الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس من دروس سورة الحديد، ومع الآية الحادية والعشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ(21)﴾
أيها الإخوة الكرام، كلمتا (سابقوا) و(سارعوا) تُشْعران أنّ الإنسان في أصْله زمن، وأنَّ الزَّمن يمْضي، فلو كان الإنسان مُخلَّداً لمَا احتاج أن يُقال له: سابق أو سارِع! ولكن الإنسان ذو عُمُر محدود، وهو متحرك، والزَّمن يمضي، ومُضيّ الزَّمن يستهلك الإنسان، فهو في كلّ ثانية يقترب من نهايته، لذلك قال تعالى في هذه الآية: )سَابِقُوٓاْ وقال في آيات أخرى:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)﴾
الإنسان -أيها الإخوة- في حقيقته زمن، فهو بضْعة أيَّام، كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، وإنّ أثْمَنَ شيءٍ تملِكُهُ على الإطلاق هو الزَّمن، لأنّ كلّ شيءٍ لا معنى له من دون زمن، فإذا انتهى الزَّمن لم يعد للمال معنى، كل الإنجازات تبطل قيمتها عندما ينتهي الزمن، فأنت زمن، أو رأس مالك زمن، أو إن أثْمنَ شيء تملكُهُ هو الزَّمن.
نوعا إنفاق الزمن: استهلاكي واستثماري:
وهذا الزَّمن- أيها الإخوة -هو أخطر شيء على الإطلاق، فإما أن تنفقه اسْتِهلاكاً، أو أن تنفقَهُ اسْتِثمارًا، فالإنفاق الاستهلاكي للزَّمن يعني أنْ تفعَل كلّ المباحات التي لا علاقة لها باليوم الآخر، أما الإنفاق الاستثماري فهو أن تعمل عملاً في هذا الزَّمن ينفَعُكَ بعد انقضاء الزَّمن! فالإيمان بالله تعالى ومعرفة منهجه، وطاعته، والعمل الصالح، والدَّعوة إلى الله، كلّ نشاط بشري يستمرّ أجرُه وفائدته بعد انْقِضاء الحياة هو الذي يُعدّ اسْتثماراً للزَّمن، فلو أنَّ الإنسان تنبَّه إلى خطورة الزَّمن لمَا نام الليل، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لو تعلمونَ ما أنتم لاقُونَ بعد الموت، ما أكلتم طعامًا على شهوةٍ أبدًا ))
والإنسان دائماً يعدّ حياته بالطريقة التَّصاعدِيَّة، فيقول مثلاً: عمري خمسون عاماً، فلو أنَّه قال: بقيَ لي عشر سنوات لانْخلَعَ قلبهُ! فكما مضَتْ هذه الخمسون تمضي العشر، كما مضَت الأربعون تمضي العشرون، هذا إذا ظننا أن عمر الإنسان ستون عاماً، وقد ورد عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
(( مُعترَكُ المَنايا بين السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ. ))
[ البيهقي في شعبه بسند ضعيف ]
فكلّ إنسان عاقل يعدّ عمرهُ عدّاً تنازلياً، لا عدّاً تصاعديّاً، فيسأل هل بقِيَ بِقَدْر ما مضى؟ فإذا ما أدخلت ساعة مغادرة الدنيا في حِساباتك اليوميَّة، إذا ما تذكرت ساعة المغادرة في كل يومك فإنك لن تنجو لا من عذاب الدنيا ولا من عذاب الآخرة! لقد ذكرتُ أنَّ مرةً طالباً نال الدَّرجة الأولى، فقيل له: بِمَ نِلْتَ هذا التفوق؟ فقال: لأنّ لحظة الامتحان لم تُغادِر مخيِّلتي ولا ساعةً واحدة! والإنسان المؤمن لا تُغادر ذِهنَه إطلاقاً لحظةُ مُغادرته الدنيا، ووقُوفه بين يدي الله، وسؤاله عن كلّ أعماله، فهو دائِماً يسعى للآخرة، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)﴾
سابِق، تصوَّر مثلاً أنَّ هناك شريطاً يمشي، وقد كنت تمشي على هذا الشريط، فلو نزلت لحظة لسبقك كلّ من عليه! لأنَّ الحركة مستمرَّة، فينبغي عليك أن تتحرَّك وأنت على الشريط، أما إذا خرجت من هذا الشريط أصبحت مسبوقاً وهالكاً.
لذا قال: ﴿سَابِقُوٓاْ﴾ ﴿وَسَارِعُوا﴾ وهذا يعني أنّ الإنسان له عمر محدود، وهذا العمر ينقضي، فهناك حركة؛ الليل والنهار، أسبوع بعد أسبوع، عام بعد عام، عقد بعد عقد، وفجأةً يرى أنه سيُغادر الدنيا، فالزَّمَن يمضي، ومُضِيُّ الزَّمن يستهلك الإنسان، لذلك قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا﴾
هناك آية أخرى تُفيدنا في فهْم هذه الآية، قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(148)﴾
فأنت الآن تتمتَّع بِمَا يُسَمَّى الآن بِحُريَّة الاختيار، أنت الآن في الدنيا والدنيا دار عمل، أنت الآن في الدنيا والدنيا دار توبة ودار مغفرة، ودار اصطلاح مع الله، ودار بذْلٍ وتضحية وفداء، ودار عمل صالح، أما إذا انقَضَت الحياة الدنيا فكلّ هذه الفُرَص أُغْلِقَت، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ﴾ إذا انتهى الأجل في أي مكانة كنت، وفي أي مكان كنت ﴿يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا﴾ معناها أن النهاية محددة، وأنت الآن متحرك، نقطة متحركة إلى هدف ثابت ماذا يعني ذلك؟ معنى ذلك أن مُضّي الزمن يقرب المسافة، فلو أنَّ الإنسان ركب سيارته واتَّجَهَ بها إلى حمص ونظر إلى حركة عقرب الثواني في ساعته لرأى أن كلّ حركة تدلّ على الاقتراب من حِمص! مثلاً نصف متر إذا كانت السرعة بالثانية متر أو نصف متر، فكل حركة تقترب متر، فالنِّهاية ثابتة، ولكل إنسان أجل مسمَّى لا يزيد ولا ينقص، والحركة مستمرة، فالمسافة تتناقص إلى أن تصل إلى الصِّفر، لذلك أولى شيء بالإنسان أن يعد حياته عدّاً تنازلياً.
هناك وَهمٌ يدخل على بعض الشباب، فيقول: أنا لا زلتُ شابًّا! لكن هناك مفاجآت كثيرة، هناك من يموت في الثلاثين أو في الخامسة والثلاثين، وهناك من يموت في العشرين، والأَجل إذا جاء لا يعرف شابًّا ولا طِفلاً ولا وليداً ولا شيخاً، ولا كبيراً ولا طالباً، ولا خاطباً، فقال تعالى:
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍۢ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـْٔخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)﴾
هناك نقطة دقيقة، يقول الله عز وجل:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)﴾
قد تقول: الموت بيدي؟ كيف يُخاطبني الله عز وجل ويقول لي: لا تمُت إلا وأنت مسلم! الموت ليس بيدي! إنه بيد الله عز وجل! معنى ذلك؛ ما دام الموت ليس بيَدِك، ويأتي الإنسان فجأةً، فاحرَص على أن لا يأتِيَك الموت إلا وأنت مسلم، هيِّئ نفسك، وكُن مستعِداً دائِماً وأبداً للِقاء وجه الله عز وجل، فإذا جاء الموت بغتةً كنتَ مسلماً لله خاضِعاً لأمرِهِ، ومنقاداً لِمَنهجه.
أيها الإخوة، ورد في القرآن ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وورد: ﴿وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا﴾ ووردت هذه الآية، فالسِّباق يعني أنَّ هناك هدفاً ثابت وأنت متحرك.
هناك شيء آخر، في هذه الآية الكريمة ﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ﴾ معنى ذلك المغفرة هدف كبير، لكن كل الناس اليوم يتسابقون لا إلى مغفرة ولا إلى جنَّة، لكنهم يتسابقون إلى الدنيا، وإلى جمع الدِّرْهم والدِّينار، إلى مطلق الجمع، قال تعالى:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
يظل الإنسان في سباق من أجل النموّ ومضاعفة الأرباح، وتوسع الشركة، في سباق إلى حيازة أكبر نصيب من الدنيا، ولكن هذه الدنيا التي اكْتسبها بِجُهدٍ جهيد يخسرها في ثانية واحدة، فالذي يضع آماله كلَّها في الدنيا يُعدُّ مُقامِراً! لأن كل آماله تتلاشى إذا تجمدت بعض الدماء في شرايينه، أو إذا كفّ قلبه عن الحركة، أو إذا تخثّرت نقطة دم في دماغه، كل هذه المكتسبات يخسرها، أما إذا تعامل مع الله وكان كسبه من نوع العمل الصالح، هذه تبدأ بعد الموت، لا تنتهي عند الموت، فأهم شيء أن الشيء الذي يبدأ بعد الموت هو الشيء الثَّمين، أما الشيء الذي ينتهي مع الموت فهو الشيء التافه الخسيس، فالخسيس ينتهي عند الموت، والنفيس يبدأ بعد الموت، والعاقل مَن عمل عملاً ينفعه بعد الموت، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له.))
على قصة الزمن، ومضيّ الزَّمن والمسارعة والمسابقة، يقول الإمام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما!" فلو كان عند الإنسان صور متدرجة في العمر؛ 15، 18، 20، 25، 30، 35، 40 يرى الفرق واضِحاً جداً في خطوط وجهه، وفي شَكل ملامِحِه، فمعنى ذلك أنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فمن أجل أن لا تكون ضَحِيَّة مُضِيّ الزَّمَن فاعْمَل فيهما العمل الصالح الذي ينفعُك بعد مضيّ الزَّمن! وهذا كلُّه في قوله تعالى: ﴿سَابِقُوٓاْ﴾
المغفرة والجنة هدفا الإنسان المؤمن:
إن الأهداف المشروعة التي أرادها الله لنا هي المغفرة والجنَّة، فالمغفرة هي أن يشفى الإنسان من أمراضه الدُّنيَوِيَّة، فالإنسان رُكِّبَت فيه الشَّهوات فإذا بَعُد عن منهج الله، وكان ضعيف الاتِّصال به ولّدت هذه الشَّهوات عنده أمراضاً تحْجُبه عن الله عز وجل، فالمؤمن يُسارع ويُسابق لِيَشفى منها، وهذه الأمراض لا تشفى إلا بِطاعة الله تعالى والإقبال عليه، فالهدف الأوَّل هو المغفرة، فالجنَّة طيِّبة لا يدخلها إلا طيِّب، والله سبحانه وتعالى طيِّب لا يقبل إلا طيِّبًا، فأوَّل عمليَّة في الصُّلح مع الله تعالى أن تشفى هذه النَّفس من أمراضها، ولا تشفى من أمراضها إلا بالاتصال بالله عز وجل، والاتصال يحتاج إلى طاعة واستقامة، فهذا هو الهدف الكبير الذي ينبغي أن نسعى إليه، قال تعالى: ﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ فالمغفرة شِفاء، المغفرة تَطهير، فالشفاء من كلّ الأمراض النَّفسيَّة التي تحجب الإنسان عن الله عز وجل، والتي تعمل عملها بعد الموت، الهدف الكبير لكل إنسان.
أيها الإخوة الكرام، إن أمراض الجسد تنتهي عند الموت، وأمراض النفس تبدأ بعد الموت، فمهما كان المرض عُضالاً فإنه ينتهي إذا مات صاحبه! انتهى السكر، وانتهى تضخّم القلب، وانتهى خَلَل الصمام، وانتهى تشمّع الكبد، هذه الأمراض الوبيلة العُضالة تنتهي كلها عند الموت، فإذا كان هذا الإنسان متصلاً بالله عز وجل، مقبِلاً عليه، وقّافاً عند كتابه يسعدُ سعادةً أبديَّة، أما الذي كان صحيح الجسم، قوِيّه، لكن أمراضاً نفسيّة تُعشعش في نفسه، وتحجبه عن ربه إذا جاء الموت هذه الأمراض تفعل فعلها القبيح، لذا قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾
عرضها كعرض السماوات والأرض:
﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ من أجل أن تعرف ماذا يعني قوله تعالى: ﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾ عليك أن تعلم أن المسافة بيننا وبين القمر تعدل ثانية ضَوْئيَّة واحدة؛ أي: ثلاثمائة وستُّون ألف كيلومتر، وأن بيننا وبين الشَّمس ثماني دقائق؛ أي: مائة وستٌّة وخمسون كيلومتر، كما أن بيننا وبين نجم القطب أربعة آلاف سنة ضَوْئيَّة، وبيننا وبين مجرَّة المرأة المسلسلَة مليون سنة ضوئيَّة، وبيننا وبين أحدث مجرَّة ثلاثمائة ألف بليون سنة ضوْئيَّة، هذا كله ونحن لازلنا في الكون، والله تعالى قد قال: ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وقال:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20)﴾
فهل يمكن لأحد أن يزهد في ِجَنَّة عرضها كعرض السماء والأرض؟ من أجل سنوات معدودة في الدنيا! ويجب على الإنسان أن يعرف أن هذه الجنَّة هي أعظم عطاءٍ على الإطلاق، فهي العطاء أبدي سرْمدي، عطاء لا ينقطع، قال تعالى:
﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾
لا يوجد إنسان في الدنيا يكون بحالٍ طيّب إلا عنده قلق عميق! فلا بد له من أن يترك هذا البيت! ولا بدّ لأحد غيره أن يأخذ هذا المكتب الفخم! هذه المركبة الفارغة فإنه لن يستطيع أن يتمتَّع بها إلى ما لانهاية، فكلّ شيء في هذه الدنيا مؤقَّت، هذه الزوجة، هؤلاء الأولاد... الحياة الدنيا ما دامت تنتهي بالموت فيبقى عند الإنسان قلق عميق؛ خوف الفناء، لكنَّ الإنسان إذا دخل الجنة لم يخرج منها، فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ فالبقاء في الجنَّة أبدي و البقاء متنامي، والسعادة فيها متنامية، ولا يوجد فيها أية مُنَغِّصات، عطاء متنامي.
قال تعالى: ﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ وثمن هذه الجنَّة يملكُهُ كلّ إنسان، فأنت إن آمنْتَ بالله تعالى خالقًا، ومُربِّيًا، ومُسيِّراً، وآمنتَ بِرُسله، وبما جاؤوا به من منهَج قويم، فآمنت بالله وآمنت بمنهجه، طبعاً آمنت بالله وطبقت منهجه ملكت ثمن الجنة، قال تعالى:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾
فالإيمان بالله والاستقامة على أمره، هما ثمن الجنَّة، ثمن العطاء الكبير، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ لقد زار أحد أصدقائي بلداً صِناعِياً، فدعاهُ مُدير الشّركة هناك إلى بيته، فقال لي هذا الصديق: في بيْتِهُ غابة، ومساحته مئات الدنمات، في غابة ووسط هذه الغابة قصر منيف، مُلْك عظيم، فهذا قصر في الدنيا، بيت في الدنيا وحوله بساتين غنّاء، وغابات من الصنوبر، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ .
(( أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ. ))
يا إخوان، هذه الجنَّة العظيمة لا يزْهد بها إلا أحمق، لا يزهد بها إلا غبيّ، لا يزهد بها إلا مُعطّل العقل، ﴿أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ هذه الجنة ليْسَت لبعض الناس، ليست لِفئةٍ محدودة، ولا لطبقة محدودة، ولا لأناس لهم صفة خاصة، إنما أُعدَّت كما قال تعالى: ﴿أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ ﴾ (من يشاء): تُشير إلى الاختيار، فمن أراد الجنة نالها، من أراد الجنة وسلك طريقها، من أراد الآخرة وسَعى لها سَعيَها، من طلب رِضاء الله ودفع ثمنه، من أراد هذه الجنة وكان أهلاً لها، دفع ثمنها.
﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ﴾ هنا من يشاء تعود على العبد، يعني أيّ عبدٍ شاء الجنة فتعرَّف إلى الله عز وجل، وتعرَّف إلى كتابه، وسار على منهج الله عز وجل وصَل إلى الجنَّة، فَمِن عظمة هذا الدِّين أنه مُيسَّر، هذا الثمن بيد كل إنسان، ألا تستطيع أن تحضر مجلس علم؟ تستطيع، الإنسان أحياناً يمضي وقتاً طويلاً في كلام فارغ، وفي مُتَع رخيصة، وفي لقاءات تافهة، وفي نشاط سخيف، ألا تستدعي الجنّة أن تحضر مجلس علم تتعرَّف فيه إلى الله عز وجل، إلى كتابه، إلى سرّ وجودك، إلى غاية وجودك، إلى الحكمة من وجودك، إلى أثْمن شيءٍ ينبغي أن تفعَلَهُ في هذا الوُجود، فَثَمَن الجنَّة هو أن تعرف الله، وأن تعرف منهجه، وأن تُطيعهُ، ألا تستطيع أن تكون صادقاً؟ طبعاً بإمكانك، فالصدق باختيارك، ألا تستطيع أن تكون أميناً؟ طبعاً بإمكانك أن تكون أميناً.
(( إنَّا كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه. ))
[ تخريج سير أعلام النبلاء ]
بإمكانك أن تكون صادقاً، وأمينًا، وعفيفاً، بإمكانك أن تغض بصرك لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾
كما أنه بإمكانك أن لا تشتري كثيراً من الأشياء التي تُبعِدُك عن الله تعالى، فهناك أشياء كثيرة إن اقتنيتها أبعدتك عن الله، جعلتك تسَهِر إلى ما بعد منتصف الليل لا في طاعة ولا في حفظ كتاب ولا في قيام ليل، ولكن في مستنقع آسِن، أليس بِإمكانك أن تمتنع عن المعصيَة؟ بإمكانك، فهذه الجنَّة العظيمة ثمنها أن تعرف الله وأن تستقيم على أمره، وأن تتقرَّب إليه بالعمل الصالح، وهذا مُتاحٌ لِكُلّ إنسان.
لولا أنَّ الجنَّة مُتاحة لكل إنسان لمَا كان الله تعالى عادِلاً! قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ الناس سواسية كأسنان المشط، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقْوى، الناسُ من آدَمَ، وآدَمُ من تُرابٍ. ))
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾
(( أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ. ))
وهذه المبادئ تُلغي كلّ التَّمييز الطَّبقي والعنصري والطائفي والفِئوي والعشائري، وهذا كلها تقسيمات شيطانيَّة ما أنزل الله بها من سلطان.
(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ))
هذا التقسيم الطبيعي؛ إنسان عرفَ الله وعرف منهجه، واستقام على منهجه فاتَّصَل به فاكتسب الكمالات فأحسن إلى خلقه، فسَعِد في الدنيا والآخرة، وإنسان آخر جهِلَ هذه الحقيقة، تحرّكت شهواته فاستجاب لها، وانقطع عن الله عز وجل، وأساء لِخَلق الله تعالى، وسقط من عَين الله ومن عين الناس، فشَقِيَ في الدنيا والآخرة، وهذا هو التقسيم الطبيعي (النَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ) انتهى الأمر.
والتقسيم القرآني مؤمن وكافر، لا يوجد إلا هذا التقسيم؛ إنسان آمن بالله ورسله وأطاع الله تعالى، وإنسان كفر وتفلَّت من منهج الله، إنسان رحماني، وآخر شيطاني، وإنسان مؤمن وآخر غير مؤمن، وإنسان محسن، وآخر مُسيء، وإنسان مستقيم وآخر منحرف، وإنسان صادق وآخر كاذب، مخلص خائن، عفيف شهواني، وهكذا..
قال تعالى: ﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ العظيم يقول فضله عظيم، وهذه الكلمة لا يمكن أن نعرف أبعادها إلا إذا تفضَّل الله على إنسان ودخل الجنَّة، قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74)﴾
فإذا سمح الله للمؤمن بِدُخول الجنَّة ينشأ في نفسه من مشاعر الامتنان والحمد ما لا يوصَف، فلو كانت حياته كلّها عذاب بعذاب لقال: لم أر شرًّا قطّ! أما الذي دخل النار فلو كانت حياته كلّها نعيم في نعيم لقال: لم أر خيرًا قطّ!
قال علي رضي الله عنه: "يا بني ما خير بعده النار بِخَير، وما شرّ بعده الجنَّة بِشَرّ، وكلّ نعيم دون الجنَّة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافيَة". وإنَّ أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وإنَّ أشقاهم فيها أرغبهم فيها!
يقول الله عز وجل:
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ(22) لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ (23)﴾
هناك ما يسمّى بالمصيبة، فما سُمِّيَت المصيبة مصيبةً إلا لأنَّها تُصيب الهدف، إذا كان هناك كبر فالمصيبة إهانة، هناك إسراف فالمصيبة إفقار، هناك خروج عن منهج الله فالمُصيبة هي دَفْعُ الثَّمَن الرّادِع، فالمصيبة دائماً وأبداً هي علاج إلهي.
أيها الإخوة الأكارم، لا وُجود في الكون لشرّ مطلق، وكلّ ما يُسمِّيه الإنسان شراً إنما هو شَرٌّ نِسْبيّ هَدَفُه المُعالجة.
قصة أصحاب الجنة:
أصحاب الجنَّة الذين ورَدَتْ قِصَّتهم في القرآن الكريم في سورة القلم، كان عندهم بساتين ولها ثِمار يانعة وإنتاج وفير، فاتَّفقوا على أن لا يُعطوا منها مسكيناً ولا فقيراً قال تعالى:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾
فلمَّا انطلقوا لِيَحصدوا هذه الثِّمار ويقطفوها قالوا:
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)﴾
فهذه ليْسَت بساتيننا! ثمّ تأكَّدوا منها فقالوا:
﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)﴾
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)﴾
أحداً في العطاء، ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ*فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ كأنها مقطوعة، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28)﴾
أوسطهم؛ أي: أقربهم لله تعالى، فقال: لو اتِّصلْتم بالله عز وجل لَشُفيتم من مرض الشحّ والبخل، ولأنفقتم بعض هذه الثِّمار للفقراء والمساكين، ولمَا تلِفت هذه الثِّمار، قال تعالى:
﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29)﴾
والقصَّة معروفة في كتاب الله ولكني ذكرتُها لكم لذكر هذه الآية:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33) ﴾
أي كلّ أنواع العذابات في الدنيا من هذا النوع، فهناك مُصيبة مُعالِجة، مصيبة رادعة، وهناك مصيبة دافعة، مصيبة رافعة، مصيبة كاشفة، أي علاج إلهي، لذا قال تعالى: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ﴾ المصيبة هنا جاءت نكرة، وهذا التَّنكير تنكير شُمول، وكلمة (مِن): تُفيد استغراق أفراد النَّوع، أي: إن أيَّة مصيبة؛ صغيرة كانت أو كبيرة، جليلة أو حقيرة، مادِّيّة أو معنوِيَّة، جِسْمِيَّة أو نفسيَّة، ماليَّة أو بدنيَّة، أية مصيبة، ومهما يكن حجمها أو نوعها، ومهما تكن... ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ جفاف؛ جفَّت الينابيع والأنهار، وماتَتْ النباتات، وانْقرَضَت الحيوانات، وباء، قال تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)﴾
كالبراكين و الصواريخ، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ كالزلازل، والألغام ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)﴾
إن وُحوش الأرض كلّها لا تُساوي وحْشيَّة البشر، فوُحوش الأرض تفْترِس لِتَشْبع فإذا شبِعَت كفَّتْ عن الافتِراس، أما الإنسان فإذا كان جبَّاراً في الأرض وبطَّاشًا فإنه لا يرْتوي إلا بالدِّماء، لذا قال تعالى: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ﴾ أيُّ كتابٍ هذا؟ قالوا: هذا كتاب العمل، ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ﴾ ومِن باب التقريب والتَّوضيح أود أن أضرب هذا المثل: إذا كان هناك طبيب وقف على سرير مريض فقرأ لائحة المرض، فرأى فيها أن الضَّغط مرتفع جداً، فقرَّر منْعَه عن المِلح، وربما رأى أن الضَّغط منخفض جداً فيتناول ملحاً زائداً، وهذا القرار مَبنيّ على لائحة المرض، فكلّ إنسان له عند الله تعالى كتاب أعماله، فإذا كان هناك انحراف كانت هناك مصيبة رادِعة، وإذا كانت هناك استقامة كانت هناك مكافأة، وإذا كان هناك علوّ في الأرض هناك إهانة، وإذا كان هناك إسراف في الإنفاق هناك إفقار وتقتير تأديبي.
فيا أيها الإخوة:
(( لكُلِّ شيءٍ حقيقةٌ وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَعلمَ أنَّ ما أصابَهُ لَم يكُن ليُخطِئَهُ وما أخطأهُ لَم يكُن ليُصيبَهُ.))
فَكُلّ مصيبة تُصيبُ الإنسان لا بدّ أن تصيبهُ، فلا يوجد عند الله تعالى شيء طائش أو خطأ، وأخطاء البشر تُوظَّف في القضاء والقدر، فهذه الآية على الإنسان أن يستوعبها استيعاباً جيداً، قال تعالى: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فقوله: ﴿نَبْرَأَهَا﴾ نبرأ المصيبة، المصيبة قبل أن تأتي، فهناك تقدير حكيم، والإيمان بالقدر نِظام التوحيد، الإيمان بالقدر يُذْهب الهَمّ والحزن، فلا يوجد مصيبة طائشة، ولا شيء عشوائي، كل شيء فيه حكمة بالغة، فهذه المصيبة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، جليلة أو حقيرة ﴿مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ﴾ ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ﴾ في كتاب أعمالكم، متعلِّقة بأعمالكم، والإنسان أحياناً يكون جاهلياً فيقول: تطيَّرنا!
﴿ قَالُوٓاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)﴾
فما هو التَّطيّر؟ هو أن تتشاءم من طَائرٍ طار على شِمالك، أو أن تتفاءَل من طائرٍ طار عن يمينك! وهذه خرافة،
﴿ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِۦ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ ۗ أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(131)﴾
لا يوجد إلا الله عز وجل، فالإنسان يتشاءم إذا كان عمله سيِّئاً، ويتفاءَل إذا كان عملهُ طيِّباً، فمَبْعث التشاؤم سوء العمل، ومبعث التفاؤل حُسن العمل! فالذي عمله مستقيم وطيب ينبغي أن يتفاءل وليقرأ قوله تعالى:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾
والذي له انحرافات في السلوك ينبغي أن يتشاءم لأن الله بالمرصاد، ولا بد من أن يعالج، قال تعالى:
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾
لذا قال تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ أي من قبل أن نخلقها.
إنزال المصيبة أمر يسير على رحمة الله:
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ طبعاً على الله يسير، وعلى قدرته هذا شيء يسير قطعاً، لكن المعنى هنا: أن إنزال هذه المصيبة شيء يسير على رحمة الله عز وجل أيضاً! فالأب الطبيب يُوافق على إجراء العمليَّة مباشرةً، لأنه يعلم المضاعفات الخطيرة لهذا المرض، فلا يتردَّد في ذلك، فأحياناً الأب الطبيب يُوافق على بتْر يد ابنه إذا كان يعاني من مرض المُوات، والتأخر في اتخاذ القرار يؤدي لانتقال المرض إلى الساعد ثم إلى المرفق، فيوافق على بتر اليد في أقصر وقت ممكن لأنه عالم، فالرَّحمة مع العِلم تقتضي المُعالجة، أما الرحمة من دون علم فتقتضي الشَّفقَة الحمقاء! فلو ترك الله الشارد اللاهي المنغمس في المحرَّمات على شروده لهلك ودخل النار، فيُنْزل ربُّنا عز وجل به مصيبة رادِعة، وقد تكون قوِيَّة، وقد تكون طاحنة، وقد تكون مؤلمة:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾
فتحدث هذه المصيبة له من أجل أن يعود إلى الله، أن يتوب إليه، أن يقلع عن اقْتِراف المعاصي، أن يقلع عن أكل المال الحرام، أن يستقيم على أمره، فربنا عز وجل عليم وحكيم ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ﴾ قال تعالى:
﴿ لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ (23)﴾
لا تقل: لو، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ) لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))
واستثنى بعض العلماء لو الإيجابيَّة كأن تقول: لو لم آكل هذا المال الحرام لمَا تلف مالي! صح، أو تقول: لو لم أنحرِف عن منهج الله لمَا خسرتُ كذا وكذا! كلام صحيح، فهذه لو الإيجابية، لذلك المؤمن يؤمن أنَّ كلّ شيء بِقَضاء وقدر من الله عز وجل، فلا يأسَ على ما فات، ولا يفرح بما هو آت! لأنَّ الذي فات لا بدّ أن يفوت عند الموت، وأن الذي هو آتٍ لا يستمرّ إلا إلى حين، لهذا قيل عن الدنيا: من عرفها لم يفرح لِرَخاء، ولم يحْزن لِشَقاء.
فالرخاء مؤقَّت، والشقاء مؤقت، الموت يُنهي كلّ شيء، فهو يُنهي غِنى الغنيّ وفقْر الفقير، ينهي قوَّة القويّ، وضَعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم، ودمامة الدميم، ينهي صِحَّة الصحيح ومرض المريض، ينهي كل شيء، لذلك قال تعالى: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾ وشُعور الإنسان أنه في الدنيا، والدنيا مؤقتة، وسوف تَمضي، وأن العبرة في الآخرة شُعور مُريح يمْتصّ كلّ متاعب الحياة، شعور الإنسان أن الحياة الدنيا مؤقتة، وأنها زائلة، وأنها لا تستأهل كل هذا الاهتمام، ولا كل هذا السعي، ولا كل هذه المنافسة، ولا كل هذه المزاحمة، ولا كل هذه المشكلات، فقد حدَّثني صديق لي يعمل قاضياً فقال: هناك عشرات الدَّعاوى بل مئات تُشْطَب لِمَوت أحد المتداعيين! تبقى القضية مثلاً ثماني سنوات في القضاء وقبل أن يصدر الحكم تسقط القضية لموت أحد المتداعيَين.
المختال الفخور:
قال تعالى: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ فالمختال جاهل، والمفتخِر بما ليس له أجْهل، والمختال هو الذي يزْهو بِمَا عنده، وينسى فضل الله عليه، ينسى أنها نعمة الله عز وجل، شيء تفضّل الله به عليك تزهو به! يجب أن تفتخر أنك حمدت الله على هذه النِّعمة، والمؤمن دائماً ينتقل من النِّعمة إلى المُنْعِم، أما غيره فيقف عند النِّعمة ويزْهو ويفتخر بها على غيره من الناس، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ يفتخر بما ليس له، فهؤلاء المختالون:
﴿ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ (24) ﴾
حياة المؤمن مَبنيَّة على العطاء، والبخل يتناقض مع الإيمان، لا يجتمع في الإنسان إيمان وبُخل ولا إيمان وجُبن، الجبن والبخل يتناقضان مع الإيمان، فهذا الذي يبْخل لا يعرف ما عند الله تعالى من خَيرات، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِـنْدَنَا خَزَاِئـنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21)﴾
في الدرس القادم إن شاء الله سنَصِل إلى موضوع متعلِّق بالحديد:
﴿ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ (25)﴾
ولكني سأتعجل في ذكر أمر حول موضوع الحديد، ففي مطلع هذا القرن، في عام ألف وتسعمائة وعشرة عُقِدَ مؤتمر لِدِراسة مخزون الحديد في الأرض، فَشُكِّلَت لِجانٌ، ودرسَت كلّ أماكن التَّعدين في الأرض خِلال أشهر، وعادت بتَقرير لهذا المؤتمر يقول: إن مخزون الحديد في الأرض يكفي سِتِّين عاماً! يعني في سنة السبعين لن يعود هناك حديد إطلاقاً، ثمّ اكْتُشِفَ أنَّ كميَّة الحديد في الأرض تُساوي خمساً بالمائة من وزْن القِشرة الأرضِيَّة؛ أي: خمسة وسبعين ألف مليون مليونِ طنّ! أحياناً يقال: لم يعد هناك مخزون، يوجد مجاعة، يوجد جفاف، هذا كلام مضحك، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ هذه الحقيقة، ويوجد ألف تقرير يقول: إن المخزون سينتهي، والجفاف توسّع، هذا تقنين تأديبي، فالله تعالى عنده تقنينَان، أحياناً يكون تقنين فقر، ويوجد تقنين نقص، والإنسان عنده تقنين نقص، أما الله عز وجل عنده تقنين تأديب، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27)﴾
إذا قنّن الله على عباده فهو تقنين تأديب لا تقنين نقص، لكن الإنسان إذا قنَّن كان تقنينه تقنين عَجز، لا تقنين تأديب.
لذلك ﴿ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ﴾ لا يرَون ما عند الله من خيرات، ﴿وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ﴾ قال لي شَخص مرة: نحن على وشَك جفاف مُهْلِك في حوض دمشق! قبل خمس سنوات، والخبر كان مؤلماً جداً، وفي العام التالي هطَل ثلاثمائة وخمسون مليمتراً من الأمطار! الأنهار التي جفت من ثلاثين عام تفجّرت، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ هذا المؤمن، فالمؤتمرات واللِّجان التي قالت أنه لا يوجد حديد إلا لستين عام، يعني في عام ألف وتسعمائة وسبعين لا يوجد طن حديد، والحقيقة الآن أن وزن الحديد يساوي خمسة بالمئة من وزن القشرة الأرضية، أي خمسة وسبعين ألف مليون مليونِ طنّ! هذه الأرض.
فيا أيها الإخوة، ليس كل ما يُقال يُصَدَّق، المؤمن إيمانه بالله قوي، وثقته بالله كبيرة، والذي خلق الإنسان خلق له هذا الفم وخلق له طعام، وإن كان هناك تقنين فهو تقنين تأديب، لأن الله عز وجل قال:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)﴾
﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا(16)﴾
فالتقنين البشري تقنين عجز، أما التقنين الإلهي تقنين تأديب:
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـًٔا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ(19)﴾
﴿ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾
﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَٰمَكُم ۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ(17)﴾
الإنسان إذا تولى تولى الله عنه، فالله غني عن عباده، غني عن طاعتهم وعن إيمانهم:
﴿ وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِن تَكْفُرُوٓاْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ (8)﴾
والإنسان إذا أقبل على الله تعالى كان هذا الإقبال لِصالحه، قال تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(46)﴾
في درس قادم نتابع الآيات، وهي قوله تعالى:
﴿ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ (25)﴾
الملف مدقق