الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأوَّل من سورة الحديد، قال تعالى:
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)﴾
معنى سبَّح؛ أيْ: مجَّدَ، ونزَّه، ويرى ابن عبَّاسٍ أنَّ سبَّح تعني: صلَّى.
في الكون حقيقة وحيدة؛ هي الله، فهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، أيها الإخوة كتاب الله عز وجل، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم، ما من شيءٍ يُقَرِّبنا إلى الله تعالى إلا وقد أُمِرنا به، وما من شيءٍ يُبْعِدُنا عنه إلا وقد نُهِينا عنه، الحقيقة الوحيدة في الكون هي الله، فَكلّ السعادة في القرب منه، وكل الشَّقاء في البعد عنه، وكلّ الخير معه، وكلّ الشرّ في مَعْصِيَتِهِ، وكلّ الفوز في طاعتهِ، وكلّ الهلاك في الخُروج عن أمره ، لذلك ورد في الحديث الشريف:
(( إنَّهُ ليس شيءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى الجنةِ إلَّا قد أَمَرْتُكُمْ بهِ، وليس شيءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى النارِ إِلَّا قد نَهَيْتُكُمْ عنهُ، إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ نَفَثَ في رَوْعِي: أنَّ نَفْسًا لا تَمُوتُ حتى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها، فَاتَّقُوا اللهَ وأَجْمِلوا في الطَلَبِ، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فإنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ ما عندَهُ إِلَّا بِطَاعَتِه. ))
[ أخرجه الحاكم والبيهقي في شعبه ]
فلو قال لك أحدهم: لعلك تظن أن القرآن الكريم فيه كل شيء، هناك مليون موضوع لم يُشِر إليه القرآن! فالجواب هنا: أنّ كلّ شيءٍ يُقَرِّب إلى الله ذُكِرَ في الكتاب والسنَّة، كما أن كلّ شيءٍ يُبْعِد عن الله نُهينا عنه، ومعنى ذلك أنَّ الذي سَكَتَ عنه القرآن لا علاقة له بالقرب من الله أو البعد عنه، فهناك موضوعات كثيرة سَكَت عنها القرآن، وهذه الموضوعات لا إنْ فعلتها تُؤجَر، ولا إنْ تركتها تأثم، لا علاقة لها بالقرب أو البعد عن الله عز وجل، فلذلك أيها الإخوة حينما قال الله عز وجل:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ۚ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍۢ لِّإِثْمٍۢ ۙ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)﴾
أنت أمام كتاب من عند الله، من عند خالق الكون، لم يترك قضيَّة -مهما بدت لك صغيرة- تزيدك قربًا منه إلا أُمِرت بها، كما أنه لم يترك قضيَّة تُبعِدُك عنه - مهما بَدَت صغيرة - إلا نهيت عنها، إنْ في كتاب الله، وإنْ في بيان كتاب الله وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فما دام الله عز وجل هو كلّ شيء، والقرب منه هو كل شيء، والبعْد عنه هو الهلاك الحقيقيّ، لذلك ينبغي أن تعرفَهُ، وكيف تعرفه؟ من خِلال خلقه، ومن خلال أفعاله، ومن خلال كلامه.
الخلق جميعاً يسبحون بحمد الله:
قال تعالى:
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾
﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ﴾ يعني وما من شيء ﴿إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ يقول بعض العلماء: إنَّ هذا التَّسبيح تسبيح دلالة، فالقِطعة المتقنَة لِسانُ حالها ينبئ أنَّ صانعها عليم، لسان حالها ينبئ أنَّ صاحبها على مستوى رفيع من الذَّوق، قالوا: هذا تسبيح دلالة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى أثبَتَ لِخَلقِهِ جميعًا تَسبيحَين؛ تسبيح الدلالة، وتسبيح القول، والدليل القطعي على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فهذا دليل على أنّ التسبيح تسبيح قول، فإذا كان كلّ خَلْق الله تعالى مِن جمادٍ وحيوان ونبات يُسَبِّح الله تسبيحَ قَوْل، فما أشدَّ خسارة الإنسان حينما يغْفَلُ عن الواحد الدَّيان، وحينما يكتشف أنَّه هو المخلوق الوحيد الأوَّل والمكرَّم، ومع ذلك هبَط بِغَفْلَتِهِ إلى أدْنى المخلوقات.
أيها الإخوة: إنّ الإنسان بِإمكانه أن يفوق الملائكة المقرَّبين، أما إن خانَ أمانتهُ، ونسيَ عهْدَهُ ونسي التكليف الذي جاء مِن أجْلِهِ، وإن غَفَل عن ربِّه، وأساء إلى خلْقِهِ، فإنه لا يهْبِطُ إلى أحْقر الحيوانات وحسب، بل يهبط إلى أسفل سافلين، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)﴾
أي: إنهم خَير ما برأ َالله على الإطلاق، أما الطرف الآخر فقد قال الله تعالى قال فيهم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
سورة البينة﴾
فرُكِّبَ المَلَكُ مِن عقْل بلا شَهوة، ورُكِّبَ الحيوان من شَهوة بلا عَقل، ورُكِّبَ الإنسان مِن كِلَيهما، فإن سما عقلُهُ على شَهوتِهِ أصْبح فوق الملائكة، وإن سَمَت شَهوته على عقله أصبَحَ دون الحيوان.
قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أولاً: سبّح تسبيحاً: نزَّه تنزيهًا ، وهنا: نزِّه الله عن كلّ ما لا يليق به؛ نزِّهه عن الظُّلم مثلاً، قال تعالى:
﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلً ا(77)﴾
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
﴿ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ ۚ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13)﴾
﴿ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(17)﴾
﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنۢبِهِۦ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)﴾
وإنك لا تستطيع أن تُثْبِتَ عدالة الله تعالى بعَقلِكَ المحدود، فذلك غير ممكن إلا في حالة واحدة وهي أن يكون لك عِلمٌ كَعِلْم الله، وهذا مستحيل! لكن يمكنك أن تعرف الله مِن خِلال الكون، كما يمكنك أن تعرفه من خلال كلامه، ومن خلال أفعاله، وقد أنبأكَ تعالى بقرآنه أنَّه لا يظلِمُ أحدًا، فقد قال تعالى:
﴿ وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ (47)﴾
وقال:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
الفتيل: خيط بين فلقتي النواة، ﴿وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا﴾
النقير: رأس مُؤنَّف في النواة، أحد رأسَي النواة مؤنّف، مدبَّب كالإبرة،
القطمير: غشاء رقيق يُغلِّف النواة، فلا تُظلَمون قدر قطمير ولا نقير، ولا فتيل، ولا حبّة من خردل، ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يقول الله تعالى في الحديث القدسي: عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
(( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ))
الفرق بين قدرة الله تعالى ورحمته:
قد يقول لك أحدهم: إن الله على كلّ شيءٍ قدير، ونحن في ملكِهِ، وله أن يضَعَ الطائِعَ في جهنَّم، وله أن يضَع العاصي في الجنَّة فهل نستطيع أن نراجعه؟ هل نستطيع أن نسأله؟ الجواب: لا، قال تعالى:
﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)﴾
و هذا من حيث قدرته، أما من حيث كماله، فأين قوله تعالى:
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
أين قوله تعالى: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ أين قوله تعالى: ﴿وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا﴾
﴿ يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16)﴾
فلا بدّ من التَّفريق بين قدرتِهِ تعالى وبين رحمته سبحانه، فهو على كل شيء قدير، فلو فرضْنا أنَّ أبًا لا يُنجِب ثم أنْجبَ غلامًا صغيراً كالوردة بعد حين طويلٍ، فمن حيث القدرة العضلية أليس بإمكان هذا الأب أن يذبح ولده، ولكن هل من الممكن أن يفْعل هذا؟ فرّق بين قدرته ورحمته، فرِّق بين طلاقة قدْرتهِ تعالى، وعظمة رحْمتِهِ،
﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)﴾
وقد روي أن أحدهم مرّ على امرأة تخبز في التنور وقد كان طفلها يجلس على طرف التنور، وكانت تضَعُ الرغيف في التنور وتُقبِّلُهُ في كلّ مرَّة، وهذا شأن الأمهات فقال: أَتُلقي هذه بِوَلدها إلى النار؟ قالوا: معاذ الله، فقال: للَّه أرحم بِعَبدِهِ من هذه بِوَلدها.
أيها الإخوة، موضوع الرحمة موضوع دقيق، فهذا الجسم يحتاج إلى الراحة، فقد تكون الأم مُتْعبةً تعبًا طويلاً ثمَّ تأوي إلى فراشها، فالجسم يحتاج للنوم، فإذا بكى وليدها، تعاكس حاجة جسمها وتستيقِظ، فهناك دافِعُ النوم، ودافع خِدمة هذا الطِّفل الصَّغير، فأيُّهما أقوى؟ الأقوى هو دافِعُ الرَّحمة، لذلك تغلَّب على دافِع النوم، وهذا يعني أنَّ الرحمة شيء إيجابي، والدليل أنَّ بعض الحيوانات في مرحلةٍ من مراحل تربيَة أولادها تُنْزَعُ منها الرحمة فتأكل أولادها، أليس كذلك؟ وهذا درسٌ لنا، فإن رأيْتَ أُمًّا تعطف على ابنها، إن رأيت أماً تجوع لِيَأكل ابنها، وتسْهر لِيَنام، وتمرض لِيَصِحّ، فهذه رحمة أوْدَعها الله في قلوب الأُمَّهات، وفي قلوب الآباء، فكيف رحمتُهُ تعالى بنا؟ لقد وردَ في الأحاديث الصحيحة أنَّ جزءاً من مائة جزءٍ من رحمة الله يتراحم بها الخلق؛ الإنسان والحيوان من آدم إلى يوم القيامة، كل الخلق من بني البشر ومن غير البشر يتراحمون بجزء من مائة جزء من رحمة الله عز وجل، والدليل قوله تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ : تنكير تقليل، وفي آية أخرى قال تعالى:
﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا(58)﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام هو أرْحَم الخلق بالخلْق على الإطلاق، الآن بالأرض خمسة آلاف مليون إنسان، فكم ألف مليون إنسان من آدم ليوم القيامة! إن أردت كلاماً دقيقاً فالنبي عليه الصلاة والسلام أرحم الخلق بالخلق، وهذه الرحمة جزءٌ لا يُذْكَر من رحمة الله تعالى، والدليل أنَّ الإنسان قد يكون له خَصْم فيقول لك: أتمنَّى أن أقطِّعه! ويقول هذا الكلام لأن هذا الخصم قد ناوأَه، تطاولَ عليه، أخذ بعض ماله، فتجد أن القلب يغلي بالحقد، أما النبي عليه الصلاة والسلام حينما ذَهَب إلى الطائف فردَّهُ أهلها وكذَّبوه، وأغْرَوا صِبيانهم بِضَرْبِهِ، وكان عليه الصلاة والسلام ضعيفاً لكن جاءهُ جبريل وقال له:
(( قالَتْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ قالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا. ))
فإذا كانت هذه رحمة النبي عليه الصلاة والسلام فكيف بِرَحمة الله عز وجل؟ فيا أيها الإخوة: يمكنني أن أقول لكم بِشَكلٍ دقيق: إن الإنسان حينما يُقصِّر مع الله، ويتقاعس عن تطبيق أمره ونَهْيِهِ، حينما لا يلتفِتُ إليه الالتِفات الكافي، فهذا نقص في معرفة الله، لذلك هناك عمل لا يعْلُو عليه عمل، وهو أن تعرف الله، فالله تعالى لا يُعْرَفُ بِحَواسِّك الخمس، ولكن يُعرَف بِعَقْلِكَ من خلال خلقه، لذا كان التَّفكُّر في خلق السماوات والأرض أعلى عِبادة على الإطلاق، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
لذلك كانت هناك دَعوة إلى معرفة الله تعالى، إن شئت مِن خِلال خَلقِهِ، و إن شئت مِن خلال أفعاله، وإن شئت من خلال كلامه، فلا بدّ من معرفَتِهِ كي تُطيعَهُ، فحجْم طاعتِكَ له تتناسب مع حجم معرفتِك إيَّاه، فإذا رأيْتَ الطاعة أقلّ مِمَّا ينبغي فمعنى ذلك أنَّ المعرفة أقلّ مِمَّا ينبغي، فكلَّما ارْتَقَت المعرفة ارْتَقَت معها الطاعة، والخَلقُ جميعًا بما فيهم الجمادات يُسبِّحون الله تعالى ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ كلمة السماوات والأرض مصطلح قرآني يقابل الكون، والكون: كلّ ما سِوى الله، الذات الكاملة واجبة الوجود، وما سِواه هو الخلق ممكن الوُجود، وما سوى الله الكون بالمصطلح القرآني؛ السماوات والأرض، ما معنى السماوات والأرض؟ كلمة، فإذا كتبت مثلاً كلمة: بَحر، ووضَعتها في جَيْبِك! هل يبْتلّ جَيْبُكَ؟ أبداً، أما البحر الحقيقي فهو أربعة أخماس اليابسة.
الشيء بالشيء يُذكَر؛ كُنتُ أُجري إحصاءً دقيقًا قبل يومين حول كلمة البحر، فقد وردَت هذه الكلمة في القرآن ثمانٍ وثلاثين مرَّة بالضبط، وردت بشكل عام في قوله تعالى:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)﴾
ووردَت بِشَكل تَسخير البحر للإنسان، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)﴾
وورَدَت في معرض تنوّع مِياه البحر، قال تعالى:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾
وردت في حِلِّ صيده:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)﴾
وردت في البحر المسجور:
﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ(6)﴾
فمن مِنكم يُصَدِّق أنَّ الماء مُؤلّف من عنصرين؛ أكسجين وهيدروجين، والهيدروجين من أشدّ العناصر اشْتِعالاً، والأكسجين مِن أشدِّ الغازات المُعينة على الاشْتِعال،
فإذا كان عندك إسطوانة أكسجين ماذا تفعل؟ تفري الحديد، والماء من الأكسجين والهيدروجين قال تعالى:
﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ فكل هذه المياه بأمرٍ من الله تصبح نارًا، وقد وردَت كلمة البحر في القرآن ثمانٍ وثلاثين مرَّة، كما وردت كلمة البرّ مع اليابسة ثلاث عشرة مرَّة، فَنِسبة عدد كلمات البرّ إلى كلمات البحر يُساوي تمامًا نسْبة اليابسة إلى البحر، هذا كلام الله، 13، و38، والنسب 29%، 71%، الخمس قارات 29%، والبحار 71%! فَنِسبة عدد كلمات البرّ إلى عدد كلمات البحر كنسْبة اليابسة إلى البحر تماماً، هذا من إحكام القرآن العددي.
فيا أيها الإخوة الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ هو يخبرنا أم يأمرنا؟ لو أنَّ أباً قال لابنه: إن ابن عمّك فلان يدرس ليل نهار! ولا يدع الكتاب لحظة، فما القصد من هذا الكلام؟ هل يريد الأب هنا أن يخبر ابنه بهذه الحقيقة أم أنه يدْعوه إلى الدِّراسة؟ فهناك خبرٌ يُراد به الإنشاء، كقوله تعالى:
﴿ وَٱلْوَٰلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُۥ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةٌۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦ ۚ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍۢ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍۢ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوٓاْ أَوْلَٰدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ ۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233)﴾
هو يُخبرنا أنَّ من شأن الأمّ أن ترضِع ابنها حولَين كاملَين، وبالمناسبة أيها الإخوة أنا أعطيكم أدق المعلومات، لقد أخبرني أخٌ كريم حضَر مِن بلاد الغرب - وهو طبيب ناجِحٌ جدًّا- أنَّ أحْدث بحثٍ في شأن حليب الأمّ يقول: إنَّ أسباب القصور العقلي هو حليب القوارير، وقد ذكر على ذلك أدِلَّة قوِيَّة جدًّا، والقرآن الكريم قال:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ فالشيء الذي لا يُصدَّق أنّ حليب الأم يتبدّل في الرَّضْعة الواحدة! فأربعة أخماس الحليب من الماء، وفي نهاية الرضعة يصبح الماء خُمس الحليب، من أول الرضعة إلى آخرها في تبدّل، وكميَّة المواد الدسمة والبروتينيّة والحموض الأمينية، والشحوم والدهون في حليب الأم يتناسب يوميًّا مع أجهزة هضم الوليد،
أما حليب القوارير؛ حليب البقر فهو مهيَّأ للراشدين، وهذا الحليب فيه أربعة أمثال طاقة الهضم عند الصغير، لذلك قالوا: إن بعض أمراض القلب، وبعض أمراض الأوْعيَة، وضَعف الذكاء، والقصور العقلي إنما يكون بِسَبب الرضاع الصناعي، والأم التي لا تُرْضِع ابنها من حليب ثدْيِها مجرِمَةٌ في حقِّه! إلا أن يُحاط بها، كما أنَّه أحد أسباب سرطان الثَّدي هو امتناع الأم عن إرضاع وليدها! فسرطان الثدي ينتشر أضعافاً مضاعفة في النساء اللواتي لا يرْضِعن أولادهنّ حِفاظًا على شَكْلِهِنّ.
أيها الإخوة، كلَّما تقدَّم العِلم اقْتربَ مِن حقائق الإسلام، وكلّ شركات الحليب بالعالم الآن مُلزمةٌ أن تكتب على عبوات الحليب "لا شيء يَعدِلُ حليب الأم".
نحن ننتقل من موضوع إلى موضوع ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ فهذا الكلام خبر، والكلام -كما تعلمون- خبر وإنشاء، إما أني أعلمكم (خبر) ، وإما أني أطلب منكم (إنشاء) فالأمر والنَّهي والتمني والترجي والحضّ والنِّداء إنشاء، والخبر خبر، فالكلام إما خبر أو إنشاء، والقرآن الكريم من إعجازه البلاغي أنَّه يأتي بالخبر ويريدُ به الإنشاء، قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: يا أيها الإنسان سبِّحْ، و﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ أي؛ يا أيَّتها الوالدات أرْضِعن أولادكنّ، ومن هذا الله قوله:
﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)﴾
أي؛ أيها الآباء والأمَّهات اِحْرصوا على أن يكون الطَّيِّبون للطَّيِّبات، وقوله تعالى:
﴿ فِيهِ ءَايَٰتٌۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ (97)﴾
أيْ؛ يا مَن تسلّمتُم أمْر بيتِ الله الحرام اِحْرصوا على أن يكون آمنًا، فهذا خبر أُرِيد بِه الإنشاء، الأمر، فالله سبحانه وتعالى يذكر لنا أنَّ المخلوقات كلّها تُسبِّحُهُ، فما علاقتنا بها؟ وما الحِكمة من أن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا أن المخلوقات كلها تسبحه؟ الحكمة أن الله يأمُرنا أن نسبحه بِأُسلوبٍ لطيف وترْبوِي، كمن يقول لابنه: يا بُني، ابنُ عمِّك يدرس، يقرأ ليلاً نهاراً، ولا يدع الكتاب من بيد يَدَيه، ونال الدرجة الأولى، ألا تغار؟ أي: اُدْرُس كما يدرس، قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم﴾
العزيز: إذا وصَفنا معدنًا أنَّه عزيز فمعنى ذلك أنه نادر الوُجود، فالحديد غير اليورانيوم، هناك فرق كبير، والبلاتين غير الذَّهب، فالعزيز هو الشيء الذي يندر وُجوده، والعزيز هو الشيء الذي تشْتدُّ الحاجة إليه، والعزيز هو الذي يصْعُب الوُصول إليه، فإذا كان الله عزيزًا؛ أي: هو واحد، لا ثاني له، ولا شريك، ولا مُشابه له، ولا نِدَّ له، ولا كُفُؤ له، وهو الذي يحتاجهُ كلّ شيء في كل شيء، والعزيز يستحيل أن تُحيط به، قال تعالى:
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾
فيقول أحدهم: لقد عرفوا نوع الجنين مثلاً، فمعنى ذلك أن الله تعالى شاء لهم أن يعرفوا، فالله تعالى يقول: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ﴾ فإذا تمكنوا من معرفة نوع الجنين فهذا من مشيئة الله، القضية سهلة جداً، أما حينما قال الله تعالى:
﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8)﴾
فهو لم يقل: (مَنْ)، ولكن قال: (ما)، فلو قال: (مَن) لكان المعنى: يعلم المولود؛ هل هو ذكر أم أنثى! ولكنه قال: ما، فالحُوَين المنوي عليه خمسة آلاف مليون معلومة مُبرمجة، فهل استطاع العلم أن يعرف هذه المعلومات؟ إن هذه المعلومات مُركَّزة في نُويَّة الحُوين المنوي، كما أنها مُركَّزة على نُويَّة البويْضة، وإن خمسة آلاف المليون معلومة هذه تسْهم في تشكيل الجنين، كل شيء في الجنين، ماذا عرفوا من هذا؟
ما عرفوا شيئاً، فالإنسان إذا قرأ مقالةً – ولعل أن يكون في بعض المقالات سبْق صحفي- كان عليه أن يفرِّق بِدِقَّة بالغة بين البحث العلمي، وبين المقالة العِلْميَّة، فقد قال العلماء: المقالة انْطِباع، فالإنسان فيها يتخيَّل ويتوقَّع، ويستشفّ، أما البحث العلمي فهو شيءٌ قَطعي، فدائماً الصحافة في العالم تبحث عن خبرٍ طريف، عن خبر جديد، عن خبر يشكّل صدمة من أجل أن يرتفع عدد المبيعات، فهذه صحافة فيها سبْقٌ صحفي لا سبْق عِلْمي، فلذلك ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم﴾ والواحد الأحد الفرْد الصَّمَد، فهو الذي يحتاجُهُ كلّ شيءٍ في كلّ شيء، والعزيز هو الذي يصْعُب أن تُحيط به،
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ .
لو وقفت نملة في سفح جبال همالايا، فهي بحجمها الصغير وبإدراكها المحدود الذي لا يزيد عن سنتمترات، هل بإمكان هذه النملة أن تُحيط بِوَزن هذا الجبل وبعُمقِهِ في الأرض، وِبحَجم كُتلته وبارتفاعه وبخصائصه، ونوع طبقاته؟ هذا مستحيل، فالإنسان إذا آمَنَ أنَّ قدراته محدودة عرف الله تعالى، وقد قال أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه كلمة رائِعة، وهي: (العَجْز عن الإدراك إدراك!) فإن وقفْت على ساحل البحر المتوسِّط وسألك سائلٌ، كم يحوي هذا البحر من لِتر؟ وأجبْتَهُ بِرَقم! لكان جهلاً، أما إن قلتَ: لا أدري، فهذا دليل العِلم، (العَجْز عن الإدراك إدراك!) فيجب عليك أن تؤمن أنَّ العقل هو أعظم شيءٍ خلقهُ الله، وأن الإنسان أعْقد مَخلوق على وجْه الأرض، وأعْقدُ ما فيه عَقْلُهُ، ومع ذلك فالعَقل له مهمَّة محدودة، فأنت لديك زوجة وولدان، تحتاج إلى مركبة، هل يجب أن تكون ألفَي حصان؟ لا، يكفي سبعة عشر حصاناً، أما أن تكون ألفَين فليس من الحكمة، فالله تعالى أعطاك عقلاً يؤدِّي مهمَّته على أتمّ وجه إن استعملته كما أراد الله، أما لو أردْتَ أن تعرف بهذا العقل ذات الله تعالى لهَلَكْتَ، لأنَّك تكون قد اسْتَعملتَهُ لِغَير ما صُنِعَ له، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( تفكَّروا في خَلْقِ اللهِ، ولا تفكَّروا في اللهِ فتَهلِكوا. ))
لأنَّ هذا شيءٌ فوق طاقتك، العقل مُصمَّم كي يعرف الله من خلال خلقه، أما إذا توجّه إلى ذاته فهذا مستحيل، وسأضربُ لكم بعض الأمثلة على ذلك؛ لو فرضنا أن هناك بقالية فيها عشرة آلاف صِنف، وأقلّ وزن فيها خمسون غراماً، ربع أوقية، وأعلى وزن خمسة كيلو غرامات، وكان لديك ميزان، فإن اسْتعملته بين الغرام والخمسة كيلو غرام أعطاك وزنًا دقيقًا ومُذْهلاً، بالغ الحساسية، كذلك العقل مصمم لهذه البقالية، أنا إن أردت أن تزن به سيارتك، ووضعته أرضاً، وسرت فوقه فانكسر، فلا تقل: هذا الميزان سيّئ، نقول لك: أنت السيِّئ لأنك استعملت الميزان لغير ما صُنع له، فأنت حينما تأخذ قضيَّة متعلِّقة بِذات الله وتحب أن تفْهمها بِعَقلِك، نقول لك: لا، فالشيء الذي يعْجزُ عقلك عنه أخبرك الله به، فهذا الميزان لا يقوى على وزن هذه المركبة، أما معمل تصنيع المركبة محترم جداً، أعطاك بطاقة معدنية على المركبة وكتب فيها: وزنها ألف ومئتان وثمانون كغ، انتهى، فالمعمل المحترم أخبرك بوزنها بدقة، بينما هذا الميزان يعجز عن وزن هذه المركبة، فأنت حينما تريد أن تزِنَ مركبتك بهذا الميزان دمّرت الميزان، ومُفادُ قولي أنه لا ينبغي أن تأخذ قضيَّة إخباريَّة وتُحكِّم عقْلك بها، فما أخبرَكَ الله به حكَمٌ على عقلك، وليس عقْلُكَ حكماً على ما أخبرك الله به، فالله تعالى قال أنه يعلم كل شيء، وأنت عليك التسليم، قال تعالى:
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾
فإذا قال لك: أنت مُخيَّر فهذا يعني أنَّك مُخيَّر، قال تعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾
فعَقلك دلَّك على الله، والله جلّ جلاله دلَّك على ذاته، انتهى الأمر، كأن عَقلك حِصان ركبته وتوجهت به إلى قصر الملك، فلما جئت باب القصْر دخلْتَ وحدك وتركتَ الحِصان على الباب، أما لو أدْخلْتَ الحصان معك لكان هذا من سوء الأدب، فلا ينبغي لك أن تُحكِّم عقْلك فيما أخبرك الله به، فالله أخبرنا مثلاً أنّ في الجنَّة حور عين، فإن سألت: من أين أتين؟ هذا لا علاقة لك به، الله تعالى أعطاك مرغّبات، والسؤال الذي يُطرح كثيراً: ألا يوجد للمرأة مثل ما للرجل من حور عين؟ الله عز وجل أخبرنا، وما سكَت عنه القرآن ينبغي أن نسْكت عنه، أما إذا توجهنا بعقولنا كي نعرف ذات الله عز وجل هلكنا، فليس من العقل أن تسْتخدم العقل فيما لم يُخلَق له، وكلَّما تأمَّلت في الكون زادك العقل معرفةً بالله، وفي هذا المجال: فكِّر ولا حرج! يقال: حدّث ولا حرج، هنا: فكِّر ولا حرج، فمهما بالغْتَ في التَّفكير فأنت على صواب، وأنت على صخر، وأنت على أرضية صُلبة، وهذا التفكير يرْقى بك، أما إذا توجهت بهذا العقل المحدود... فأنت مثلاً لديك مركبة مهمتها أن تنقلك من مكان إلى مكان، وأن تأخذك في الأسبوع مرة إلى بعض الأماكن الجميلة، أما إذا أردت أن تهدم بها بناء، وأن تستخدمها كآلة كبيرة تحطّمها ويبقى البناء صامداً، ولا تستفيد شيئاً، هذه المركبة للتنقلات لا لهدم الأبنية، أما التراكس فمهمته هدم الأبنية، فهذا شيء، وهذا شيء، وهذا موضوع دقيق جدًّا، وأنا أضرب أمثلة لأنها تغطي مشكلات يعاني منها المسلمون، فلما يستخدم الإنسان عقله ذا المهمة المحدودة للمطلق يقع بإشكال كبير، الله عز وجل مطلق، وأخبرك عن ذاته، فخذ هذه القاعدة: أي شيء عجزَ عقلك عن إدراكه الله أخبرك به، انتهى الأمر.
حكمة الله تعالى أعظم دليل على وجوده:
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ حكمة الله أحدُ أدلّة وجوده، وكمال وُجوده، وحكمة الله تعني: أنَّ الله تعالى يضَع الشيء المناسب في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، فهناك حكمة بالغة، وهذا دليل من أقوى الأدلّة على وُجود الله سبحانه وتعالى..
فمثلاً:
• لماذا تجد شَعراً في الأنف ولا تجد شَعراً في الفم؟ الذي وضع الشعر في الأنف يمكن أن يضعه في الفم، أليس في هذا حكمة بالغة؟ أحياناً الإنسان إذا وجد شعرة في الطعام يتعكر مزاجه، فكيف إذا كان فمه ممتلئاً شعراً!
• ولماذا خلق الله عَينين لا عيناً واحدة؟ من أجل البُعد الثالث.
• ولماذا خلق أُذُنين؟ من أجل أن تعرف جِهة الصَّوت.
• ولماذا لم يجعل للشَّعر أعصابًا حِسِيَّة؟ لو كان الأمر كذلك لاحتَجنا إلى عمليَّات جِراحِيَّة، وتخدير كامل عند حَلق الشَّعر!
• لماذا جعل عصباً حسياً بالغ الحساسية في العظم، في نقي العظام؟ لحكمة بالغة، فلو حدث كسر شدة الألم تجعلك تدع رجلك كما هي، وأربعة أخماس العلاج أن تبقيها على حالها، والألم هو الذي يضمن لك بقاءها على حالها.
• ولماذا جعل في الأسنان أعصاب حس؟ لو لم يكن في الأسنان أعصاب حِسّ لفَقَدَ الإنسان أسنانه في وقت مبكر، فينتخر السن دون أن تشعر بألم، فلا تعلم أنت، أما هذا الألم في الأسنان فهو عبارة عن أجهزة إنذار مُبكِّرة. لو سرت في هذا الطريق لوجدت حكمة الله في كل شيء.
• الأرض تدور، لو لم تكن تدور! ثلاثمائة وخمسون درجة في النهار، ومئتان وسبعون درجة في الليل، هذا فوق طاقة البشر، لو كانت تدور هكذا والشمس من هنا لا نستفيد شيئاً، لو أنها تدور على محور موازٍ لمستوي دورانها حول الشمس لم نستفد شيئاً، تدور بمحور، لو كان المحور عموديًا تماماً لمَا كان هناك فصول، إن كان المحور مائلاً فهناك فصول، لو تدور مائة دورة كل أربع وعشرين ساعة لأصبح النهار دقيقة، وهذا شيء لا يحتمل؛ شمس ظلام، شمس ظلام، لو كان النهار ساعة لا يُحتمل، فطول النهار مناسب، والليل مناسب، والدوران مناسب، والحر مناسب، والبرد مناسب، والهواء مناسب، فيمكن أن يكون دليل الحكمة أعظم الأدلة على الإطلاق على وجود الله.
• الماء؛ إذا برَّدْت الماء في الدرجة زائِد أربعة (+4) يزداد حجْمُهُ، ولولا هذه الظاهرة لمَا كنا في هذا المكان، ولانتهت الحياة! إذا كان الماء ينكمش عند التبريد وتزداد كثافته فيغوص في أعماق البحر لأصبحت البحار كلها متجمِّدة! ولانعدم التبخر، وانعدم المطر، وانعدم النبات، وانعدم الحيوان، مات الإنسان، هذه الحكمة!
فوِفق هذا المنهج في التفكير تستطيع أن تعرف الله، لو ذهب أحدهم إلى فيلندا أقل درجة حرارة سجِّلت هناك سبعون تحت الصِّفر! فالإنسان في هذا البرد الشديد يلبس القفازات، ويلبس ثياب واقِيَة، ويلف جسمه بالصوف، ويلبس جوارب صوفية سميكة، ويمكن له أن يُغطِّي كلّ شيءٍ في جسمه إلا العَين،
فلا يستطيع تغطيتها، فتبقى ملامسة للهواء الخارجي، والعين فيها ماء، والماء لا بد أن يتجمد، ومعنى ذلك أن كل إنسان سكن هناك يفقد بصره، لكن الله أوْدَعَ في ماء العَين مادَّة مُضادَّة للتَّجَمُّد
(مانع تجمد) ولو كنت في القطب يبقى ماء عينك سائلاً.
أيها الإخوة، مجال التفكّر في آيات الله لتَكشف حكمته مجال واسع جداً، وهذا المجال يضَعُك أمام عظمة الله وجهًا لِوَجه، وقد قال الله تعالى:
﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا(18)﴾
خَلق الإنسان دليل على قِدَم الله تعالى:
الإنسان له ورن، له وزن لهيكله العظمي ووزن لعضلاته، وهيكلهُ العظمي مع عضلاته يضْغطان على العضلات التي تحت الهيكل العظمي وهو نائِم، وهذه العضلات فيها أوْعِيَة، وهذه الأوْعِيَة تضيقُ لمْعتها فتقلّ التروِيَة، فيشعر بخُدْر في جسمه، فيتقلَّب في نومه فيختلف الوضع!
تتروّى هذه العضلات على حساب هذه العضلات ثم يقلب، قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ النائم يتقلب من 38 إلى 40 مرة، مرة لليمين ومرة للشمال حتى لا يقع، وإن كان مع الإنسان ثُبات فهناك فراش خاص له، فيه هواء ومحركات يقلّبه وإلا لتفتّح جسمه، فعلينا أن نفكِّر في خلق الإنسان الكامل، ومن باب الموازنة انظر إلى مركبة صُنعت عام 1912، وازِن بينها وبين سيارة صُنعت عام 1996، لا مجال للمقارنة بينهما، ماذا تستنبط؟ أنَّ خِبرة الإنسان حادِثَة، تنمو، أما الإنسان فهل طرأ على خلقه تعديل؟ هل هناك موديلات للإنسان، هذا موديل 1915، وذاك موديل 1996! ما طرأ أي تعديل، معنى ذلك أن خلق الإنسان كامل، وأن خبرة الله تعالى قديمة، وأنا لي اعتراض واحد على كلمة: الزائدة الدودية، صوابها: الذائِدة أي المدافِعة، خط دفاع، أما الزائدة غلط، ذائدة؛
ذادَ بمعنى دافَع، الذائدة الدودية وليست الزائدة الدودية، فالله تعالى لا يخلق شيئًا زائِداً أبداً، خلْقٌ كامل.
أيها الإخوة، كأن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بشَكل تربويٍّ لطيف أن نتعرَّف إليه كي:
نُنَزِّهَه المعنى الأول.
وكي نُمَجِّدَه المعنى الثاني.
وكي نتَّصِل به ونسعد به المعنى الثالث.
وقد قال ابن عباس: سبَّح؛ أي: صلَّى، نزّه، أو مجّد أو صلّى، لا تُنزِّه ولا تمجِّد ولا تصلي إلا إذا عرفت، والمعرفة لها منهج، قال تعالى:
﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)﴾
بالحواس خمس مستحيل، فأنت لا تعرف الله جلّ جلاله إلا بعقلك من خلال الكون، فلذلك صار التفكّر في خلق السماوات والأرض فرض عَينٍ لمعرفة الله تعالى، معرفته أصل الدين، فأنت تعرفُهُ فَتُطيعُهُ، وتُطيعُهُ فَتَسْعدُ بقُربِهِ، تعرفه فتطيعه تُطيعُهُ فتُوَفَّق، تُطيعُهُ فتنْجح، تُطيعُهُ فترْقى، تُطيعُهُ فتفوز، تُطيعُهُ فتكسبُ الدنيا والآخرة معًا، أما إن عصيته تخْسرهما معًا، لأن مَن آثرَ دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومَن آثر آخرته على دنياه ربحهما معًا.
أيها الإخوة الكرام، هذا القرآن الكريم مأدُبة الله، فإذا فَهِمت آيات الله، وتراكم هذا الفهْم شيئًا فشيئًا لم يمضِ حينٌ من الوقت إلا وأنت على منهج الله وأنت لا تشعر، لأنك تحب نفسك، وتحب سلامتها وسعادتها، وهذا مطْلبٌ لكلّ إنسان، فينبغي أن تعرف الله، وينبغي أن تطيعه من أجل أن تسعد أنت، الله غنيّ عن العالمين، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً:
﴿ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)﴾
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع الحديث عن قوله تعالى:
﴿ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(2)﴾
الملف مدقق