- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الثانية، وهي قوله تعالى :
﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2) ﴾
الله محمود على الخلق وإنزال الكتب :
أيها الإخوة
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾
الكون.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1)﴾
القرآن .
1 – لا بد للخلق من منهجٍ يسيرون عليه :
الكون في كفة والقرآن في كفة، الله عز وجل خلق السماوات والأرض، ونوَّر السماوات والأرض بالهدى .
يعني للتقريب: يُشق الطريق، ثم تُوضَع الشاخصات، هنا منعطف، هنا تقاطع، هنا منحدر، هنا طريق ذات اتجاه واحدة، يُشق الطريق أولاً، وتُوضع الشاخصات ثانياً .
لذلك :
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ
خلق السماوات والأرض، وهداية الله نور السماوات والأرض، وفي درس سبقَ بينت لكم أن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) ﴾
والترتيب ليس الترتيب زمنياً، إنما هو ترتيب رُتَبي، بمعنى أنه لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه، من دون منهج يشقى ويُشقي، هناك شهوات يندفع من خلالها، هذا الاندفاع من دون منهج يسير عليه يسبب شقاء للبشر .
2 – بين المنهج الإلهي السماوي والأنظمة الأرضية الوضعية :
لذلك: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ﴾
لكن هذا الكتاب أُنزل من أعلى، من عند خالق السماوات والأرض، كلمة ﴿أُنزِلَ﴾
أيها الإخوة، من نعمة الله الكبرى أنك تتبع منهجاً ليس من نِدٍّ لك، ليس من مُساوٍ لك، حينما تتبع منهجاً من صنع إنسان مثلك هذا المنهج يحابي مصالحه، يحابي حظوظه، يحابي حاجاته، لذلك إذا وضع الإنسان التشريع حابى نفسه، إذا وضع الإنسان التشريع كان نظره قاصراً، إذا وضع الإنسان التشريع رأى من زاوية واحدة .
3 – الأصل في الأنظمة الأرضية النقص :
لذلك ما من تشريع أرضي إلا ويُعدّل، ثم يُعدّل، ثم يُعدّل، ثم يُلغى، أبداً، لأن الإنسان ليس مؤهلاً أن يُشرِّع، لأن علمه قاصر، وأهواءه تتحكم فيه، يأتي التشريع منعَكَساً لضعفه في النظر، ولضعفه في النفس .
لذلك من نعم الله الكبرى على المسلمين أن التشريع ليس من صنع بعضهم، ليس من صنع فئة منهم، ليس من صنع طرف آخر، التشريع من عند خالق السماوات والأرض ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾
معنى : فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
شيء آخر ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾
المعنى الأول للنهي ( فلا يكن ...) :
هناك لفتة رائعة جداً في هذه الآية، أن النهي لا يتوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعدم الحرج، لكن النهي كما يرى بعض المفسرين يتوجه إلى الحرج بألا يدخل على قلب محمد.
(( قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن ))
أحياناً يمتلئ قلبُ الإنسان أمناً، وقد لا يملك أسباب الأمن، وقد يمتلئ قلبه خوفاً، وقد يملك أسباب الأمن .
للتوضيح: يعني إنسان سافر، والعجلة الاحتياط ليست صالحة، طول الطريق هو في هلع وخوف شديد، فلو فسدت عجلة تدور لتوقف عن السير، لو أن ابنه في الليل أصلح العجلة الاحتياط، ولم يخبره هذا الذي يقود مركبته في النهار، وعنده عجلة احتياط فاسدة بزعمه، والابن أصلحها، ولم يبلغ أباه امتلأ قلبه قلقاً وخوفاً، ومعه أسباب الأمن، ولو أن هذه العجلة فاسدة، لكن الذي يقود المركبة لا يعلم يمتلئ قلبه أمناً، ومعه أسباب الخوف .
إذاً: الخوف والأمن يُلقى في قلب الإنسان، لذلك قال تعالى :
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
فحينما يتوجه الإنسان إلى الله عز وجل لا يسمح الله للقلق والخوف أن يتسرب إلى قلب المؤمن، في قلب المؤمن من الأمن ما لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، والآية واضحة جداً :
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
تطابق الفطرة مع منهج الله :
لذلك من نعم الله العظمى أن الله سبحانه وتعالى جعل فطرة الإنسان متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله ، فأنت حينما تطيع الله تصطلح مع نفسك، حينما تطيع الله يُلقَى في قلبك من الأمن ما لو وُزّع على أهل بلدٍ لكفاهم، حينما تطيع الله تُلقى في قلبك السكينة، وحينما تطيع الله تُعطى الحكمة.
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
حينما تطيع الله تُعطى الصبر، تُعطى الرضا .
أيها الإخوة الكرام
لذلك قد يعيش إنسانان بظروف واحدة، بصعوبات واحدة، بعقبات واحدة، بصوارف واحدة، بمشكلات واحدة، الأول المؤمن قلبه ممتلئ طمأنينة، ورضا، وسعادة وإقبال، وتفاؤل، والثاني يمتلئ قلبه بالضيق، والقلق، والخوف، والحقد، والتشاؤم .
جهازُ المناعة أخطر جهاز في الجسم :
بالمناسبة، أخطر جهاز يعمل بأجسامنا جهاز المناعة المكتسب، هذا الجهاز أوكل الله إليه القضاء على معظم الأمراض السرطانية والجرثومية، وهذا الجهاز يقويه الإحساس بالأمن، يقويه الحب، يقويه الود، وهذا الجهاز يضعفه الخوف، والقلق، والحقد، فأنت حينما تتعرف إلى الله وتتصل به ترتفع معنوياتك.
لذلك بشكل علمي بحت المؤمن أبعد عن الأمراض من غير المؤمن، لأن جهازه المناعي بأعلى درجة بسبب الحب الذي في قلبه، والأمن الذي ينعم به، والطمأنينة التي يرتاح بها، والتوازن الذي ينعم به .
لذلك: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾
المعنى الثاني للنهي ( فلا يكن ...) :
هناك معنى آخر، النبي بشر، ولولا أنه بشر، تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر.
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
(( لقد أوذيت في الله ، وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ))
هو بشر، يشتهي، ويخاف، ويرغب، ويتمنى، لأنه بشر، ولأنه انتصر على بشريته كان سيد البشر .
أيها الإخوة، لأنه بشر يتألم أشد الألم إذا اتُّهم بأنه ساحر، هو ليس بساحر، لأنه بشر يتألم أشد الألم إذا اتُّهم بأنه مجنون .
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) ﴾
هو بشر، ولأنه بشر يتألم أشد الألم إذا اتُّهم بأنه كاهن، اتُّهم أنه ساحر، وأنه كاهن، وأنه مجنون، لكن السؤال:
لماذا أثبت الله في القرآن الاتهامات الظالمة التي اتُهم بها النبيُّ ؟
يا رب، هذا نبيك، هذا سيد الخلق، هذا حبيب الحق، هذا سيد ولد آدم، هذا صفوتك من خلقك، فكيف تثبت في القرآن الكريم الاتهامات الظالمة التي اتُّهم بها؟ يعني كنا نتوقع أن هذه التهم الظالمة الجاحدة أن لا تُذكر في كتاب الله، كتاب الله يُتلى إلى يوم القيامة، نتعبد الله بقراءته .
قال بعض العلماء: الحكمة من هذا أن كل من دعا إلى الله، إلى نهاية الحياة سيلاقي متاعب كثيرة، لأن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسوة للمؤمنين، أسوة للعلماء، أسوة للدعاة إلى الله، هذا سيد الخلق، وحبيب الحق كُذِّب، وعورِض، واتُّهم، اتُهم بأنه مجنون، وبأنه ساحر، وبأنه كاهن، وهو فوق هذه الشبهات كلها: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾
ولا يغيب عن أذهانكم أن إرادة الله شاءت أن يجتمع المؤمنون وغير المؤمنين في هذه الأرض، واجتماع المؤمنين وغير المؤمنين ينتج عنه معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، فليوطِّن المؤمن نفسه أنه في معركة، معركة الحق والباطل، معركة الخير والشر، معركة الظلم والعدل، معركة الرحمة والقسوة .
لذلك هذه الآيات التي تثبت التّهم الظالمة التي اتُّهم بها النبي عليه الصلاة والسلام هي تسرية لكل مؤمن من بعده: ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾
المعنى الثالث للنهي ( فلا يكن ...) :
شيء آخر، هناك معنى ثالث: أن الله سبحانه وتعالى يطيّب قلبَه، مع أنهم اتهموك لكنك عندي من المقربين، لا حرج عليك، مع أنهم اتهموك إنك في منأى عن كل هذه التهم، وأنت فوق كل هذه التهم، وأنت النبي الأول، وأنت الرسول الأول، وأنت الحبيب الأول، وأنت المقرَّب الذي بلغ مرتبة عند الله لم يبلغها نبي مرسل، ولا ملَك مقرب حين بلغ سدرة المنتهى .
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10) ﴾
موقف البشر مع رسالات الله قسمان : مؤمن وكافر :
أيها الإخوة ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾
كأن الله سبحانه وتعالى يشير في هذه الآية الثانية من سورة الأعراف أن البشر حينما تأتيهم رسالات السماء ينقسمون، ينقسمون إلى فريقين، فريق يؤمن بها، وفريق يكفر بها، فريق يتلقاها بالقبول والرضا، وفريق يتلقاها بالمعارضة والتكذيب، هكذا شأن الحياة، في الحياة اثنينية، فيها حق وفيها باطل، فيها خير وفيها شر، فيها جمال وفيها قبح، فيها عدل وفيها جَور، فيها إحسان وفيها إساءة، فيها رحمة وفيها قسوة، كل الصفات السلبية صفات أهل الكفر والضلال، وكل الصفات الإيجابية صفات أهل الإيمان والإسلام.
لذلك كيف أننا في الأحداث التي تحيط بنا أحياناً ينشأ حدث عظيم ينقسم به المجتمع كما ترون، وكذلك الناس حينما تأتيهم رسالات الله ينقسمون إلى مؤمنين وإلى كافرين، والدليل :
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا
يكذبونه، ذلك بأن الطرف الآخر يتحرك بلا ضابط، بلا منهج، بلا تعليمات، بلا توجيهات، بلا قيم، بلا مبادئ، تحركه شهوته، دابة متفلتة، تبحث عن إرواء شهواتها بأي طريقة، بأي ثمن، بأي أسلوب، بلا رادع من قيمة أو مبدأ، أو حياء، أو خجل، هكذا العالم اليوم، انقسم إلى قسمين مؤمن وكافر، مُقسِط وظالم، القاسط هو الظالم، أما المقسط هو العادل، وقد انقسم العالم اليوم .
لذلك المؤمن يتلقى هذه الرسالة بالقبول والإيمان، والتصديق، والبكاء، والسعادة بينما غير المؤمن يتلقى هذه الرسالة بالتكذيب، والسخرية، والمعارضة، والرد، لذلك يقول الله عز وجل :
﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ﴾
معنى ذكرى :
ما معنى ذكرى ؟
يعني أنت إذا ذهبت إلى بلد من البلدان، وليكن إلى بلد ساحلي، ورأيت صخرة مشهورة في هذا البلد، ولتكن صخرة الروشة في بيروت، رأيتها بأم عينك، بعد بضع سنوات رأيت صورة لهذه الصخرة، تقول: نعم كنت في هذا المكان، ما معنى ذكرى؟ إنه شيء رأيته، شيء تعرفه، لكن هذه الصورة ذكرتك به، شيء رأيته، شيء تعرفه، لكن هذه الصورة ذكرتك به .
فلذلك الله عز وجل حينما خلق النفوس قبل أن تُصوَّر، خلقها في عالم الأزل خلقها في عالم الذر، هذه النفوس التي خلقها ماذا قال لها ؟
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ
هذا عالم الأزل، هذا عالم الذر، كل المخلوقات كانت نفوساً مجردة من صورها ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ هذا العهد جاء في العقل، وجاء في الفطرة، وجاء في رسالات السماء، فأنت مؤمن في أصل خلقك، أنت مؤمن في أصل فطرتك، أنت مؤمن بحسب مبادئ عقلك، أنت مؤمن بحسب ما أودع الله فيك من خصائص ، أنت مؤمن فإذا جاءتك الدعوة إلى الله تتذكر.
لذلك أينما قرأت في القرآن الكريم كلمة وذكرى تعني أنك مؤمن بالفطرة، أنت مؤمن بحسب مبادئ العقل، أنت مؤمن بهذا العهد الذي عاهدت الله عليه في عالم الأزل، أنت مؤمن ، فإذا جاءتك الرسالة، أو جاءك الهدى تتذكر العهد الذي قطعته على نفسك في عالم الأزل .
إذاً: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾
﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾
﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55) ﴾
اختاروا العاجلة، وكفروا بالآجلة، اختاروا الحياة الدنيا، وكفروا بالحياة الآخرة، لهؤلاء تنذرهم من مغبة كفرهم، تنذرهم من مغبّة تقصيرهم، تنذرهم من مغبة معصيتهم، تنذرهم من مغبة انحرافهم عن الطريق الصحيح، بينما الطرف الآخر المؤمنون أنت تذكرهم بما عرفوا في عالم الأزل، تذكرهم بما أخذ الله عليهم من عهد حينما خلقهم في عالم الذر .
إذاً: ﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
معنى الرسالة :
إخواننا الكرام، ماذا تعني كلمة الرسالة ؟ يعني هناك مرسل هو الله جل جلاله هناك مُرسَل إليه هو النبي عليه الصلاة والسلام، هناك مرسل إليهم هم البشر، هناك موضوع الرسالة هو الكتاب، وهناك مرسِل، وهناك مرسَل، وهناك مرسل إليه، وهناك موضوع الرسالة هو هذا القرآن ، منهج الله عز وجل، خاتم الكتب، دستور حياتنا، طريق سلامتنا، طريق سعادتنا، لذلك الآن جاء التوجيه :
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3) ﴾
دعوة قرآنية إلى اتباع المنهج القرآني :
1 – هذا مثل من الواقع فاعقلوه ، ولله المثل الأعلى :
بشكل مبسط تبسيط كبير :
عندك آلة غالية جداً، عظيمة النفع، معقّدة التركيب، معك كُتيب صغير فيه تعليمات التشغيل والصيانة، فأنت بدافع من حرصك على هذه الآلة، وعلى سلامتها، وعلى حسن مردودها تقرأ الكتاب، وتنفذ ما في هذا الكتاب، يعني أنت أعقد آلة في الكون، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فأنت بدافعٍ من حبك لذاتك، وحبك لسلامتك، وحبك لكمال وجودك، وحبك لاستمرار وجودك تنفذ تعليمات الصانع، انظر إلى سلوكك إن اقتنيت مركبة جديدة، تقرأ كيف تستخدم المكابح؟ كيف تستخدم الماسحات؟ كيف تستخدم؟ كيف تملأ مستودع البنزين؟ بشكل فطري وطبيعي حينما تشتري آلة مرتفعة الثمن، وتحرص على سلامتها، وحسن أدائها، تتبع تعليمات الصانع .
لذلك جاء التوجيه الإلهي: أيها المؤمنون ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
طبق .
﴿ يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
هذا من عند الخبير .
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
2 – الأوامر والنواهي الإلهية هي ضمان للسلامة وليست حدودا للحريات :
أنت حينما تمشي في حقل، ثم تُفاجَأ بلوحة كتب عليها: " حقل ألغام، ممنوع التجاوز " لا تشعر بحقد على من وضعها، بل تشعر بالامتنان، لأن هذه اللوحة ليست حداً لحريتك، بل هي ضمان لسلامتك
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
دقق:﴿ وَالْأَمْرُ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مَن هي الجهة التي تستحق وحدها أن تُطاع ؟ الله جل جلاله، لا معبود بحق إلا هو .
لذلك: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري ، أهل مودتي ، أهل شكري ، أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها.
لذلك: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا﴾
3 – هذا هو المنهج الإلهي فلماذا نستورد مناهج المخلوقين ؟!
ينبغي ألا نستورد مناهج من أماكن أخرى، من ثقافات أخرى، هناك ثقافات مادية، هناك ثقافات جمالية، هناك ثقافات ملحدة، هناك ثقافات نفعية، ثقافات الأرض لا تعد ولا تحصى، كلها باطلة إلا منهج الله عز وجل ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ
4 – لا شقاء ولا ضلال في اتباع منهج الله :
لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
اجمع الآيتين، من يتبع هدى الله عز وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت، فماذا بقي من السعادة؟ لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت .
أيها الإخوة، الحقيقة أن آدم عليه السلام وهو في الجنة أعطاه الله درساً بليغاً، وأنت حينما تربي ابنك ينبغي أن تعطيه درساً بليغاً، ينبغي ألا تعتني بجسمه فحسب، ينبغي أن تعتني بجسمه ونفسه وعقله وإيمانه، وسر وجوده، أن تبين له سر وجوده، وغاية وجوده لذلك ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
5 – منهج الله سماوي عُلْويّ ، لا شرقي ولا غربيّ :
أيها الإخوة ، لكن البشر شأنهم أنهم يلزمون مَن حولهم إذا كانوا أقوياء باتباع منهجهم هذا الذي ترونه في العالم شرقاً وغرباً، الشرق يفرض المنهج المبني على تقديس المجموع فيما سبق، وجهة أخرى تدعو إلى مبدأ يعتمد على تقديس الفرد، أما ربنا عز وجل منهجه لا شرقي ولا غربي، ولكنه علوي، لا يجوز أن تُقال الإسلام يتطابق مع المنهج الفلاني، أو مع المنهج الفلاني، الإسلام نسيج وحده، الإسلام من عند خالق السماوات والأرض، الإسلام علوي .
أيها الإخوة الكرام، مع أن الإنسان أودع الله فيه فطرة تتوافق مع منهج الله توافقاً تاماً، ومع ذلك منّ الله على البشر برسالات السماء من حين إلى آخر، فكلما ضعف تمسك الناس بالهدى بمنهج الله عز وجل، جاءت رسالة جديدة، إلا الذي ينبغي أن يكون واضحاً تماماً هو أن كل جيل ينبغي أن ينقل إلى الجيل الآخر معالم الهدى.
لذلك ما لم تُبنَ مناهج التربية على وحي السماء، وعلى الهدى الذي جاء به الأنبياء فهناك خطر كبير، خطر الفساد في الأرض، خطر الشقاء، فساد وشقاء .
لكن قد تشير بعض الحقائق إلى أن الأجيال ينبغي أن تتوارث نقل الهدى من جيل إلى جيل بمثَلٍ في جسم الإنسان :
من الإعجاز في خَلق الإنسان :
1 – في جسمِك مدرسة حربية وأنت لا تدري !!!
هناك غدة صغيرة جداً لا تزيد على حبة الحمص، إلى جانب القلب، كتب الطب من مئة عام أجمعت على أن هذه الغدة لا وظيفة لها إطلاقاً، بسبب أنها تضمر بعد سنتين وتتلاشى كلياً، وهناك دراسات من عقد واحد من الزمن تؤكد أن هذه الغدة أخطر غدة على الإطلاق، إنها مدرسة حربية، تدخلها الكريات البيضاء المقاتلة، وتتعلم فيها من هو الصديق ومن هو العدو، الكريات البيضاء خمس فرق، فرقة الاستطلاع، وفرقة تصنيع السلاح، وفرقة المشاة المحاربين، وفرقة الخدمات، وفرقة المغاوير، الحديث عن الفرقة الثالثة فقط فرقة المقاتلين، هذه الكريات البيضاء المقاتلة معها سلاح فتاك، لكنها جاهلة، سماها العلماء الخلية التائية الهمجية، تدخل هذه إلى هذه الكلية الحربية وقد كُبِّرت هذه الكلية آلاف المرات بدت وكأنها مدرج، وهذه الخلايا التائية الهمجية تجلس على مقاعدها في هذا المدرّج، أمّا كيف تُعلَّم هذه الكريات الهمجية مَن هو الصديق والعدو فهذا لا يعلمه إلا الله .
تمضي هذه الكريات البيضاء في هذه المدرسة الحربية سنتين كاملتين، تتعلم من هو الصديق، ومن هو العدو، ثم ينتهي العامان الدراسيان بامتحانين، الامتحان الأول تُعطى الخلية التي كانت همجية فأصبحت مثقفة تعطى عنصرًا عدوًّا، فإذا قتلته تنجح وتتخرج، وإذا لم تقتله ترسب وتُقتل، الامتحان الآخر تعطَى عنصرًا صديقًا، فإن قتلته ترسب وتقتل، وإن لم تقتله تنجح وتتخرج.
الآن مجموع الكريات البيضاء المقاتلة تتخرج بعد سنتين من هذه الكلية، وتغلق الكلية أبوابها، وتضمر وتتلاشى، الآن الجيل المتخرج من هذه الكلية يتولى تعليم الأجيال اللاحقة، إلى نهاية الحياة، كل جيل يعلم الجيل القادم .
2 – تعلَّم نقل العلم مِن نظامِ جسمك :
ذكّرتني هذه الحقيقة العلمية بأن البشر ينبغي أن يكونوا كذلك، أن ينقلوا إلى أجيالهم اللاحقة الهدى الإلهي، مع التربية التي تناسب هذا الهدى .
بعد ستين سنة يضعف التعليم في جسم الإنسان، فيصاب الإنسان بشيء اسمه خرف مناعي، التعليم ضعيف، هناك جندي معه سلاح فتاك وجاهل فقد يضرب الصديق، وقد يقتل الموالي، لذلك ينشأ في جسم الإنسان بعد سن الستين حرب أهلية، من خصائص هذه الحرب الأهلية: التهاب المفاصل الرثوي، الذي معه التهاب مفاصل عنده حرب أهلية، فالعناصر القوية في الجسم تضرب عناصر المفاصل، وهناك سبعة أمراض خطيرة هي من نتائج الحرب الأهلية بين فرق المقاتلين المدججة بالسلاح، وهم جهلة، لأن التعليم كان ضعيفًا، هذه الحالة اسمها الخرف المناعي.
فلذلك الأمة مسؤولة أن تنقل رسالات السماء إلى الأجيال الصاعدة .
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) ﴾
3 – التعليم صنعةُ الأنبياء :
أيها الإخوة الكرام، لا بد من التنويه بأن التعليم صنعة الأنبياء .
(( وإنما بعثت معلماً ))
(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))
وإلى درس آخر إن شاء الله .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين