ولا تحصى، كلابهم يأكلون من اللحم أضعاف ما يأكل شعبٌ بأكمله من اللحم، يقول: أين الله؟! هؤلاء يفسقون، ويفجرون، ويشربون الخمر، ويزنون، نساؤهم كاسياتٌ عاريات، يتعاملون بالربا، وهم أقوياء، أغنياء، متجبِّرون، لو قرأ الإنسان القرآن لعرف الحقيقة، قال:  

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام  ]

بطولتك أن تثق بالله عزَّ وجل، وأن العاقبة لك، والله الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يضيّع مؤمناً، أنت تتعامل مع خالق الكون، مع القوي، مع العزيز، مع الذي بيده كل شيء، مع الذي بيده كل خصومك، أرواحهم بيده، خواطرهم بيده، قلوبهم بيده، قوتهم بيده، فلذلك إذا ادعيت أنك مؤمن والإيمان غير كافٍ فربنا عزَّ وجل يضعك في ظرف ٍصعب.. ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ (11)﴾ ، قال:  ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10)﴾ ، هذا ليس رسولاً ألم يقل الآن: تفتح لكم قصور قيصر وكسرى، ونحن لا نقدر أن نقضي حاجة؟ أين رسالته؟ الله تخلى عن المؤمنين، نصر الكفار، قوَّاهم، هم متجبرون وأيَّدهم بقوته، وجعلهم الأعلون، أين إذاً وعود الله عزَّ وجل؟ إذا التقى الإنسان بأخ كريم يأتي للمساجد، يحضر دروس علم، يقول لك: أنا إذا استقمت أرتاح، وتكثر زبائني، وأحس براحة، فيستقيم، فيجد أموراً صعبة يواجهها، صعبة جداً، بماذا تكلم الأستاذ إذاً؟ أنت أتيت لمصلحة، ما دامت جئت لمصلحةٍ فلن تجد حاجتك، يجب أن تحب الله من دون شائبة، فكل إنسان يتوهم أنه إذا استقام سيعيش في بحبوحة كبيرة، يريد أن يترفَّه، والناس يعظمونه، قد يكون هذا وقد يحصل، وفي أغلب الظن يحصل، أما إذا أردت من الاستقامة الدنيا فهذه استقامةٌ تجارية، من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا.

 

من صور سوء الظن؛ لا تقتلوا عمي العباس:


الصحابة الكرام.. ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾ ..والعياذ بالله، سيدنا العباس عم رسول الله، أسلم قبل معركة بدر، وبقي في مكة عيناً للنبي، وكان يقدِّم له المعلومات أولاً بأول، معلومات من أعلى مستوى، أي حينما تأتمر قريش على النبي، حينما تزمع أن تغزوه، حينما تدَبِّرُ له خطة، هذه المعلومات تصل إلى النبي فوراً، فيأخذ احتياطاته، فكان للنبي مستوى قيادته   رفيعة جداً، جاءت معركة أحد، وخاف أن يقتله أصحابه، يقتلون عمه، فقال عليه الصلاة والسلام: "من رأى عمي العباس فلا يقتله" هناك صحابياً قال في نفسه: "نحن نقتل آباءنا وينهانا عن قتل عمه؟! نقتل آباءنا وإخواننا وينهانا عن قتل عمه" النبي لا يستطيع أن يقول: عمي مسلم، إذا قال له: مسلم، انكشف، انتهى، انتهت مهمته بمكة، لو أعلن عن إسلام سيدنا العباس لانتهت مهمته، ولو لم يوجه أصحابه بعدم قتله لقتلوه بالمعركة، وإذا لم يخرج معهم للمعركة ينكشف أيضاً أمره، فيجب أن يصحبهم للمعركة فالنبي قال: "من رأى منكم عمي العباس فلا يقتله"، لأنه لو قال: عمي لقد أسلم، لشاع الخبر، وانتهت مهمته في مكة، ولو لم يوجِّه أصحابه بهذا التوجيه فهناك مشكلة ثانية، قد يقتل في معركة أحد، فقال هذا الصحابي بعد أن كشفت له الحقيقة، بعد أن ظن بالنبي ظن السوء: ينهانا عن قتل عمه، ونحن نقتل آباءنا؟! صارت هذه قضية عصبية، بعد أن كُشِفت له الحقيقة، هذا الصحابي ظلّ يصلي، ويصوم، ويفعل الصدقات، ويعتق، لعل الله يغفر له هذا الظن السوء بالنبي عليه الصلاة والسلام، فكيف لو ظنّ الإنسان بربه ظن السوء؟ قد تجد أحياناً من يقول: الله يريد أن يعذبنا، لا يحبنا، يقول لك: المسلمون متخلفون، فقراء، مُقَدَّرَاتُهُم بيد عدوهم، هكذا يتكلم، كأن الله ليس له علاقة بالموضوع.


  حسن الظن بالله:

 

أما هنا: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾ ،  لهذا قال عليه الصلاة والصلاة:

(( حسن الظن بالله ثمن الجنة. ))

[ مسلم عن جابر بن عبد الله ]

البطولة أن تحسن الظن بالله، وأنت في مشكلة، قد يقول لك الشيطان: أين الله؟ انظر ماذا فعل بك؟ أنت الصائم، المصلي، الطائع، من روَّاد المساجد، تغض بصرك، دخلك حلال، انظر ماذا فعل بك، انظر إلى جارك الثاني؛ يزداد قوة، ومنعة، واستعلاء، وغنى رغم أنه غارق في المعاصي، أهكذا الله يعامل عباده؟ هذا كلام الشيطان، هنا جاء دور الشيطان، ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾ أما المؤمن فلا يبالي، مهما علا أهل الكفر. 

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)﴾

[  سورة آل عمران  ]

أصعب مصيبة: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾ لهذا سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبةٌ قال: << الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني >> أي كل شيء ممكن، محتمل، أما أن تسيء الظن بالله الذي خلقك، والذي أكرمك، والذي منحك نعمة الوجود، والذي منحك نعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، تسيء الظن به؟!

 

غزوة الخندق ابتلاء وزلزال:


قال:﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾ .. ذكر لي مهندس أنه إذا كان هناك شرفةٌ فيها شقوق، ما العمل؟ هناك نظام التحميل، يضعون عليها عشرة براميل ممتلئة بالماء، فإذا انهارت هذا المطلوب، معنى هذا أنها سيئة، وإذا صمدت، معناها جيدة جداً، هذه الشقوق ليس لها قيمة، هذا اسمه: نظام التحميل. وهذا النظام ربنا عزَّ وجل يُحمِّل المؤمن أحياناً مشكلة، إذا انتهى إيمانه يكون عرّفه بنفسه، وعرّف الناس به، معناها أن دعواه كبيرة جداً، وهو ليس بهذا المستوى، يدّعي بأنه مؤمن إيماناً قوياً، وإيمانه ضعيف، فمن أجل هذا الضغط القليل ترك الصلاة، أكثر شيء يصيب الإنسان الضغط والإغراء، وسيلتا الامتحان إما إغراء مالي أو شهواني، أو ضغط مادي أو معنوي، بالضغط والإغراء تظهر حقيقة الإنسان، عرضوا على رسول الله في مكة أجمل فتاة يزوجونها له، عرضوا عليه أموالاً طائلة، عرضوا عليه زعامة قريش، فما زاد على أن قال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه، وهكذا المؤمن، المؤمن الدنيا كلها تحت قدميه، الدنيا كلها مسخرةٌ للحق، هو عبدٌ لله وهي مسخرةٌ لها، وليس هو عبداً له، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة رضي الله عنه :

(( تعِس عبدُ الدينار، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ- الثياب-، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ. ))

[ صحيح البخاري ]

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾ مرة قلت لكم: لكي يمتحنوا قوة تماسك الإسمنت يصبُّون مكعبات من أنواع مختلفة، يضعون هذا المكعب بين فَكَّين، فك لاقط، وفك حامل، يضعون بالفك التحتاني وزناً على ألف غرام يكسر، لأن طاقته ألف غرام، وهذا النوع على ألفي غرام، هذا على ثلاثة آلاف غرام، فكلما كان تماسك الإسمنت أقوى كانت قوة تحمله أقوى، والمؤمن كذلك، هناك مؤمن من جراء كلمتين يهدَّد بهما يترك الصلاة، معنى هذا أنه ليس مؤمنا، بينما تجد مؤمناً لا يعصي الله ولو قُطِّعَ إِرباً إرباً، أحدٌ أحد، فردٌ صمد، كسيدنا بلال. 

لذلك لما وقف أبو سفيان زعيم قريش الكبير على باب عمر، وقف ساعاتٍ طويلة فلم يؤذن له، أما بلال وصُهيب فيدخلان بلا استئذان، فلما دخل عليه عاتبه، قال له: زعيم قريش يقف في بابك ساعاتٍ طويلة من دون أن تأذن له وصهيبٌ وبلال يدخلان بلا استئذان؟ قال: أنت مثلهما؟ أين كنت عندما كان بلال يقول: أحدٌ أحد، فردٌ صمد، أين كنت أنت؟ 

 

موقف المنافقين في كل عصر ومصر:


قال: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا(12)﴾ .. المنافقون ومن كان في قلبه مرضٌ من المؤمنين، مؤمن لكت يوجد خوف عنده، مؤمن لكن إيمانه ضعيف، مؤمن فيه زَيْغ.. ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا(12)﴾ ظهر واتضح أن كلامه لا معنى له، فارغ، كلها وعود ليس لها أساس، لا يوجد رسالة، ولا نبوة، أي الشيء انتهى.

 

مِن أقوال ومواقف المنافقين: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا:


﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا(13)﴾ .. قال بعض المفسرين: ارجعوا عن هذا الدين وعودوا إلى وثنيتكم، هذا الدين لم يأتنا بخير، وقال بعضهم: ارجعوا إلى المدينة، لأنهم في الخندق، بيوتهم في المدينة وهم في الخندق، ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ (13)﴾ أي هذا المقام غير جيِّد، هذا مقام الهلاك، هذا مقام القتل، هذا مقام التدمير، لا مقام لكم فارجعوا، إما فارجعوا عن دينكم، وعودوا إلى جاهليتكم، أو ارجعوا إلى بيوتكم، فهي أحصن لكم من هذا المكان، أنتم هنا مقتولون لا محالة، قومٌ أشداء، عشرة آلاف مقاتل، والصحابة كان عددهم ألفًا فقط، ألف الذين حفروا الخندق مع الصغار، والكفار عشرة آلاف، فارجعوا.

 

استئذان فريق من المنافقين النبي لمغادرة مكان المعركة:


﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ (13)﴾ ..أحياناً يا رسول الله بيتي خطر، عليه مدخل، أعداء كُثُر، أخاف على زوجتي، على أولادي، فهل تسمح لي أن أذهب؟ فيجيبه الرسول بما معناه: اذهب، والثاني يريد أن يذهب، استئذان، ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ (13)﴾ ..أي فيها مركز ضعف، عليها مدخل، واليهود أشدَّاء وأقوياء، والآن اليهود متفرِّدون بالمدينة، ونحن في الخندق، ائذن لنا يا رسول الله، ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ (13)﴾ الله مطّلع، قال: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ (13)﴾ أي كاذبون.

 

صفات المنافقين:

 

1 ـ الفرار في وقت الشدة:

﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)﴾ ..شاهد أنَّ الموت قريب جداً فيريد أن يهرب، يقول لي يا أخي ألف كلمة جبان ولا الله يرحمه، يريد أن يهرب، لا يريد هذه المعركة. 

2 ـ المسارعة إلى الكفر وقت الخوف من القتل:

﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا (14)﴾ ..لو كانوا في بيوتهم، ودخل عليهم العدو، وأمرهم أن يدعوا هذا الدين، وأن يعودوا كفاراً بعد إذ آمنوا، لكفروا.. ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ (14)﴾ أي أن يكفروا، وأن يعودوا إلى جاهليتهم ووثنيتهم.

 

عتاب الله على المنافقين لنكثهم العهود:


﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا(15)﴾ أحياناً يحج الإنسان، في المسعى، في الطواف، في عرفات يقول: يا رب، أعاهدك على الطاعة، شيء جميل، لكنه عندما يرجع من الحج، وعرضت له معصية أو مخالفة، فإذا اقترفها لا ينسى أنه عاهد الله على الطاعة، لا يوجد حاج أو معتمر إلا ويعاهد ربه على قائمةٍ طويلةٍ مما كان يعمل قبل أن يتوب، يا رب لا أعود إلى هذه المخالفة، ولا إلى هذه، ولا إلى هذه، ولا إلى هذه، فإذا عاد إلى بلده، بعد شهر أو شهرين، عاد إلى ما كان عليه، فالله عزَّ وجل يقول: ألم تعاهدني على كذا وكذا؟ فالله يعاتبهم.. ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا(15)﴾ ..أنت انتبه، من تعاهد؟ أنت تعاهد خالق الكون، تعاهد الإله، تعاهد رب العالمين، تعاهد من بيده كل أمرك، من بيده مصيرك، تعاهد مَنْ؟ إذا اتفق الإنسان مع شخص عادي: لا تعبأ به، مزق العقد، لكن كلما كان الطرف الثاني عظيماً فإلغاء العقد لم يعد قضية سهلة، عليه ضغط أدبي، وضغط معنوي، فإذا كنت قد عاهدت خالق الكون على التوبة، على الطاعة، على أن تفعل هذه الطاعة، على أن تدع هذه المعصية، هذا عهد الله كان مسؤولاً.

 

لا ينفع الفرار من القتل لأن الموت مصير كل مخلوق:


الآن ربنا عزَّ وجل، يأتي على قدر عقولهم، قال: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ (16)﴾ ..لو فرضنا فررتم، والصحابة قتلوا عن آخرهم، وهؤلاء الذين فروا إلى بيوتهم نجوا من الموت، لكن وبعد ذلك؟ ثم ماذا؟ لابد من أن يموتوا، لابدَّ من أن يقتلوا بعد حين، إذاً: لو نجوت من الموت لا تنجو منه أبداً، لابدَّ من الموت، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.. 

الليل مهما طال فلابـدَّ من طلوع الفجر      والعمر مهما طال  فلابدَّ من نزول القبر

[ سعود المطير البهلال ]

* * *

 و: 

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته             يوماً على آلةٍ حدباء محمول

فإذا حملت إلـى القبور جنــــــازةً              فـاعلــــــــم بأنك بعدها محمول           

[ كعب بن زهير]  

* * * 

 

متاع الدنيا ساعات معدودة:


﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا(16)﴾ ..كلها سنوات قليلة، راكب أحد الناس سيارته - والقصة من سنتين - في شارع من شوارع دمشق جاءته أزمة قلبية، أخذوه إلى المستشفى، وهو في العناية المشددة طلب آلة تسجيل، وسجّل شريطاً بكلام نفسه، فذكر فيه أن المحل الفلاني ليس لي، فهو لإخوتي قد أخذته منهم غصباً، صرَّح تصريحات دقيقة جداً، المحل أعطوه لإخوتي، شعر أنه المواجهة قريبة، بعد يومين رجع معافى صحيحاً، الأزمة خَفَّت، شعر بصحة، طلب الشريط المسجل عليه اعترافاته، أخذه وكسره، ألغاه، ورجع إلى القديم، عاش بعد ذلك ثمانية أشهر ثم مات، فهذا أرسل الله له إنذاراً ليصحو من غفلته، فلما شعر بالصحة رجع إلى ما كان عليه، ثم مات، وسوف يواجه عمله عند الله عزَّ وجل.. ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا(16)﴾ .. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنفال ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾

[ سورة التوبة  ]

 

لا عاصم ولا ولي ولا نصير إلا الله:


﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(17)﴾ ..الأمر كله بيد الله، فإذا هرب الإنسان من معركة، قد يجد موتاً في بيته، الإنسان قد يموت بحادث، أحدهم له مكان على الخط الأول، بذل وسائط مخيفة، إلى أن انتقل إلى الأعماق، مات هناك في الأعماق في اليوم التالي.. 

من لم يمت بالسيف مات بغيره             تنوَّعت الأسباب والموت واحد

[ ابن نباتة السعدي ]

* * *

 

ظاهرة سيئة؛ المثبِّطون في كل زمان ومكان لا خير فيهم:


﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ (18)﴾ ..هؤلاء المثبطون، وهم في كل عصر موجودون، إذا رأوا إنساناً ينفق ماله، يقولون له: لماذا تريد وجع الرأس؟ خبئ قرشك لنفسك، لا تصغر عقلك، وإن حضر مجلس علم، يقولون له: هذا كله تعرفه، وإن عمل أعمالاً صالحة قيل له: لا تصغر عقلك، الناس لا يرحمونك، تجده إن تعلم يُلام، إن أنفق ماله يلام، إذا استقام يقولون له: لا تشدد كثيراً، الله لن يحاسبك، ضعها برقبتي، هؤلاء هم المعوقون..﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا (18)﴾ ماذا تريدون من هذه المعركة؟ المدينة فيها أماكن رطبة، فيها بساتين، فيها ظلال، فيها ينابيع، فيها رُطَب، اجلس اجْلس..  

دع المكارم لا ترحل لبغيتها               واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

[ الحطيئة ]

* * *

﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ(19)﴾ .. أي ليس منهم خيرٌ إطلاقاً، لا يقدمون خيراً لا معنوياً، ولا مادياً، ولا أدبياً، ولا نصيحة، ولا خبرة أبداً.

 

مِن دأبِ المثبِّطين والمعوِّقين:


 1 ـ الطعن في الأنبياء والمستقيمين:

﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ (19)﴾ .. يطعنون برسول الله وبالمؤمنين، وكل إنسان بعيد عن الله عزَّ وجل يسيء الظن بالآخرين، هذا له هدف، هذا له نيَّة، هذا يريد أن يكثر جماعته، هذا يريد مالاً، دائماً يسيء الظن بالصادقين، المنحرف والمقصر يسيء الظن بالمخلصين، ويتهمهم بشتَّى الاتهامات.. ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(19)﴾ ما دام لم يؤمن إذاً عمله سيِّئ، آمَن عمله طيِّب..  

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾

[ سورة الماعون  ]

هو نفسه.. 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

إذا لم يؤمن الإنسان يتهم الآخرين، وينتقص من عملهم، ويقلل من شأنهم، ويحاول أن يفسِّر عملهم تفسيراً أرضياً وصولياً.  

2 ـ الخوف الدائم:

من شدة الخوف الذي أصاب المسلمين، أو أصاب بعض المنافقين قال: ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا (20)﴾ الأحزاب ذهبوا، والرياح اقتلعت قدورهم، وخيامهم، وأطفأت نيرانهم، وولوا على أدبارهم، ولا يزال الخوف مسيطراً عليهم. 

3 ـ البعد عن أماكن القتال:

﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ(20)﴾. .أي لو عاد الأحزاب مرةً ثانية، يتمنى هذا المنافق أن يكون بيته في أقاصي الدنيا، في البادية.

 

الرسول هو القدوة الكاملة للمسلمين:


﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)﴾ الآن الله عزَّ وجل يوجِّه المؤمنين: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (21)﴾ ..هو القدوة ؛ في صبره، في شجاعته، في حِلْمِهِ، في جهاده، في لُطْفِهِ، في رحمته، في تحمُّل الشدائد، في معاناة الخطوب.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)﴾ فإذا كان إنسان يشغل وظيفة معيَّنة، والتقى مع تاجر، أو التقى مع إنسان له عمل غير عمله، لا يقتدي به، لكن دائماً التاجر يقتدي بتاجر أكبر منه، كيف عقد الصفقة؟ كيف ربح؟ والموظف يقتدي بموظف أرقى منه، فالإنسان إذا أراد الله واليوم الآخر بشكل أو بآخر يصبح النبي قدوةً له، أما إذا أراد الدنيا فقدوته زيدٌ وعُبَيْد، لن يكون النبي قدوةً لك إلا إذا أردت الله واليوم الآخر، إذا كان في قلبك إرادة مصممة على طلب مرضاة الله عزَّ وجل، بشكل طبيعي وعفوي يصبح النبي قدوةً لك؛ هكذا صَلَّى النبي، هكذا ذكر النبي، هكذا دعا النبي، هكذا صبر، هكذا تحمَّل، هكذا عامل زوجته، هكذا عامل إخوانه، ما دام قصدك الله عز‍َّ جل، ما دام قصدك أن ترضي الله عزَّ وجل، وأن تبلغ الآخرة بسلام، عندئذ يصبح النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً لك.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)﴾ ..أي علامة أن النبي قدوةٌ لك أن ترجو الله، أن ترجو ما عنده، واليوم الآخر، وأن تذكر الله كثيراً. 

 

موقف المؤمنين الصادقين من العدو:


أما المؤمنون فكان لهم موقف آخر: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ(22)﴾ ماذا قال الله سبحانه؟ قال:  

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)﴾

[  سورة البقرة ]

فالمؤمن يعلم أن أمامه امتحاناً. 


الأحداث الطاحنة تزيد في الإيمان:


﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا(22)﴾ ..الأحداث الطاحنة تزيد المؤمن إيماناً، يتألَّقُ بها، يظهر صابراً، يظهر واثقاً بفضل الله عزَّ وجل، يظهر موقِنَاً بعدالة الله عزَّ وجل، يظهر واثقاً من رحمة الله عزّ وجل.. ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾ هذا المؤمن، في الرخاء مؤمن، في الشدة مؤمن، في الغِنى مؤمن، في الفقر مؤمن، في الصحة مؤمن، في المرض مؤمن، في إقبال الدنيا مؤمن، في إدبارها مؤمن، في انقباض قلبه مؤمن، في انشراحه مؤمن، لا يتغيَّر، عاهد خالق الكون، فانتهى الأمر، والله هذه الآية يطرب الإنسان لها: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾ ..

 

مِنَ المُؤْمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ: 


1 ـ سيدنا خبيب:

سيدنا خُبَيْب وضعوه ليصلبوه، وتقدم منه أبو سفيان، إنسان بعد حين سيقتل، وله زوجة وأولاد، أرسله النبي بمهمة، فألقي عليه القبض، واشترته أسرةٌ لتقتله- بنو الحارث- صلبوه، وتقدم منه أبو سفيان، سأله سؤالاً، قال له: "يا خبيب، أتحب أن يكون محمدٌ مكانك وأنت معافىً في أهلك- جالس في بيتك، وأمامك زوجتك وأولادك، والمؤونة كاملة، وكل الأجهزة جاهزة، مسرور - أتحب أن يكون محمدٌ مكانك وأنت معافىً في أهلك؟"، يقول كُتَّاب السيرة: هذا الصحابي الجليل انتفض كالعصفور وقال: "والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة"، هذا إيمان.. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23)﴾ .. 

2 ـ سيدنا ربيعة:

سيدنا ربيعة، تفقَّده النبي فلم يجده، بحثوا عنه وجدوه بين القتلى، ولم يمت بعد، قال له: "يا ربيعة إن رسول الله أرسلني إليك"، قال: أقرئهُ مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عُذر لكم إذا خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عينٌ تطرف، على وشك الموت.  

3 ـ سيدنا جعفر بن أبي طالب:

سيدنا جعفر؛ قطعت يده اليمنى أمسك الراية باليسرى، قطعت اليسرى أمسكها بعضديه.. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(24)﴾ كل شيء له ثمن، كل موقف له ثمن، هذا الموقف له ثمن، التخاذل له ثمن، الصبر له ثمن، الثقة بالله لها ثمن، الشك بعطاء الله له ثمن، أبداً، ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ (24)﴾ فإذا تابوا رحمهم..﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)﴾ .

 والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور