وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة الحديد - تفسير الآيتان 28-29
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 جزاء المؤمنين في الدنيا والآخرة

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن والأخير من سورة الحديد، ومع الآية الثامنة والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة الحديد]

 تقسيم الناس عند الله تعالى:
 يُخاطب الله سبحانه وتعالى عامَّة الناس بأُصول الدّين، بينما يُخاطب المؤمنين بِفُروع الدِّين، فالله تعالى يقول:

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾

 

[سورة البقرة]

 وقال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾

 

[سورة البقرة]

 و الإيمان هو أعلى مرتبة يمكن أن ينالها الإنسان، فالناس رجلان ؛ مؤمن وغير مؤمن، وقد يكون الإنسان كافراً أو ملحداً أو مشركاً أو منافقاً، لكن الأصحّ أن نقول: هناك مؤمن وغير مؤمن، وهناك تقسيمات كثيرة يمكن أن يقسم الناس بها، فهناك الانتِماء والانتِساب والأعراف والأجناس والملَلِ والنِحَل والمذاهب والطوائف و المكانة والإنتاج والاسْتِهلاك والغِنى والفقر والأعِراق، فهناك العرق الأبيَض والعِرق الملوَّن، وهناك أهل الجنوب وأهل الشرق، وهذه التقسيمات كلُّها ما أنزل الله بها من سلطان،و التقسيمان الحقيقيان هما: (المؤمن وغير المؤمن !) ولن تجد تقسيماً ثالثاً، فالمؤمن عرف الله، وبحث عن منهجه، وطبَّقه وتقرَّب إليه واتَّصل به، وأحْسَنَ إلى خلقِهِ، فسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وغير المؤمن غفَلَ عن الله، وتفلّت من منهجه، وأساء إلى خلقِهِ، وانقطع عن الله فَشَقِيَ في الدنيا والآخرة، ويؤكِّد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام:

 

(( فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ ))

 

[رواه الترمذي]

 فإذا قال الله عز وجل:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 فهو يُخاطب ِمن خَلْقه مَن عرفهُ فآمن بِوُجوده ووحْدانِيَّته وكماله و سِرَّ وُجوده، وغاية وُجوده، فهذا الذي عرف الله هو المَعْنِيُّ بالخِطاب، ولذلك أود أن أُزجي نصيحةٌ لإخوتنا المؤمنين فأقول لهم: قبل أن تُعرِّفوا الناس بأمر الله ؛ عرِّفْوهُم بالآمر، وقبل أن تُعرِّفوهم بِتَفاصيل الدِّين،عرِّفوهم بأُصول الدِّين، لأنَّ تفاصيل الدِّين لا معنى لها إن لم نؤمن بِأصول الدِّين، فالله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 التَّقوى: مِن وقى، والوِقاية لا تكون إلا من شيء مُخيف، فيا من آمنتم.. إن إيمانكم لا معنى له إن لم تتَّقوا الله، و هو لا يُجدي و لا ينفع إن لم تُطيعوا الله وتستقيموا على أمره، وإيمانكم لا يقدِّم ولا يؤخّر إن لم تعتمدوا منهج الله في حياتكم، فهناك أربعة ملايين من الناس يطوفون حول الكعبة كل عام، و‍ هذا شيء جميل، ولكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح يقول:

 

((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ))

 

[رواه الترمذي]

 علاقة جدلية:
 يقول الله تعالى:

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم﴾

 

[سورة النور]

 هناك علاقة جدليَّة بين الإيمان والاستخلاف ؛ فإن كنت مؤمناً كما أراد الله تعالى اسْتخْلفَكَ الله في الأرض، وهذا ليس نادراً، بل هي سنَّة الله و قانونه في خلقه، فإن لم نُسْتخلف ولم تكن كلمتنا هي العليا، فمعنى ذلك أنَّ في إيماننا خلل وخطأ، كما يعني أننا لسنا في المستوى الذي ينبغي أن نكون عليه، فالقضيَّة دقيقة أيها الإخوة، وقد يسأل سائل فيقول: ألم يقل الله عز وجل في كتابه الكريم:

﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

 كما أنه قال:

 

﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(160)﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 وقال:

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم﴾

 

[سورة النور]

 الإيمان الحقيقي:
 أريد هنا أن أقول لكم كلمة مختصرة: إن الإيمان الذي لا يَحْمِلُكَ على طاعة الله والخوف منه، ولا يجعلك تقف على الحلال والحرام، لا جَدوى منه إطلاقاً، فإقرارك بأنَّ الله خلق الكون قد أقرَّهُ إبليس من قبل، كما أن إقرارك بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق قد أقرَّ به كلّ الكفار، فهم عبدوا الأصنام وقالوا كما في قوله تعالى:

 

﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3)﴾

 

[ سورة الزمر ]

 فالعِبرة أن تضَعَ يَدَك على جَوْهر الدِّين، وأن تؤمن الإيمان الذي ينبغي أن يكون، فإن آمنْتَ الإيمان الصحيح قطفت ثِمارَهُ، و لمستَ نتائجهُ.
قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 أي: أطيعوه... و إني أريد أن أقفُ هُنَيْهةً عند هذه الآية..
 لقد قال: " اتَّقوا الله !"، فكيف تطيع الله إن لم تعْرفْهُ ؟ و كيف تُطيعه إن لم تعرِف أمرَهُ ؟ فمن أجل أن تتَّقي معْصِيَتَه وغضبَهُ و سَخَطه و نارَهُ ينبغي عليك أن تُطيعه، و إنك لن تُطيعهُ قبل أن تعرفَهُ، فسَلْ نفْسَكَ هذا السُّؤال: كم من الوقتٍ تخصص من الصَّباح حتَّى المساء لِمَعرفة الله ؟! إنَّك إن حضرْت مجلسَ العِلم وأصْغَيْت فيه إلى الآيات فراجعتها و دقَّقْت فيها وتأمَّلْتها انْعَكَسَ هذا على سُلوكك طاعةً لله تعالى، فهذه المعرفة تجعلك تضَبط جوارحك وبيتك وعلاقاتك، فلا شكّ أنَّ هذه المعرفة أثْمرت طاعة، والإنسان يَقُرَّ عَيْنًا بهذه الطاعة، أما إن لم تكن هناك طاعة،وكان هناك كسبٌ حرام وعلاقات اجْتِماعيَّة غير منضبطة أو كان هناك انْحِرافات وتعلُّق بالشَّهوات، فلن يؤتي الإيمان ثماره، و الله تعالى قال:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 فلا ينبغي أن يكون للمؤمن همٌّ أكبر من أن يعرف الله تعالى، ويعرف منهجه، فهذا الأمر لا يعلو عليه أمر آخر مهما بدا لك مهِمًّاً، " يا ابن عمر دينَكَ دينَكَ إنَّه لحمكَ ودَمُك، وخُذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا ‍! " وإنَّك ما لم تأخذ موقفًا عمليًّاً لم تكن مؤمنًا، قال أحدهم:

 

وعالم بِعِمله لم يعْملنْ  مُعبَّد من قبل عُبَّاد الوثَن

 فإذا لم تُحرِّر دخْلك من الحرام و لم تُقِم الإسلام في بيتك و لم تجعل علاقاتك إسلاميَّة ؛ فتلتزم بالصدق والأمانة وإنجاز الوعد وصيانة العهد والحكمة والكرم، إن لم تفعل كل هذا لم تكن مؤمنًا، لأنَّ الخُلق ذهَب بِكُلّ الخير، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقاً ‍‍.
 مكانة السنة المطهرة في التشريع الإسلامي:
 إن في القرآن الكريم أمْرٌ ونهْيٌ، و قد جاءت السنّة مطهَّرة بشيء من التفصيل، والله تعالى يقول:

 

 

﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)﴾

 

[ سورة الحشر ]

 فيجب علينا أن نبحث عن الأمر التَّفصيليّ في سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم فيه أوامر إجْماليَّة، كـ (أقيموا الصلاة)، ولكن القرآن لم يفصّل كيفيةَ الصلاة وأوقاتِها وعددَ ركعاتها وفرائضَها وواجباتِها وسننَها ومكروهاتِها ونواقضَها!! وهذا كلّه موجود في سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، كما نجد في السنة المطهرة كيفية البيع والشراء والتجارة، فقد جاء فيها أن أطْيَب الكسب كسْبُ التُّجار، الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يُخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشْتروا لم يذُمُّوا، وإذا باعوا لم يُطروا، وإذا كان لهم لم يُعسِّروا، وإذا كان لهم لم يُمطِلوا.. فالقرآن الكريم فيه مبادئ كُبرى، فقد أمرك الله تعالى في القرآن أن تؤتي الزَّكاة، لكنه لم يبين نِصاب الزَّكاة، و زكاة الذَّهب والفضَّة، وزكاة عروض التِّجارة، وزكاة الإبل، وزكاة البقر وزكاة الحليّ، وزكاة العسل، وزكاة الإنتاج الزراعي، فمِن أين سنأخذ تفاصيل هذه الأحكام ؟! من السنة النبوية الشريفة، فمن يقول لك: أنا أكتفي بِكِتاب الله فقط يكون مُخالفاً لكتاب الله تعالى نفسه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)﴾

 

[ سورة الحشر ]

 فأنت مُكَلَّف أن تأخذ ما آتاك الرسول صلى الله عليه وسلم.
 و القرآن أيها الإخوة، قَطْعِيُّ الثُّبوت، وقطعيّ الدلالة وظَنِيُّها، أما الحديث الشريف فهو ظنيّ الثبوت، وظنيّ الدلالة وقَطْعِيُّها، فالقرآن الكريم كلُّه ثابت عن الله عز وجل، أما السنَّة فهي تحتاج إلى تدقيق في صِحَّتها، فهناك الحديث المتواتر، والحديث الصحيح والحسن والضعيف، وهناك الحديث الموضوع، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))

 طلب العلم فريضة:
 إن الله تعالى يقول:

 

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 لا بدّ لي من معرفة منهج اله حتى أتمكن من تقوى الله بمعرفة أوامره ونواهيه، ومن هنا كان طلب العلم حتماً و فريضة واجبة، فإنك إن أطَعْت الله فُزْتَ فوزاً عظيماً، وإن لم تُطِعْهُ خَسِرْت خسارةً عظيمة، و مِن لوازم طاعة أمر الله عز وجل أن تتعرَّف إلى الأمر، فمَجلس العلم فرض عيْنٍ على كلّ مسلم، ومن خلاله يمكنك التعرف إلى أحكام الإسلام، كأحكام الزَّواج، والطلاق، وأحكام البيع والشِّراء والمساقاة والمزارعة والمضاربة، والأمانة والهبة والقرض والدَّين والحوالة والوصيّة، و هناك آلافٌ وآلاف من الموضوعات في العلاقات المالية والاجتماعية ؛ و هذه كلها لها أحكام تفصيليَّة، فإن لم تعرف هذه الأحكام لم تستطع أن تتَّقي الله تعالى، وإن مِن لوازم هذا الأمر أن تعرف منهج الله، وأن تعرف الحلال والحرام، فما من شيءٍ في الحياة الدنيا إلا وتُسْحَبُ عليه أحكام خمسة ؛ فرض وواجب، وسنة مؤكِّدة، و سنة غير مؤكدَّة، ومباح، ومكروه، وحرام، فأيّ نشاط إنساني يتراوح بين الفرضِيَّة والحُرْمة، وبينهما الواجب والسنة والمكروه والمباح والحرام، فينبغي عليك أن تسأل: ما حُكم هذا الشيء؟ وما حُكم هذا البيع ؟ وما حُكم هذا الطلاق ؟ وما حكم هذا الزَّواج ؟ وما حُكم هذه الزِّيارة ؟ وما حكم هذه النُّزْهة ؟ وما حكم تلْبيَة هذه الدَّعوة ؟ وما حكم التِّجارة بِهذه البِضاعة ؟ فَمِن علامة إيمانك أن تبْحث عن أمر الله تعالى، لأنَّ هناك قاعدة تقول: (ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب)، فقوله تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 وإن من لوازم هذا الأمر أن تعرف أمر الله، فأنت مأمور أن تُطيع الله تعالى، فالذي يريد أن يتقي الله وهو لا يعرف الحلال والحرام لديه مشكلة كبيرة، فعليك قبل أن تأكل أن تعرف ماذا تأكل، كما يحب عليك قبل أن تتكلَّم أن تعرف ماذا تتكلَّم، فلا تتكلم كلاماً فيه غيبة و نميمة و اسْتِعلاء و كِبر وعُجب، ومن هنا كان طلب العلم حتماً لازماً على كلّ مسلم، فِحُضور مجالس العلم ينير القلب، ويُجنَّب الإنسان كل ما لا يُسْعِده، فإذا كان الإنسان لا يعرف أصول القيادة، ثم ركب في سيارة واقفاً أو مستريحاً على وِسادة فليست لديه مشكلة، أما إن كان وراء المِقْوَد، وكانت المركبة مُتحرِّكة بسُرعة فائقة، وهو لا يعرف كيف يوقفها، ولا كيف ينحرِفُ بها يَمنةً ويسْرةً، فإنه يكون بفعله هذا منْتحِراً، فمعرفة قِيادة المركبة وإيقافها وتحريكها والانعطاف بها يَمنةً ويسْرةً من الأشياء المفروضة على قائد المركبة، وإلا كان الهلاك مصيره، والإنسان كائنٌ متحرِّك أودِعَت فيه اَّلشهوات من حبّ المال والنِّساء، والعلو في الأرض، فإذا كان عندك زوجة وأولاد، فربما كان لزوجتك طلبات مخالفة للشَّرع أو موافقة له، فلا بدّ لك من معرفة الله لتستقيم على منهجه في كل تفاصيل حياتك، فتخالفها في كل ما يخالف الشرع، فهناك إنسان حجّ بيت الله الحرام، فرأى ازدحاماً غير معقول، فقد كان هناك أربعة ملايين، فنزل في أحد الأيام لِيطوف فلم يَجِد أحداً !! فقال: يا الله، أين الناس ؟ لمَ لم يأتوا لِيَطوفوا معي في هذا الوقت المُريح، فإذا باليوم هو يوم عرفات، وهو لا يعرف ذلك !! فهذا مثَل لِواقِع الناس اليوم، فمن الناس من يكون بيته متفلتاً، وزوجته وبناته سافرات، وأهل بيته يفعلون المعاصي ليل نهار، ثمّ يقول لك: أنا مسلم ! فأين منهج الله تعالى ؟ قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾

 

[سورة الحديد]

 هذا أمر إلهي معناه: اتَّقِ يا عبدي غضبي وسَخطي ومعصِيَتي وناري، لأنّ هذه الأشياء خطيرة، وعليك أن تتَّقِيَها، فإذا لم تعرف هذا الأمر والنهي فكيف تتَّقيه ؟! فَمن لوازم الأمر بِتَقوى الله عز وجل أن تتعرَّف إلى أمر الله ونهْيِه، قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾

 

[سورة الحديد]

 إن الإنسان يستطيع بِعَقله أن يصل إلى الله تعالى، وذلك عن طريق التّفكّر بالكون، لكنه لا يستطيع أن يُحيط بالله، بل يصل إليه فقط، فأن تصل إليه شيء، وأن تُحيط به شيء آخر، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 فيُمكن لعقلك أن يوصِلَك إلى الله تعالى، عن طريق الكون الذي هو مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فإذا عرفْت أنَّ لهذا الكون خالقاً عظيماً فعليك أن تعلم أيضاً أن من لوازم الخالق أن لا يضَعَ عباده في غفْلة عنه، فلا بدّ من إنزال الكتب، ولا بدّ من إرسال الرسل، وإن أيّ رسول يرسه الله لِبني البشر يُعطى بيّنةً تؤكِّد أنَّه رسول، وهذا شيء ثابت، وهذه البينة إما أن تكون معجزة حِسيَّة ؛ كأن يصبح البحر طريقا يبساً، أو أن تصبح العصا ثعباناً مبيناً، أو أن يحيي البشر الموتى كما فعل سيّدنا عيسى، أو أن تخرج الناقة كما في معجزة سيدنا صالح، فهذه الأشياء لا يستطيعها البشر، بل هي من فعل خالق البشر، والله سبحانه وتعالى يُجري على هذا الإنسان المعجزات التي تدل أنَّه رسول الله، فمن خلال المعجزة تؤمن أنَّه رسول، و نبيُّنا عليه الصلاة والسلام معجزته القرآن الكريم، و إعجاز هذا الكتاب هو أحد أكبر الدلائل التي تثبت أنَّه من عند الله تعالى، ومن مظاهر هذا الإعجاز، إعجازه البياني، وإعجازُهُ التشريعي، وإعجازه التربوي، وإعجازهُ الإخباري.
 " وما ينطق عن الهوى ":
 والآن دخلنا في النقطة الثانية في الدرس وهي أنَّ حديث رسول الله تَشريع، فإذا نطق، أو فعَل، أو أقرّ كان كل نطقه وفعله وإقراره تشريعاً، والنبي عليه الصلاة والسلام مشرِّع، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وأقواله وأفعاله وإقراره وصِفاته لها حكم الأمر والنَّهي، ومن هنا جاء قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾

[سورة الحديد]

 إن آمنتَ أنَّ هذا رسول الله، فيجب عليك أن نؤمن أن الله عصَمَهُ من الخطأ في أقواله وأفعاله وإقراراته وصِفاته، وأنه لا ينطق إلا بِالحقّ، ومن هنا قال سيّدنا سَعد بن أبي وقَّاص: (ثلاثة أنا فيهنّ رجل، وفيما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس، ما سمِعتُ حديثاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أيْقنتُ أنَّه وحي من الله تعالى وحق، وما صلَّيْتُ صلاة فَشُغِلَت نفسي بغيرها حتَّى أنْصرِف منها، ولا سِرْتُ في جنازةٍ فحدَّثتُ نفسي بِغير ما تقول حتَّى أنْصرِف منها ).
 فهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:

(( مُصُّوا الماء مصاً ولا تعبُّوه عبّاً..))

 وقد اتَّضِح بعد ألف وخمسمائة عام أنَّ هناك عصباً اسمه العصب الحائر أو العصب المبهم، وهو بين القلب والرِّئتين والمعدة، التأثير الشديد جِدًّا قد ينتقل هذا إلى القلب نهْيًا عن نبْضِهِ، فمن شَرِب الماء عَبّاً -مرَّةً واحدة من دون تمهّل- عَرِّض نفسَهُ لأخطار، وقد اكتشفوا ذلك في أيامنا هذه، فكلام النبي حقّ من الله تعالى، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، و هناك آلاف الأحاديث التي فيها من الحقائق العِلْمِيَّة ما لا يمكن لعصر النبي، ولا لمن عاصر النبي، ولا للحضارات التي عاصَرت النبي، ولا الحضارات التي جاءت بعد ألف وأربعمائة عام أن ِتَفسرها، و َمُعظم أحاديث رسول الله تدلّ على أنَّه نبي، فإن آمنتَ بالله خالقاً ومُربِّياً ومُسيِّراً وموجداً وواحداً وكاملاً، وآمنتَ أنَّه لا بد من إرسال الرُّسل وإنزال الكتب وأن ذلك من كمال الله، و آمنت أنّ هذا الكتاب كلامه، وعَلِمتَ أنَّ الذي جاء بهذا الكتاب هو رسول الله، عندئذ تؤمن أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، يقول الله تعالى:

﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)﴾

[ سورة الحشر ]

 وقال تعالى:

 

﴿ وما ينطق عن الهوى﴾

 

[سورة النجم]

 فقد عصمه الله في كلّ أقواله وأفعاله، و السؤال الآن: أين أمرُ الله ونهْيُه ؟ إن أمْرُ الله ونَهيه هو سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل الأقوى قوله تعالى:

 

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(31)﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 لذلك كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلَّم عَيْنَ طاعة الله تعالى، فهي مُتطابقة مع طاعة الله تطابقًا تامّاً ومن هنا قال الله عز وجل:

 

﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 بِضَمير المفرد، لأنَّ إرضاء رسول الله عين إرضاء الله تعالى.
 مظاهر رحمة الله:
 ثمّ يقول الله تعالى:

 

﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

 

[سورة الحديد]

 و هذا هو الجزاء، و (الرحمة): كلمة واسعة ينضَوي تحتها عطاء الله كلِّه ! والرحمة شيء مُريح للإنسان، ولها مظاهر كثيرة، فالصِّحة، والكفاية، والزّوجة الصالحة، والأولاد الأبرار، و سلامة الجسم، و دِقَّة الفهم، و السُّمعة الطيّبة والتجلي و السكينة اللذان ينزلان على قلب المؤمن، وحِفظ الله وتوفيقه وتأييد ونصره، وإكرامه للعبد كل هذا من رحمة الله تعالى بنا.
 قال تعالى:

 

﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

 

[سورة الحديد]

 ننتقل إلى فكرة أخرى، أسأل الله عز وجل أن يوفِّقني إلى توضيحها..
 أريد أن أسألك: هل تتصور أنَّ المؤمن الذي عرف الله، وعرف منهجه، وتقرَّب إليه، واستقام على أمرِهِ وطلب رِضاه يمكن أن يُعامله الله تعالى كإنسان عادي ؛ و هل يُعامل المُتفلِّت والجاهل والمنحرف العاصي كالمؤمن المستقيم، إذا توهمت هذا فأنت لا تعرف الله أبداً، لأنَّ الله تعالى يقول:

 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سـَاءَ مَا يَحـْكُمُونَ(21)﴾

 

[ سورة الجاثية ]

 فحياة المؤمن تختلف عن حياة الآخرين، فبيته غير بيتهم، وسعادته غير ملذَّاتهم، وأعماله غير أعمالهم، وإذا لم يكن هناك تميّز صارخ بين حياة المؤمن وحياة غيره، كان الإيمان لا جَدوى منه.
 (الكِفْلين): هما النَّصيبان ؛ فهناك نصيب في الدنيا، ونصيب في الآخرة ؛ ففي الدنيا هناك نصيب مُعجَّل تشجيعي، و في الآخرة هناك نصيب مؤجَّل تقديري، والحقيقة أنَّ الذي يشدُّنا إلى الدِّين و الإيمان و طاعة النبي عليه الصلاة والسلام، هو أنَّ حياة المؤمن شيء نفيسٌ جدّاً، فالإيمان مرتبة أخلاقيَّة عِلْمِيَّة وجماليَّة، وذوق المؤمن يختلف عن أذواق الآخرين،فحياته وزواجه وبيته وأولاده، ومبادئه وتصرّفاته حتَّى لهْوُهُ كل هذا بريء ونظيف وعفيف ومنضَبِط، فأفراحه فيها الطاعات و الدعوة إلى الله، و أتْراحُهُ فيها الصبر والإنابة، فإن لم يكن المؤمن صارخًا في أخلاقه وعلاقاته ومبادئِهِ وقِيَمِهِ، فما قيمة إيمانه إذاً ؟؟ إن المؤمن الذي يعرف الله ذو قلب رحيم وعقل ناضِج وعلاقات واضِحَة، وإن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم مجرى الدم... لكن المؤمن يوضِّح أفعاله، فحظوظه الدنيوية كلها تحت قَدَمه، فهذا سيّدنا الصِّديق رضي الله عنه الذي يحمل المرتبة الأولى بعد النبوَّة، والذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام:

(( ما طلعت شمس بعد نبيّ أفضل من أبي بكر ))

 لمَّا توفيّ النبي عليه الصلاة والسلام، واجتَمَع أصحاب النبي في السقيفة، وقف أبو بكر رضي الله عنه، وقال لِعُمر: يا عمر، مُدَّ يَدَك لأُبايِعَك! فصُعِقَ عمر وقال: أنت أفضل مِنِّي ! فهذا تواضع وإنصاف وأدَب وتعاوُن، فقال أبو بكر: بل أنت أقوى مِنِّي، فما كان من عمر إلا أن قال: قوَّتي مع فضلك وأنا تحت جناحك، وأنا وزير لك، وقال عمر: لا أُطيق أن أكون أميراً على قوم فيهم أبو بكر، فهذا هو الإيمان ؛ لا يوجد فيه طعن ولا تنافس، فقوله:

﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾

 يعني أن لك رحمة عند الله، ولا تنس هذه الآية:

 

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32)﴾

 

[ سورة الزخرف ]

 فرحمة الله خير من ملايين الأرض، فهي الله خير مِمَّا يجمعون، وإن القبر صندوق العمل، ومصيرنا جميعاً إلى القبر، وهناك ينعدم التَّمييز، فالموت يُنهي غِنى الغنيّ، وفقرْ الفقير، ويُلغي قوَّة القويّ وضَعف الضَّعيف، ويُلغي وسامة الوسيم، ودمامة الدميم، ويُلغي صِحَّة الصحيح ومرض المريض فالموت يجمع الناس فيكونون سواءً.
 قال تعالى

﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة الحديد]

 فأنت محفوظ و مكفول و موفَّق ومنصور من الله عز وجل، والله جلّ جلاله -خالق الأكوان- يُدافع عنك، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)﴾

 

[ سورة الحج ]

 ألا تتمنَّى هذه المرتبة ؟ ألا تتمنَّى أن تكون كقوله تعالى:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾

 

[ سورة فصلت ]

 ألا تتمنَّى أن يُلقي الله في قلبك الرضا والسرور ؟ ألا تتمنّى أن تكون لك هَيبة ؟ لقد قلتُ لكم مرةًّ أنَّ الحجاج أراد قتل الحسن البصري فاستدعاه، فدخل الحسن على الحجاج، وكان السياف واقفاً، فتكلَّم بِكَلمات لم تُفْهم ! فما كان من الحجاج إلا أن وقف له واسْتَقبلهُ وأجْلسَهُ إلى جانبه على السرير وقال له: يا أبا سعيد أنت سيّد العلماء ثم استفتاه في قضيَّة، وطلب الدعاء منه، وعطَّرهُ وشيَّعهُ إلى باب القصر، فصُعِق السيَّاف وكذا الحاجب، فلَحِقاه، وقالا له: لقد أُتِي بِكَ لِغير ما فُعِل بك، فماذا قلتَ لِربِّك ؟ قال قلتُ: يا ملاذي عند كربتي، ويا مؤنسي في وحشتي، اِجعل نقمته عليّ برْداً وسلاماً كما جعلت النار برْداً وسلاماً على إبراهيم، فهذه هي هَيبَة المؤمن لك، ومن اتَّقى الله هابَه كلّ شيء، ومن لم يتَّقه خاف من كلّ شيء، قال تعالى:

 

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)﴾

 

(سورة الأنعام )

 والله أيها الإخوة، لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لَكَفت، فالله عز وجل يَمْنحُكَ فيها نِعمة الأمن، لتكون واثقاً من دون خوف، فلا ترتعِدُ فرائصك من فلان وفلان، لأنك مع الله، وإذا كان الله معك فَمَن عليك وإذا كان عليك فمن معك ؟!
 يا رب، ماذا وجد من فقَدَكَ ؟ وماذا فقَدَ من وجَدَك ؟؟؟
 هذا كلام خالق الكون، وإن زوال الكون أهون على الله من أن لا يؤتِيَك كِفلين إذا كنت مؤمناً، فالعِبرة في أن تكون مؤمنًا، وأن تنفِّذ ما أمرك الله أن تنفِّذَهُ، فضلاً عن هذه الرحمة التي تملأ قلبك رضىً ورحمة وسعادةً وثِقةً بالمستقبل، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 أيُّها الإخوة... إن مستقبل الإنسان من دون إيمان مخيف، فهناك أمراض عضالة كالأورام الخبيثة، وهناك قهر وفقر، أما المؤمن فهو واثق من حفظ الله له، لقد كان هناك شيخ مؤمن في السادسة والتِّسعين من العمر، لكنه منتصِب القامة، حادّ البصر، نشيط، وأسنانه في فمه، فقيل له: يا سيّدي ما هذه الصِّحة التي متَّعَك الله بها ؟ فقال: حَفظناها في الصِّغر فحَفظها الله لنا في الكِبر !
 إن من عاش تقيًّا عاش قويّاً، والله تعالى يمتِّع المؤمن بالصِّحة والأولاد الأبرار والزوجة الصالحة وبِدَخل يكفيه، وكلّ وُعود الله ثمنها أن تؤمن وأن تُطيعه فقط.
 الرؤية الصحيحة:
 ثم قال تعالى:

 

﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

 

[سورة الحديد]

 هناك شيء آخر الدِّين غير الراحة والطمأنينة، وهو الرؤية الصحيحة ؛ فإذا كنت مؤمناً أعطاك الله هذه الرؤية الصحيحة، فإذا كان الناس في غفلة، كنت في صَحو، وإذا كانوا في عمى كنت مُبصِراً، وإذا كانوا في متاهة كنت على محجَّة واضِحة، وإذا كانوا في قلق، كنت في طمأنينة، فالطريق واضِح أماك، والهدف واضح كذلك، والدنيا ليْسَت مقرّاً، لكنها ممرّ، فهي حياة دنيا إعداديَّة لِحياة عليا أبديَّة، فمركز الثّقَل عند المؤمن في الآخرة، واهتِماماته وحِرصُه كله منصب على الآخرة.
 أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:

 

﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

 

[سورة الحديد]

 فالمؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، ويسمع ملا يسمعون، فلو دقَّقْتِ في كلّ إنسانٍ يرتكب هذه الحماقة وتساءلت لماذا يرتكبها ؟ السبب أنه يرى أن هذه الحماقة لِصالِحِه، فيرى أن الكذب مثلاً يجلب له المال، وهو أحمق في هذا، ويرى أنَّ هذا العمل يجلب له السرور، وهو أحمق في هذا أيضاً، و هذا كلهّ لأنَّه أعمى، قال تعالى:

 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾

 

[ سورة طه ]

 هناك خمسة آلاف مليون إنسان على وجه الأرض، فإذا كان هناك واحد معرضاً عن ذِكر الله وهو ليس في عيشة ضنك لكانت هذه الآية ليْسَت من كلام الله تعالى ! فهؤلاء الذين بلغوا قِمَم النَّجاح في المال هم أشقى الناس، كذلك الذين بلغوا المراتب العليا وهم معرضون هم أشقى الناس أيضاً، أما المؤمن فهو يتمتَّع برؤية سليمة، فهو يرى النِّهايات والعواقب، ويرى الأهداف لأنه يمشي على هدى، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 و النور المذكور في الآية هو نور الصلاة، والمصلي الحقيقي هو الذي يلقي الله في قلبه الطمأنينة والرؤية الصحيحة، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾

 

[ سورة المعارج ]

 فهذا مستثنى.
 قال تعالى:

 

﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

 

[سورة الحديد]

 فالماضي كلّه مغطَّى بالمغفرة، فما عليك إلا أن تصطلح مع الله، وتتوب إليه توبة نصوحة، فأنت إن عرفت الله وآمنت به واتَّقَيْت أن تعْصِيَهُ كانت النتيجة أن يؤتيك كِفلين من رحمته في الدنيا والآخرة، ويجعل لك نوراً تمشي به وهذا النور هو الرؤية الصحيحة، وإن أكثر حماقات الناس من جهلهم وعماهم عن الدِّين، فالإنسان إذا مشى في طريق مظلم ووعر كان الوُقوع في حقه حَتمياً، أما الآخر الذي يمشي في نفس المكان ولكن معه مِصباح متألِّق يكشف له كلّ شيء فهو في مأمن من الوقوع والزلل، فأنت إن اتَّصلت بالله ألقى الله في قلبك نورًا... ثمّ يقول تعالى:

 

﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

 

[سورة الحديد]

 الفضل بيد الله:
 الآية الأخيرة، قوله تعالى:

﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[سورة الحديد]

 فهذا الفضل مُتاحٌ لِكُلّ إنسان كائنًا من كان، وفضل الله عظيم، وهو ليس لِفئة ولا لأمة، ولا لِجيل، قلتُ لأخٍ: إن دينُ الله كالهواء للناس، لا يستطيع أحدٌ أن يحتكرهُ، لا جماعة ولا فئة ولا إقليم، فدين الله لكل الناس، وهذا هو معنى قول الله عز وجل:

﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[سورة الحديد]

 قال تعالى:

﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[سورة الحديد]

 ففضل الله ليس بيَدِ أهل الكتاب بل هو بيَدِ الله تعالى، والجنَّة بيد الله وليس بيَدهم، وكلُّنا عبيد، قال عليه الصلاة والسلام:

(( اللهم إني عبدك وابن عبد...ناصيتي...))

 فأهل الكتاب لا يقدرون على شيء من فضل الله، وفضل الله ليس بيدهم بل بيد الله، قال تعالى:

﴿ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[سورة الحديد]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور