- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الثامنة ، وهي قوله تعالى:
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) ﴾
الإيمان بالله واليوم الآخر ركنان متلازمان :
أيها الإخوة، ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن كركن الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان بالله عز وجل هو أصل كل أنواع الإيمان، لكن ما لم تؤمن أن الله يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب لن تستقيم على أمره .
وقد وردت في القرآن الكريم آية هي أصل في الاستقامة :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا
اللام لام التعليل ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾
حينما تعلم أن علم الله يطولك ، وأن قدرته تطولك ، وأنه يعلم ، وسيحاسب وسيعاقب ، وأنه في اليوم الآخر تُسوى فيه الحسابات، يُؤخذ للضعيف من القوي، وللفقير من الغني، وللمظلوم من الظالم، هذا اليوم حينما تؤمن به تنزاح عن صدرك هموم كالجبال .
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) ﴾
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47) ﴾
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42) ﴾
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
1 – الميزان الشرعي :
يعني مثلاً: حينما تعتقد أن المال هو كل شيء، وأنك بالمال تصل إلى كل شيء، وأن المال قيمة ثابتة في كل العصور، وأن الذي معه المال معه كل شيء، ودنياه جنة، وأن الذي فقَد المال ما ذاق شيئاً من طعم الحياة، ودنياه جهنم، حينما تعتقد كذلك فهذا الإنسان هو أغبى الخلق، لأنه اعتمد ميزاناً ما أقره الله عز وجل .
2 – ميزان العلم والعمل :
الله عز وجل اعتمد ميزانين، اعتمد ميزان العلم، وميزان العمل، فقال :
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
وقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
هذا ميزان العلم ، وميزان العمل :
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، أما موازين الأرض، القوي معظّم ومبجّل، والناس ينصرفون إليه، وينصرفون عن الضعيف، والغني مبجل ومعظم، والناس ينصرفون إليه، وينصرفون عن الفقير، والإنسان الوسيم مبجّل ومعظّم، وينصرف الناس إليه، وينصرفون عن الدميم .
الأحنث بن قيس كان قصير القامة، أسمر اللون، أحنث الرجل، مائل الذقن غائر العينين، ناتئ الوجنتين، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، كان إذا غضب غضبَ لغضبته مئة ألف سيف، لا يسألونه فيمَ غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه .
3 – من السعادة موافقة ميزان الشرع :
حينما تأتي موازينك مطابقة لموازين خالق السماوات والأرض فأنت أسعد الناس، أنت الموفق، أنت الذكي، أنت العاقل، أنت الفالح، أنت الناجح، أما إذا اعتمدت ميزاناً ساقطاً عند الله عز وجل:
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ
4 – تقييم النفس والناس بميزان الشرع :
أيها الإخوة، البطولة أن يكون ميزانك في تقييم نفسك، وتقييم من حولك مطابقاً لميزان الله، أما إذا كان ميزانك أرضياً، وشركياً، ودنيوياً فهي الطامة الكبرى، لذلك البطولة أن تأتي يوم القيامة وفق موازين الله ناجحاً .
من هو الغني بميزان أهل الأرض؟ من كان عنده أموال طائلة، من هو الغني بميزان الله ؟ من كان له عمل صالح .
﴿ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
لما سقى للفتاتين سيدنا موسى قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
أنا مفتقر للعمل الصالح، لذلك قال سيدنا علي: << الغنى والفقر بعد العرض على الله >>
إذاً: الله عز وجل اعتمد ميزانين فقط، اعتمد ميزان العلم، واعتمد ميزان العمل
العلم: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾
والعمل: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
وأنت في الحياة الدنيا اعتمد هذين الميزانين، في تقييم نفسك، إذا كنت مؤمناً يجب أن تتمتع بمعنويات عالية جداً، والمال لا تعبأ به، إن لم يستوِ عندك التِّبر والتراب فلست مؤمناً .
(( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
فأنت ابحث عن ميزان الله يوم القيامة، أنت بقدر استقامتك على أمره، وبقدر خدمتك لخلقه، ترقى عند الله، أما عند الناس بقدر ولائك للأقوياء، ومدحك لهم، وانبطاحك أمامهم ترقى عندهم، لذلك المؤمن يعتز بإيمانه، ولا يعبأ بأهل الدنيا :
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) ﴾
﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) ﴾
﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
أيها الإخوة، هذا شيء مهم جداً، أن تعتمد على ميزان الله في تقييم نفسك، وفي تقييم خاطب ابنتك.
(( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ))
وفي تقييم شريكك عنده خبرات عالية جداً لكن دينه رقيق، هذا يدخلك في المال الحرام، أنت بحاجة ماسة إلى ميزان دقيق جداً تَزِين به كل شيء .
5 ـ ميزان الله هو عين العدل :
هذا الميزان يوم القيامة هو عين الحق، لا بد من أن أوضح :
فرق بين أن يكون الميزان عادلاً، وبين أن يكون عين العدل، فرق كبير، لا بد من مثل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
لم يقل: نجسون، لأن الإناء إذا كان نجساً يُطهَّر، أما النَّجَس عين النجاسة، لا تطهر أبداً، الفرق بين الصفة والمصدر كبير .
ولله المثل الأعلى: ميزان الله عز وجل ليس عادلاً، إنما هو عين العدل، هو العدل، لذلك بعض العلماء قال: " الحسن ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه الشرع "، الشرع هو الميزان على كل شيء، مهما طُرح مع المعصية من فلسفات، ومرغِّبات، وزخارف لفظية، ومنطلقات نظرية، وتطبيقات عملية، والاختلاط حضارة، والاختلاط يعمل تهذيب للمشاعر، الحسن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه الشرع، ابحث عن ميزان الله .
معنى : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
1 – مثال تقريب لمعنى الآية :
هذا مثل للتقريب: إذا أنشأت (سيركًا) نصبته في بعض المصايف، وجاءك دخل وفير، إذا كنت في دولة إسلامية مضطهدة، وتمكنت أن تخترع القنبلة النووية، فأصبحت هذه الدولة قوية، منيعة، مرهوبة الجانب، هل هذا الذي أنشأ سيركاً كالذي اخترع قنبلة يرفع بها شأن المسلمين، مثلاً؟ أي العملين أثقل في الوزن؟ العمل الثاني، في هذه الظروف الصعبة أنا أتكلم، أنت تنشئ جامعة لتخريج قادة للأمة، أو أن تنشئ ملهى ليلياً ؟ بينهما فرق كبير جداً .
2 – كل عمل له عند الله وزن :
فكل عمل له عند الله وزن، تطعم إنسانًا عمل صالح، أما أن تدله على الله عمل أعظم، فكل عمل له وزن، بر الصديق عمل طيب، لكن بر الوالدين عمل أطيب، أن تعتني بأولاد أصدقائك لباقة وذوق، أما أن تربي أولادك الذين ليس لهم إلا أنت عمل أعظم، كل عمل نعمله له عند الله وزن، العمل يُوزَن بنيته، قد يبتغي الإنسان من عمله أن ينتزع إعجاب الآخرين .
(( من طلب العلم ليجاري به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار))
كل عمل له ميزان، أولاً بنيته، ثانياً بحجمه، ثالثاً بعمقه، رابعاً بديمومته، خامساً باتساع رقعته.
العمل له وزن، هناك إنسان تطعمه وجبة واحدة، أما هناك إنسان تهيئ له عملاً يعيش منه طوال حياته، هناك إنسان يغض بصره عن الحرام، لكن هناك إنسان يأخذ بيد زوجته إلى الله فيجعلها مؤمنة كبيرة .
3 – النية والعقبات والصوارف تحدّد وزن العمل :
يعني الملخص كل عمل تعمله له وزن، فتحت حانوتك، نويت أن تربح من أجل أن تقتني سيارة، وأن تذهب إلى المصيف يوم الجمعة، وأن يرتدي أولادك ثياباً جديدة تتباهى بهم، أو من أجل أن تسكن بيتاً له إطلالة جميلة، ومساحته واسعة، فيه تزيينات رائعة، وقد تفتح حانوتك من أجل أن تخدم المسلمين، وأن تعطيهم بضاعة جيدةً بسعر معتدل، الفرق كبير، كل عمل له وزن، وزن بنيته، وزن بقدر العقبات الموضوعة أمامه، وزن بقدر الصوارف التي تصرف عنه، وزن بقدر التضحية من أجله، وزن بقدر المتاعب التي حصلها الإنسان من هذا العمل، وزن بقدر المعارضين له، كل عمل له وزن .
إذاً أيها الإخوة :
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
الميزان بكِفّتيه لا بكفة واحدة :
هناك تعليق لطيف: كل إنسان له ميزان، وكل عمل له ميزان، يعني معالجة المرضى هذا عمل طبي، له ميزان، بين أن تعالجه، وتعتني به عناية فائقة، وأن تسأله كل ساعتين عن صحته إذا كان من الأغنياء الموسرين، وتنتظر أن تأتيك منه مكافئة مجزية، وأن يضع لك في الصحيفة ثناء على علمك، وعلى عمليتك الجراحية، وبين أن تعتني بإنسان فقير جداً في مستشفى عام، لا أحد ينتبه إليه فتعتني به وكأنه في أرقى مستشفى، هذا وزن، وهذا وزن، كل عمل له وزن، وكل إنسان له وزن.
مثلٌ إلهي لوزن الناس :
أما الذي تجاوز الخمسين لما يراهق كالمراهقين الصغار!
الشاب إذا أخطأ فهو خطأ، لكن الشاب غير محصن، حوله نساء كاسيات عاريات، زلّت عينه، أخذته عينه إلى منظر لا يليق به، فتاب واسترجع، هذا شيء، والذي عمره خمسون سنة، وعنده زوجة وأولاد، عنده خمس بنات، وزوجهم كلهم، وهو مراهق؟! يتحرش بالسكرتيرة، يتحرش بهذه، هذه مشكلة كبيرة جداً، هذا له وزن، وهذا له وزن، كل عمل له وزن، وكل إنسان له وزن.
والله يا إخوان، أنا لا أتكلم من فراغ، والله تأتيني شكاوى من نساء مؤمنات طاهرات، يشتكين على أزواجهن 60، 65، 70، 58، مراهق، هذه نكسة كبيرة جداً . كل إنسان له ميزان ، وكل عمل له ميزان.
كل إنسان له ميزان ، وكل عمل له ميزان .
صدقوا أيها الإخوة، موازين الدولة عندها عشر مراتب، وكل مرتبة ثلاث درجات، يعني مليونَا موظف يجب أن يتعلموا في ثلاثين درجة، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
إذا كان لله ستة آلاف مليون إنسان فعنده ستة آلاف مليون ملف، كل واحد له درجة، بحسب وضعه، بحسب شبابه، بحسب سنه، بحسب حجمه المالي .
يعني دعا الخطيب إلى التبرع لصندوق العافية، دفع أحدُهم ألف، ومعه مئة مليون، وآخر دفع خمسين ليرة ومعه مئة ليرة، شاب صغير.
(( سبق درهمٌ مائةَ ألفٍ كان لرجلٍ درهمانِ فتصدَّقَ أجودُهما وانطلق رجلٌ إلى عرضِ مالِه فأخذ منها مائةَ ألفٍ فتصدقَ بها ))
درهم تنفقه في إخلاص خير من مئة ألف درهم يُنفق في رياء، درهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم يُنفق بعد مماتك.
مرة ثانية: كل عمل له وزن، له ميزان، وكل إنسان له ميزان، والموازين عند الله هي الحق المطلق:
أحياناً يكون هناك مثلاً صنجات في البلدية، هذه مدروسة على الميلي غرام، فأي صنجة عند بائع مزورة تُفحص على الأولى، أو أمتار، هناك متر في البلدية على مِعشار الميلي هذا المتر، فإذا شككنا بمتر ناقص سنتيمترين نأخذه إلى المتر الأصلي، والأصلي هو الميزان، هو المقياس، بكل المقاييس الدولة عندها موازين، ومقاييس، وأطوال، وعبوات، ومكاييل نظامية، هذه المكاييل والعبوات والأوزان والأطوال هي الأصل في تقييم كل ميزان آخر ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ
إذا زيّن أحدُهم بيته، هذا ليس حراماً، لكن وزن العمل يوم القيامة ضعيف جداً، إنسان ضحى بحياته من أجل الحق، هذا شهيد، هذا له بهذا العمل وزن كبير جداً .
العبرة أن كل عمل له وزن
لعلي استطعت أن أوصل لكم الفكرة، الأعمال لها وزن، هذه الأعمال توضع في ميزان الإنسان يوم القيامة، فإن كانت أعمال جليلة:
يعني إنسان يحمل ثلاث دكتورات، يعد مرجع أول في بلاده في الذرة مثلاً، إنسان يحمل أربع شهادات في الطب مثلاً، إنسان أسس جامعة كبيرة، إنسان له مئة مؤلَّف، هناك وزن.
مرة كنت في مسجد، وهناك رجلان يصليان، فلما انتهيا من صلاتهما أنا هرعت إلى أحدهما، وسلمت عليه سلاماً في أعلى درجة من الأدب والود، صديقي الذي معي ما فهم ماذا فعلت، يعني إنسانان يرتديان ثوباً أبيض في الصيف، ومتقدمان في السن، فلما هرعت إلى أحدهما، وسلمت عليه بأدب جم ما فهم صديقي مَن هما، هذا الأول كان عميد كليتنا في الأدب العربي، كان أعلم علماء المنطقة بالنحو، أنا درست على يديه أربع سنوات، أنا أعرف حجمه العلمي، ومؤلفاته، ومكانته العلمية، أما هو فيبدو إنساناً عادياً، بخريف العمر لبس ثوباً أبيض، ويصلي المغرب في الجامع .
فكل إنسان له وزن، لأن عمله كبير، إنجازه كبير، فلذلك: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
اسأل نفسك كل يوم : ماذا فعلتُ ؟
كل يوم اسأل نفسك: ماذا فعلت؟ ماذا قدمت لآخرتك؟ لو أن الله سألك يوم القيامة عبدي ماذا فعلت من أجلي ؟ ماذا فعلت ؟
بلا تحفظ معظم أعمال الناس من أجل دنياهم، من أجل دخل يتمتع بالحياة، يعيش مع الناس كواحد منهم، لا يعنيه لا هداية أمة، ولا حل مشكلة، ولا معرفة بالله عز وجل، فهذا الذي:
يجب أن تحاسب نفسك كل يوم، أو يجب أن نحاسب أنفسنا كل يوم، اليوم ماذا فعلت؟ هل تصدقت؟ هل دعوت إلى الله؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن منكر؟ هل أطعمت حيواناً جائعاً؟ هل رعيت أولادك؟ هل كنت باراً بوالديك؟ هل زرت فقيراً؟ هل عدت مريضاً؟ هل تصدقت على مسكين؟ هل نشرت حقاً؟ هل رددت باطلاً ؟ ماذا فعلت ؟ .
مستويات الموازين :
أيها الإخوة، الموازين لها مستويات يعني هناك ميزان يستعمل لوزن السيارات يمكن لو وضعت عليه مئة كيلو ذهب لا يتحرك إطلاقاً، صُمِّم لأربعين طنًّا، ثلاثون طنًّا ومئة كيلو لا تفعل فيه شيئًا، ولا يحركونه أبداً، لكن هناك ميزان لو وزنت به ورقة، وكتبت عليها كلمة محمد ترجح الكفة لوزن الحبر فقط، وهناك ميزان لو وضعت يدك فوقه، وحركتها عشرة ميلي تتغير الكفة، لأن الهواء ضغط على الكفة، هناك موازين حساسة جداً، وكلما ارتقى الإنسان تكون موازينه حساسة.
النبي رأى تمرة على السرير فقال :
(( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها))
اشتهى تمرة موجودة على السرير، يبدو أنه جاءه طبق صدقة، لعلها وقعت من هذا الطبق، قال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)
هناك إنسان عنده ميزان حساس لدرجة أنه لو لم يرحب بفلان ترحيباً كافياً للامَ نفسه، الذي عنده ميزان حساس ذنبه كأنه جبل جاثم على صدره، والذي ليس لديه ميزان حساس جريمته كالذبابة.
صدقوا أيها الإخوة، والله بميزان دقيق لم أرَ أشد غباء من الطغاة، يقتلون آلاف، ملايين، كيف ينامون؟! كيف سيواجهون الله عز وجل؟! شعوب تموت من الجوع، وهم يستغلون ثرواتهم، ينهبون أموالهم، ينهبون بترولهم، يقهرونهم، يُميتون، ساعة سلاح فسفوري، ومرة قنبلة ذكية، ومرة عنقودية، ومرة خارقة وحارقة، ومرة قنبلة تُوجَّه بالليزر، ومرة قنبلة نابالم حارقة، ومرة طائرة، ومرة قنبلة تلغي الاتصالات، مرة قنبلة تبيد البشر وتبقي الحجر، هناك موازين دقيقة:
قتل امرئ في بلدة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة في نظر
***
شعب بأكمله يُباد إبادة، ويُقال: نتابع بقلق ما يجري هناك، يتابعون بقلق هذا العمل، ويقولون: هذا العمل غير مقبول، غير مقبول فقط، أو يستنكرون، هذا كلام مضحك:
(( ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى فيها أن لو لم يقضِ بين اثنين في تمرة قط ))
حقوق العباد، قاضي يحكم بحسب المبلغ الذي قبضه؟ أخذه من أحد الخصمين؟
زيادة حساسية الميزان بزيادة الإيمان :
هناك موازين حساسة، وهناك موازين غير حساسة، وكلما ازداد إيمانك يدق ميزانك، تحاسب على النظرة، تُحاسب على الهمسة، على تألق الوجه مع إنسان عاصٍ له مكانة، سلمت عليه باهتمام، واحترام، وتعظيم، وتبجيل، والذين حولك رأوك مهتماً به أشد الاهتمام، وهو غارق في المعاصي والآثام، وقد تسلم على مؤمن طيب، ورِع، مستقيم، لكنه فقير، بسلام متعجل، ما سحب النبي يده من صحابي سلم عليه إلا كان النبي آخر من يسحب يده من يد الصحابي، والله أعطاك ميزان هو العقل، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، وأعطاك ميزان الفطرة، إذا أخطأت تشعر بانقباض، أعطاك ميزان العقل وأعطاك ميزان الفطرة، ما في إنسان يرتكب خطأ كبير إلا يشعر بألم.
كتب على سرير بألمانيا بفندق: إن تقلبت طوال الليل ولم تنم فالعلة ليست في فرشنا، إنها وثيرة، ومريحة، ولكن العلة في ذنوبك .
الصلاة ميزان :
الإنسان أحياناً لا ينام الليل، يرتكب خطأ، وليس مُداناً في الأرض إطلاقاً، لكنه لا ينام الليل، والصلاة ميزان، العمل الطيب تستطيع بعده أن تتصل بالله عز وجل، لكن العمل السيئ قد لا تستطيع بعده أن تُقبِل على الله، المؤمن عنده حساسية فائقة جداً، تكون صلاته ميزانًا، هذا لمَ سخرت منه؟ لمَ دخلت هذه المرأة إلى المحل التجاري، وأدرت معها حديثاً لطيفاً؟ وملأت عينيك من محاسنها، والظهر أذن تفضل صلِّ، لا تستطيع أن تصلي، إذا ملأت عينيك من محاسنها، وأدرت معها حديثاً عاطفياً، وأذن الظهر تشعر بنفسك أن هناك حجاب صار بينك وبين الله، لأنك ما كنت مع الموقف الكامل .
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا
كلمة واحدة، الآنسات ماذا يفعلن هنا؟ خير إن شاء الله، لا،
﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا
فلذلك الصلاة ميزان، وأقول لك هي من أدق الموازين، أنت حينما تعمل عملاً طيباً تقف بين يدي الله مقبلاً، إذا لم تستحِ بعملك أمام الله فافعل ما تشاء، الصلاة ميزان .
والعقل ميزان .
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ(8) ﴾
احذروا ازدواجية الموازين والمعايير !!!
لماذا لمّا تشتري القماش تكليه بخط منحنٍ مع المتر؟ أما إذا بعته تشده حتى يتمزق، لماذا؟ عندك ميزان مزدوج معناها، لماذا تعامل زوجة ابنك بميزان وابنتك بميزان، البنت ذنبها مغفور، أما زوجة الابن ذنبها غير مغفور أبداً، لماذا تعامل هذا الموظف الذي في سن ابنك تماماً، لماذا تعامل هذا الموظف بميزان وابنك بميزان؟ تحمّله أول ثوب، والثاني، والخامس، لم يعد يستطيع أن يحمل، فتقول له: أنت شاب، ثم يحمل ابنك أول ثوب والثاني فتقول له: بابا ظهرك، انتبه، وأمام الصانع، عندك ميزانان معناها .
أمثلة واقعية من ازدواجية المكاييل :
الحقيقة ليست فقط الدول القوية المتغطرسة عندها مكيالان، بل ثلاثة أرباعنا معنا مكيالان، تكيل لكل إنسان بمكيال، فإذا كان عندك بضاعة فهي أفضل بضاعة في الأرض، إذا قال لك زبون: عندك بضاعة، وهي ليست عندك، تقول له: ماذا تريد من هذه؟ قد تكون أحسن من بضاعتك، لكن أنت عندك ميزانان، البضاعة ما عندك منها، إذاً تبخس فيها، لو أردت أن أضرب أمثلة لا تنتهي الدروس بأمثلة من يكيل بمكيالين .
قصة طريفة، أن امرأة زوج ابنتها أتى بغسالة من أرقى مستوى، فدعت له، وأثنت عليه بشكل غير طبيعي، من غرائب الصدف في اليوم نفسه ابنها أتى لزوجته بغسالة أيضاً من نفس المستوى فغضبت عليه، هذه مثل القردة قاعدة في البيت، بنفس اليوم مكيالان .
حينما تكيل بمكيالين تسقط من عين الله، ولَأَن تسقط من السماء إلى الأرض أهون من أن تسقط من عين الله، لا تكل بمكيالين، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك .
الخطأ في الوزن لا يتكرر ، أما الخطأ في الميزان فلا يصحح :
إخواننا الكرام، مرة ثانية الخطأ في الوزن لا يتكرر، أما الخطأ في الميزان لا يصحح، اجهد ألا تخطئ في الميزان، الميزان غير صحيح لو استخدمته مليون مرة كل هذه الأوزان غير صحيحة، أما حينما تتوهم أن الكيلو كيلوين فهذا خطأ في الوزن لا يتكرر، فالخطأ في الميزان لا يصحح، والخطأ في الوزن لا يتكرر .
الآن :
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) ﴾
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
أعماله كلها دنيوية، أعماله كلها لصالحه، لرفاهه، لزيادة ثروته، لاستعلائه على الناس: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾
الخسارة يوم القيامة أكبر خسارة على الإطلاق :
يعني أكبر خسارة لا أن تخسر مالك كله، ولا أن تخسر بيتك، ولا تجارتك، ولا وكالة سُحبت من يدك، ولا منصب عُزلت منه، أكبر خسارة أن تخسر نفسك يوم القيامة .
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
هذه أكبر خسارة :﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ لذلك بالقارعة :
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) ﴾
يتجه إلى الهاوية إلى النار .
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ(11) ﴾
كل عمل له وزن، يوزن بنيته، بحجمه، بعمق تأثيره، بامتداد أمده، باتساع رقعته، بالعقبات التي أمامه، بالصوارف التي تصرف عنه، وهناك آلاف الموازين للعمل الواحد، وكل عمل له وزن، وكل إنسان له وزن:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين