الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحقّ حقّاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة الحديد، ومع الآية السادسة عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ(16)﴾
أيها الإخوة الكرام، يُخاطِبُ ربنا سبحانه وتعالى عَقل الإنسان في كثير من الأحيان، كما أنه يُخاطِبُ قلبه أحياناً، ففي هذه الآية خِطابٌ لِقلبِهِ، فالله جلّ جلاله يُعاتِبُ هذا الإنسان المُقصِّر الذي لم يخْشَع قلبهُ لِذِكر الله، ولم يسْتجب لأمر الله تعالى، ولم يلْتزِم منهج الله عز وجل، فيا أيها الإنسان إلى متى أنت غافل؟ وإلى متى أنت ساهٍ؟ إلى متى أنت مُقصِّر؟ وإلى متى أنت مغلوب على أمرك؟
إلى متى أنتَ باللَّذَّاتِ مَشغُولُ وَأنتَ عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسؤُول
تَعصِي الإِلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا لَعَمْرِي في المَقـــــــالِ بَديــعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَـــــــنْ يُحِبُّ يُطِيـــعُ
إلى متى؟ إلى أين؟ وماذا بعد هذا التقصير؟ أين التوبة؟ ماذا بعد هذا الإهمال؟ قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ قال تعالى:
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
لو أن القرآن الكريم أُنزِل على جبل لخشع وتصدّع، فما بال هذا الإنسان يقرأ القرآن فلا يتأثّر! وما باله يقرؤُه فلا يقْشَعِرُّ جلدُه! ما باله يقرأ القرآن فلا يرتجف قلبه! ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37)﴾
إن مَن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة! ماذا ينتظر إذاً؟
أيها الإخوة، فلو أنَّك ذَهَبتَ في رِحلة لِعَشرة أيام، للاحظت نفْسَكَ تتَّجِه اتِّجاهاً آخر في اليوم السابع، فتبدأ بالبحث عن بِطاقات العَودة، وعن الهدايا وعن جمْع الحاجات، فالإنسان إذا دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ هناك من يقول لك: إنني أسمعُ خطباً ودروساً منذ عشر سنوات، وأنا ملتَزِمٌ بِمَسجد؛ وهذا شيء جميل، ولكنّ من يستمع إلى الدروس والخطب ويلتزم بمسجد يجب أن نرى ذلك في سُلوكه، وفي بيته، وفي عمله، وفي علاقاته، فقيمة الإنسان عند الله تكون باستِقامته وعَمله الصالح قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19)﴾
فأنا أظن أن هذه الآية لو قرأها مؤمن مُقَصِّر لانْهَمَرَت عَيناهُ بالدُّموع، ولوَجِلَ قلبهُ ولخشَع فؤاده، ولقال: يا رب لقد آن الأوان! فالإنسان أحيانًا يستمِع ويسْتمع ثمّ يتألَّق فجأةً، وهذا التَّألق هو المقصود، فإذا كنت مقيماً على المعاصي وتستبيح المُخالفات، ولا تؤدي الحقوق، وتقصر في الواجبات، فما دام هناك تقصير فهناك إذًا حِجاب خفيف، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ .
ومعنى ﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ: أن تسْتقيم على أمر الله تعالى، وأن ينقاد الإنسان لأوامر الله، والحقيقة أن هذا المِقياس مقياس دقيق، تكلَّم ما شئت، وتحدَّث عن نفسك ما شئت، وأعْطِ نفْسِكَ أيّ حجمٍ شئت، وفي النِّهاية: ما لم تلتزم بالأمر والنَّهي فلسْتَ بالحجم الذي تدَّعيه، ما لم تلتزم بالأمر والنَّهي فلست في الذي تقوله، لك أن تقول ما شئت، والله سبحانه وتعالى يضعك على المِحَك، فَخشوع القلب كما قال المفسّرون: هو انقياد الإنسان لِطاعة الله تعالى، فالخُشوع هو شُعور، ولكنّ هذا الشُّعور يُجَسَّد بانقياد النَّفس إلى طاعة الله تعالى، فالحركة الظاهرة دائمًا أساسها حال نفسي، فالحال الداخلي خُشوع لله، والحال الظاهري انْقِيادٌ لأمر الله تعالى، فإن لم يكُن لديك انْقِياد لأمر الله فالقلب ليس خاشعاً، ﴿أَلَمْ يَأْنِ) لمَ لمْ يخشع؟ لأنّ القلب لم يأخذ من الفِكر الأدلَّة على عظمة الله، فالإنسان إذا فكَّر بعَظمة الله يخشع قلبه فتنقاد جوارحه، وانْقِيادُ الجوارح يسْبِقُهُ خُشوع القلب، وخُشوع القلب يسْبِقهُ تفكّر في خلق السماوات والأرض، فلو الْتَقيْتَ بإنسان لا تعرف عنه شيئًا فإنك تُعاملُهُ معاملةً عاديّة، أما إذا بلغكَ أنَّه من أعلم علماء الأرض في اخْتِصاص معيَّن، أو أنه من أقوى الأقوياء وأغنى الأغنياء، ثم الْتَقيْتَ به ثانيَةً فإنَّك تحترمُهُ وتبجّله وتُوقِّرُهُ، وهذا يكون بِحَجم عِلمهِ أو قوَّته أو ماله، والفِكر إذا جال في ملكوت السماوات والأرض وعاد بِنَتيجة تُؤكِّد عظمة الله عز وجل عندئذ القلب يخْشع، فإذا خشَع القلب انْقادَت الجوارِح.
أيها الإخوة الكرام: هناك كلامٌ جامِعٌ مانِع موجَز يقول: إذا لم يحْمِلْك إيمانُك على طاعة الله تعالى فهذا الإيمان لا يُقدِّم ولا يؤخِّر، وإن شئت سمِّ هذا الإيمان بالإيمان الإبليسي، لأنَّ إبليس قال:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)﴾
فالإيمان الحقيقي هو الذي يَحْمِلُكَ على طاعة الله عز وجل، والله عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾
أنواع الخطاب الإلهي للإنسان:
1- خطاب العقل:
فالله تعالى أحياناً يُخاطب العَقل البشري، كما في قوله تعالى:
﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32)﴾
الله جل جلاله يخاطب العقل.
2- خطاب القلب:
أحيانًا يُخاطب القلب كقوله تعالى:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ﴾ .
3- خطاب القلب والعقل معاً:
وأحيانًا يُخاطب الله القلب والعقل معًا في آية واحدة، كما في قوله تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7 (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾
هذه الآية أيها الإخوة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾
﴿ألَمْ يَأْنِ﴾ أيْ: ألَمْ يَحِن؟ ألم يأتِ الوقت المناسب؟ وإلى متى أنت في غفْلة؟ وإلى متى أنت في تقصير؟ إلى متى أنت في هذه المخالفات؟
﴿ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ قالوا: هؤلاء آمنوا بِألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، أو آمنوا ولم يَحْمِلهم إيمانهم على طاعة الله، إيمانهم إذاً لا يكفي.
﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ: أن تسْتشْعِر عظمة الله عز وجل، فإن اسْتَشْعَرَت عظمة الله عز وجل انقادَت جوارحهم إلى طاعة الله.
﴿لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ ذِكْر الله مِن أوْسَعِ الكلمات، فأيُّ شيءٍ يُقرِّبُكَ من الله هو من الذِّكْرِ، فلو عُرِضَتْ عليك آية من آيات الله تعالى الدالة على عظمته، هذا من ذِكْر الله عز وجل، ولو عُرِضَ عليك حدثٌ هو مِن فِعْل الله تعالى، هذا مِن ذِكْر الله، ولو عُرِضَت عليك آية مفصَّلة تفصيلاً رائعاً فهذا من ذِكْر الله تعالى أيضاً، لو قرأت من سنَّة رسول الله هذا مِن ذِكر الله تعالى، فأيُّ شيءٍ يُذَكِّرُك بالله عز وجل هو من ذِكر الله.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ .
﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ أيْ: القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
إخواننا الكرام، إذا قرأ الإنسان القرآن ولم يخْشَع قلبُه فهذا مُؤشِّرٌ خطير! لأنَّ المؤمن إذا تُلِيَتْ عليه آيات الله ازْداد إيماناً، إذا تُلِيَتْ عليه آيات الله اقْشعرَّ جِلْدُهُ، إذا تُلِيَتْ عليه آيات الله وجِلَ قلبهُ، هذا من علامات الإيمان، فإذا تُلِيَتْ عليه آيات الله ولم يشْعُر بِشَيءٍ كان هذا دليلاً على صدأ قلبه، قال تعالى:
(( إِنَّ هذه القُلوبَ لتصدأ ُكما يصدأُ الحديدُ، قيل: فما جِلاؤُها يا رسولَ اللهِ؟ قال: تَلاوة ُكتابِ اللهِ وكثرةُ ذكرِهِ.))
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
غذاء العقل والقلب والجسم:
إن عقلك يحتاج إلى غِذاء وغذاؤه العِلم، وقلبكَ أيضاً يحتاج إلى غِذاءٍ وهو الذِّكر، فالعَقل غِذاؤُهُ العِلم، والقلب غِذاؤُهُ الذِّكْر، والجسم غِذاؤُهُ الطَّعام والشَّراب، فأنت بِحاجة ماسَّة إلى أغْذِيَةٍ ثلاث؛ إلى عِلمٍ يُغذِّي عَقلَكَ، وإلى ذِكْر يُغذِّي قلبكَ، وإلى طعامٍ يُغذِّي جِسمك.
القرآن الكريم أيها الإخوة، بِقَدْر استقامتك على أمر الله تعالى بقدر تأثرك بآيات الله، المؤمن يُنادَى من مكانٍ قريب لأنَّه قريب، أما العاصي والفاسق فيُنادَى من مكانٍ بعيد، المؤمن يَجِلُ قلبهُ ويقْشَعِرُّ جلدهُ، وتضْطربُ أعضاؤُه إذا ذَكَر الله عز وجل، أو قرأ آياته بينما المنافق لا يتأثَّر، قال تعالى:
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا ۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهْوَآءَهُمْ(16)﴾
يعرض الله تعالى علينا هنا مرضاً خطيراً مِن أمراض أهل الكتاب، وما عرضَ علينا هذا المرض إلا لأنّ المسلمين مُهيَّؤون أن يُصابوا بمِثل هذا المرض قال تعالى: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ما ذكر الله هذا المرض الخطير الذي أصاب أهل الكتاب إلا لأن المسلمين من الممكن أن يُصابوا بهذا المرض.
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ فإذا وقَعَ الإنسان في مخالفة يجب أن يتوب من قريب، يعني ما إن يقع في المخالفة حتى يتوب إلى الله منها، أما إذا أخَّر التوبة أمداً طويلاً، واسْتمرأ المعْصِيَة، واستمرأ المخالفة ورضِيَ بها وألِفَها، حتى أصْبحَت جزءاً من حياته نقول عنه: إنه طال عليه الأمد بهذه المعْصيَة، عندئذ يقسو القلب، والإنسان حسَّاس جدًّا، ما دام مُتلبِّساً بِمَعصيَة، ما دام مقيماً على معصية، ما دام مخالفاً لِشَرع، ما دام مقصِّراً في حقّ الله، هذا التقصير وتلك المخالفة وهذه المعصية تحْجُبه عن الله تعالى، قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ بهذه المعصية ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وإذا قسا القلب فسقَ الإنسان، وإذا خشَع القلب أطاع الإنسان ربّه، انظر إلى التوازن، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ إن خشَع القلب انْقادت الجوارح، وإن قسا القلب تفلَّتَتْ الجوارح، فالفِسْق أساسه قَسوة القلب، والطاعة أساسها خَشية القلب، وخَشْيَة القلب أساسها التَّفكّر في خلق السماوات والأرض، وأما قسْوَةُ القلب فأساسها أن يؤخر الإنسان التوبة فيستمر على معصية أمداً طويلاً فيقسو قلبه، لذلك إنّ أخطر ما يحيق بالمسلم أن يستمْرئ بعض المعاصي والمخالفات إلى أمدٍ طويل فيقْسُوَ قلبهُ، وتغْدو العبادات عنده طقوسًا لا معنى لها! فيُؤَدِّي الصلاة وهو غافل، يؤدي الزكاة وهو غافل، يحج إلى بيت الله الحرام وهو غافل، يتلفظ بالشهادة وهو غافل، هذه العبادات التي أرادها الله حالات خشوع وحالات قُرب وحالات تألّق، جعلها طُقوساً وأقوالاً وأفعالاً تُؤدَّى بِغَير معنى.
﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ فالذي يأْلَف أحياناً مسجداً أو دَعوةً ويكون عنده تقصير ومخالفات رغم انتمائه ورغم حضوره فينقلب إلى حالة متعبة جداً؛ حالة الملل والسَّأَم والضجر، لأنه ألِف كل شيء فلا تجد في صلاته روحانيَّة، ولا في عباداته لأنَّه اسْتَمرأ الغفلة، وطال عليه الأمد فقسا قلبه، والله عز وجل خاطَب النبي عليه الصلاة والسلام وقال:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
إخواننا الكرام، هناك حقيقة مهمة جداً، هذا القلب البشري؛ هناك قلب الجسم معروف هذه المضخة الصنوبرية، ولكن القلب له معنى آخر: قلب النفس أي مركز النفس:
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179)﴾
فالقلب الذي هو مركز النَّفس إما أن يكون موصولاً أو أن يكون مقطوعاً، فإذا كان موصولاً كانت هناك رحمة، أما إذا كان مقطوعًا كانت القَسْوَة، وأنت بين رَجُلَين؛ فإما أن تنْطَوِيَ على قلبٍ موصول بالله تعالى ومفعمٍ بالرَّحمة، أو أن تنْطَوِي على قلبٍ مقطوع عن الله تعالى موصومٍ بالقسْوة، فالقلب الذي فيه الرحمة كل الخير الذي يخرجُ من هذا الإنسان بِسَبب قلبه المفعم بالرحمة، وكلّ الشرور والآثام التي تصدر عن هذا القلب بِسَبب القَسْوة التي فيه، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ ومعنى ذلك أنَّ الإنسان حينما يتَّصِل بالله يمتلئ قلبهُ رحمةً ويُلْهمُ الحِكمة والرَّحمة واللُّطْف والأدَب والخَشْيَة والإنصاف، ويلتفّ الناس حوله، فإذا ابْتعَد عن الله عز وجل وقسا قلبُهُ ينفضُّ الناس من حوله، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ﴾ استقرّت في قلبك لما ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ ، لنت لهم لما في قلبك من الرحمة ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ لانفضّ الناس من حولك ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يقريباً لو كان للإيمان مؤشّر، وللرحمة مؤشر، فمؤشر الإيمان ومؤشر الرحمة يتحركان معاً، ولو كان للقسوة مؤشر، وللبعد عن الله مؤشر، فهذان المؤشران يتحركان معاً.
إذاً المسلم مُعرَّض لِمَرضٍ خطير أصاب أهل الكتاب، وهو أن تغْدو العبادات طُقوساً، ويغْدو الكتاب المنزّل كلاماً أجْوفَ من المضمون، يقرؤُهُ الإنسان فلا يتأثَّر، يعبد الله فلا يتأثَّر، فقد قسا قلبهُ واستمرأ المعصية والمخالفة فطال عليه الأمد فقسا قلبه وفسقت جوارحه ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ .
يحيي الأرض بعد موتها:
أيها الإخوة الكرام: لئلا يقع الإنسان في اليأس، لئلا يسْتغلّ الشيطان هذه الحالة المَرَضِيَّة التي تُصيبُ المؤمن أحيانًا، حالة أنهم ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ لئلا يغدو الإنسان كذلك يقول الله جلَّ جلاله:
﴿ ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ(17)﴾
فكما أن هذه الأرض الجرداء القاحلة فيها أشجار كأنَّها خشب، فتأتي أمطار السماء فتهْتزّ هذه الأرض، وتنمو بالعُشب الأخضر، وتنمو بالأزهار والرَّياحين، وتزهر هذه الشجرة ثم تورق ثم تُثْمر، أين كان الثمر واين كان الزهر وأين كان الورق؟ أين هذا اللون الأخضر؟ أين كان مخبوءاً؟ فهذا المطر الذي نزل على هذه الأرض جعل الأرض تنبت العشب الأخضر فـ:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)﴾
فالله عز وجل طرَحَ آيةً من آياته الكَوْنيَّة لِتَكون هذه الآية مِعْوانًا للإنسان على الانصِراف إلى طاعة الله عز وجل، فالإنسان وإن قسا قلبهُ وطال عليه الأمد فلِمُجَرَّد أن يتوب الإنسان إلى الله عز وجل يعود قلبُهُ حيّاً متألِّقاً ومُفعماً بالحب والرَّحمة.
قال تعالى: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ قال بعض المفسِّرين: هذه الآية فيها تهديد، وبعضهم قال: بل فيها تَشْجيع! التهديد: بمعنى أنَّ الإنسان بعد أن يموت سوف يُعاد خلقه من جديد، وسوف يقِفُ بين يدي الله عز وجل لِيُحاسبَ على أعماله كلِّها.
أجر المصّدقين والمصّدقات:
ثمَّ يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ ٱلۡمُصَّدِّقِينَ وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقۡرَضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنًا يُضَٰعَفُ لَهُمۡ وَلَهُمۡ أَجۡرٌ كَرِيمٌ (18)﴾
﴿ٱلۡمُصَّدِّقِينَ﴾ أيْ: المتصدِّقين، ﴿وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ﴾ أيْ: المُتَصَدِّقات، والصَّدقة كما قال عليه الصلاة والسلام برهان،
فأنت حينما تتصدَّق تُعطي برهانًا على إيمانك؛ لأنَّ الصدقة بذْل، هناك أوامر كثيرة تتوافق مع رغبة الإنسان، أما حينما تتصدَّق فهذا يدلّ على محبَّتِك لله، وعلى أنّ المال لا قيمة له في نظَرِك في جنب طاعة الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُصَّدِّقِينَ وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ﴾ ولكنّ الله سبحانه وتعالى يقول إنَّك بهذا العمل لا تُقدِّم عملاً تجاه إنسان، بل إنَّك في حقيقة الأمر تقْرض الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُصَّدِّقِينَ وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقۡرَضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنًا﴾ بهذه الصدقة، فبالتوحيد الإنسان دائماً حينما يتصدق يجب أن يعلم أنه يُقرِضُ الله قرضاً حسناً، فهو يقرض الغني الحميد، يقرض خالق الكون، يقرض مَن بيَدِهِ ملكوت كلّ شيء، لذلك يجب على المؤمن ألا يعْبأ إطلاقاً بِرُدود الفِعل إذا تصدَّق، فهناك مَن يتصدَّق فلا يجِدُ في الذي تصدَّق عليه اسْتِجابة حسنة أو شكراً، فيقول حينها: لن أفعل الخير أبداً! و هذا من ضَعف توحيدِه، ومن ضَعف إخلاصه، أما لو كان التَّوحيد والإخلاص كما ينبغي لا تعبأ بِرُدود الفِعل، لأنك حينما تتصدَّق إنَّما تقرضُ الله قرضاً حسناً، فهؤلاء كما قال تعالى: ﴿يُضَٰعَفُ لَهُمۡ وَلَهُمۡ أَجۡرٌ كَرِيمٌ﴾ يضاعف لهم هذا الأجر، وتلك الصدقة ﴿وَلَهُمۡ أَجۡرٌ كَرِيمٌ﴾ نقي من كل شائبة عند الله إلى أبد الآبدين، فالإنسان أحياناً يضع اللقمة في فم زوجته فتعد له صدقة، الإنسان أحياناً ينفق لقمة في سبيل الله يراها يوم القيامة كجبل أحد.
﴿إِنَّ ٱلۡمُصَّدِّقِينَ وَٱلۡمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقۡرَضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنًا يُضَٰعَفُ لَهُمۡ وَلَهُمۡ أَجۡرٌ كَرِيمٌ﴾ والأجر الكريم: هو الأجر النقيّ من كلّ شائبة، فيُضاعف لهم أضعافًا كثيرة، هؤلاء الذين يتصدقون بأموالهم في سبيل الله، يقدمون برهاناً ناصعاً على أنهم يحبون الله عز وجل.
قال تعالى:
﴿ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ(19)﴾
وهذه مرتبة تلي مرتبة الأنبياء، فهناك الرُّسل، وهناك سيّد الرُّسل وهو نبيُّنا عليه الصلاة والسلام، ويأتي بعد الرسل الأنبياء، ويأتي بعد الأنبياء الصدِّيقون، هؤلاء الذين يخلفون الأنبياء في تبليغ الناس الدَّعوة إلى الله، فهؤلاء على منهج الأنبياء وعلى سنن الأنبياء، هؤلاء يقتفون أثَر الأنبياء، ولا يحيدون عن منهج الحق، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويُبلِّغون رسالات الله، ويخشونه ولا يخْشَون أحدًا إلا الله، ويشهدون أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى:
﴿ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمًۢا بِٱلْقِسْطِ ۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(18)﴾
فالصِّديقون ينوبون عن الأنبياء في تبليغ رِسالات الله تعالى، فهم على سُننِهم، ويقتفون أثرهم، ولا يخافون في الله لومة لائم، يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحدًا إلا الله، هؤلاء الصدّيقون مخلصون لله، مُوحِّدون، وقّافون عند كتاب الله، لا يتقاضَوْن أجراً على دعوتهم، قال تعالى:
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)﴾
وهؤلاء الصِّديقون ابتلاهم الله عز وجل فصَبروا، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)﴾
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(24)﴾
فالصّبر والاتِّباع، والخوف من الله، وألا يأخذه في الله لومة لائم هذه صفات الصديقين، قال تعالى فيهم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ .
أما الشُّهداء فهم الذين ضَحَّوْا بأنفسهم في سبيل الله، والصدِّيقون أعلى درجة من الشُّهداء، فمرتبة الصدِّيقيَّة تلي مرتبة الأنبياء، فالسيّدة مريم كانت صِدِّيقة فقد قال تعالى عنها:
﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(75)﴾
وسيدنا الصديق وصل إلى مرتبة الصديقية، فلا يوجد رجل أفضل منه بعد الأنبياء والرسل.
وقال:
(( سُدُّوا عني كلَّ خَوخَةٍ ، في هذا المسجدِ ، غيرَ خَوخَةِ أبي بكرٍ ))
(( لو وُزِن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم. ))
[ البيهقي في شعبه عن عمر رضي الله عنه ]
ولو قرأتُم سيرة أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه لوَجَدتم العَجَب العُجاب، ولوجدتم الإخلاص والحبّ، فلا أعتقد أنه يوجد إنسان على وجه الأرض أحبَّ إنسانًا كَما أحبّ الصديق رسول الله عليه الصلاة والسلام ! وليس هناك إنسان بذَل كلّ ما يمْلِك من أجل إنسانٍ كما بذلَ الصدِّيق لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقد بذل كل ماله في سبيل الله، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم مكافأته لله تعالى فقال:
(( ما لأحدٍ عندَنا يدٌ إلَّا وقد كافَيناهُ ما خَلا أبا بكرٍ فإنَّ لَهُ عندَنا يدًا يُكافيهِ اللَّهُ بها يومَ القيامةِ ، وما نفعَني مالُ أحدٍ قطُّ ما نفعَني مالُ أبي بكرٍ، ولَو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ صاحبَكُم خليلُ اللَّهِ. ))
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ فالأجر في الدنيا والآخرة، والنور: الحقيقة أن الإنسان حينما يُطيع الله عز وجل ويقبل عليه يُلقي الله تعالى في قلبه نوراً، فما سرّ أن المؤمن قراره حكيم، وتصرُّفه سليم، وكلامه مُحْكَم، تصرفاته متقنة، وذلك لأنَّ الله عز وجل نوَّر قلبه، مثلاً إذا ركب إنسان مركبة في ظلام دامس، والطريق كله انعطافات وفيه حفر وأَكَمات وصخور، ومفاجآت، فإذا كان في هذه المركبة نور كشّاف شديد، فهذا النور يكشف لك خبايا الطريق، وقائد هذه المركبة انطلاقاً من حبه للسلامة يحيد عن الحفرة، ويتفادى الأكَمَة، ويصل إلى هدفه بسلام، فالنور الشديد هو الذي يقي الوقوع في الزّلَل، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ وقد جاء في آية أخرى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ يَوْمَ لَا يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (8)﴾
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ﴾ كذبوا وأعرضوا، بينما الذين آمنوا صدقوا وأقبلوا، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ جحيم في الدنيا، وجحيم في الآخرة، جحيم نفسي وجحيم جسدي.
ثمّ يقول الله عز وجل: لعلّ هذه الدنيا هي التي تصْرفكم عن طاعة الله تعالى، قال تعالى:
﴿ ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٌۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ(20)﴾
هذه الآية من أجمع الآيات في تعريف الإنسان لحقيقة الدنيا، إنها لَعِب، واللعب عمل لا طائل منه، ولا جدوى منه، اللعب عبث، فلو لعب الإنسان النَّرْد في إحدى السهرات حتَّى الساعة الثانية فجراً ماذا اكْتسب؟ لا شيء، أما لو قرأ كتابًا لاستفاد من معلوماته، ولو حدَّث أخاه لأقْنعَهُ بِبَعض الحقائق، ولو آوى إلى فراشِه لاسْتراح جِسمُهُ، أما حينما يلعب لعباً لا طائل منه؛ ماذا يستفيد؟ اللَّعِب هو السُّلوك غير الهادف، سلوك لا طائل منه، لا جدوى منه، سلوك عابث، لعب، فالدُّنيا كما قال تعالى لَعِب، لأنه مهما وصَلتَ إلى مراتبها العلِيَّة يأتي الموت فيأخذ منك كلّ شيء! فالذي تُحصِّلُهُ في عمر مديد تخْسرُه في ثانية واحدة! إذاً هي لعب، وهذه القِصص أمامكم؛ فالإنسان الذي أشاد بيتاً كما يريد، هذا البيت مؤقت.
(( عِشْ ما شئْتَ فإنَّك ميِّت، وأحْبِب من شئت فإنَّك مُفارِقُه، واعْمل ما شئتَ فإنَّك مَجْزِيٌّ به ))
فالله تعالى يقول: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ﴾ أما اللَّهو فهو أخْطر، واللَّهْوُ: أن تلْهُوَ بالخسيس عن النَّفيس، إنسان ليس لديه امتحان قرأ قصَّة سخيفة؛ المعاني فيها مكررة، المواقف دنيئة، هبوط في التعبير، هبوط في المواقف، هذه القصة إذا قرأها لما يستفد منها شيئًا؛ فهي ما قدّمَتْ له حقيقة ولا موقف، فإذا لم يكن عند الإنسان امتحاناً فقراءة هذه القصة يعتبر لعباً، أما إذا كان عنده امتِحان مصيري يُعلِّق عليه آمالاً عريضة، يعلق عليه آمال النجاح والتعيين والزواج وشراء المنزل، فإذا التهى بهذه القصة السخيفة الدنيئة عن الكتاب المقرر فهذا لا يعتبر لعباً، هذا لهو، وهو أخطر! ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ﴾ فالإنسان في مهمة، ويحمل رسالة، ويحمل أمانة، لأن الله سبحانه وتعالى أرسل الإنسان إلى الدنيا لِيَتَعرَّف إليه، وليعْبُدَهُ، فإذا انْشَغَل بشيء آخر فقد لَهَا.
قال تعالى: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ وَزِينَةٌ﴾ زينة ظاهرة، الإنسان لو أراد أساسيات الحياة لمَا كان في الأرض فقير، لكن الإنسان يسعى لا إلى الأساسيات، يسعى للزِّينة، يسعى للرّفاه، للأثاث الفاخر، للمركبة الفاخرة، للمزرعة الجميلة، يسعى إلى متاع، يسعى إلى تفاخر، لذلك قال تعالى ﴿زِينَةٌ وَتَفَاخُرُۢ﴾ أوصاف جامعة مانعة، ﴿لَعِبٌ وَلَهۡوٌ وَزِينَةٌ﴾ .
لقد ورد في آية أخرى، قوله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَو ْنَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾
فكلّ شيء مُزيَّن، كل شيء مزخرف، كل شيء مُهيّأ لمتعة العين ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾ يعني الحدائق والطرقات والصالات الفخمة، والفنادق الفخمة، والبيوت الرائعة، البلاط والطلاء والتزيينات، ﴿وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ يعني رافقَ هذه الزِّينة وهذا الزُّخرف شُعور يقول: إنَّ الإنسان سيّد الموقف وسيّد العصر، بعلمه وبخبرته جعل هذه الحياة مُزيَّنة ومزخرفة، فالإنسان البعيد عن الله يفتخر ويقول لك: معي هاتف خلوي! وعنده أجهزة كهربائيَّة، وعنده أجهزة اتصال، وأشياء تعطيه متع الحياة الدنيا، فهناك شعور بالتفوق والسَّيطرة والتمكّن يرافق هذه الزِّينة وهذا الزخرف، ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ هناك مفاجآت، فإنجلترا هي أكبر دولة في العالم لِتَصدير البقر، وقد ظنَّ أهلها أنَّهم قادرون عليه، ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ فجاءهم جنون البقر،فاضْطرُّوا إلى أن يُتلفوا أو أن يُعْدِموا أحد عشر مليون رأس قيمتها ثلاثة وثلاثون مليون جُنَيه إسترليني! لقد قُهِروا! ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ كلمَّا ظنَّ الإنسان أنَّ الجِنس شيءٌ طبيعي جداً، وأن على كلّ إنسان أن يُمارسَهُ! ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ جاءه الإيدْز، فلما انحرف الإنسان وشَعَر أنّه قويّ ومتمكِّن، وأن العلم وكلّ شيءٍ بيَدِهِ ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ ، وهذا الأمر مستمرّ؛ فكلَّما ادَّعى الإنسان أنَّه قويّ، وأنه ذكي، والأمر بيده، وله سيْطرة على الطبيعة جاءه الأمر، فبعضهم يعرفون الحضارة الغربيَّة بأنها سَيْطرة على الطبيعة! فسيطروا عليها، وغاب عنهم أنَّ الله لهم بالمرصاد.
﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ والأمراض الوبيلة التي تفتك بالبشريَّة المنحرفة لا تُعدّ ولا تُحصى! وكلّ تغيير في خلق الله تُرافقهُ مصائب لا تعدّ ولا تُحصى.
قال تعالى: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ هناك حالة من حالات أهل أن يتجاوز الإنسان مصروفه، يتجاوز أن يسعى لكسب رزقه، عنده أموال لا تأكلها النيران، يتنافس مع أقرانه بجمع المال، ويقول: أنا جمّعت كذا، أنا حجمي المالي كذا، أنا رصيدي كذا وكذا، ﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ وقد يتباهى الإنسان بأولاده ولو لم يكونوا مستقيمين! وإنما يعنيه من أولاده أن يكونوا متألِّقين في الدنيا، فلا يعنيه استقامتهم ولا دينهم بقدر ما يعنيه شهاداتهم ومكانتهم ونجاحهم في تجارتهم، ولو أن الأساليب غير مشروعة، ولو أن الثمن باهظ جداً، فهذا وصفٌ جامعٌ مانِعٌ للدنيا، قال تعالى:
﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ﴾ عمل عابث لا طائل منه ولا جدوى منه غير هادف، ليس له أي مضاعفات في المستقبل، كلعب النرد مثلاً.
﴿وَلَهۡوٌ﴾ اللهو أن تشتغل بالخسيس عن النفيس، لك مهمة كبيرة، فنسيت المهمة واشتغلت بأشياء فانية لا تقدم ولا تؤخر
﴿وَزِينَةٌ﴾ الذي أهلك الناس حب الظهور، تزيين البيوت تزيين المركبات، الزينة كل شيء، والآخرة خارج حساباته، ما أدخل الآخرة في حساباته فلا بد من زينة للحياة الدنيا.
﴿وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ييبس
﴿فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًاۖ﴾ نبتة، إذا ألقيت البذرة في الأرض، نمت هذه النبتة فتألقت ثم يبست اصفرت فأصبحت حطام، والإنسان مثل النبتة ﴿وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٌۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾
أيها الإخوة هذا المثل الذي ضربه الله في القرآن الكريم: ﴿كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًاۖ﴾ دقق؛ إن الإنسان يولَدٌ فيَفْرحُ أهلهُ ويُعْلِنون عن هذا الفرح ويدْعون الأصدقاء، وتقدَّم الهدايا، ويُعتنَى بهذا الطِّفل إلى أن يكْبُر، فيدخل المدرسة ويدرس المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، يكبر وبعدها يتزوّج، ثم تأتي مرحلة الدراسة، مرحلة الزواج، مرحلة العمل، ومرحلة شراء البيت، مرحلة إنجاب الأولاد، مرحلة العناية بالأولاد، مرحلة تزويج الأولاد، مراحل:
﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ(19)﴾
وفي آخر مرحلة توضَع نعْوتُهُ في الطرقات، كلنا على هذا الطريق سائرون، وبعد مائة علم لن ترى أحداً من هؤلاء الذين في هذا المسجد، وقبل مائة عام لم يكن منا أحد على قيد الحياة، فهذه الدنيا مرحلة عابرة، وهنيئاً لِمَن طال عمره وحسُن عمله، فالمثل: نبتة ألقيت البذرة في الأرض، ظهرت براعمها ففرحنا بها، كبرت وأزهرت وأورقت وأثمرت، فقطفناها واقتلعناها يبست دُمِّرت وانتهى الأمر، وكذلك الإنسان يولَد فيكبر، يتزوج، ينجب، يزوّج، يعالج نفسه من بعض الأمراض، ثم يموت، وهكذا...
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ(30)﴾
فهذه الدنيا زائلة، وكلّ مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت، عابرة، سحابة صيف عما قليل تنقشع، قال تعالى: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ﴾ الكفار هنا الزراع؛ لأن الزارع يضع البذرة في الأرض فيغطيها، والكَفر: هو الغطاء.
﴿أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ويهيج؛ أي: ييْبَس.
(فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٌۚ﴾ ، قال عليه السلام:
(( فوالذي نفس محمّد بيَدِه ما بعد الدنيا من دار إلا الجنَّة أو النار! ))
[ البيهقي في شعبه بسند ضعيف فيه انقطاع ]
فهؤلاء الخلق جميعًا مصيرهم إما إلى جنَّة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها، قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٌۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ المتاع: المتعة لذة طارئة عابرة، أما السعادة متنامية باقية، الآخرة فيها سعادة، أما الدنيا فيها متاع، والدنيا فيها متاع الغرور؛ فالإنسان في البدايات يرى الدنيا بحجم فوق حجمها الحقيقي، فيرى العمل شيئاً كبيراً، والمرأة شيئاً كبيراً أمامه، الزواج، البيت...إلخ، كلَّما تقدّم به العمر صغرت هذه الدنيا في عَينَيه، لذلك هناك شخص وصف صاحب له فقال: كان لي صديق من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظّمه في عيني صِغر الدنيا في عينيه، كلما كبرت عند الله تصغر الدنيا في عينيك، وكلَّما صغُرت عند الله تكبر الدنيا في عَينَيك، فالدنيا زائلة، كما قيل: طلاَّبها كلابها، وهي دار من لا دار له، ولها يسعى مَن لا عقل له! وهي عارية مُستردَّة، ومؤقتة، أمدها قصير، وشأنها حقير، ما أرادها الله عقاباً لأعدائِهِ، ولا مكافأةً لأوليائِه، فلينظر ناظر بِعَقْلِهِ إن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا؟ سيّد الخلق وحبيب الحق، سيد ولد آدم قاطبة، وسيّد الأنبياء والمرسلين، كيف كانت دنياه؟ كان إذا صلَّى الليل لا تتسع غرفته لصلاته ونوم زوجته، بيته صغير، كل هذا الرفاه الذي نعيش به ما عرفه النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان شيئاً مهماً لأعطاه لسيد الخلق، لكن قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم:
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
هذا حديث رسول الله، قال تعالى: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ﴾ لو شخص تناول طعاماً ما أثناء البلع يشعر بطعم هذا الطعام، ولكن بعد حين مهما كان نوع هذا الطعام انتهى، فهي لذة عابرة، وشيكة الزوال، هذه الدنيا متاع، أما الغرور فهي تبدو للجاهل بِحَجم كبير، لذلك من أجلها قد يبيع دينه بِعَرَضٍ من الدنيا قليل، فنحن يهمنا أن تبدو الدنيا بحجمها الحقيقي لا بحجمها الكبير، وهي متاع الغرور، وليست سعادة مستمرة، الدنيا بكل ما فيها لا يمكن أن تُمِدّ الإنسان بسعادة مستمرة، لا يمكن أن يسعد الإنسان إلا باتصاله بالله، ومعرفته به، أما الدنيا تعطيه لذائذ مؤقتة، وعقب كل لذة هناك شعور بالكآبة أحياناً، أناس كثيرون في أعلى درجات الغنى يقول لك: أشعر بالملل، أشعر بفراغ، أشعر بضيق، طبعاً هذه الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ، وفي درس قادم إن شاء الله تعالى نتابع الآيات الكريمة:
﴿ سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ(21)﴾
الملف مدقق