المذيع:
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، يا ربنا صلّ وسلم ، أنعم وأكرم على نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
مستمعينا الكرام ؛ مرحباً بكم على الهواء مباشرة عبر أثير إذاعتكم حياة fm ، في مجلس علم وإيمانٍ جديد مع فضيلة العلّامة المربي الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، شيخنا الحبيب أهلاً وسهلاً بفضيلتكم ، مرحباً بكم .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بارك الله بكم ، وحفظ الله لكم إيمانكم ، وأهلكم ، ومن يلوذ بكم ، وبلدكم .
المذيع :
أكرمكم الله دكتور .
تحت قول الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ 5 ﴾
ننطلق بحلقتنا لهذا اليوم ، وعنوانها : الإخلاص .
نتحدث مستمعينا عن إخلاص الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى ، ما الرابط بين الإخلاص وبين القلب ؟ ما الرابط بين الإخلاص وقبول العبادة ؟ وأيضاً ما هي موجبات الإخلاص ؟ وما هي مهلكات الإخلاص ؟
شيخنا الحبيب ؛ لنبدأ بتوضيح المفهوم حينما يتحدث إنسان ويقول لك : عليك بالإخلاص ، ماذا تعني كلمة الإخلاص ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
أخي الكريم ؛ سؤال دقيق جداً ، مع الإخلاص ينفع قليل العمل وكثيره ، ومن دون إخلاص لا ينفع لا كثير العمل ولا قليله ، الله عز وجل يقول كما تفضلت قبل قليل :
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾
الحقيقة ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، هل نصدق أن آية واحدة فيها فحوى دعوة الأنبياء جميعاً ، الآية تقول :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ 25 ﴾
العلماء قالوا : التوحيد نهاية العلم ، والعبادة نهاية العمل ، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً ، التوحيد ألا ترى فاعلاً إلا الله ، التوحيد أن توقن أن الذي خلقك مصيرك بيده ، و المآلات بيده ، والقوة بيده ، والضعف بيده ، والسعادة بيده ، والشقاء بيده ، والغنى بيده ، والفقر بيده ، الله عز وجل يملك كل شيء ، ومع كل ذلك ما قبل أن نعبده إكراهاً ، قال :
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256 ﴾
لكن أراد أن تكون العلاقة به علاقة حب ، قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 54 ﴾
فلذلك الذي خلقنا حياتنا بيده ، الموت بيده ، الغنى بيده ، الفقر بيده ، الصحة بيده، المرض بيده ، ومع كل ذلك ما قبل أن نعبده إكراهاً قال :
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
بل أراد أن نأتيه طائعين ، أن نأتيه بمبادرة منا ، لذلك قال تعالى :
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
هي مشاركة الله عز وجل يحبنا أيضاً ، كما نحبه يحبنا ، بل هو بدأ بمحبتنا .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 56 ﴾
طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
للتقريب : كان مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش المسلمين ، يحاصرون قلعة عظيمة للروم ، ولكن القلعة استعصت على جيش المسلمين لارتفاع أسوارها ، ولإغلاق جميع المنافذ إليها ، الأمر الذي رجح كفة جنود الروم ، فأخذوا يقذفون جيش المسلمين من أعلاه فازداد تعب وإنهاك جنود المسلمين ، وفي الليل قام أحد الجنود المسلمين بفكرة مستحيلة ، إذ أنه تخفّى بمفرده إلى أن وصل إلى باب القلعة ، وظلّ ينقب فيه وينقب حتى استطاع أن يحدث به نقباً ، ثم رجع دون أن يخبر أحداً ، وعند الغد تأهب المسلمون للقتال كعادتهم ، فدخل هذا البطل من النقب الذي فتحه ، وقام بفتح الباب ، فتدافع المسلمون ، وتسلقوا أسوار القلعة ، وما هي إلا لحظات حتى سمع الروم أصوات تكبيرات المسلمين على أسوار قلعتهم ، وداخل ساحتهم ، فتحقق لهم النصر ، وبعد المعركة جمع القائد مسلمة بن عبد الملك الجيش ونادى بأعلى صوته: من أحدث هذا النقب في باب القلعة فليخرج لنكافئه ؟ لم يخرج أحد ، فعاد وقالها مرة ثانية ، وثالثة ، من أحدث هذا النقب ؟ فلم يخرج أحد ، ثم وقف في الغد وأعاد مقالته ، فلم يخرج أحد ، وفي اليوم الثالث وقف وقال : أقسمت على من أحدث هذا النقب أن يأتيني أي وقت ما يشاء من ليل أو نهار ، وعند حلول الليل والقائد يجلس في خيمته دخل عليه رجل ملثم ، فقال مسلمة : هل أنت صاحب النقب ؟ فقال : إن صاحب النقب يريد أن يبر بقسم الأمير ، و لكن لديه شروط ثلاث ، قال له : ما هي ؟ قال : ألا تسأل عن اسمه ، و لا أن يكشف عن وجهه ، ولا أن تأمر له بعطاء ، فقال مسلمة : فله ما طلب ، عندها قال الرجل : أنا صاحب النقب ، ثم عاد أدراجه مسرعاً ، واختفى بين خيام الجيش ، فوقف مسلمة والدموع تملأ عينيه وقال :
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً 23 ﴾
فكان هذا الفعل خالصاً لوجه الله ، لله عز وجل خلقنا ليسعدنا ، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض .
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]
أصل الجمال ، والكمال ، والنوال ، الله عز وجل يدير شؤون الأمم والأفراد وحده ، إذا تعرفت إليه ، وركنت إلى طاعته ، وأقبلت عليه ، و لم تقل : ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني هناك مشكلة .
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور ؛ إذاً شيخنا الحبيب الإخلاص هو أن تقصد وجه الله سبحانه و تعالى لا غير في نواياك في هذه العبادات .
الفرق بين حقائق الإيمان وحلاوة الإيمان :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
لكن هناك مصطلح دقيق اسمه : حقائق الإيمان ، ومصطلح آخر اسمه : حلاوة الإيمان ، حقائق الإيمان تماماً كمن يقتني كتاباً يصف فيه قصراً ، الأبعاد ، الطوابق ، المنتجعات، الإطلالات ، الحدائق ، أي وصف دقيق جداً جداً ، أن تمتلك هذا الكتاب الذي يعطي وصفاً دقيقاً جداً لهذا القصر شيء ، وأن تمتلك هذا القصر ، وأن تسكنه شيء آخر ، أن تعرف التفاصيل الدقيقة هذه حقائق الإيمان ، أما أن تذوق حلاوة الإيمان فهذا الذي ناله الصحابة الكرام ، و العلماء الربانيون ، لذلك :
(( عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وألا يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ))
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ]
اليوم لو سألت ملياري مسلم : أليس الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما ؟ يقول : طبعاً بلا مناقشة ، لا ، ليس هذا المعنى ، عند التعارض ، حينما تتعارض مصلحتك المادية الدنيوية مع نص شرعي قطعي الدلالة ، مع آية كريمة ، وتؤثر طاعة الله دفعت ثلث ثمن حلاوة الإيمان ، أما أن تبحث عن مصالحك ، وعن الذي يرضيك ، والذي يمتعك ، وتصلي فقط ، بلا عبادة تعاملية ، نحن عندنا عبادة شعائرية :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، والشهادة ، هذه عبادة شعائرية ، أما التعاملية فواسعة جداً ، بالآلاف، كسب المال ، إنفاق المال ، اختيار الزوجة ، تربية البنات ، اختيار الحرفة ، علاقتك مع الأقوياء ، مع الضعفاء ، مع المساكين ، أداء زكاة مالك ، بنود تبدأ من فراش الزوجية ، وتنتهي بالعلاقات الدولية .
لذلك حلاوة الإيمان ، دقيقة
(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ))
عند التعارض
(( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ))
هذا الولاء والبراء ، ويكاد الولاء والبراء يكون الفريضة السادسة ، أن تحب المؤمنين ولو كانوا ضعافاً و فقراء ، وأن تتبرأ من الكفار والمشركين و لو كانوا أقوياء و أغنياء ، فلابد من التدقيق في حلاوة الإيمان .
البند الثالث :
(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ))
- عند التعارض طبعاً -
(( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ))
- هذا الولاء والبراء-
(( وأن لا يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ))
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور ، شيخنا ؛ كيف يعرف الإنسان إذا كان مخلصاً في أعماله لله أم لا ؟
قضية الدين قضية مستقبل ومصير :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا أريد أن أضرب مثلاً بسيطاً : لو أن طالباً جاء آخر العام وقد استلم جلاءه ، وهو ناجح نجاحاً باهراً ، و علاماته تامة ، و يوجد ثناء على أخلاقه العالية ، و الوالد أمسك هذا الجلاء وفهم الحقيقة ، الأب لا يفعل شيئاً ؟ ألا يضمه ؟ ألا يقبّله ؟ ألا يشتري له دراجة ؟ أب عادي حينما تفعل شيئاً ترضيه يضمك ، يكرمك .
خالق الأكوان خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض ، يرى عبداً مؤمناً صالحاً شاباً ، لي كلمة دقيقة للشباب ، هم الآن قوة الأمة ، الشباب قوة الأمة ، والشباب أمل الأمة ، والشباب مستقبل الأمة ، هذا الشاب يشبه الآن محرك السيارة ، قوة اندفاع مذهلة ، لكن العلماء الربانيين يمثلون المقود ، فنحن بحاجة إلى قوة شبابنا في اندفاعهم ، وبحاجة أيضاً إلى ترشيد علمائنا الربانيين .
أقول كلمة للتاريخ : إذا إنسان غيّر قناعته الثابتة مقابل مليار دولار سقط من عين الله .
والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه
فقضية الدين قضية مستقبل ، قضية مصير ، قضية سعادة أبدية ، شقاء أبدي ، قضية حياة فيها جنة ، فيها :
(( ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطرَ على قلب بَشَر ))
هذه الجنة لا تؤخذ ، وما نيل المطالب بالتمني ، لا بالتمنيات ، ولا بأشياء فولكلورية ، أي نضع آية الكرسي بالبيت ، لا يوجد مانع ، بالعكس نتبارك بها ، اكتفينا بآية الكرسي ، وبمصحف بالسيارة ، و أداء الصلوات الخمس ، أما بالدخل يوجد إشكال ، بالإنفاق يوجد إشكال ، بالسهرات يوجد إشكال ، الشاشة فيها إشكال ، من دقة الدين يبدأ من أخص خصوصيات الإنسان من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية .
الآن إذا كنت مع الله كان الله معك ، الله قال :
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4 ﴾
معكم ، هذه معية علم ، هذه تطبق على غير المؤمن ، الله أيضاً مع الطغاة ، ومع الأقوياء ، ومع المجرمين ، أما المعية المذهلة فهي المعية الخاصة ، صيغتها :
﴿ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ 19 َ ﴾
معهم بالتأييد ، بالنصر ، بالتوفيق ، بالعلو ، بتأكيد كرامتهم ، تأكيد قوتهم ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟
كن مع الله تر الله معك واترك الكل وحاذر طـــــــمعك
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور .
رسالة الدكتور راتب إلى القائمين على إذاعة حياة fm :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بارك الله بكم ونفع بكم ، و لكن أريد أن أرسل هذه الرسالة ، و أتابع معك بقية هذا اللقاء الطيب .
بسم الله الرحمن الرحيم ؛ رسالتي إلى أخوتي الكرام ، والمستمعين والمشاهدين والقائمين على إذاعة حياة fm المحترمين .
أخوتي الكرام ؛ لقد عشت معكم سنوات عديدة في هذا البرنامج الإيماني ، والذي أسأل الله أن يكون قد ساهم بشكل أو بآخر في نشر الحقائق الدينية ، وتعميق أثرها في النفوس ، وأن يجزل الثواب لكل من عمل معي على إنجاح هذا البرنامج شاكراً لكل الفريق الإذاعي ، مديرين ، وفنيين ، ومقدمين ، وأخص بالشكر الجزيل مقدم البرنامج الأخ الكريم والأديب والودود الأستاذ نديم الحسن ، حفظه الله ورعاه ، سائلاً المولى جلّ وعلا أن تبقى هذه الإذاعة على نهجها الدعوي الهادف الذي بدأته ، وأن تتابع رسالتها في بث القيم الإنسانية وغرس الحقائق الإيمانية لتكون منبر خير ورشد لهذه الأمة التي وصفها الله عز وجل في كتابه العزيز بالخيرية ، وأختم رسالتي تلك بأنني سوف أترجل عن هذا المنبر لأسباب خاصة بي شاكراً لكم تفهمكم لهذا الموقف الشخصي ، وراجياً لكم متابعة رسالتكم المقدسة التي بدأتم بها ، وحفظ الله لنا الأردن ، و قيادته ، و أهله الكرام من كل سوء ، و أدام لكم نعمة الأمن والأمان ، ورفع عنكم البلاء و الوباء ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الآن نتابع .
المذيع :
أكرمكم الله دكتور ، ورفع مقامكم ، هذا البرنامج يقوم شيخنا بعد فضل الله وأمر الله سبحانه وتعالى على وجود فضيلتكم ، على فتح الله عليكم من علم ، ومن معرفة ، ومن قصص تشاركوننا فيها في تجربتكم الدعوية الطويلة ، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع فيكم دكتور ، وأن يجعل لكلمتكم القبول ، والنفع أينما كنتم ، وأينما حللتم دائماً وأبداً دكتورنا الكريم .
المودة بين المؤمنين من فعل الله عز وجل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
هذه المودة بين المؤمنين من فعل الله .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً 96 ﴾
نحن بالمناسبة درسنا بالجامعة أن للإنسان خارطة ، خارطة يُسأل خمسمئة سؤال ويجب عن هذه الأسئلة ، من خلال إجاباته ترسم له خارطة ، أي علاقته بالدين ، علاقته بوالديه، علاقته بأولاده ، بزوجته ، خمسمئة سؤال ، والإنسان يجيب كيفما شاء ، هذه نسميها خارطة على شكل عامودي ، و هناك خارطة ثانية ، إيمانه بالله ، مؤمن مؤمن خط عرضي ، مطيع مطيع خط عرضي ، الخطوط العرضية كلما كثرت كان الحب بين المؤمنين ، فأنا أذهب إلى آخر مكان في الدنيا ألتقي مع رئيس الجالية المؤمن أشعر أنني أعرفه من خمسين عاماً ، فالمودة بين المؤمنين من فعل الله ، والدليل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾
هذا الود من فعل الله عز وجل ، وهذا من علامة الإيمان ، والله عز وجل غفور ودود ، الود غير الحب ، الحب ميل ، الود سلوك ، الود اتصال ، الود تعاون ، الود تقديم هدية لهذا المريض أحياناً ، والله الود قائم بيننا إن شاء الله ، و هذا الود من فعل الله عز وجل ، و هذا يتنامى دائماً ، لكن أحياناً يوجد ظروف خاصة ، أشياء طارئة ، لا يصح أن تكون معلنة ، فأنا عندي والله وضع صعب أريد أن أترجل عن هذا المنبر .
المذيع :
أكرمكم الله شيخنا ، وجزاكم عنا كل خير ، ونبقى دائماً التلميذ الصغير أمام أستاذه الكبير ، وأنتم أستاذي الكبير دكتور ، نفعنا الله بعلمكم ومعرفتكم دائماً وأبداً .
شيخنا الحبيب ؛ كيف يصل الإنسان إلى مرتبة الإخلاص ؟ ماذا يفعل ؟
كيفية وصول الإنسان إلى مرتبة الإخلاص :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أخي الكريم ؛ النقطة الدقيقة أن هذا الإله العظيم خلقنا ليسعدنا ، وله منهج ، فأنت الآن تركب مركبة حديثة ، تألق ضوء أحمر بلوحة البيانات ، لماذا تألق ؟
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43 ﴾
لو سألت أهل الخبرة يقول لك : يوجد نقص بالزيت ، لو تابعت السير احترق المحرك ، تحتاج إلى مئة ألف دينار مثلاً ، عفواً مئة ألف أنا أتكلم بالعملة السورية ، أما لو أنت أوقفت المركبة وأضفت الزيت انتهى الأمر .
فالإنسان انطلاقاً من حبه لذاته ، من أنانيته إن صح التعبير ينبغي أن يطبق تعليمات الصانع .
راكب مركبتك ، وهناك لوحة على الطريق : حقل ألغام ممنوع التجاوز ، هل بربك تعد هذه اللوحة حداً لحريتك أم ضماناً لسلامتك ؟ ضمان لسلامتك .
فأنا حينما أفهم الدين ضماناً لسلامتي الله عز وجل خلقني لجنة عرضها السماوات والأرض فيها :
(( ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطرَ على قلب بَشَر ))
أضرب مثلاً بسيطاً : بين الأرض والشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ، لو كان لكل ميلي صفر ما هذا الرقم ؟ هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر ، نحن خلقنا للجنة ، لجنة عرضها السماوات والأرض ، خلقنا لسعادة أبدية ، دائمة ، هل يعقل أن نخسرها بسبب سنوات محدودة مليئة بالمخالفات والمعاصي والآثام ؟ لا يوجد إنسان يرتكب المعصية إلا متهم بعقله ، ما رأيت عاصياً عاقلاً ، فإذا عرفنا الله .
ابن آدم اطلبنِي تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء للتقريب :
فـلو شاهدت عيناك من حسننــــــا الذي رأوه لما وليت عنــــا لغيرنــــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابـنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــا
ولو ذقت مـن طعــــــم المحـبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــــة لمــــت غريباً واشتياقــــــــــاً لقربنـــــــا
فما حبنا سهل وكل مــــن ادّعـــــى سهولته قلنا له قـــــــــــد جهلتنـــــــــــا
التفكر في خلق السماوات والأرض أعظم عبادة على الإطلاق :
إله عظيم ألا يستحق أن نعرفه ؟ أن نتفكر في خلق السماوات والأرض ؟ دقق :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 191 ﴾
لذلك ألف وثلاثمئة آية في القرآن تتحدث عن الكون والإنسان ، ما الموقف منها ؟ هو التفكر ، الآية الدقيقة ؛ أعلى عبادة على الإطلاق ، ونحن في مجلس علمي أعلى عبادة على الإطلاق :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
فلابد من أن نعرف الله في الوقت المناسب ، بعد فوات الأوان شيء دقيق جداً ، فرعون حينما أدركه الغرق ، قال :
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 90 ﴾
نحن خياراتنا مع الإيمان خيارات وقت فقط ، فإما أن نؤمن بالوقت المناسب أو نؤمن بعد فوات الأوان ، فرعون أكفر كفار الأرض الذي قال :
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى 24 ﴾
ومع ذلك حينما أدركه الغرق قال :
﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
فالبطولة أن نؤمن بالوقت المناسب ، طالب دخل للامتحان ما درس إطلاقاً ، قدم ورقةً بيضاء واستحق صفراً على الورقة البيضاء ، رجع إلى البيت فتح الكتاب المقرر فهم الموضوع انتهى الأمر .
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 158 ﴾
فالقضية خطيرة جداً ، قضية سعادة إلى الأبد ، أو شقاء إلى الأبد ، قضية إله عظيم خلق السماوات والأرض .
للتقريب ، ملمح فكري : إذا كانت الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، يدخل في جوف الشمس مليون وثلاثمئة ألف أرض ، وبينهما مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ، الله ماذا قال ؟
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ 1 ﴾
فالأرض في دورتها حول الشمس تمر باثني عشر برجاً ، أحد هذه الأبراج برج العقرب هذا البرج فيه نجم صغير اسمه : قلب العقرب ، نجم صغير ، كنت في متحف في أمريكا فلكي رأيته بعيني ، على قبة صناعية طبعاً ، قلب العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما ، نجم صغير في برج العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما ، هذا الإله العظيم يعصى ؟ ألا يخطب وده ؟ ألا ترجى جنته ؟ ألا تخشى ناره ؟
المذيع :
شيخنا الكريم ؛ ماذا يفعل الإنسان ليعزز من الإخلاص في قلبه ، الدنيا تسرق الإنسان بشهواتها ، بكثرة انشغالها ، أحياناً يميل الإنسان إلى الدنيا ، قد يؤخر في الصلاة أو يقع في بعض المعاصي ، ماذا يفعل ليستقيم أكثر و ليزداد إخلاصه في الأعمال لله تعالى أكثر ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
معي جواب دقيق : ما من شهوة أودعت في الإنسان إلا جعل الله لها قناة نظيفة طاهرة تسري خلالها ، قولاً واحداً ، ما من شهوة أودعت في الإنسان إلا جعل الله لها قناة نظيفة طاهرة تسري خلالها ، فلا يوجد حرمان ، أي شهوة ، مثلاً ؛ شهوة المرأة ، يوجد زواج ، المال ، يوجد عمل ، العلو في الأرض ، يوجد بطولات ، ما من شهوة أودعت في الإنسان إلا وجعل الله لها قناة نظيفة طاهرة تسري خلالها ، فالإنسان إذا عرف الله عرف كل شيء .
(( ابن آدم اطلبنِي تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء . ))
المذيع :
ونعمة بالرحمن سبحانه وتعالى ، هل تقبل عبادة الإنسان شيخنا إن لم يرافقها الإخلاص لله تعالى ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
سيدي أريد أن أضرب مثلاً ، إن شاء الله يكون دقيقاً : شخص جلس عند طبيب ينتظر دوره ، لاحظ أن قبله يوجد حوالي عشرين مريضاً ، وكل مريض دفع مبلغاً كبيراً ، ما هذا الدخل الفلكي للطبيب ؟ فسأل سؤال يحير قال : أتمنى أن أتعلم كتابة الوصفة الطبية ، أي وصفة طبية ؟ هذا حتى صار طبيباً درس ابتدائي ، ومتوسط ، وثانوي ، وجامعة ، ثم درس اثنتي عشرة سنة حتى كتب وصفة .
أنا لا أصعب الأمور لكن أن تصل إلى الله بلا سبب ؟ بلا مؤاثرة ؟ بلا انضباط ؟ بلا تطبيق لمنهج الله ؟ بلا أداء الصلوات المتقنة ؟ بلا ضبط الدخل والإنفاق ؟
أخي الكريم ، أخ نديم بارك الله بك ؛ العبادات التعاملية دقيقة جداً ، وخطيرة جداً ، أقول بشكل مختصر تبدأ من فراش الزوجية ، وتنتهي بالعلاقات الدولية ، منهج تفصيلي ، يوجد كسب حرام ، مواد حافظة مسموح بالألف ثلاثة ، وضع بالمئة ثلاثة ، أصيب الناس بالسرطان ، الحقيقة الدين منهج تفصيلي يبدأ من أخص خصوصياتنا ، وينتهي بأكبر سؤال يطرح على الإنسان ، والدين في متناول الجميع .
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور ، شيخنا الكريم ؛ هل يتعارض أن يكسب الإنسان شيئاً ينتفع فيه في دنياه مع أن تكون النية خالصة لله سبحانه وتعالى مثلاً يقوم بعمل فيؤجر في الدنيا براتب ويقول : أنا أيضاً أخلصه لله تعالى ؟ هل من تعارض دكتور ؟
الكمال لا يتحقق إلا بطاعة الله عز وجل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ 46 ﴾
جنة في الدنيا هي جنة القرب ، وجنة في الآخرة هي جنة الخلد ، وأنت بالحلال ، بالدخل الحلال ، بالزواج الحلال ، ترقى عند الله ، ما من شهوة أودعت في الإنسان إلا وجعل الله لها قناة نظيفة طاهرة .
صفيحة البنزين هي الشهوة ، سائل متفجر ، ضعه في مستودع السيارة المحكم ، وهذا البنزين سال في الأنابيب المحكمة ، وانفجر في البستونات ، بالوقت المناسب ، والمكان المناسب ، ولّد حركة نافعة تقلك في العيد إلى مكان جميل أنت وأهلك ، الصفيحة نفسها صبها على المركبة أعطها شرارة تحرق المركبة ومن فيها ، فالشهوات إما أنها قوى دافعة أو قوى مدمرة، المنهج إلهي ، منهج وسطي .
عفواً ؛ الآن يوجد بالأرض ثمانية مليارات إنسان ، أن أقول لك بمنتهى الدقة : ما منهم واحد يحب أن يكون فقيراً ، و لا أن يكون مريضاً ، و لا أن يكون مقهوراً ، هل هذا الكلام صحيح ؟ ثمانية مليارات إنسان لا أحد إلا ويتمنى منهم أن يكون غنياً ، أو قوياً ، وزواجه ناجح، وبناته فضليات ، ولأولاده ولاء كبير له ، كلنا .
الشيء الأخير نحن نريد الكمال ، الكمال متحقق بطاعة الله ، الدليل : لو أعطينا طفلاً بالعيد أي أعطاه خاله خمسة دنانير ، أو خمسين ديناراً فرضاً ، وأعطاه عمه خمسين ديناراً، قال لك : أنا معي مبلغ عظيم ، من قال هذه الكلمة ؟ طفل ، عندما وجد معه خمسين ديناراً فرضاً من خاله ، ومن عمه ، إلى آخره ، قال : معي مبلغ عظيم ، لو أحد المسؤولين الكبار بالبنتاغون قال : أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً حوالي مئتي مليار ، كنا بمئتي دينار صرنا بمئتي مليار ، فإذا قال الله عز وجل :
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً 113 ﴾
ابن آدم اطلبنِي تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء .
المذيع :
ونعم بالله ، الله يفتح عليكم دكتور ، شيخنا الحبيب ؛ بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1 اللَّهُ الصَّمَدُ 2 ﴾
تسمى بسورة الإخلاص ماذا يعني هذا الاسم لهذه السورة التي تتحدث عن توحيد الله عز وجل ؟
التوحيد فحوى دعوة الأنبياء جميعاً :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أي ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً ، لا ترى رافعاً ، ولا خافضاً ، ولا معطياً ، ولا مانعاً ، ولا معزاً ، إلا الله ، هذا التوحيد .
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ 25 ﴾
هذه من دقيقة جداً وهي لاستغراق أفراد النوع ، أنت معلم يوجد أمامك خمسون طالباً، لو قلت لهم : لكل واحد منكم جائزة ، لكن يوجد طالبان غائبان ، هؤلاء الطالبان ليس لهم جائزة ، لو قلت : ما من طالب في هذا الصف إلا وله جائزة ، اختلف الأمر ، استحقها من غاب عن هذه الحصة ، الآن الآية الدقيقة :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ﴾
الرسل :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ 78 ﴾
فحوى دعوة الأنبياء جميعاً من دون استثناء
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾
التوحيد نهاية العلم
﴿ فَاعْبُدُونِ ﴾
والعبادة نهاية العمل ، والعبادة هي طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
مرة ثانية ؛ طاعة طوعية ، ليست قسرية ، طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، فما عبد الله من أطاعه ولم يحبه ، وما عبد الله من أحبه ولم يطعه ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، يوجد جانب حركي ، وجانب سلوكي ، وجانب جمالي .
فـــــــــــــلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــــــــا
أنت تتصل مع أصل الجمال ، والكمال ، والنوال ، مع خالق السماوات والأرض .
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4 ﴾
وينتظرنا .
لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إليّ ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين؟
لذلك السماوات والأرض ترحب بالمؤمن لأنه عرف الله ، ابن آدم اطلبنِي تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء .
المذيع :
أحياناً الإنسان شيخنا يصلي ، وهو يبتغي بصلاته ، أو بقراءة القرآن ، أو بعبادته وجه الله ، أن يكون مخلصاً ، لكن أحياناً تدخل شوائب على هذا الإخلاص ، في لحظة من اللحظات يسر إذا سمع ثناء من أحد من الناس ، في لحظة من اللحظات قد يكون في مصلحة معينة كيف يطهر إخلاصه من الشوائب دكتور ؟
من أطاع الله سلم وسعد في الدنيا والآخرة :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
إذا سمع ثناء هو بشر ، اللهم إنني بشر ، إذا شخص أخلص بعمله وكافؤوه مكافأة أقاموا له حفل تكريم لا يوجد مشكلة أبداً ، الدين متطابق مع الفطرة ، أنت مدرس لو فرضنا عندك طالب وهو الأول فأثنيت عليه ، شي طبيعي جداً ، الله عز وجل يكافئ المؤمنين ببشارات قبل الموت .
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ 48 ﴾
غال علينا كثيراً ، الله عز وجل يقول : لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إليّ ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين؟ .
ما رأيت عاصياً عاقلاً ، تجاهل خالق السماوات والأرض .
بالمناسبة ؛ أنا حينما أركب مركبتي ، في أي مدينة في الأرض الإشارة الحمراء ماذا تعني ؟ قف ، وزير الداخلية في هذا البلد نظم السير بالطريقة التالية ، فأنت دقق حينما أدركت معناها تفاعلت معها وأوقفت المركبة ، هذا شيء بديهي .
نقول : الله عز وجل قادر ، يملك خيارات لنا لا تعد ولا تحصى ، واضع القانون قال لك : قف هنا ، فأنت حينما تؤمن بواضع القانون وتطيعه سلمت ونجوت ، وإذا عصيته دفعت الثمن باهظاً .
فلذلك أنت حينما تؤمن أن الله بيده كل الأمور ، سعادتك ، شقاء الإنسان ، غنى الإنسان ، فقر الإنسان ، توفيقه ، عدم توفيقه ، بيد الله عز وجل ، و هذا أمر إلهي ، فأنت حينما تطبق تعليمات الصانع تكون قد حققت نجاحاً مذهلاً ، هذا صار فلاحاً ، النجاح أحادي أما الفلاح فشمولي ، أي أنت مع الله علاقتك طيبة ، تصلي بخشوع ، تغض بصرك ، الشاشة مضبوطة ، الدخل مضبوط ، الإنفاق مضبوط ، علاقاتك مضبوطة مع الله ، وأنت مع العباد مستقيم لأنك محبوب ، وأنت المآل ، الواحد بشبابه يشعر بنشاط كبير ، لكن عندما يكبر يصير جداً له مكانة كبيرة ، المرأة مثلاً ؛ هي شابة مرغوبة لجمالها ، أصبحت أماً لها مكانة كبيرة ، أصبحت جدة فصارت مرجعاً للأسرة كلها ، فالله عز وجل منهجه دقيق جداً .
أنا مرة سمعت قصة عن عالم بالشام بلغ السابعة والتسعين ، كان إذا رأى شاباً يقول له : يا بني أنت كنت تلميذي ، و كان أبوك تلميذي ، و كان جدك تلميذي ، علّم ثمانين سنة وكان منتصب القامة ، حاد البصر ، مرهف السمع ، أسنانه في فمه ، فإذا سئل : يا سيدي ! ما هذه الصحة التي حباك الله بها ؟ يقول : يا بني ، حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
صدق ولا أبالغ أخ نديم والله الإنسان المؤمن له مستقبل زاهر ، يوجد أمراض وبيلة ، أمراض صعبة جداً ، فعلى الإنسان أن يسأل الله العافية .
ثلاث نعم من حصّلها ما فاته من الدنيا شيء :
أنا أذكر مرة أنه يوجد ثلاث نعم أقولها بدقة بالغة ، إذا وصلت إليك ما فاتك من الدنيا شيء إطلاقاً ، أول نعمة نعمة الهدى ، يعرف أن هناك إلهاً ، ومنهجاً ، وحلالاً ، وحراماً ، وجنة ، وناراً ، ويجوز ، ولا يجوز ، نعمة الهدى ، بعدها نعمة الصحة ، لا يوجد خثرة بالدماغ ، ولا تشمع كبد ، ولا فشل كلوي ، هناك أمراض وبيلة ، والكفاية الثالثة ، لذلك :
عن عبيد الله بن محصن رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها ))
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور ، وجزاكم الله كل خير .
سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ' ذُكِرَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلان : أحدهما عابد ، والآخر عالم ، فقال : فضلُ العَالِم على العَابِدِ كَفَضْلِي على أدْناكم ، ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله وملائِكَتَه وأهْلَ السَّمواتِ والأرضِ - حتى النَّملةَ في جُحْرِها ، والحيتان في البَحْرِ - لَيُصَلُّون على مُعَلِّم الناس الخيرَ ))
اللهم إنا نشهدك أن فضيلة الدكتور المربي محمد راتب النابلسي ما علمنا إلا الخير ، وما دلنا إلا على طريق الله فاجزه يا ربي عنا خير الجزاء ، أكرمكم الله دكتور ، نختم هذه الحلقة والبرنامج بالدعاء .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم أصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك ، أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارضَ عنا ، واجعل البلاد الإسلامية آمنة مطمئنة يا رب .
المذيع :
الحمد لله رب العالمين ، بارك الله بكم فضيلة العلّامة المربي الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي شكراً جزيلاً لكم ، ونفعنا الله بكم دكتور .
سبحانك اللهم وبحمدك ، نشهد أن لا إله إلا أنت ، نستغفرك ونتوب إليك .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الملف مدقق