- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (029)سورة العنكبوت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الآية التالية أصلٌ في التكليف:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة العنكبوت.
في الدرس الماضي بحسب توفيق الله عزَّ وجل كان شرح الآية الكريمة:
﴿
﴿
والمخلوق المُكَرَّم:
﴿
أنت مخلوقٌ أول، ومخلوقٌ مكرم، ومخلوقٌ مُكَلَّف.
﴿
أنت مكلفٌ بهذه النفس البشرية أن تُنْقِذَهَا، وأن تعرفها بالله عزَّ وجل، وأن ترقيها، وأن تسعدها في الله عزَّ وجل في الدنيا والآخرة، والدليل:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
إذا جاء في القرآن الكريم كلمة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ هذا كلام خالق الكون، خالق الكون يقول لك:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) ﴾
دعوة القرآن إلى التأمل في الكون وفي النفس:
لكن الله عزَّ وجل أعطاك مقومات التكليف، سخَّر لك الكون، وجعله دالاً على أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، الكون يمكن أن ترى أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى من خلال تأمُّلك في خلق السماوات والأرض.
﴿
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)﴾
إذاً هناك دعوة..
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25)﴾
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)﴾
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) ﴾
مقومات التكليف:
1 ـ الكون:
آياتٌ كثيرة جداً بَثَّها الله في الكون، وأشار إليها في القرآن، وجعل هذه الآيات دليلاً على عظمة الله عزَّ وجل، فإذا فكر الإنسان في الكون توصَّل من جولته التأمُّلِيَّة إلى معرفة الله عزَّ وجل، أعطاك الكون.
2 ـ العقل:
أعطاك العقل، العقل كما يقرر العلماء هو ميزةٌ كبيرةٌ جداً منحها الله للإنسان، فبالعقل تتعرف إلى الله عزَّ وجل، ولكن العقل ميزان كما قلت، والفطرة ميزان، وجعل الله الشرع ميزاناً على الميزان، فما دام العقل يعمل وفق أوامر الله ونواهيه، إذا توصَّل العقل إلى النتائج التي قررتها الشريعة، فهذا التفكير صحيحٌ ومنطقي، أما إذا جَنَحَ العقل، وابتعد عن الذي جاء به القرآن الكريم فهذا عقلٌ ضالٌ وعقلٌ مغرور..
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾
إذاً من مقوِّمات التكليف الكون، من مقوِّمات التكليف العقل.
3 ـ الفطرة:
من مقوِّمات التكليف الفطرة، منحك الله فطرةً عالية، ترتاح إذا فعلت الخير، وتشقى إذا فعلت الشر، ترتاح إذا آمنت بالله، وتشقى إذا كفرت به، ترتاح إذا سرت على منهج الله وتشقى إذا حدت عنه، أول مقوم الكون، والعقل، والفطرة.
4 ـ الاختيار:
وأعطاك حرية الكسب.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
انبعاثك إلى العمل هذا باختيارك، أما الفعل فهو فعلُ الله عزَّ وجل، والعلماء يقولون: إن الأشياء لم يودِعِ الله فيها قوةً ذاتية، ولكن الله عزَّ وجل جعل فعله عندها لا بها، أي عند مشيئته، لا بقوةٍ مودَعَةٍ في الأشياء. إذاً: أعطاك الله حُرِّيَةَ الكسب، وأودع الله فيك الشهوات لترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، الكون، والعقل، والفطرة، وحرية الكسب.
5 ـ الشهوة:
الشهوة إذا فعلت شيئاً، الشهوة هدفها تثمين العمل، إذا تركت شيئاً لله فهذا الشيء الذي تركته له قيمة عندك، ولكنك آثرت رضاء الله على شهوة النفس، لذلك:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
هذه مقومات التكليف.
امتحان كل إنسان في الدنيا ليكشف على حقيقته :
إذا استخدم الإنسان هذه المقومات، وتعرف إلى الله عزَّ وجل معنى ذلك أنه لا بدَّ من ابتلاء، لا بدَّ من حساب، لا بدَّ من سؤال.
قلت لكم في الدرس الماضي: إن جامعة عظيمة تُنشأ بقاعاتها، بمدرجاتها، بمكتبتها، بحدائقها، بملاعبها، بمطعمها، بمساكن الطلاب فيها، بمختبراتها، أيعقل أن يترك الطلاب بلا امتحان؟!
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
هكذا بلا سؤال؟ آيات كثيرة..
﴿
لذلك هذه الآية تشير إشارةً دقيقةً إلى أن الإنسان مكلَّف، والدليل مبتلى، والدليل يمتحن..
مثلاً جامعة كلفت مُنْشِئيها ألوف الملايين، وقبلنا فيها الطلاب، أيعقل أن يقبل من الطالب في الجامعة أن يقول: أنا درست هذه المادة، وتمكَّنت منها فيعطى الشهادة؟ أيقال له: أنت نجحت لأنك قلت: إنك درست هذه المادة، شيء مضحك، أتفعلها جامعة؟ أن يقول الطالب بلسانه: لقد درست هذه المادة جيداً، إذاً تعال خذ مئة على مئة، وانتهى الأمر، لابدَّ من امتحان، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في المقال بديع
لو كـان حبك صادقاً لأطعـتـــه إنّ المحب لمن يحب يطيـع
* * *
كل دعوى لها ما ينقضها:
دعوى حُبِّ الله عزّ وجل تنقضها المعصية، دعوى الشوق إلى لقاء الله عزَّ وجل ينقضها كراهية الموت، دعوى أن هذا الإنسان لا تأخذه في الله لومة لائم ينقضها أن ينهار أمام ضغطٍ خفيف، دعوى أن يصبر الإنسان على أمر الله ينقضه أن ينهار أمام إغراءٍ طفيف، فالذي ينهار أمام إغراء، أو أمام ضغط، أو تستحوذ عليه شهوته، أو ينطلق إلى غاياته الدنيوية ضارباً عرض الطريق بأوامر الله عزَّ وجل، هذا امتحن ورسب، إذاً نحن في امتحان، ما دام القلب ينبض فأنت في امتحان، وكما قلت في الدرس الماضي: لك أن تقول ما شئت، ولكن الله عزَّ وجل سوف يضعك في ظروفٍ دقيقةٍ بالغة التعقيد، هذا الذي تدَّعيه لابدَّ من أن يكشف على حقيقته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر..
وكلٌ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهـم بذاكا
* * *
عدي بن حاتم في ضيافة النبي عليه الصلاة والسلام:
شيء ثانٍ، ذات مرةٍ سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام جاءه أحد ملوك الجزيرة، اسمه عدي بن حاتم، دخل عليه فقال عليه الصلاة والسلام: "من الرجل ؟"قال: "عدي بن حاتم"، قال: "فرحَّبَ بي، وأخذني معه إلى البيت"، وهذا من التكريم، في الطريق استوقفته امرأةٌ ضعيفةٌ مسنة تكلِّمه في حاجتها فوقف معها طويلاً، فقال عدي بن حاتم: "والله ما هذا بملك"، فلما دخل البيت، قال: قذف إليّ بوسادةٍ من أدمٍ محشوةً ليفاً، وقال: "اجلس عليها"، قلت: "بل أنت"، قال: "بل أنت"، قال: "فجلست عليها، وجلس هو على الأرض".. هذه قصة تعرفونها.. قال: "إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسياً ؟"، قال: "بلى"، قال: "أو لم تَسِرْ في قومك بالمرباع ؟"، قال: "بلى"، قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك"، قال: "فعلمت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل"- أي ما كنا نعتقد أنه يجهل بها- قال: "إيه يا عدي بن حاتم، لعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى ما ترى من حاجتهم.."أي من فقر أصحابه، إذاً الفقر ابتلاء، أحياناً يكون المرء فقيراً ومستقيماً، ويرى إنساناً غنياً، منحرفاً يزداد انحرافاً، ويزداد غنىً، هو يزداد تواضعاً لله عزَّ وجل، ويزداد استقامةً على أمره، ويزداد فقراً، هذه فتنة.
لابدّ من الامتحان وبعد الصبر الفرج:
لا تنسوا أن أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله في معركة الخندق، ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾
أي بعض مَنْ عاصر النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول أحد الأشخاص: أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجاته!! إذاً:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
إذاً: أن تكون في ضائقةٍ من العيش، وأنت مستقيمٌ على أمر الله، وأن ترى إنساناً في بحبوحة، وهو يصول ويجول، ويطغى، ويبغي، تقول: هذا امتحان، هل أنت واثقٌ من عقيدتك؟ هل أنت واثقٌ من أن الرزق بيد الله عزَّ وجل؟ هل أنت واثقٌ من أن الأمر بيد الله؟ هل أنت واثقٌ من أن الدنيا لا قيمة لها؟ لا تعدل عند الله جناح بعوضة؟ أم ماذا؟ ادّعِ ما شئت هذا امتحان، أن تكون أنت في ضائقة على استقامتك، والآخرون في بحبوحة على انحرافهم، هذا أحد أنواع الامتحان.
أحياناً يسأل المدرس طالباً سؤالاً، يأتي الطالب بالجواب صحيحاً، فيقول له المدرس: غلط، ليمتحن مدى ثقته بنفسه، فالطالب الضعيف يقول: غلط، يقف، ويتخلى عن صوابه مباشرةً، أما الطالب المتمكن فيقول: لا، هذا هو الصواب، فأحياناً تمتحن فيما إذا كنت مؤمناً أو غير مؤمن، وأحياناً تمتحن فيما إذا كنت واثقاً من عقيدتك، ما الذي ينجيك يوم القيامة؟ أن تكون على أمر الله عزَّ وجل، ما أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان في الأرض؟ أن يكون في رضوان الله،
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
قد تقرأ الآية، وقد تفهمها، ولكن لست في مستواها، إن شعرت بالحرمان، وأنت مطيعٌ لله ورسوله فأنت لست في مستوى الآية، لست واثقاً من أن طاعة الله هي كل شيء، لست واثقاً من أن الإيمان بالله هو كل شيء، فهذه فتنة.
عودة إلى عدي بن حاتم:
قال له: "لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك في دخولٍ من هذا الدين ما ترى من حاجتهم - ترى أصحابي فقراء، ضعفاء- وأيم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوِّهم"، هذا امتحان آخر، أنك إذا عرفت الله عزَّ وجل، وسرت على أمره فالجميع يعادونك، إذا كان الإنسان منحرفاً فلا يرضيه أن يستقيم قريبه، يتمنى عليه أن يعود كما كان، أن يكون على شاكلته، فحينما يتجه الشاب إلى الله عزَّ وجل بالتوبة النصوح يرى معارضةً ممن حوله، من أقرب الناس إليه، حتى ممن في البيت، هذا امتحان، حينما تأتيك المضايقة لأنك عرفت الله عزَّ وجل، واستقمت على أمره، وتثبت، فهذا ابتلاءٌ آخر،
إذاً من السهل جداً أن تقول: أنا مسلم، أنا مؤمن، أنا لن أعصي الله عزَّ وجل، ثم لضغطٍ خفيف تتخلَّى عن طاعتك، لإغراءٌ طفيف تتخلى عن طاعتك، إذاً أنت راسب..
﴿
سيدنا علي يقول: "نحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال"، الأصل هو الحق، فلو أن أناساً كثيرين كانوا على غير الحق فكثرتهم لا تأبه لها أنت، وإذا كانت القِلَّةُ على الحق فأنت مع الحق.
الشعور بالغربة امتحان فتنبَّه:
هناك امتحان آخر، أن تشعر بالغربة، أي إذا عرفت الله عزَّ وجل، إذا استقمت على أمره، هذا الطريق في البيع والشراء حرام، ولكنه شائعٌ بين التُجَّار تصبح كأنك غريب، إذا أردت أن تغض بصرك عن محارم الله تشعر بالغُربة، الكل ينظر، وينظر بنَهَم، وأنت تستحي أن تنظر إلى امرأةٍ أجنبيةٍ عنك، تحس بالغربة، إذا تحرَّجت عن أخذ مبلغٍ من طريق مشبوه اتهمت بالغباء، وتحس بالغربة، هذا امتحان أيضاً.
أحياناً الامتحان لمعرفة مقدار المعلومات، وأحياناً الامتحان لمعرفة ثقتك بهذه المعلومات، تأتي بعض المضايقات، قال له: لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وأيم الله ليوشك أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى أن المُلك والسلطان في غيرهم.. قد يكون الصحابة مستضعفين ضعافاً لا شأن لهم، هناك قوى كبيرة جداً تعاديهم في مكة، وفي أطراف الجزيرة، هم ضعاف هاجروا، تركوا بلدهم إلى الحبشة وإلى المدينة، أنت تحب القوة، إذاً أنت لست مع الحق مع القوة، إذاً انحزت إلى القوي المُبطل، وتركت المُحِقَّ الضعيف، فأنت لست مع الحق، أنت مع القوة، هذا امتحان، فأن تقول كلمةً، وتعدّ هذه الكلمة صحيحة بلا امتحان، هذا مستحيل.
أعيد إلى أذهانكم هذا المثال، جامعة ضخمة جداً، قال أحد الطلاب: إنني درست هذه المادة دراسة جيدة، أي مستحيل أن يقبل هذا الكلام، وأن توضع لك علامة مئة بالمئة؛ إلا أن تقدِّم امتحاناً، هذا الامتحان يثبت صواب كلامك أو خطأك، قال له: "وايم الله ليوشكن أن تسمع بالحصون البابلية مفتحةً للعرب"، أن تسمع بهذه الحصون، وقد فتحها العرب، لقد عاش عدي بن حاتم حتى رأى كل ذلك.
كن مع الحق دائماً وفي كل شيء:
كأن النبي عليه الصلاة والسلام عرَّفنا من هذه القصة، وذاك التوجيه أن هناك امتحاناتٍ، فإذا أردت أن تكون مع الحق قد يكون الحق ضعيفاً، قد يكون أصحاب الحق فقراء ضعفاء، قد يكون هناك عِدَاءٌ كبير لأهل الحق، أنت مع من؟ أنت مع الحق.
والشيء بالشيء يذكر، يروى أن أبا جعفر المنصور كان خليفةً عباسياً، وكان عنده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وعنده قاضٍ من ألَدِّ أعداء أبي حنيفة، فقال هذا القاضي لأبي حنيفة في حضرة المنصور: "يا أبا حنيفة، إذا أمرني الخليفة بقتل امرئٍ أأقتله أم أَتَرَيَّث فلعله مظلوم؟ سؤال مُحْرِج، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: "الخليفة على الحق أم على الباطل؟ ردّ له الكرة، قال: "هو على الحق"، قال: "كُن مع الحق"، فلما خَرَجَ قال: "أراد أن يُقَيِّدَنِي فربطته".
أردت من هذه القصة كُن مع الحق، يا ترى أنت مع الحق أم مع القوي؟ مع الحق أم مع الشهوة؟ أحياناً تُملي عليك شهوتك أن تدافع عن فكرة الاختلاط مثلاً، أنت لست مع الحق، أنت مع الشهوة، قد تُملي عليك مصلحتك المادية أن تدافع عن طريقةٍ في التعامل في البيع والشراء فيها شبهة الربا، أنت مع مصلحتك لا مع الحق، فكلما ادَّعيْتَ أنك مع الحق يأتيك ظرفٌ مُعَقَّد، فإذا بك تكشف على حقيقتك، فلذلك ليتعامل الإنسان مع الله عزَّ وجل بصدقٍ وإخلاص.
حياة الإنسان منذ سِنِّ التكليف وحتى نهاية الحياة سلسلة متصلة من الامتحانات:
أحياناً ترى بلداً أجنبياً في غاية الرفاه، في غاية الطمأنينة، في غاية الأمن والوداعة، كل شيءٍ فيه على ما يرام، وهذا البلد يُشاقق الله ورسوله، أي الدين قد أُلْغِي من حياتهم كُلِّياً، الشهوات مستعرة، الفتن يقظة، هذا امتحان، ضعاف الإيمان يزلزلون، وتجدهم يقولون: انظر تجد الإنسان محترماً عندهم، الحاجات مؤمَنة، كل شيء ميسور، وهم يعصون الله كل يوم، في طُرُقَاتهم، وفي أنديتهم، وفي مسابحهم، أي المعاصي على قدمٍ وساق، ومع ذلك هذا البلد قوي جداً، وفيه رفاه، هذا امتحان، هذا الامتحان معناه أنك لم تقرأ قوله تعالى:
﴿
ليس باباً، أبواب، ليس شيئاً واحداً، كل شيء..
الامتحان يشمل جميع النواحي الحياة:
كما قلت في الدرس الماضي: زواجك امتحان، وعملك امتحان، والمرض امتحان، والصحة امتحان، والفراغ امتحان، والشُغل امتحان، هناك شغل ينسيك طاعة الله عزَّ وجل، امتحنت فرسبت، وهناك فراغ يُنسيك الله عزَّ وجل امتحنت فرسبت، والزوجة امتحان قد تطغى من أجلها، وقد ترضيها بمعصية الله عزَّ وجل، قبل الزواج ممتاز، بعد الزواج صار لديه ضعف، قبل التجارة ممتاز، لما كان لك دخل محدود كنت ورعاً جداً، بعد مزاولة التجارة صرت تقول: لا نقدر عندنا أولاد، هكذا السوق كله، ماذا نفعل؟ زلت قدمه، التجارة امتحان، الوظيفة امتحان، فلذلك الامتحان مستمر، حياتنا سلسلةٌ متصلة من الامتحانات.
أنواع الصدق:
قلت لكم في الدرس الماضي: إن الصدق نوعان، مطابقة الأقوال للأفعال، أو مطابقة الأفعال للأقوال، الأول معروف، فلان صادق، فلان كذاب.
الثاني مهم جداً في الطريق إلى الله عزَّ وجل، أي قد تأتي الدعوى كبيرة جداً، والعمل قليل، نقول: فلان صِدْقُهُ قليل، يدّعي أنه محبٌ لله، كلام كبير، فإذا وضعته على المِحَك جاء حبه قليلاً، ضعيفاً، يدّعي أنه ورع فإذا تحاكك بالدرهم والدينار بدا ورعه ضعيفاً، قليلاً، فهذا الصدق صدق الأفعال، أن تأتي الأفعال مطابقةً للأقوال..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
الصادقون هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه كما قال اله عزَّ وجل.
معاني قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا:
1 ـ ما من إنسان مهما كَبُر وما من قوةٍ مهما عظمت إلا وهي في قبضة الله عزَّ وجل:
الآية الثالثة:
﴿
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
أكثر من أربعين أو خمسين آية تؤكِّد أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء..
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لذلك كلمة:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
أنت إذا شعرت أن الفعل بيد الله ترتاح نفسك، ويطمئن قلبك، ويدخل على قلبك الأمن والدعَة، أما إذا اعتقدت أن الإنسان خالق فعله، هذا الإنسان قد يفعل شيئاً ما أراده الله، يجب أن تعلم علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله عزَّ وجل، لماذا أراده؟ لأنه وقع، لأنه لو لم يرده الله عزَّ وجل ما وقع، وكل شيءٍ أراده الله وقع، كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلِّقَةٌ بالحكمة، وأن حكمته متعلقةٌ بالخير المطلق، هذا هو التوحيد.
الإنسان ينبعث إلى أن يفعل كذا، ينبَعِث، يمده الله بالقوة، القوة فعلُ الله عزَّ وجل، وانبعاثه إلى هذا الشيء هو كسبه، هذا ما هم عليه أهل السنَّة والجماعة..
2 ـ توهُم من عمل السيئات ونجا من عقاب الله أنه سبق الله عز وجل:
المعنى الثاني: أنه فعل المعاصي، واغتصب أموال الناس، وظلمهم، وهو في أشد حالات القوة، يقول لك: أين الله عزَّ وجل؟ أنا فعلت ما شئت ولم يحدث لي شيء!! الله عزَّ وجل قال:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)﴾
هذه الفاء للترتيب على التعقيب، وقال:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
مرة بالفاء ومرة بثم، بالفاء إذا جاء العِقاب تالياً للذنب، ممكن، حلف يميناً غموساً في المحكمة، بعد ربع ساعة دُهِس، ممكن، وأحياناً يفعل السيئات، ويمضي عليه الأسبوع تلو الأسبوع، والعام تلو العام، وهو في أتمّ الصحة والقوة، يقول لك: لم يحدث لي شيء، إنك في قبضة الله عزَّ وجل، الحبل مُرخى، هذا استدارج من الله عزَّ وجل، أنت ما سبقت الله عزَّ وجل، في لحظةٍ واحدة يَشُدُّ الحبل فإذا أنت في العقاب والعذاب الأليم.
إذا شاهد الإنسان جهة أو مخلوقاً يفعل كل ما يشتهي من المعاصي، وهو يزداد صحةً وقوةً وغنىً ووجاهةً، هذا فتنة له.
الحكم السيّئ يعود على صاحبه بالوبال والبوار:
ألم أقل لكم مرة: إن رجلاً سمع من شيخه أن لكل سيئةٍ عِقاباً، فعل شيئاً مخالفاً للشريعة، فتصور أن الله عزَّ وجل سوف يعاقبه، هو ينتظر؛ ينتظر مرضاً، ينتظر حادثاً، ينتظر مشكلة في البيت، ينتظر مشكلة في عمله، بقي ينتظر أسبوعين أو ثلاثة إلى أن ناجى ربه فقال: يا رب، لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ قال: وقع في قلبه أنْ يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟.
أرقى عقيدة تُريح الإنسان في الحياة الدنيا وفي الآخرة الإيمان بأنه لا إله إلا الله:
الإنسان أحياناً إذا كان تعامله مع الله صحيحاً، يقول لك: أنا فهمت على ربي، أكرمه ففهم سرّ الإكرام، ضَيَّقَ عليه ففهم سر التضييق، ألم يقل الإمام الشعراني: "أنا أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي". أحياناً الإنسان يضجر من زوجته، أحياناً تكون هذه الزوجة مسخَّرة من قِبل الله عزَّ وجل لتذكير الزوج، فإذا بلغ الإنسان مرتبةً بدأ يفهم على الله، يشعر أن هذا الشيء ساقه الله له لحكمةٍ، وهذا الشيء ضيَّق الله به عليه لحكمةٍ، إذا بدأ يشعر أن أفعال الله كلها غايةٌ في الحكمة والرحمة، والعدالة واللطف، عندئذٍ يرتاح لقضاء الله وقدره، لذلك ورد: "الإيمان بالقدر يُذهب الهم والحزن".. مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ..عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، أرقى عقيدة تُريحك في الحياة الدنيا وفي الآخرة أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله، لا رافع إلا الله، لا خافض إلا الله، لا مُعطي، لا مانع، لا رازق، لا باسط، لا قابض، لا مذل، لا معز، أي مَن جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، واعمل لوجهٍ واحد يكفك الوجوه كلها، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
تلخيص لما سبق:
إذاً:
المعنى الثاني: أي أنهم فعلوا السيئات، ونجوا من عقاب رب الأرض والسماوات، وكأنهم سبقوا الله أو تحدوا الله عزَّ وجل، قال: لا، قد أُعَجِّل لكم العقاب وقد أُؤخر، لهذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
الله تعالى سميع للدعاء عليم بالنوايا:
الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم:
الله عزَّ وجل يعبِّر عن المستقبل بالفعل الماضي، علماء اللغة يقولون: من باب تحقق الوقوع، أي وعد الله حق، إذا وعد الله المؤمن بالجنة فالجنة حق، حتى إن بعضهم حينما قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾
ينشأ سؤال هنا: أنا والله لم أر، هذه حادثة قديمة جداً، قال: إن الخبر إذا ورد في القرآن كأنه شيءٌ مشاهدٌ لصدقه، ما دام الخبر جاء في القرآن فكأنك تشاهده، ما دام الوعد في القرآن فكأنه وقع.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
الإنسان وقتٌ:
لذلك:
الحقيقة أن الإنسان لابدَّ من أن يعرف الحقيقة، ولكن عند الموت، أما البطل فهو الذي يعرفها قبل فوات الأوان، ألم يقل فرعون:
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
الحقيقة لا بدَّ من أن تُعرف، ولكن تعرف عند الموت، أما المؤمن فيعرفها قبل الموت كي يستثمرها، ويستفيد منها. إذاً:
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
تناقض التكاليف مع الطباع:
أن تحب الأمُّ ابنها هذا طبع، لذلك لم تؤمر بذلك، أما أن يبَرَّ الابن أمه فهذا تكليف، لذلك أمر به:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
مِن أنواع الجهاد فهمُ القرآن وتعلُّمه وتعليمه:
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ
على من تعود الهاء؟ على القرآن..
من جاهد فإنما يجاهد لنفسه لأن الله غني عن الناس:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين