الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع من سورة الحديد، ومع الآية الخامسة والعشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)﴾
أيها الإخوة الكرام، إن الحديث عن رُسل الله -صَلَوات الله عليهم- جاء بِصِيغة الجمع، وصيغة الجمع تعني أنَّ هؤلاء الرُّسل الكرام على اخْتِلاف عُصورهم واختلاف أقوامهم يأتون إلى بني البشر بِرِسالة واحدة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ فمِن حق العباد على ربهم أن يُنَبِّهَهُم ويُحذِّرهم ويُرْشِدهم، فالله سبحانه وتعالى أرْسَل الأنبياء والمرسلين لِيَكونوا هداةً إلى الله عز وجل، لكن هذا الذي يقول للناس أنا رسول الله ...لا شكّ أنَّ الدِّين السَّماوي فيه منهَج وفيه أمر ونهي، والإنسان قد يَعْجب من كثرة أتباع هذه الأديان الوَضْعِيَّة التي هي مِن صُنع البشَر، فكيف يكثر أتباع هذه الديانات! فهناك أُناسٌ يعبدون البقر يصل عددهم إلى ما يقارب أربعمائة وخمسين مليون! وأناس يعبدون الموج! وأُناس يعبدون الشمس! وأناس يعبدون القمر! وأناس يعبدون النار! هؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما سِرُّ كَثْرة أتباعهم؟ السرّ بسيط جداً، وهو أنَّ هذه الدَّيانات ليس لها منهَج، بل فيها: اِفْعَل ما شئْت! أًعْلِن ولاءك لهذا الدِّين، وانتهى الأمر بعد ذلك، فلا يوجد لديهم تكاليف، لكنّ الأنبياء والرُّسُل حينما يأتون بِرِسالة من عند الله؛ فإن مِن لوازم هذه الرِّسالة التكاليف، وكلمة تكليف تعني أنَّه شيءٌ ذو كُلفة، فهناك أمر بالصِّدْق والأمانة والاستقامة، والوفاء بالعَهد، وإنجاز الوعد، وأمر بِحُسن الجِوار، والكف عن المحارم والدِّماء، فقد قال سيّدنا جعفر:
(( إنَّا كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنَّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ. ))
[ تخريج سير أعلام النبلاء ]
فحينما يُرسَل رسول من عند الله تعالى يأتي ومعه منهج؛ وهذا المنهج فيه أمْرٌ ونَهْي، وهذا الأمر والنَّهي يُقيِّدُ حُريَّة الإنسان، وهو ضمانٌ لِسَلامته، ولكنَّ الكافر لا يرى هذه السَّلامة، بل يرى في الأمر الإلهي تَقييدًا لِحُريَّتِهِ، لذلك كان ردّ الفِعل الطبيعي للإنسان المُتفلِّت الشَّهواني المُقيم على مباهج الدنيا إذا جاءَتْهُ رِسالة سَمَاوِيَّة أن يقول لهذا الذي جاءهُ: أنت كاذِب!
فلا بدَّ مِن أن يؤيِّد الله رُسلَهُ بالبيِّنات، فحينما يقول موسى عليه السَّلام لقومه: أنا رسول الله، يكَذِّبونه، فأيده الله بالبينات، منها أنه إذا أمْسَكَ بالعصا كانت ثعباناً مبيناً! كما أنه كان يُخرج يده من تحت إبطِهِ فإذا بيضاء للناظرين! أما سيدنا عيسى حينما قال: أنا رسول الله أحيا الميت، وأبْرأ الأكمَه والأبرص بِإذْن الله، وأحيا الموتى بإذن الله، وسيّدنا إبراهيم ألقِيَ في النار
﴿ قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ(69)﴾
والبيِّنات هي المعجزات، شيء يظهر للناس خارِقٌ للعادات، لا يستطيعهُ إلا ربّ الأرض والسماوات، فإذا قال إنسان: أنا رسول الله، فالأصل أن تكون لديه معجزة، إلا أنّ معجزات الأنبياء السابقين كانت مُعْجزات حِسِيَّة، فهي كَعُود الثِّقاب يشتعل فيتألّق ثمّ ينطفئ! ثم يُصبِح خبراً يُصَدِّقُهُ مَن يُصدِّقه، ويُكَذِّبُهُ مَن يُكَذِّبُه، إلا أنّ معجزة النبي عليه الصلاة والسلام معجزةٌ عَقليَّة بيانيَّة، فليس لها عُمر، إلى نهاية الدوران، فكَّما تقدَّم العِلم كشَف عن جانب من إعجاز هذا القرآن العظيم، لذا كان معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ .
البينات: هي المعجزات التي تُبيِّن للناس أنَّ هذا الإنسان رسول الله، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بِكتابٍ تحدَّى الله به العرب جميعاً عن أن يأتوا بِمِثله أو أن يأتوا بِسُورة منه، أو بِعَشر آيات منه؛ لأن البرهان الأقوى على أنَّ هذا القرآن هو كلام الله هو إعجازه، ففيه الإعجاز العلمي، والإعجاز التربوي، والإعجاز البياني، والإعجاز التشريعي، والإعجاز الإخباري، أي الخلق جميعاً يعجزون عن أن يصنعوا مثله، ومثال الإعجاز الإخباري هو قول الله تعالى:
﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)﴾
والإعجاز الإخباري أنواع ثلاثة: إخبار الماضي وإخبار الحاضر وإخبار المستقبل، وهذا موضوع طويل ولا مجال الآن للتَّوسُّع فيه، لورود كلمة في الآية، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ البيّنات: هي الأدلّة الواضحة على أنّ هؤلاء رُسُل من عند الله عز وجل، مما يؤكد أن هذا القرآن كلام الله قال تعالى:
﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِۦ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُۥ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ(39)﴾
لقد قال العلماء قولاً رائعاً في تفسيرهم لكلمة (التأويل)، وهو: أن تأويل القرآن الكريم وُقوعُ وَعْدِه ووعيده، فمثلاً الله عز وجل يقول:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
فالشاب المؤمن الذي يصطلح مع الله، ويستقيم على أمره حينما يذوق الحياة الطيّبة، فالحياة الطيّبة هي بيّنة من الله عز وجل لهذا المؤمن تثبت له أنَّ هذا القرآن كلامه، أما حينما يُعرض إنسان آخر عن الله عز وجل إعراضاً شديداً، ويتفلَّت من منهجه، فالمعيشة الضَّنك التي يحياها هي بيّنة من الله لهذا الإنسان على أنّ هذا القرآن كلامه، فلو أنَّ طالباً دخل إلى قاعة التَّدريس فرأى جملة مكتوبة على السبورة تقول: يوجد في الساعة الأولى من يوم الأحد مذاكرة في الرياضيات بخط جميل، الإمضاء: معلم الرياضيات! فيتساءل: يا تُرى هل هذا الكلام هو كلام الأستاذ أم أن طالباً كتبه؟ وما الذي يؤكِّد أنَّ هذا الكلام كلام أستاذ الرياضيات؟ فإذا جاء يوم الأحد ودخل أستاذ الرياضيات في الساعة الأولى وقال: افتحوا أوراق الامتحان كما ذُكِر! فأن تاتي هذه المذاكرة في الوقت المعلن عنه تماماً هذا يؤكِّد أنّ هذا الذي كتب العبارة على السبورة هو أستاذ المادة، فالأحداث كلها تأتي مطابقة لمَا في كتاب الله تعالى، فلو أنّ أحداً سأل نفسَه: ما الذي يؤكِّد لي أنَّ هذا القرآن كلام الله؟ نقول له: تحرَّك في الحياة كيفما تريد، تجدْ أنَّ أحكام الله وأفعاله تزيدك إيمانًا بهذا القرآن الكريم، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(( من كانت الآخرةُ همَّه، جعل اللهُ غناه في قلبِه، وجمع له شملَه وأتتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ ومن كانت الدنيا همَّه جعل اللهُ فقرَه بين عينَيه وفرَّق عليه شملَه ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له. ))
فلو أنَّ أحدهم تتبَّع سلوك شاب مؤمن، وسلوك شاب آخر متفلِّت، لوجد المؤمن موفَّقاً وسعيداً ومتوازناً ومطمئنًّا وراضٍياً بما قسمه الله له، يُدافع عنه الله تعالى، فله من الله مدافعة وتوفيق وتأييد ونصْر وطمأنينة وتطمين؛ وهذا كلّه يلْمسُهُ المؤمن لمْس اليد، فهو حينما يقرأ الآية الكريمة يقول: صدق الله العظيم، لأنَّ الله سبحانه وتعالى بيّن لهذا الإنسان أنَّ هذا القرآن كلامه، فالله تعالى قد توعّد المرابي مثلاً بالمحق، فقال:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾
فتَدمير مال المُرابي هو بيّنة من عند الله عز وجل لقارئ القرآن تثبت أنَّ هذا القرآن كلام الله تعالى، وهناك نقطة مهمّة جداً، وهي أنَّ كلّ أفعال الله تُطابِقُ كلامه، ومطابقة أفعال الله لِكَلامه هو أكبر دليل على أنّ هذا القرآن كلام الله عز وجل، فالله تعالى يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ والبيّنات مستمرّة، فالأنبياء السابقون جاؤوا بالمعجزات الحِسيَّة، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بِهذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أمثلة من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:
لقد قال الإمام عليّ كرَّم الله وجهه: إن في القرآن آياتٍ لمَّا تُؤوَّل بعد!
لقد اتَّضَح الآن أنّ الكون كلَّه عبارة عن مجرَّات فيها كواكب ونجوم تدور حول بعضها، وربُّنا عز وجل قد قال:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11)﴾
أَحْدث تفسير لِهذه الآية يقول: إنَّ كلّ كوكب في الكون يدور في مسار مُغلق بِحيث يرْجع إلى مكان انْطِلاقه!
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)﴾
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ (33)﴾
وقد اتَّضَح أنّ كلّ شيءٍ في الكون مؤلَّف من ذرات، وهذه الذرات تحوي كهارب تدور حول نويَّات بدءاً من الذرَّة وانتهاء بالمجرَّة! ﴿كُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ﴾
النطفة هي التي تحدد نوع الجنين:
وقال:
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46)﴾
لقد اتَّضَح الآن أنَّ نوع الجنين لا تُحدِّدُهُ البُوَيْضة بل يُحدِّدُه الحُوَين المنَوي!
﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى*مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ ولو أنك تتبَّعْت آيات القرآن الكريم لوجَدت أن كلّ هذه الآيات تتوافقُ توافقاً رائِعاً مع مُعطَيات العِلم، مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام عاش في عصر لم يكن فيه هذا التَّفوّق العلمي.
لقد ذكرتُ مرَّة أنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما أمرنا أن نذبَح الذَّبيحة من أوداجها فقط دون قطْع رأسها!! ما كان في عصْرِ النبي عليه الصلاة والسلام ولا بعد عصر النبي بألف عام تقدمٌ علمي يسْمح بِتَفسير هذا الحديث! فماذا يحدث لو أننا قَطَعنا رأس الدابة كما تفعل بعض المسالخ في البلاد الأوروبيّة، حيث تُعلَّق الدواب من عراقيبها، وتُقْطعُ رؤوسها كليًّا، لقد اكْتُشِفَ الآن أنَّ القلب يتلقَّى أمراً بضَرباته النِّظاميَّة من المراكز الكهربائيّة في القلب ذاته، والله عز وجل أوْدَعَ في القلب ثلاثة مراكز كهربائيّة وذلك لِحِكْمةٍ بالغة، فلو تعطَّل الأوَّل لَعِمل الثاني ولو تعطَّل الثاني لَعَمِل الثالث! إلا أنَّ هذه المراكز لا تعطي الأمر إلا بالضربات النِّظاميَّة؛ ثمانين ضربة في الدقيقة، فإذا واجَهَ الإنسان عَدُواً أو بذل جُهداً ويحتاج إلى دم أكثر يجري في عضلاته، فلا بد لهذه المِضَّخة أن تعمل بشكل أكبر وبتواتر أكثر في هذه الحالة، فعندئذٍ يأتي أمر إلى القلب عن طريق الدِّماغ، عن طريق الرأس بِرَفْع ضرباته إلى المائة والثمانين ضربة!
وهذه الضربات السَّريعة يمكن أن تُفْرِغَ الدم كلّه من الذَّبيحة، فالإنسان إذا قَطَع رأس الذبيحة عطَّل هذا الأمر الاستثنائي، فضربات القلب النِّظاميَّة لا تكفي لإخراج دم الذَّبيحة إلى خارِج الذَّبيحة، أما إذا أبقى رأسَه مُعَلَّقًا يأتي الأمر الاستثنائي عن طريق الدماغ إلى القلب فيرفع النَّبضات إلى مائة وثمانين نبضة، بحيث تكون مهمَّة القلب بعد الذَّبح إخراج الدَّم كلّه إلى خارج الذَّبيحة!
وعندما قال الله عز وجل:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ۚ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍۢ لِّإِثْمٍۢ ۙ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)﴾
وحينما أطعموا الأبقار في بريطانيا لُحوم الجِيَف والدِّماء مُجَفَّفة ومسحوقة، أُصيب البقر هناك بِمَرض جنون البقر،
وهذا المرض اقتضى منهم أن يقتلوا أحد عشر مليون بقرة قيمتها ثلاثة وثلاثون مليار جُنَيه إسترليني! وذلك لأنَّهم خالفوا منهَج الله عز وجل، هذا كلام خالق الكون، هذا كلام الصانع.
العلاقة بين الأمر الإلهي ونتائجه علاقة علمية:
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمَكِّنني من توضيح هذه الفِكرة التي تقول: إن العلاقة بين الأمر الإلهي ونتائجه علاقة عِلْميَّة، أي علاقة سبب بِنَتيجة، فأحياناً يقول الأب لابنه: اِجْلس هنا يا بني فيجلس الابن لِسَبب أو لآخر في مكان آخر فيبدو متحدياً لوالده، فيؤدِّب الأب هذا الابن فيضْربُهُ، فهل هناك من علاقة بين الضَّرب الذي تلقَّاهُ وبين مقْعدٍ صُنِعَ لِيُجْلَسَ عليه! لا يوجد علاقة، هذه العلاقة وضعها الأب، ونقول: هناك علاقة وَضْعِيَّة، فالأب رأى أنَّ هذا السُّلوك يُنافي أدَب الابن مع أبيه فضَرَبَهُ، وفي الحقيقة لا توجد هناك علاقة بين الجلوس على مقعد صُنع لتجلس عليه، وبين هذا الضرب الذي تلقاه الابن! نقول: ليس هناك علاقة عِلْمِيَّة ولكن علاقة وَضْعِيَّة، أما إذا قال الأب لابنه: لا تلْمِس بيدك المدفأة وهي مشْتعلة! فلمسها هذا الابن فاحْترقَتْ يدُهُ، فهنا نقول: هناك علاقة عِلْميَّة بين نَهي الأب والنتيجة التي آل إليها الابن، هذه غير تلك، فحينما قال له لا تلمس المدفأة وهي مشتعلة، فحين لمسها احترقت يده، فالعلاقة بين اللّمس والاحتراق علاقة عِلْميَّة.
أيها الإخوة، حينما نؤمن أنَّ العلاقة بين أمْر الله ونتائِجِه، وبين النهي الإلهي ونتائجه علاقة عِلْمِيَّة نكون قد فقهْنا وفهمنا أن الدِّين ضمان لِسَلامتنا، وليس حدًّا لِحُريَّتنا، فحينما يحمل عمود كهربائي تياراً كهربائيّاً عالي التَّوتر يُكتب عليه: ممنوع الاقتراب، خطر الموت، ونرسم جمجمة وعظمتين! فإذا قال المواطن: سأصعد إلى رأس هذا العمود بشرط أن لا يراني أحد، هل هناك من يؤاخذني؟ هل هناك من يكتب عليّ مخالفة! نقول له: أنت لا تفقه شيئاً، فالتيار نفسُه هو الذي يصعقك! هناك علاقة بين مسّ التيار وبين الصعقة الكهربائية التي تفحّم الإنسان، فهذه علاقة عِلْمِيَّة، وأنت حينما تقْتَنِع أنَّ هناك علاقة علمية بين الأمر ونتائجه، وبين المعصِيَة ونتائجها عندئذ لا ترى الدِّين تقييدًا لِحُريَّتِك، بل تراه ضمانًا لِسَلامتك، عندئذ لا ترى الدين حدّا لانطلاقك، بل تراه صوناً لسلامتك، لذلك الإنسان حينما يفْقهُ الدِّين هذا الفقه ينطلق إلى تطبيقه بِدافِعٍ مِن حُبِّه لِذاته، فَمَن مِنَّا يتمنَّى الهلاك؟ مَن مِنَّا يتمنَّى الشَّقاء؟ مَن مِنَّا يتمنَّى المرض؟ مَن مِنَّا يتمنَّى الذلّ؟ إن الإنسان مفطور على حُبِّ ذاته، على حب وجوده، وسلامة وُجودِهِ، واستمرار وُجوده وكمال وُجوده، وهذا لا يتحقَّق إلا بِطاعة الله عز وجل، لأنَّه هو الخبير، فهناك أمراض كثيرة يُعاني منها المُجتمع الدَّولي؛ كمرض الإيدْز مثلاً، ففي كلّ عشرة ثوان يموت إنسان بالإيدز، فما هو هذا المرض؟ إنه عِقابٌ إلهي على مُخالفة منهَجِهِ، فالله عز وجل خلَقَ الذَّكَر والأنثى، وجَعَل الأنثى مُهيَّأة للذَّكَر، وجَعَل الذَّكر مُتكامِلاً مع الأنثى، فالإنسان حينما اتَّجَهَ إلى جِنْسٍ مثلِهِ، مُخالفاً بذلك الفِطرة التي فُطِر الإنسان عليها كان مرض الإيدز، هذا أصل المرض.
فالله تعالى يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ فهناك توضيح، العقل يقول لك: لا بد لهذا الكون من خالق، وهذه هِيَ مُهِمَّة العَقل، يقول الله تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(4)﴾
ويقول العقل لك لماذا خُلِقنا، فيقول الله تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
ويقول لك: ماذا بعد الموت؟ فيقول تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾
فالكتاب يُوضِّح تصوُّرات دقيقة جداً عن الكون الإنسان والحياة، عمَّا ينفعك وعمّا يضرّك، وعمَّا يُسْعِدُك وعمّا يُشْقيك، وعمَّا يضْمنُ سلامتك، عما يُهلكك، وهذا الكتاب هو القرآن الكريم، وقد أرسل الله الرُّسل، ومعهم أدِلَّة على أنهم رسل وهي المعجزات والبيِّنات، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ .
﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَٱلۡمِيزَانَ﴾ لكن الناس يتحرَّكون ويتعايشُون، وأحياناً تتداخَلُ مصالِحُهم، فحتى لا يخْتَصِموا ولا يتنازعوا، ولا يعتدي بعضهم على بعض أنزل الله مع الكتاب الميزان، والميزان هو الشَّرع، والشَّرع يعني أن كلّ إنسانٍ يقف عند حدِّه، فقد قال بعض العلماء: "الشريعة عَدلٌ كلُّها، ورحمة كلُّها ومصلحةٌ كلّها" ، فمصالحك كلها تتحقق بِتَطبيق الشريعة، وكل الرحمة في تطبيق الشريعة، وكل العدل في تطبيق الشريعة، فهي ميزان وقوانين، وذلك كأحكام الزَّواج والطلاق، وأحكام البيع والشِّراء وأحكام الإيجار والوديعة والأمانة والعارية، وأحكام القرض والقِراض (المضاربة) والمزارعة، والمُساقات، فكلّ نشاطات الإنسان منظمة في الشَّرْع، فلو طُبِّق الشَّرْع لأغلقَت المحاكم أبوابها! فما من قضيّة تُرْفع إلى القضاء إلا بسبب مخالفة منهج الله عز وجل، فالإنسان الذي يأخذ ما ليس له تحتاج أن تشتكي عليه، أما الوقَّاف عند حُدود الله تعالى فلا تحتاج إلى أن تشتكي عليه أبداً، لأنَّه يعرف ما له وما عليه، والله تعالى قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ فإذا خطبَ الشاب فتاةً فأراد أن يفصخ هذه الخطبة، وقد جرى عَقدٌ بينهما، فإن كان الرجل هو الذي أراد أن يفْسَخَ هذا العقد فعليه نصف المهر إن لم يدخل، كما أن عليه كامل المهر إن دخَل، أما إن أبت هي الزواج منه فليس لها شيء، كما له أن يسْترِدّ كلّ شيء قدَّمه لها، هذه قاعدة، وهناك تفاصيل يُسمُّونها كتُب الفروع عبارة عن مجلدات في آلاف الصفحات في أدق التفاصيل، لذلك لمَّا وصل نابليون إلى مصْر أخذ الفقه الحنفي وترْجمه إلى الفرنْسيَّة، فأصبح القانون الفرنسي مأخوذاً في معظَمِهِ من الفقه الحنفي! فالشَّرع ميزان بين الزَّوجين، وميران بين الشريكين، وميزان بين الجارَين، وميزان بين الأب وابنه، والابن وأبيه، والزوج وزجته، والأخ وأخيه، والطبيب والمريض، والبائع والشاري، ميزان دقيق، فالشرع هو الميزان، والإنسان إذا ترك ميزان الشريعة من يده هلَكَ، وإن طبَّق شريعة الله عز وجل فهو في سَلام وأمان، قال تعالى:
﴿ يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِۦ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ(16)﴾
فما ما من إنسان طبق شريعة الله عز وجل إلا وسعد في الدنيا والآخرة، فهؤلاء الرُّسل جميعًا أُرسلوا بالبيِّنات وبما يؤكِّد أنَّهم أنبياء ورسل، وأنزل الله معهم الكتاب الذي وضَّح غاية الوُجود، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الدار الدنيا والآخرة، وسبب سعادة الإنسان، فالميزان كما قال ابعضهم هو الشرع.
قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ ما علاقة الحديد بالميزان؟
إن الإنسان إذا رأى نبِيَّ الله، أو اسْتمعُ إلى حديثه وقد جاء بالبيّنات، ثم يقرأ كتاب الله عز وجل (مطلق الكتاب) وكتاب الله فيه سِرُّ الوجود وغاية الوُجود وطريق السعادة والسلامة، فإذا تحرك مع بني جنسه طبّق الميزان وطبّق الشريعة، فإن لم يخْضَع لهذا الأمر الإلهي ولم يرْتَدِع فهناك مَن يرْدعُهُ:
(( إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ ))
أما الحديد: فقد ذَكَرْتُ لكم في الدرس الماضي أنَّه في عام ألف وتسعمائة وعشرة عُقِدَ مؤتمر في ستوكهولم لأن هناك قلقاً شديداً من أن كميات الحديد التي في الأرض لا تكفي، فعقد هذا المؤتمر، وانبثقت منه لجان علمية جالت أقطار الدنيا، وبحثت عن حجم الحديد المتبقي في الأرض، وبعد دراسة طويلة ومديدة، وبعد تقارير مفصلة توصلت هذه اللجان إلى التقرير التالي: إن كمية الحديد في الأرض تكفي سِتِّين عاماً، أي في عام سبعين لا يبقى حديد على وجه الأرض، وقيسوا على هذا التقرير أشياء كثيرة، هناك من يخوّف الناس؛ أنه في عام كذا سيكون هناك انفجار سكاني، وفي عام كذا تقلّ الموارد، وفي عام كذا تجفّ السماء، وفي عام كذا...دائماً الناس في حالة توتر، قال: هؤلاء العلماء بينوا أن الحديد سينتهي في عام سبعين، ثمّ اكْتُشِفَ أنَّ كميَّة الحديد في الأرض تُساوي خمساً بالمائة من وزْن القِشرة الأرضِيَّة؛
أي يوجد تقريباً سبعمائة وخمسة وخمسين ألف مليونِ مليون طنّ، المليون ست أصفار، وست أصفار أخرى، وثلاثة، وسبعمائة وخمسة وخمسين، أي خمسة عشر صفراً بعد رقم سبعمائة وخمسة وخمسين، هذا احتياطي الحديد في العالم، فيجب علينا ألا نصدّق كل شيء يقال لنا، يقال: صار هناك جفاف، فيأتي عام مطير تتفجر الينابيع التي جفت من ثلاثين عاماً، في أحد الأعوام أكرمنا الله بثلاثة ملايين طن من القمح، ونحن استهلاكنا مليون طن، فالله إذا أعطى أدهش، فهذه نظرية الانفجار السكاني، وقلة الموارد وجفاف المياه، هذه نظريات ما أنزل الله بها من سلطان، لكن الله يقنن، وقد ذكرت هذا في الدرس الماضي؛ الإنسان إذا قنّن فإنه يقنن تقنين عجزٍ، بينما الإله إذا قنّن يقنّن تقنين تأديب، وفرق كبير جداً بين تقنين العجز، وتقنين التأديب، فربنا إذا قنّن فهو تقنين تأديب لا تقنين عجز.
الحديد مادة أساسية في الحياة:
الحديد في جسم الإنسان: الآن الإنسان في جسمه ثلاثة غرامات من الحديد فقط، وهي تعادل خمسة أجزاء من مئة ألف جزء من وزنه، ولولا هذه الغرامات الثلاث لهلكَ الإنسان ومات، وهذا الحديد يدخل في الهيموغلوبين، والهيموغلوبين في الكرية الحمراء،
المادة التي تحمل الأوكسجين من الرئتين إلى الخلايا، ولولا الهيموغلوبين لمات الإنسان، والحديد أساسي في تركيب الهيموغلوبين، وتنتج معامل كريات الدم الحمراء في الإنسان في الثانية الواحدة اثنين ونصف مليون كرية في الثانية الواحدة، ويموت في الثانية الواحدة مثل هذا العدد، ولكن هذه الكريات التي تموت -لحكمة بالغة بالغة أرادها الله- لا تُطرح خارج الجسم، ولكن يُذهب بها إلى مقبرة، هي الطحال، فهو مقبرة الكريات الحمراء، تُحلّل ويُؤخَذ الحديد منها،
ويُرسَل إلى نقي العظام معامل الكريات الحمراء، ويُؤخَذ الباقي الشطر الآخر وهو الهيموغلوبين إلى الكبد ليكوّن الصفراء، فالصفراء من كريات الدم الميتة، والحديد الذي يُرسَل إلى نقي العظام من كريات الدم الميتة، والإنسان بلا حديد يموت، وفي الإنسان ثلاث غرامات من الحديد فقط.
الحديد في يخضور النباتات ودماء الحيوانات:
أيها الإخوة،
النباتات كلُّها تحوي الحديد، والنبات إذا اصفّر فهذا لنقص الحديد، فهو يدخل في المادة الخضراء، في اليخضور، فالحديد يدخل في المادة الأساسية في الورقة،
ولا يوجد مزارع إلا وهو بأمس الحاجة لإعطاء نباته مركبات الحديد، وإلّا يصفرّ النبات ويموت.
الحيوان كذلك؛ بعض الدود دمه أخضر ومع ذلك فيه حديد، بعض الأسماك دمها شفاف صافٍ كالماء، ومع ذلك فيه حديد، فالحديد يدخل في تركيب الدماء كله، يدخل في تركيب الأوراق كلها، يدخل في تركيب الإنسان والحيوان والنبات، مادة أساسية في الحياة، لذلك إن رأيت شجرة صفراء أوراقها مصفرّة فاحكم عليها بنقص الحديد، لا بد لها من مركبات الحديد، وأعراض نقص الحديد في الإنسان التعب والإرهاق والإنهاك وآلام في الرأس، والمزاج السيئ، فعلى الإنسان أن يدقق في غذائه؛ فهناك أغذية غنية بالحديد كالتفاح، والخضراوات، فأكثر الخضراوات فيها حديد، والحديد في الدرجة الأولى في التفاح، لذلك إذا قَطّعْت تفاحة وتركتها في الهواء تسودّ بعد حين؛ لتأكسُد حديدها مع الهواء، فاسودّت.
الحديد هنا المقصود منه السلاح، فالله عز وجل (يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ) قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾
أما المنافع فهي كثيرة، فلا يكاد يوجد حِرفة في الأرض إلا وأدواتها مصنوعة من الحديد؛ بدءاً بأدوات الذي يحفر الأرض، وانتهاء بأدوات جرَّاح القلب، كل أدواته من حديد، دقِّق في أية حِرفة وفي أية مصلحة، في أي مكان، حينما قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾ هناك منافع ننتفع بها.
استخدام المعادن: ستّ وتسعين بالمائة من استخدامات المعادن في العالم من الحديد! والحديد له احتياطي ضخم جداً، وفي البحر عوالق بحرية، نباتات بحْريَّة تسْتهلِكُ من الحديد ما يوازي تقريبًا نصف مليار طنّ! فما تنتجه مناجم الحديد في العالم يساوي ما تستهلكه النباتات البحرية من الحديد، لذلك تُعد العوالق البحريَّة أسمِدةً رائعة جداً للنباتات إذا جُفِّفت وسُحِقَت.
إن تسعين بالمائة من وزن النيازك التي تنزل على الأرض هو من الحديد، ولعلّ هذا النزول من السماء إلى الأرض أُشير إليه في هذه الآية، قال تعالى:
﴿وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾ يقال: إن هناك نيزكاً نزل وزنه سِتِّون طنًّا، وقد ترك هذا النيزك حفرة قطرها ألف ومائتان متر، وعُمقها مائتان متر! هذا النيزك تسعون بالمئة من وزنه حديد، فلعلّ الله عز وجل حينما قال:
﴿وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾ لعل الإنزال هنا بهذا المعنى! لكن دون أن نقطع بهذا المعنى!
فالحديد هو السِّلاح، والإنسان حينما يأبى أن يخضع لِمنهج الله (إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ) والحديد أيضاً فيه منافع للناس لا تعد ولا تحصى.
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ حينما دعا النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى معركة بدر، وإلى معركة أحُد، وإلى معركة الخندق، انطلق أكثرهم مع رسول الله، وبعض المنافقين تقاعسوا، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى لِيَعلم الذين نصروا رسوله والذين خذلوه، والحقيقة أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى أن تنصره، ولكنّك إن نصَرْت دينه أيَّدك الله ونصرَك وحَفظَك، وأنت حينما تُطبِّق منهج الله عز وجل تنصر دين الله، وحينما تؤدي الذي عليك عن طِيب نفسٍ تنصر دين الله، حينما تأتَمِر بما أمرَ الله تعالى وتنتهي عمَّا نهى الله عنه تنصر دين الله، فَنُصْرة الله تأتي من تطبيق الدِّين، فلو طبَّق التُّجار منهج الله في البيع والشِّراء لَكُنَّا في حالٍ غير هذا الحال، ولو أنَّهم قَنِعوا لو أنهم أخلصوا، لو أنهم نصحوا، لو أنهم ابتَعَدوا عن الغشّ، لكانت أفعالهم هذه نصْرٌ لِدِين الله، فقد ورد في الحديث الشريف:
(( أطيبُ الكسبِ كسبُ التجارِ الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يُخلِفوا وإذا اشتروْا لم يَذُمُّوا وإذا باعوا لم يُطروا وإذا كان عليهم لم يمطُلوا وإذا كان لهم لم يُعسِّروا. ))
فالإنسان إذا طبّق شرع الله عزّ وجل نصر دين الله تعالى، والله عز وجل ليس بحاجة إلى أن تنصره، ولكن حينما تنصر دينه يتَّسِعُ الحق، ويضيق الباطل، وإذا اتّسَع الحق عشْتَ في بحبوحة، فإذا كان الناس كلهم أمَناء فالحياة مُسعِدة جداً، إذا كان الناس كلهم رحماء فالحياة مُسعدة، إذا كان الناس كلهم صادقين فالحياة مُسعِدة، إذا كان الناس كلهم منصفين فالحياة مُسعِدة، فأنت إذا نصرت دين الله، واتّسع الحق وانْكمَشَ الباطل، فأنت أوَّل الرابحين فتسعد في حياتك، والإنسان عندما يعيش في مجتمع مؤمن فحقه محفوظ، ماله مصون، مطمئن، لا يشعر بالقلق في حياته، أما لو انحسر دين الله وامتد الباطل تصبح الحياة كما لو أنك في غابة، شيء مخيف، ونحن الآن نُلاحظ في دِمشق ملاحظة غريبة، وهي أن هناك محلاّت تِجاريَّة كثيرة يذهب أصحابها إلى الصلاة دون أن تُغلق أبوابها أثناء الصلاة، وهذا شيء لطيف جداً، وهو من آثار الدِّين، الإنسان يعرف ما له وما عليه، فيوجد طمأنينة، قال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا ۚ فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)﴾
فعندما تنصر دين الله فالمكسب معك، وأنت الرابح الأول، فلو ربَّى الإنسان أولاده تربيَةً صالحة هو الذي يقطف الثِّمار، ولو أحسن لِجارِه يقطِف الّثِمار، ولو اختار زوْجةً صالحة وفق منهج الله يقطِف الثِّمار، لو كان في بيعه وشرائه منضبط بالشريعة يقطف الثمار، لا يُتلف ماله، ولو ابتعد عن الربا حصّن ماله، ولو أدَّى زكاة ماله حصَّن ماله! قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾
ونصر الله عز وجل يكون بتطبيق مبدئه، تطبيق تعاليمه، تطبيق شريعته، وأنت الرابح الأول من تطبيق دِين الله عز وجل.
كتب لي أحدهم _لا أدري من هو_ رسالة يقسم بالله العظيم أنّه أدَّى لِوَرثةٍ مبلغاً فلكياً، وهؤلاء الورثة ليس عندهم أيّ دليل على إرثهم، ولا وثيقة ضده! كان الأب قد أعطى هذا المال لمَن يعمل به وتوفي فجأة، وهذا من آثار الدِّين أيضاً، أن يقدم إنسان مبلغاً ضخماً لورثة لا علم لهم بالمبلغ، وليس معهم وثيقة بهذا المبلغ، فهذا من آثار الدين، فحينما تطبق شرع الله عز وجل فأنت الرابح الأول، وتقطف الثمار؛ إن أحسنتَ إلى جيرانك أحسنوا إليك، إن ربّيت ابنك صغيراً سعدت به كبيراً، إن أحسنت اختيار الزوجة كنت سعيداً بها طوال الحياة، إن بِعتَ واشتريت وفق منهج الله ربحت وارتفعت في نظر الناس، في أيّ مهنة، وفي أيّ حرفة أن تنصر دين الله يعني أن تُطبِّق شرعه ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ .
قال تعالى: ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ﴾ ولمُجرَّد أن تؤدي الصلاة هذا نصر لدين الله، أمام أولادك دعّمت الشرع، وإذا كنت صادقاً أمام أولادك رسَّختَ فيهم فضيلة الصِّدق، إذا غضضت البصر عن امرأة لا تحلّ لك أمام أولادك، ولو كنت وحيداً رسّخت الدين، فالأب مسؤول، والأم مسؤولة، والمعلم مسؤول، ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ قال تعالى:
﴿ وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ فَمِنۡهُم مُّهۡتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ(26)﴾
لقد أرسل ربنا عز وجل نوحاً وإبراهيم، ﴿وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ﴾ فمن هذه الذرية ﴿مُّهۡتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ قال تعالى:
﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾
فالإنسان ينبغي أن يكون مع الحق ولو كان قليلاً، وينبغي أن يبتعد عن الفساد ولو كان كثيراً، فنحن لدينا قاعدة: إن الفساد إذا عمّ يبقى فساداً، وإن الحق إذا قلّ يبقى حقاً، فالحق والباطل لا علاقة لهما والكثرة والقلّة! فالحق مهما ضؤل هو الحق، والباطل مهما اتّسع هو الباطل، ففي بعض البلدان إذا اتسع شيء وانتشر تأتي القوانين لتؤكده، سمعت قبل أسبوعين أن البرلمان في هولندا أقرّ اللّواط، فعندهم إذا انتشر شيء وعمّ تأتي القوانين لتؤكده وتجعله مشروعاً، أما عندنا فلا، الحق حق والباطل باطل، مهما اتّسع الباطل يبقى باطلاً، ومهما تضاءل الحق يبقى حقاً. ﴿فَمِنْهُم مُّهۡتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ .
قال تعالى:
﴿ ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةً وَرَحۡمَةً وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٌ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ (27)﴾
علامة المُتبِّع لهذا النبي العظيم أن يكون قلبه منطَوِياً على الرأفة والرحمة.
ثمّ يقول تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةً وَرَحۡمَةً وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ﴾ فالله عز وجل جعل هذا الدِّين دين الفِطرة، وركَّب في كيان الإنسان الحاجة إلى المرأة، وجعل الزَّواج من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّه وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي. ))
﴿وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ﴾ هم كتبوها على أنفسهم، هم حمَّلوا أنفسهم ما لا يُطيقون، هم خرجوا عن الفطرة، وقد أرادوا منها رضوان الله عز وجل، ﴿وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ﴾ لكن لأنهم ابتدعوها، ولأننا ما كتبناها عليهم، ولأنها فوق طاقتهم، قال الله فيهم: ﴿فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٌ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ ﴾.
أيها الإخوة، في درس قادم نتابع تفسير هذه السورة، وقد بقيت الآية الأخيرة وهي:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (28)﴾
الملف مدقق