- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الرابعة عشرة، وهي قوله تعالى :
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14) ﴾
أمنيةُ الشيطانِ : التأخيرُ إلى يومِ القيامة :
1 – هذا ما يفعله الحقد :
حينما عصى إبليس ربه، وأبى أن يسجد لآدم، وكان عند الله من الصاغرين، كفعل أي مشرك حقد على آدم حقداً شديداً.
لذلك تمنى على الله أن يؤخر أجله إلى يوم القيامة، حتى ينتقم من آدم وذريته من بعده، فعلّة أنه طلب من الله عز وجل أن يؤخر أجله إلى يوم القيامة كي ينتقم من آدم، ومن ذريته جميعاً.
2 – المؤمنُ لا يحقد :
وهذا الموضوع يوقفنا عند نقطة: أن المؤمن موحّد يرى أن الله عز وجل هو الفعال، لذلك لا يحقد على بني البشر، ذلك أن الله عز وجل يقول :
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
الصبر يحتاج إلى إيمان، وإلى إرادة، لكن هناك آية أخرى تلفت النظر:
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43) ﴾
فائدة جليلة :
اللام لام التوكيد، وهناك لام المزحلقة، توكيدان، فما الفرق بين الآيتين؟ سأوضح لكم بمثل:
لو أن أباً عنده ابن يحبه حباً جماً، وقع من الشرفة فنزل ميتاً، ليس هناك في بني البشر من يحقد عليه، هذا قضاء وقدر من الله مباشرة، أما حينما - لا سمح الله ولا قدر- يدهس سائق ابنه فهناك إنسان أمامه يمكن أن يصب جام غضبه عليه، يمكن أن يحقد عليه، لذلك جاء الصبر.
إذا كان قضاء الله وقدره على يد إنسان يحتاج إلى صبر أشد، وإلى إيمان أشد، وإلى إرادة أشد، لذلك قال: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ﴾
فإبليس حينما كان عند الله من الصاغرين، وكان كما تروي بعض الكتب متفوقاً قبل أن يُؤمَر بالسجود، فحينما طرده الله من رحمته حقد على آدم، لذلك قال: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(15) ﴾
3 – الغاية من طلب إبليس التأخير شفاءُ الغليل من ذرية آدم :
لذلك دققوا الآن، الفاسد يتمنى أن يكون جميع الناس فاسدين، والمنحرف يتمنى أن يكون جميع الناس منحرفين، والضالّ يتمنى أن يكون جميع الناس ضالين.
فلذلك قد ينتقل الإنسان من حالة الضلال إلى الإضلال، من حالة الفساد إلى الإفساد، من حالة الانحراف إلى الدعوة إلى الانحراف، من حالة التكذيب إلى الدعوة إلى التكذيب، هذا شأن المنحرف، المنحرف الذي خرج عن منهج الله، وعصى الله اختل توازنه النفسي، وضعه غير طبيعي، وضعه النفسي غير سوي، مريض، المرض الأكبر أن توازنه اختل، وأيّ إنسان يعصي الواحد الديان يختل توازنه، لأن فطرة الإنسان منطبقة انطباقاً تاماً على منهج الرحمن، الفطرة كالمنهج، فلمجرد أن تعصي الله خرجت عن منهج الله، أو خرجت عن فطرتك، اختل التوازن، وحينما يختل توازن الإنسان يحاول أن يستعيده، فكيف يستعيده؟ دعك من إبليس، الله عز وجل قال :
﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ
هناك شيطان من الإنس، فلما ينحرف الإنسان، يقصّر، يترك الصلاة، يكذب، يحلف يميناً كاذباً، يأكل مالاً حراماً، يقبل دخلاً مشبوهاً، يقصّر في واجباته، يقصّر في عباداته، يبني مجده على أنقاض الآخرين، يبني حياته على موتهم، يبني غناه على فقرهم، يبني أمنه على خوفهم، يبني عزّه على ذلهم، اختل توازنه، كيف يستعيد هذا التوازن ؟
كيف يستعيد الإنسانُ توازنه بعد اختلاله بالانحراف ؟
هناك طريق واحدة سليمة وصحيحة ورائعة وبطولية، أن يتوب إلى الله، يستعيد توازنه فوراً، أن يصطلح مع الله، أن يُقبِل على الله، أن يفتح مع الله صفحة جديدة، هذا الطريق السليم، الرجعة الرائعة، لكن الذي خرج عن منهج الله، وضل ضلالاً مبيناً، وقصر في واجباته، وأساء لخلقه، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، هذا إنسان اختل توازنه، وقد يحاول أن يستعيد هذا التوازن بمعاصٍ جديدة، ماذا يفعل؟ يطعن بالصالحين .
كل إنسان عاصٍ لا يصدق إنساناً نظيفاً، يقول لك: له أهداف، أنت تعرف الظاهر، لأنه لما يتهم الناس جميعاً يرتاح، يقول لك: قضية عامة، لذلك العقل الباطل للإنسان حينما يرى إنساناً صالحاً، مستقيماً، منضبطاً، سعيداً لا يصدقه، له دخل آخر لا نعرف، الله أعلم، مباشرة يتهمه، بلا دليل، بلا شيء مؤشر، فالطعن بالصالحين من صفات الذين اختل توازنهم، حتى الأنبياء المعصومون قيل لهم: تريد أن تتفضل علينا، تريد أن تكون عالياً في الأرض، تريد أن تستغلنا، حتى الأنبياء ما نجوا من اتهام المنحرفين .
لذلك تروي بعض القصص للعبرة فقط: أن سيدنا موسى قال في المناجاة: يا رب، لا تبقِ لي عدواً، قال: يا موسى هذه ليست لي، هناك أعداء لله عز وجل .
فأنت اطمئن، حينما تستقيم على أمر الله، حينما تسعد بالله، حينما تفتح مع الله صفحة جديدة، حينما يكون باطنك كظاهرك، وعلانيتك كسريرتك، وخلوتك كجلوتك، وحينما تقول: أنا أسعد الناس فهناك من يشكّك فيما تقول، هناك في من يطعن، هناك في من يقلل من أهميتك، هذا شيء طبيعي، حتى قيل:
لا بد للمؤمن من كافر يقاتله، ومنافق يبغضه، ومؤمن يحسده، ونفس ترديه، وشيطان يغويه.
إذاً: الطريق غير الصحيح لاستعادة التوازن الطعن بالصالحين، لذلك في أي جلسة المتكلمون، المقصرون، الذين لا يعبدون الله يَدَعون كل الشرائح، وكل الأطياف، ويركزون على الدعاة إلى الله، بلا سبب، وبلا ذنب، وبلا دليل، لكنهم إذا طعنوا فيهم يرتاحون .
مرة سألت طالباً: أين وظيفتك؟ فقال لي: لسنا كاتبين لها يا أستاذ، قلت له: أنت كم طالباً ؟
أحياناً تكون امرأة مصابة بالإيدز فتغوي 37 شاباً، كي يتوسع هذا المرض .
المنحرف يريد أن يكون الناس جميعاً منحرفين، والمقصر يتمنى أن يكون الناس جميعاً مقصرين، والذي يغش المسلمين يقول: الكل يغش، ولا أستثني أحداً، لكن حكمة الله جل جلاله يجعل الله في كل مكان، في كل دائرة، في كل مؤسسة، في كل مستشفى، في كل معمل، في كل جامعة، في كل مدرسة، في كل سلك إنسان مستقيم، هذا المستقيم هو حجة على غير المستقيم .
والله خلال تجربة مديدة ما رأيت مكاناً، ولا مؤسسة، ولا عملاً، ولا دائرة إلا وفيها إنسان مستقيم يعد شاهداً وحجة على غير المستقيم .
إذاً: إما أن تستعيد هذا التوازن بالتوبة إلى الله، والصلح معه، وإما أن تستعيد هذا التوازن بأن تطعن بالصالحين، وإما أن تستعيد هذا التوازن بإفساد الصالحين، غير الطعن، تجر الناس إلى معصية الله، تجرهم إلى الفساد، تزين لهم الدنيا، تزين لهم المعاصي والآثام، أو أن تتعلق بعقيدة زائغة، أن النبي الكريم يشفع لنا، إذاً: افعلوا ما تشاؤون، يتعلق الإنسان بعقيدة زائغة غير صحيحة، الشفاعة حق، ولكن لمن مات موحداً، لا لمن ارتكب كل المعاصي والآثام .
(( يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ
(( مَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ. ))
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19) ﴾
أيها الإخوة الكرام، إذاً: حينما يعصي الإنسان يختل توازنه، يبحث عن استعادة هذا التوازن إما أن يتوب إلى الله، وهذا أسلم طريق، أو أن يطعن بالصالحين، أو أن يتعلق بعقيدة زائغة، أو أن يفسد الصالحين .
يعني ذهب إنسان إلى بيت الله الحرام، وتاب هناك، وكان يشرب الخمر قبل الحج، له أصدقاء، عاد من الحج تائباً، يقول لي: مرة قال له صديق غني: كم كلفتك هذه الحجة؟ قال له: مثلاً قصة قديمة كلفتني خمسين ألفاً، قال له: خذ هذه الخمسين واشرب الخمر، ثم حج ثانية وتب، لماذا؟ الفاسد يحب أن يفسد، العاصي يحب أن يدعو الناس إلى المعصية .
إذاً: إما أن تُفسِد، وإما أن تطعن بالصالحين، وإما أن تتعلق بعقيدة زائغة، وإما أن تتوب إلى الله، أما كل إنسان يعصي الله يختل توازنه .
مِن سننِ الله في خَلقه : الموت :
لكن إبليس حينما قال: ﴿أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
إذاً طلبه الذي طلبه، وتمنياته الذي حلم بها، أن يبقى إلى يوم القيامة لم تُحقَّق لكن الله عز وجل في سورة الحجر قال له :
﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
يعني هذا الوقت لا تعلمه أنت، نعلمه نحن، وهناك حكمةٌ بالغةٌ بالغةٌ من أنّ أجلَ الإنسان لا يعرفه.
حدثني إنسان والله عن عشرين سنة قادمة، خططه، وسفره، وعودته، وإحالته على المعاش، وإنشاء محل تجاري، وقد كبر أبناؤه، ونوع البضاعة، ولماذا اختار هذه البضاعة، ثم رأيت نعوته في اليوم نفسه.
لذلك قال له: ﴿فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ﴾
أيها الإخوة، كلكم يعلم أن هناك نفختين، لذلك قال تعالى :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(68) ﴾
حينما يُبعث الناس الذين هم في القبور، لذلك قال الله عز وجل: ﴿فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ﴾ ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
الإنسان مخيَّرٌ :
أيها الإخوة، الإغواء: الإغراء بالمعصية، لمن نسب إبليس معصيته؟ إلى الله، هؤلاء الجبريون الذين يتوهمون أن الله أجبرهم على المعصية، ولو أن الله أجبر عباده على المعصية لبطل الثواب، وبطل العقاب، وانتهى الوعد والوعيد.
يا أمير المؤمنين، أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ قال:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
القرآن ينطق بأن الإنسان مخير، بل :
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148) ﴾
هذه الآية أصلٌ في أن الإنسان مُخيّر، ولا يقول إنسان: بأنه مقهور على معصية الله إلا مشرك:
ودائماً المنحرف والمقصّر والعاصي يميل إلى أن يعزو خطأه ومعصيته إلى الله، يقول: الله كتب علي الشقاء، ما بيدي، من قال الأمر ليس بيدك؟ النبي عليه الصلاة والسلام يبين أن الإنسان مخير، والقرآن الكريم يبين ذلك .
لذلك جيء لحاكم بشارب خمر، فقال: أقيموا عليه الحد، قال: والله إن الله قدّر علي ذلك، فقال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا، إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.
إبليس قال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾
﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ
الإضلال الجزائي والإضلال الحكمي والإضلال عن الشركاء :
يجب أن تقف عندها وقفة متأنية :
1 – الإضلال الجزائي :
إذا عُزي الإضلال إلى الله -دققوا - فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
يؤكد هذا المعنى هذا المثل:
طالب في الجامعة لم يداوم، ولم يقتنِ الكتب، ولم يقدم الامتحان، جاءه إنذار وثانٍ، وثالث، ورابع، وخامس، لم يستجب، صدر قرار بترقين قيده من الجامعة، هل هذا القرار قهر له؟ لا، إنه تجسيد لرغبته.
يعني إذا عُزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري.
2 – الإضلال الحكمي :
وقد يُعزى الإضلال إلى الله، ونقصد به الإضلال الحكمي.
إنسان رفض الدين كلياً، إذاً رفض معه كل توجيهات الخالق، رفض معه كل أسباب سلامته، كل أسباب سعادته، كل أسباب رزقه، كل أسباب نجاحه، كل أسباب توفيقه.
﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
أنت حينما ترفض منهج الله معنى ذلك أنك رفضت كل ما عند الله، هذا اسمه الإضلال الحكمي.
يعني إنسان في طريقه إلى حمص، وليس هناك لوحة، هناك خطأ، وهناك طريقان، ما عرف أين طريق حمص، رأى رجلاً واقفاً قال له: بالله عليك من أين حمص؟ قال له : من هذا الطريق، قال له: بارك الله بك، لما قبِل هذه النصيحة قال له: بعد فترة يوجد تحويلة انتبه لها، ويوجد جسر ضيق و.و.. حكى له عشرة تفصيلات دقيقة جداً، لما قبلت هذا التوجيه استفدت من مئات التوصيات، والنصائح، والتعليمات.
لو سأل رجلٌ آخر هذا الإنسانَ: من أين حمص؟ قال له: من هنا، قال له: أنت كذاب، هل يقدر هذا الإنسان أن يذكر له التفصيلات، هذا المسافر ضل، ما الذي جعله يضلّ؟ أنه رفض مشورة هذا الإنسان ونصيحته .
حينما يرفض الإنسان الدين يخسر كل توجيهات الخالق، يخسر كل تعليمات الصانع، يخسر كل أسباب سلامته، يخسر كل أسباب سعادته إذا رفض الدين، هذا الإضلال إذا عُزي إلى الله يعني الإضلال الحكمي، الأول الإضلال الجزائي .
3 – الإضلال عن الشركاء :
لكن هناك إضلال ثالث، شيء رائع جداً، الله عز وجل لأنه يحب عباده يضلهم عن شركائه، واحد اعتمد على ماله، من اعتمد على ماله قلّ، اعتمد على ماله وقال: الدراهم مراهم، والله وضعه بمأزق، المال لا يفعل شيئاً، أعطاه درساً في التوحيد، أبعده عن الشرك، أضله عن أن يتوهم أن المال تُحَل به كل المشكلات، هذا الإضلال عن الشركاء .
إنسان اعتمد على عقله، قال: من اعتمد على عقله ضلّ، نسي المنهج، نسي الوحي، نسي الكتاب، نسي السنة، جمع طرح ، قال لك: الاختلاط ضرورة، يهذّب المشاعر، إذا كان في الصف بنات وذكور تجد الذكور يتنعمون كثيراً، مثلاً، يريدون أن يحسنوا صورتهم أمام الفتيات، خرج بفكرة خلاف القرآن والسنة، اعتمد على عقله فضل، الأول اعتمد على ماله قل .
فهذا إضلال عن الشركاء، فالصحابة الكرام هم قمم البشر، ومع ذلك لما قالوا في حنين:
(( ولا يُغلَبُ اثنا عشَرَ ألفاً مِنْ قِلة ))
قال:
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾
إذاً: أنت حينما ترى آية في القرآن تُعزى فيها الضلالة إلى الله فهي من نوع الإضلال الجزائي، أو الإضلال الحكمي، أو من معنى الإضلال عن الشركاء، لذلك قالوا: في القرآن آيات محكمة هن أم الكتاب، وآيات متشابهة، الآيات المتشابهات مهما كثرت تُحمل على الآيات المحكمات مهما قلّت.
يعني مثلاً: أنا أقول: القمح مادة خطيرة في حياتنا، خطيرة؟ يعني قنبلة هو؟ متفجرات؟ وقد يكون مادة أساسية، لكن كلمة خطيرة تحتمل أنه مادة متفجرة أو مادة أساسية، بعد حين قلت: القمح مادة أساسية، ما معنى خطيرة إذاً ؟ أساسية .
فالآيات المتشابهات مهما كثرت تُحمَل على الآيات المحكمات مهما قلَّت، فأية آية فيها إضلال:
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ
قال : ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ﴾
1 – بين الوقوف والقعود والاضطجاع :
الإنسان يقف، وإذا كان واقفاً حمل كل وزنه، لأن الوقوف متعب، أما إذا جلس فيحمل نصف وزنه، ما دام ظهره قائماً، أما إذا اضطجع ارتاح من حمل وزنه، الجاذبية تجذبه وهو مضطجع جميعاً، وهذه أكثر الحالات راحة، حالة أن يكون مضطجعاً، وأصعب حالة أن يكون واقفاً، أما حالة القعود فحالة وسط .
عندنا في الآلات استعداد، أحيانا الآلة واقفة، لكنها في حالة استعداد، أو مغلقة، يوجد ثلاث حالات: تعمل، استعداد، مغلقة، فالوقوف يعمل الإنسان، الاضطجاع مغلق، أما القعود استعداد، لأن الوقوف من القعود سهل جداً، أما الوقوف من الاضطجاع فصعب .
لذلك الشيطان إبليس اللعين قال له :
﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
لا تنم، إذا كان عدوك نملة فلا تنم له، لا تنم له، أي كن يقظاً، هذا الشيطان قال: ﴿لَأَقْعُدَنَّ﴾
﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
يروى من باب الطرفة أن رجلاً سأل الشيطان: ماذا أفعل ؟ عنده مشكلة، قال له: افعل كذا، قال له: فعلتها، افعل كذا قال: فعلتها، عرض عليه عشر حالات، كلها فعلها، قال له: لم يعد عندي، بعد هذا قال له: ماذا تريد أن تفعل ؟ قال له : كذا وكذا، قال له: اتقِ الله يا رجل .
الشيطان جاهز بكل الطرق والتلبيسات :
﴿لَأَقْعُدَنَّ﴾
﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
مرة سألني رجل أن هؤلاء الأجانب ما عندهم صحون، الصحون فيها مضمون إباحي، هم إباحيون، حياتهم اليومية مضمون الصحون ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
الجهات التي يأتي منها الشيطان :
1 ـ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
﴿بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾
﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10) ﴾
الشيطان عنده أقوال، يقول لك: من هنا إلى يوم الله يفرجها الله، عنده أساليب كثيرة كي يشككك من هذا اليوم الخطير.
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾
﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
والجنة هي في الدنيا، الغني في جنة، والفقير في جهنم، أو الأشياء المستحدثة التي فيها فسق وفجور يرحب بها كثيراً، يعني مهرجانات الأعمال الفنية الساقطة يهتم بها كثيراً، كل المعاصي والآثام المعاصرة يحفل بها ويعتني بها، ويبين أنها حضارة ورقي، ورقص الباليه شيء راق جداً مثلاً، أو الفنون الجميلة حيث الصور عارية تماماً، فن جميل يا أخي، إن الله جميل يحب الجمال، فكل شيء بين أيدي الحياة المعاصرة لو صادم الشريعة والحقيقة يحفل به .
2 – وَمِنْ خَلْفِهِمْ
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾
يا أهلي يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي .
أندم الناس غني دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، ترك لهم مالاً يرثونه حلالاً، هم أنفقوه في طاعة الله، فدخل ورثته بمال أبيهم الجنة، ودخل الأب بماله غير المشروع النار .
لذلك مرة قرأت أربعة أدعية مؤثرة جداً :
اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني:
اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك:
اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحد سواك:
وآخر دعاء: اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك:
للتقريب:
﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) ﴾
إذاً: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾
﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾
﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾
3 – وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾
4 – وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
كان عليه الصلاة والسلام تعظم عنده النعمة مهما دقّت ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾
أيها الإخوة، النبي عليه الصلاة والسلام كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت .
الآن الله عز وجل يقول :
﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا
قال رجل لإنسان: خذ هذه الليرة وعدّها، لا تُعَد، المعنى أن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في سبيل إحصاء بركاتها لا تستطيع، ودائماً الإنسان عاجز عن شكر النعمة، فلأن يكون عاجزاً عن شكرها من باب أولى .
يعني بربك لو أنجبت مولوداً مباركاً، وجاءتك مئة هدية، إحصاء هذه الهدايا يتم في ربع ساعة، أمّا تأدية ما يقابلها فيحتاج إلى وقت، وإلى مال، ونفقات كبيرة .
فنحن عاجزون عن إحصاء النعمة الواحدة، فلأن نكون عاجزين عن شكر النعم كلها من باب أولى.
ثم إن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18) ﴾
والتي بعدها :
﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(19) ﴾
والحمد لله رب العالمين