الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع من سورة الحديد، ومع الآية الكريمة الحادية عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنًا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥٓ أَجۡرٌ كَرِيمٌ(11)﴾
أيها الإخوة الكرام، قبل أن أبدأ بِشَرح هذه الآيات بِتَوفيق الله عز وجل، أُحِبُّ أن أقف معكم عند آيتين في كتاب الله تعالى، وهاتان الآيتان تتحدّثان عن تدبّر القرآن الكريم؛ والآية الأولى هي قوله تعالى:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
والآية الثانية:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا(82)﴾
أما معنى قوله تعالى: أَفَلَا فالله سبحانه وتعالى يدعونا إلى تدبّر القرآن، فمن غير المعقول أن يقف الإنسان من كتاب الله تعالى موقفًا سلبياً (موقف اللامُبالاة) ، أو أن يقرأ القرآن بلا فهم، يقرأ بلا تدبُّر، ولا وعي؛ يقرأ ويتوهم أنه تبارك بهذه القراءة من دون أن يصل إلى أبعاد الآيات ومدلولاتها، وما تنطوي عليه من أوامر، ونواهٍ وحِكَم، هذا لا يليق بالإنسان.
أيها الإخوة، ما مِن نصٍّ على وجه الأرض أجْدَر أن تقرأه بعناية وفهم وتدبر من القرآن الكريم؛ لماذا؟ لأنَّه كلام الله، وفضل كلام الله على كلام خلقه كَفضل الله على خلقه ، فأنت مأمور من خلال هاتين الآيتين أن تقرأ القرآن متدبِّراً.
معنى التدبر:
التدبّر: مصدر من تدبَّر، وهو مزيد، مجرَّده: (دَبَر) ، فيجب عليك أن تقرأ الآية ثمّ تفكِّر فيما وراءها من أمْر ونهي ووَعْد ووعيد، والإنسان أحياناً قد يقرأ مادّة في قانون صدر حديثًا، فيقول: إن أنا بلَّغتُ عن حجمي المالي ترتبت عليّ ضريبة عالية، وإن ما بلَّغت كان هناك سِجن! فإذا أصدر الإنسان قانوناً لا تنام الليل وأنت تقرأ هذه المادة وتفكر ماذا ستفعل، فأنت أمام كلام خالق الكون الذي يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾
الآية الأولى تقول: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
والآية الثانية تقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً﴾
فكأنّ هناك مانِعين يَمْنَعانِكَ من تدبّر النصّ الذي أمامك، المانع الأوَّل هو أنت، والمانع الثاني هو النَّص، فلو كان هذا النص من صُنع إنسان ومن صِياغَتِهِ لما انشدّ الإنسان إليه، ولا وجد رغبةً جامحة في فهمه ولا في فهم مدلولاته، لأنّ كلام البشر فيه الخطأ وفيه الصَّواب، فيه تناقض، وفيه البعد عن الواقع أحياناً، فيه معالجة سريعة للأمور، فيه مرور سريع، كما قد يكون فيه عدم توازن، وقد تجد فيه بعض الأفكار من دون دليل لأنه كلام البشر، ولكن إذا كان الكلام كلام الله فلن تجد فيه تناقضًا ولا اختلافًا، ولا ضَعفًا، ولا معالجةً سريعةً؛ إنَّه كلام خالق الكون، لماذا لا تقف عند آيات القرآن الكريم؟ لأنها من عند الله، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ .
أيها الإخوة، أقول لكم وأعني ما أقول: إنه ما مِن كتاب على وجه الأرض يُؤلَّف، ويُطرحُ في الأسواق، إلا ويُكتشف بعد حين أنّ فيه نقصاً أو فيه خللاً أو فيه بُعداً عن الواقع أو فيه تناقضاً مع حقيقة عِلْمِيَّة، أو فيه ضَحالة، فالزَّمن وحدهُ يكفي لِكَشْف خَلل كلّ كتاب، إلا القرآن الكريم، فقد مضى على نزوله خمسة عشر قرنًا، وقد انتقلَ العلم خلال هذه الحِقَب إلى قفزاتٍ مذْهلة، ومع ذلك لا نجد حتَّى الآن في كتاب الله شيئًا يتناقض مع العلم، بل إننا لا نجد العلم الصحيح إلا إذا تطابق مع القرآن الكريم.
أيها الإخوة الكرام، المانع الأول قد يكون المانع النص نفسه، يكون النص من بني البشر، ومن صياغتهم ففيه ضعف وفيه تناقض، وفيه خلل، فيه مجانفة للحقيقة، وعدم واقعية، وعدم توازن.
الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَـى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ فهذا مانعٌ آخر، وهو أنت، فما هو القِفل؟ والقفل هو حُبّ الدنيا! وحبُّ الدنيا يُعمي ويُصِمّ، حب الدنيا رأس كلّ خطيئة، حبك الشيء يعميك عن الحقائق، والإنسان الذي لا يفهم القرآن، إما أنه منغمس في الدنيا، لذلك:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥٓ ۖ ءَا۬عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ۖ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍۢ (44)﴾
وإما أنَّه يقرأ نصّاً ليس بقرآن.
فيا أيها الإخوة، هاتان الآيتان في كتاب الله تحضَّان الإنسان على تدبّر القرآن الكريم، ومعنى التدبّر أن تتأمل فيما وراء هذه الآية، فالله عز وجل قال:
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
فعلى الإنسان أن يقرأ هذه الآية ويتدبّرها ويفكّر، لو أنني خالفتها فلن أسْعدَ في زواجي، ولن أتفرَّغ لِدِراستي، ولن أرقى عند ربِّي، كذلك لمَّا قال الله عز وجل:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾
لو تدبرت هذه الآية لعرفت أن خالق الكون هنا يقول لك: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ ومعنى ذلك: أنه مهما بدا لك المُرابي ذَكِيًّا فهو أحمقٌ غَبِيّ، لأنّ الله خالق الكون يتوعَّدُهُ بالدَّمار!
والتَّدبُّر هو أن تكتشف ما وراء هذه الآية من أمر، أو من نهي، من وعد أو من وعيد، من سعادة أو من شقاء، والإنسان أحياناً -كما قلت قبل قليل- يكون موظفاً في دائرة فيأتي تعميم ويدرسه فيقع في صراع أحياناً؛ إن نفّذ قد يتعرض لشيء، وإن لم ينفذ قد يتعرض لشيء آخر، فكلام الإنسان قد تجده أحياناً يستأهل أن تُفكِّر فيه، وأن تقف موقفًا منه، فكيف بِكلام خالق البشر!
أيها الإخوة الكرام، إذا توهَّمَ الإنسان أنَّه إذا قرأ القرآن كُفِيَ؛ سواء كانت هذه القراءة بفهم أو بلا فهم، بوعي أو بلا وعي، بتدبر أو بلا تدبر، يكون بتوهمه هذا مُناقضاً للآيتين الكريمتين السابقتين.
قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أي إن لم تتدبَّر كان قلبك مُغلقاً بِحُبّ الدنيا، إن لم تتدبر فالنص ليس من عند الله، لأنَّه لو كان من عند الله لما وجدْت فيه اختلافًا ولا انحِرافًا، ولا تناقضًا ولا ضَعفًا، ولا خللاً، فالمسلم الصادق يُسارِعُ إلى تطبيق كلام الله عز وجل فيتدبَّر، لقد ورد أن الإمام الغزالي خاطَبَ نفسَهُ قائلاً: "يا نفسُ، لو أنَّ طبيبًا منعَكِ مِن أكلةٍ تُحِبِّينها" الإنسان قد يسكن شقَّة في الطابق الرابع فقد بذل سنوات تلو السنوات في تزيينها، فإذا بالطبيب يقول له: لا بد أن تسكنَ بيتاً أرضِيًّا لأنَّك مُصاب بمرض القلب! في اليوم التالي يبحث عمن يشتري البيت منه.
الإمام الغزالي يقول: "يا نفسُ، لو أنَّ طبيبًا منعَكِ مِن أكلةٍ تُحِبِّينها فلا شكَّ أنَّك تمْتنِعين -الآن التدبر- يا نفْسُ أَيَكُون الطبيب أصْدق عندك من الله؟" طبيب لسنوات معدودات، لعضو من أعضائك؛ قلب، رئتين، كبد، كليتين، يقول لك: هذا الطعام لا تأكله، هذا البيت لا تسكنه، هذه السفرة لا تناسبك، ألغِها، لا يناسبك ركب الطائرة، لا يناسبك أن تسهر، هذا العمل دعه، لو أنَّ طبيبًا منعَكِ مِن أكلةٍ تُحِبِّينها فلا شكَّ أنَّك تمْتنِعين، يا نفْسُ أَيَكُون الطبيب أصْدق عندك من الله؟" يقول الإمام: "إذًا ما أكْفركِ!" ، وما أشدّ كفر الإنسان عندما يُطيعُ إنساناً خوفاً منه ويعصي خالقه، أو عندما يثق بِنَصيحة إنسان فيستجيب لها، ولا يثق بِنَصيحة الله عز وجل، فما أشدّ كفرهُ، ثمّ يقول هذا الإمام: " أيَّتها النَّفس، أيكون وعيدُ الطبيب أشدّ عندك من وعيد الله، إذًا فما أجْهلَكِ!" ، صدِّقوني أيُّها الإخوة أنَّه ما من إنسانٍ يعصي الله عز وجل إلا وهو مَدْموغٌ بالكفر أو الجَهل، ولا يُسمَّى الإنسان عاقلاً إلا إذا عرف الله تعالى، فقد يتفوّق في اختِصاصه، وفي حرفتِهِ، وفي دراسته، وفي مهنتهِ، وهذا ذكاءٌ ليس غير، ولكنّ العَقل شيءٌ آخر، لأنَّ العقل أن تعرف الذي خلقَك، وأن تَدرُس المنهَج الذي وُضِعَ لك، وأن تبْحث عن أسئلةٍ كبيرة مثل: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟
أيها الإخوة الكرام، تدبّر كتاب الله عز وجل فرْض عَيْنٍ على كلّ مسلم،قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍۢ شَدِيدٍۢ(46)﴾
أيها الإخوة، هل تحترمون إنسانًا جاءتْهُ رسالةً فمزَّقها قبل أن يقرأها؟ اقرأها ثم مزّقها، والقرآن وَحيُ السماء إلى الأرض ألا ينبغي أن نسْتوعِبَ ما فيه، وأن نقف عند حُدوده، وعند حلاله وعند حرامه لأنَّه كلام خالق الكون؟
ننتقل إلى الآية الحادية عشرة من سورة الحديد، وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ إن مركز الثِّقل في هذا الآية هو كلمة: (يُقرِضُ) ، فما هو الشيء الذي عودته إليك مُحقَّقة؟ إنه القرض، فهناك هِبة، وهناك هدِيَّة، وهناك ضريبة، وهناك غِبن، وهناك أشياء كثيرة ولكنَّ شيئاً واحِداً عَوْدتُهُ إليك مُؤكَّدة، وهو القرض، وربُّنا سبحانه وتعالى يدْعونا هنا إلى أن نُقْرِضَهُ، أيْ: إنَّ الله سبحانه وتعالى قد خلقنا لِنَعملَ صالحاً، كي يُكافئنا عليه في جنّة عرضها السماوات والأرض، فأيّ عمل صالح مادِي كان أو معنوي، صغير أو كبير، عمل صالح كلامي، عمل صالح فعلي، كإنفاق مال أو إرشاد، أو تعليم، أو أمر بِمَعروف ونهي عن المنكر، أو مُعاونة لأحد أو صدقة، أو توجيه أو نصيحة أو إتقان، أي عمل صالح مع أيِّ مخلوق، مع إنسان أو حيوان أو نبات، مع مسلم أو كافر، مع قريب أو بعيد، وسواء كان العمل جليلاً أم صغيراً، إنفاق مال، إنفاق وقت، إنفاق جهد، فهو يسمى عند الله تعالى (قرض حسَن) ، فتصوَّر أنَّ ملكاً كان بِيَدِهِ أمر البلد كلّه، ثم قال لإنسان: أقرِضْني مائة ليرة! فهل هو بِحاجة إلى مائة الليرة هذه؟ أم أنَّه يريد أن يُكافئَك أضعافاً كثيرة؟
أيها الإخوة الكرام، لو تدبَّرنا هذه الآية وحدها، لَنِدْمنا أشدّ الندم على كلّ ساعة مرَّت دون أن تعمل صالحاً، لأنَّ كلّ عمل صالح مهما كان صغيرًا مُسَجَّل عند الله، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
فمهما بدا لك العمل الصالح قليلاً فهو عند الله كثير، فلو أنَّك أكرمْتَ شيخًا لأكرمك الله على فعلك هذا، قال:
(( ما أَكْرَمَ شابٌّ شَيْخًا من أَجْلِ سِنِّهِ؛ إلا قيض اللهُ له عِندَ سِنِّهِ مَن يُكْرِمُهُ . ))
ولو كنتَ ولدًا بارًّا لكافأك الله في الدنيا والآخرة بأولادٍ أبرار، ولو أطعمت الفقير لصانَ الله وجْهك عن أن تسأل أحدًا مِن خلقِه، فاللهمّ صُن وجوهنا باليَسار ولا تبْذِلها بالإقتار.
أيها الإخوة الكرام، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ المؤمن يتعمق، فأيّ إنسانٍ طرَقَ باب المؤمن أو دخل مَحَلِّه، وسألهُ حاجةً وهو صادق، وكان المؤمن قادِراً على أن يعْطِيَهُ فأعطاه، يجب أن يعلم علم اليقين أن هذا العمل هو قرض لله، وإذا قال لك الملك: أقرضني مئة ليرة، وسأعوضها عليك مئة مليون، وبخلت كان هذا مُنتهى الحُمق والغباء، أن يسألك الله قرضاً حسناً فتبخل، قال تعالى:
﴿ هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُم (38)﴾
وقد فَهِم اليهود هذه الآية فهْماً معكوساً، فقالوا: إذا كان الله يقترض من عباده فهو فقير إذًا! قال تعالى:
﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181)﴾
فالله تعالى يطلب منا القرض لِيُكافِئنا، فأنت من الآن فصاعداً أكثر من أعمال الخير، فلو سألك إنسان اين المكان الفلاني مثلاً؟ فوقفْتَ وأجبْتهُ بِهُدوء وِبوُضوح: إلى الأمام، لم يفهم شيئاً، دله على المكان بشكل صحيح، لو كان الطريق مشتركاً سِرْ معه، إذا سألك إنسان عن مكان ودللته فهذا قرض لله، هِرَّة عطشى سَقَيْتَها هذا قرض لله، كلبٌ جائعٌ أطْعمته هذا قرض لله، أخٌ استقرضك قرضَ مالٍ فهذا قرض لله، فحينما تفْهم أن القرض لله تعالى تُبادِر إلى إقراض الله عز وجل، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ أي: يا عبادي من منكم يُقرضني حتَّى أكافئه؟ وربنا عز وجل هو الغنيّ ونحن الفقراء.
أيها الإخوة الكرام، ما مِنَّا واحد إلا وهو مفتقِرٌ إلى الله تعالى، فلو أن الله سبحانه وتعالى مثلاً أسبغ على الإنسان صِحَّة إلى أن يلقاه، فماذا يفعَل هذا الإنسان لو تعطَّلت كليته؟ تصبح الحياة جحيماً، لو أن القلب أُصِيب بدساماته، أو بضيق شرايينه، أو باضطراب نظمه ماذا يحصل؟ لو تعطَّلت وظائف كبده؟ أو ازْدادت حساسيَّة أعصابه؟ أو لم تسْتَجِب عضلاته للأوامر الحِسِيَّة وأُصيبَتْ بالشَّلل؟ ألا ترضى أنَّ يكافئك الله سبحانه وتعالى بِحَياةٍ طيِّبَة في الدنيا قبل الآخرة؟ هكذا قال الله عز وجل:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
والحياة الطيِّبة فيها رِضىً، وفيها صِحَّة، وفيها سمعة طيِّبة، وفيها طمأنينة، وفيها توازن، وفيها غِنَى.
أيها الإخوة الأكارم:
(( استقيمُوا ولن تُحصُوا. ))
فكلّ الخير في طاعة الله تعالى، وكلّ الغِنَى النَّفسي في طاعة الله، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ وقوله: (يُضاعفه له) : كم ضعف؟ مطلقة، والمُطلق على إطلاقه؛ ماذا تظن عطاء ملك الملوك وقد أقرضته؟ إذا كان أقلّ عطاء مُلوك الأرض هو بيت أو مركبة! فكيف بِمَلِكِ الملوك؟ إذا قال لك: يا عبدي أقرضني! يقول الله تعالى في الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي! قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي! قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي.))
إخواننا الكرام، ما من إنسان يلتقي بالمؤمن الصادق إلا يراهُ هديَّة من الله إليه، فهو يُرْشِدُهُ ويُعطيه ويُعاوِنُهُ وينفِقُ عليه، لعلَّ الله يرضى عنه، فإن صحّ التعبير: أساس حياة المؤمن العطاء، وهو ذَكِيّ جداً، وعاقلٌ جدًّا؛ لأنه يبتغي بهذا العطاء وجه الله، يعطي ليأخذ من الله كل شيء، أما الجاهل فأساس حياته الأخذ، فلا يتحرَّك حركةً بلا مال وبلا أجر، ولا يتكلَّم كلمةً ولا ينصح نصيحة ولا يساهم مساهمة إلا وهو ينتظر العطاء من ورائها، وهذا هو نصيبُهُ من الله تعالى! أما المؤمن فيبتغي بعطائه وجه الله، فهذا سيّدنا عثمان بن عفان كان له سِتّمائة بعير مُثقلة بالبضائع الرائجة كلها له، جاءت إلى المدينة _ وهي اليوم تعادل سِتُّمائة شاحنة _ فجاءه التُّجار وأخذوا يضاعفون له ثمنها، فيقول: أكثر، إلى أن وصلوا إلى ثمانيَة أضعاف الثمن، وهو يقول: دُفِعَ لي أكثر؛ هِيَ لِوَجه الله عز وجل! ووزَّعها على فقراء المدينة، فكلَّما زادت معرفة الإنسان بالله كان عطاؤُه كبيراً، فهو يُعطي وقتَهُ وماله وخِبرَتَهُ، ولا يضِنّ بها على أحد، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾
ما معنى (حسنًا)؟ إن أوْسَعُ معاني القرْض -كما قلتُ قبل قليل- العمل الصالح سواء كان مادِّياً أو معنوياً، أو إرشاداً، أو دعوة، أو نصيحة، أو تعليماً، أو إنفاق مال، أو رِعاية يتيم أو رعاية أرملة، أن تدل إنساناً على طريقه، أن تعين حاملاً على حمله، أن تعين امرأة على حلّ مشكلتها، فأيّ عملٍ صالحٍ على الإطلاق هو قرضٌ لله عز وجل، فما هو القرض الحسن إذًا؟ القرض الحسن ما كان موافقاً لشروط ثلاثة، وهي:
1- أن يكون العمل مُتْقنًا.
2- وأن يكون الذي تفْعلُهُ معهُ مُسْتحِقًّا له.
3- وأن تكون بِهذا العمل مخْلِصاً.
فهناك شَيءٌ مُتَعَلِّق بالعمل، وشيءٌ متعلِّق بِمن يستحقّ العمل، وشيء متعلّق بك، أنت ينبغي أن تكون مخلصاً بهذا العمل قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا نُـطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)﴾
وقال:
﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)﴾
فالشرط الأوّل: الإخلاص، والشرط الثاني: الإتقان؛ أي: أن تعْطِي شيئًا ثمينًا تُحِبُّه، لا تعطِ شيئًا تعافُهُ نفْسُك وتكرهُهُ، لأنّك تُقدِّم هذا العمل هَدِيَّة لله تعالى، فكلَّما كان العمل الصالحُ مُتْقنًا أو طيِّباً أو كثيراً أو محبوباً ارتقى أجرهُ عند الله، فلا تَصدَّقوا ممَّا تكرهون بل أعْطِ شيئاً ثميناً، وهذا العطاء الثمين دليل إخلاصك لله تعالى، ثم هذا الذي تعطيه يجب عليك أن تِبْحَث عمّن يسْتحقّ هذا العطاء، وابْدأ بالمؤمنين الأعِفَّة الصادقين، الذين:
﴿ لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(273)﴾
ابْدأ بالصائِم المصلِّي، المطيع لله، فهذا ينبغي أن ينال من عطْفكَ وإحْسانِكَ الشيء الكثير، وأخلِص، هذا معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ يجب أن يكون الشيء مباح شرعاً، أحياناً يكون القرض غير حسن، فالقرض الحسن هو الشيء المشروع الذي يرضى الله عنه، أحيانًا تكون هناك مساعدات فيما لا يُرضي الله عز وجل، القرض الحسن مشروع في الأصل، خارجٌ من إنسان مخلِص، وأن يكون الشيء المُتَصدّق به مُحَبَّباً ومُتْقناً، كما يجب أن يكون الذي تُعطيه إيَّاه مسْتحقاًّ، فلا تعينه على معصية، يجب أن يُعينه على طاعة الله، هذا القرض الحسن، يجب أن تفكر بالمُعطَى، وتفكر بالعطاء وبالنية، النية طيبة، والشيء مشروع ويرضي الله عز وجل، والمُعطَى مستحق. قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ فالجنَّة أجر كريم من كلّ شائبة.
نور المؤمنين يوم القيامة:
ثم يقول الله تعالى واصفاً المؤمنين يوم القيامة:
﴿ يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ(12)﴾
إخواننا الكرام، الأوراق الآن مختلطة! فالناس جميعًا يأكلون ويشْربون، ويسكنون، ويتنزَّهون ويكسبون المال وينفقونه، ويتزوّجون ويُنْجِبون، ويُزوِّجون بناتهم وأولادهم، الأوراق مختلطة، لكن انظر يوم القيامة يوم يُفْرَز الناس، قال تعالى:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59)﴾
يوم القيامة المؤمنون في مكان، والمجرمون في مكان، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم، هؤلاء في أعلى عِليِّين، وهؤلاء في أسفل سافلين، هؤلاء في نعيم مقيم، وهؤلاء في جهنم وبئس المصير، هؤلاء:
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)﴾
وهؤلاء لهم:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22)إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)﴾
فهناك فرْقٌ كبير.
﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ(20)﴾
هؤلاء يوم القيامة قال تعالى: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ لو ربنا عز وجل قال المؤمنين فقط لفُهِمَ من هذه الكلمة والمؤمنات! ولكنَّ الله تعالى أراد أن يذكر المؤمنين والمؤمنات لِيُبيِّن أنَّ المرأة كالرَّجل تماماً من حيث التكليفُ والتشريف والمسؤوليَّة، فهي ترقى كما يرقى، وتؤمن كما يؤمن، وتحبّ الله كما يحبّ الله، ويتفضَّل الله عليها كما يتفضَّل الله على الرجل، ولها عند الله مقام عليّ كما له عنده مقام عليّ، وكلَّما اقْترب الإنسان من كتاب الله يشعر أنَّ المرأة صِنوُ الرَّجل، فالنِّساء شقائق الرِّجال، تؤمن وترقى بإيمانها، لذا كان عليه الصلاة والسلام إذا قَدِمت عليه فاطمة وقفَ لها! والمرأة يمكن أن تصل إلى أعلى الدرجات، وأن تصل إلى أقصى الغايات إذا عرفَتْ ربَّها وأطاعته، لذا الله تعالى قال: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ .
قال تعالى:
﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ(194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)﴾
هذه هي المساواة فالمرأة كالرَّجل في التكليف والتَّشريف والمسؤوليّة، ولكنَّها ليْسَت كالرجل في بنْيَتِها الفيزيولوجيَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيّة، وإن كلّ خصائصها كمالٌ فيها، وكلّ خصائص الرجل كمال فيه، والمرأة والرجل متكاملان، فقد جعل الله كلّ منهما سكَناً للآخر، وهذه حِكمة الله، أما إذا غيَّرنا خلْق الله عز وجل، ودفعنا المرأة إلى التَّشبّه بالرِّجال فإننا نكون بذلك قد شوَّهنا أُنوثَتَها، وهذا بحث آخر.
أيها الإخوة، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ﴾ هذا النور هو نور الطاعة ونور الهِداية، والإنسان أحيانًا قد يكون له عمل طيِّب فيشفع له، فلو كان لإنسان مثلاً ولد أثيرٌ عليه يُحِبُّه حُبًّا جمًّا، فوَقَعَ هذا الولد الصغير في نهْرٍ، وأشْرفَ على الغرق، فرأى موظَّف عند والد هذا الطِّفل ابن سيّده في النَّهر قد أشرف على الغرق، فألقى بِنَفْسِهِ وأنْقذَهُ، فلو كان لهذا الأب مكانة عليّة، وحُجَّاب وموظَّفون ومدير مكتب، هذا الذي أنقذ ابن سيده بإمكانه أن يقتحم على سيده اقتحاماً فإذا أتى يقول: قلْ له إن فلاناً بالباب، فما الذي جَعَلَهُ يدخُل من دون استِئذان؟ وبلا تسلسل وبلا ترتيب وبلا موعد سابق؟ إنه عملهُ الطَّيِّب، وهذا العمل الطيب كان نوراً له، هو الذي دفَعَهُ إلى سيّده، وهذا حال الإنسان في الدنيا مع الله، بإيمانه بالله واستِقامته على أمرهِ وعمله الطيب، فكأن الاستقامة والإيمان والعمل الصالح نور أمامه يهْديه السَّبيل، وكلّ إنسان تقرَّب إلى الله بِعَملٍ صالح كان هذا العمل نوراً يسوقهُ إلى الله تعالى، فلو كنت تمشي في ظلمات بعضها فوق بعض، وكان أمامك ضوء يتحرَّك، وكنت تمشي وراء هذا الضوء لكانت الأرض واضحة تماماً؛ فأنت تستضيء بهذا النور المتحرك، وكذلك الإيمان بالله، والاستقامة والعمل الصالح في الدنيا تكون نوراً للمؤمن يوم القيامة تسوقهُ إلى الجنَّة، وقد يقول لك الإنسان أحيانًا: أنا ناجح، أنا معي استثناء! أنا معي بطاقة! أنا معي بطاقة لمهمة، أنا معي بطاقة خضراء إذا كان السفر لبلد أجنبي، أو جواز سفر ديبلوماسي، فعنده ميزة، فمكانتهُ في بلدِهِ جَعَلَتْ له تسهيلاً حينما يُسافر، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ﴾ (أيْمانهم) : هي أعمالهم الصالحة، قال تعالى: ﴿بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ إلهنا وربنا عز وجل يقول: ﴿ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ هذا هو الفوز، لا أن يكثُر مالُكَ في الدنيا، ثم تُغادرها ولا تستطيع أن تأخذ منه شيئًا، قال تعالى:
﴿كم تركوا من جنَّاتٍ وعُيون(25) وزروعٍ ومقام كريم(26)﴾
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)﴾
﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)﴾
فالقضِيَّة هي أن تأتي إلى الدنيا وأن تؤمن بالله وتعمل صالحاً، فلعلّ هذا الإيمان وذاك العمل يكون نورًا لك يهديك إلى الله عز وجل وإلى جنَّة عرضها السماوات والأرض ﴿ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ أن تؤمن في الدنيا، فالدنيا الآن فيها ملاهٍ ومقاصف وفنادق، وفيها حفلات مختلطة، فيها فنادق خمس نجوم، وكل شيء فيها، كما أن فيها مساجد، فيها بيوت لله عز وجل، وفيها باطل وحق، وفيها دجل، وفيها حق، ففي الدنيا يوجد كلّ شيء، والمؤمن اختار رِضوان الله عز وجل وطاعته عمَّا سِواه.
حوار بين المؤمنين والمنافقين:
والآن ندخل في موضوع دقيق جدّاً، قال تعالى:
﴿ يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ(13)﴾
لو أن طالباً يدرس ليلاً نهاراً طيلة السَّنة الدراسية، فإنه سيَكتُب في الامتِحان بِطلاقة عجيبة، وبِراحةٍ نفْسيَّة مُدْهِشَة، وبِتَفاؤُلٍ شديد، وربما كان إلى جانبِهِ طالبٌ أمضى عامهُ الدِّراسي بالكسَل والتَّواني والانحرافات وما شاكلَ ذلك، فقال له: اِعْطني ورقتَك لأنقل منها الإجابة، فهذا لا يجوز لأنَّها خِيانة، فهؤلاء المؤمنون ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ﴾ هذا النور اكْتسبْناهُ في الدنيا، عندما كنا في الدنيا آمنَّا بالله تعالى، عندما كنا في الدنيا أطَعناه، عندما كنا في الدنيا طلبنا العِلم، عندما كنا في الدنيا تقرَّبنا إلى الله، عندما كنا في الدنيا كنَّا مع المؤمنين لا مع الكافرين، عندما كنا في الدنيا كنَّا مع الحق لا مع الباطل، عندما كنا في الدنيا آثرنا ما يبقى على ما يفنى، عندما كنا في الدنيا تركنا مباهج الدنيا وزينتها،﴿قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ﴾ قال أحدهم لِطَبيب: أنا أطلب منك فقط أن تعلمني كيف أكتُب الوصْفة الطِّبيَّة؟ فقال له الطبيب: هذه محصِّلة دراسة ثلاث وثلاثين سنة! أن تكتب وصفة طبية جيدة هذه ملخص الطب كله، فَمِن السَّذاجة أن يطلب إنسانٌ غارق في النعيم والشَّهوات والمباهج المنحطَّة من مؤمن أمْضى حياته كلَّها وأيامه كلها وأسابيعه وفصوله وسنواته في معرفة الله وطلب العلم، ومزاحمة المجالس بالركب، والعمل الصالح، أن يعطيه مِمَّا أعطاه الله تعالى.
قال تعالى: ﴿قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ﴾ الذي يلي المؤمنين ﴿فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ﴾ الجنة ﴿وَظَٰهِرُهُۥ﴾ الذي يلي الكافرين والمنافقين ﴿وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ﴾ ، فالله عز وجل أدخل المؤمنين الجنَّة، وأدخل الكافرين والمنافقين النار، وبين الجنَّة والنار سور، جانبه الذي يلي الكفار فيه العذاب والحرّ، ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ وجانبه الذي يلي المؤمن كما قال تعالى:
﴿ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12 (فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13)وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14)وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)﴾
هنا نعيم مقيم، وهناك نار لا تُطفَأ جذوتها، وعذاب لا يفتر، الآن جرى نِقاش دقيق جداً، فالصوت يتصل، قال تعالى:
﴿ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ (14)﴾
يقولون لهم: ألم نكن نسكن بِبلدٍ واحِدٍ، وبحي واحد وببِناء واحد؟ كما كُنَّا معكم في المسجد، نعم لقد كانوا معهم، لكنهم لم يكن لديهم استقامة، فهناك أناس في المسجد يستمتعون بِسَماع دروس العلم ويفتخرون بها! فيقول: أنا أذهب للجامع الفلاني، فهذه المعيّة الجِسميَّة لا قيمة لها، والعبرة بالمعية القلبية، والعبرة أن تكون على منهج الله، وأن يراك الله حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ لقد كنا في بلدة واحدة وحيٍّ واحد وبناء واحد ووظيفة واحدة وسلك واحد، ولكنَّ المؤمن في وادٍ، والمنافق في وادٍ، فالمؤمن يتحرىَّ الحلال وذاك يأكل الحرام، والمؤمن يعِفُّ عن محارم الله، وذاك واقع فيما حرّم الله، المؤمن يرجو رحمة الله وذاك يرجو عطاء أهل الدنيا، والمؤمن راضٍ بما قسمه الله له والمنافق ساخطٌ بما أعطاه الله، هناك بون شاسع، لكن الشكل واحد، والمكان واحد، والثياب واحدة، حتى الطقوس واحدة، فهناك إنسان عنده مسبَح مختلط، أقام فيه مولداً ودعا الناسَ والمنشدين ودعا بعض العلماء وألقوا فيه كلمات، وأرسلوا الزهور، ولكن.... قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ هذا صحيح ولكن هذا العمل الذي تعمله، وهذا الرزق الحرام الذي ترتزق منه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أنتم أحببتم الدنيا، أحببتم الشهوات المحرمة، أحببتم المال الحرام، أحببتم أهل الدنيا، أحببتم العصاة والكافرين، أحببتم زينة الدنيا، وأعرضتم عمّا عند الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا(27)﴾
قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ أي: تربصتم بالمؤمنين وانتظرتم أن تحلَّ بهم المحنُ، تمنَّيتم أن تدور عليهم الدوائر، توقعتم أن ينهاروا، قال تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمۡ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ أي: لقد كنتم معنا بأجسادكم، ولم تكونوا معنا بأرواحكم، كنتم معنا في مكان واحد ولكنكم في وادٍ ونحن في واد آخر، كنتم معنا في المصالح لا في المتاعب، كنتم معنا في المغانم لا في المغارم، كنتم معنا بما لا يكلِّفْكم شيئًا، أما حينما تصطدم مصالحكم مع أحكام الدِّين تتركون الدِّين، ومعظم الناس الآن إذا أيقن بِحاسَّته السادسة أنّ قضيَّته تُحَلّ عند المشايِخ بينما القانون ليس معه، يقول لك: أنا أريد الشَّرع! هذا أمر الله وأنا خاضِع له! وذلك لأن قضيته تُحَلّ بالشرع، أما إذا كانت قضيَّتهُ تُحلّ بالمحاكم يقول لك: أنا مع القانون، يميل لمصلحته، فمع الشرع يريد الشرع، ومع القانون يريد القانون، قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أحببتم الدنيا، جعلتموها قبلتكم، جعلتموها محط رحالكم، وغاية آمالكم.
﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ فالمنافق يكره المؤمن ويتمنَّى دماره، قال تعالى:
﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)﴾
وكثيراً ما يشمت به، تربصتم بنا الدوائر، ودائماً تتوقعون الدمار لنا، وأنتم ناجون، أنتم مع الأقوياء ﴿وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ﴾ ؛ أي: لم تعبؤوا بِوَعد الله ووعيده،
﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)﴾
لم تعقلوا هذه الآية.
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾
لم تفهموا هذه الآية، ﴿وَٱرۡتَبۡتُمۡ﴾ أي فتنتم أنفسكم بِحُبِّ الدنيا، وتربَّصتم المؤمنين أن يُصابوا وأن يُدمَّروا، وأن يفْقِدوا مكانتهم، مع أن الله مُوفِّقُهم، وارْتَبتم في وعد الله ووعيده، يقول لك: لا تدقق، قال تعالى: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ يعيش بأحلام منذ ثلاثين سنة، فما من إنسانٍ بعيد عن الحق إلا والدنيا معْقِدُ آماله، لقد حدَّثني شخص عن خِطَّته التي تحتاج عشرين سنة! بالتفصيل: يسافر ويرجع ويشتري محلاً... وفي اليوم نفسه توفَّاه الله! ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ فأخطر شيء في الحياة طول الأمل، فالإنسان أحياناً يتأمل وقد تكون أكفانه نُسِجَت وهو لا يدري.
﴿حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ﴾ الموت.
﴿وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾ الشيطان، الشيطان:
﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا(120)﴾
الشيطان يُلقي بينهم العداوة والبغضاء، الشيطان يُخوِّفهم، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(175)﴾
الشيطان يخوّف، الشيطان يَعِدُك الفقر إذا أنْفقْتَ مالك، يعدك الدَّمار إذا حضَرْتَ مجلس عِلم، فالله موجود، وهو الذي يَحميك، ويوفقك، وبيده كل شيء، يعدك الفقر إذا أنفقت من مالك، ويقول لك: الله عز وجل غفور رحيم، كلمة حق أُريد بها باطل ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ قال تعالى:
﴿ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ(14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)﴾
فهذا النِّقاش يجري بين المنافقين والمؤمنين، المؤمنون في الجنة يتنعمون، والمنافقون في النار يتصايحون، ومع ذلك يجري نقاش بينهم، طبعاً النقاش ليس بين الكفار والمؤمنين؛ لأن الكفار بعيدون عن المؤمنين، في واد آخر، لكن المنافق مع الكافرين في مشاعره، ومع المؤمنين في جسده، هو متواجد مع المؤمنين، لكنه متناقض معهم، أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾
لأنَّهم عرفوا وانْحرفوا، ولأنهم سَمِعوا وعَصَوا، ولأنهم أدْركوا فما استفادوا، ولأنهم خالطوا المؤمنين، واشْتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولأنهم أرادوا الدنيا من خلال الدين، أرادوا مصالحهم من خِلال تَدَيّنهم الظاهر، فهؤلاء هم المنافقون، قال تعالى: ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ*فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
أيها الإخوة الكرام، في الدرس القادم نبدأ بقوله تعالى:
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16)﴾
إلى متى أنتَ باللَّذَّاتِ مَشغُولُ وَأنتَ عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسؤُول
تَعصِي الإِلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا لَعَمْرِي في المَقـــــــالِ بَديـــــعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَـــــــنْ يُحِبُّ يُطِيــــــعُ
مرَّة أخرى أيها الإخوة عَودٌ على بدْء: إن تدبُّر القرآن فرضُ عَين على كل المسلمين، هذا كلام رب العالمين، وما من كتاب أجْدر أن تفهم معاني آياته، وأن تعقل حدوده، وأبعاده ومدلولاته كالقرآن الكريم، فهو كتابنا المقرر، وهو منهجنا، وهو تعليمات الصانع، وهو الصراط المستقيم، وهو حبل الله المتين، وهو الغِنى الذي لا فقر بعده، وهو الهدف الأنجح الذي ينبغي أن نسعى إليه.
الملف مدقق