الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن والأخير من دروس سورة الحديد، ومع الآية الثامنة والعشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورًا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(28)﴾
تقسيم الناس عند الله تعالى:
أيها الإخوة الكرام، بادئ ذي بدء يُخاطب الله سبحانه وتعالى عامَّة الناس بأُصول الدّين، بينما يُخاطب المؤمنين بِفُروع الدِّين، هذا أصلٌ في القرآن الكريم، فالله تعالى يقول:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
وقال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾
أيها الإخوة، الإيمان أعلى مرتبة ينالها الإنسان، فالناس رجلان؛ مؤمن وغير مؤمن، وقد يكون الإنسان كافراً أو ملحداً أو مشركاً أو منافقاً، لكن الأصحّ أن نقول: هناك مؤمن وغير مؤمن، فالناس على كثرتهم، وعلى كثرة انتماءاتهم، وكثرة انتسابهم، الناس بحسب أعراقهم وأجناسهم ومِلَلهم، ونِحَلهم ومذاهبهم، وطوائفهم، الناس بحسب مكانتهم، إنتاجهم، استهلاكهم، غِناهم، فقرهم، كل هذه التقسيمات؛ العرق الأبيض، العرق الملون، أهل الجنوب، أهل الشمال، أهل الشرق، أهل الغرب، كل هذه التقسيمات –صدقوني أيها الإخوة- ما أنزل الله بها من سلطان، ليس هناك إلا تقسيمان اثنان هما: مؤمن وغير مؤمن! ولن تجد رجلاً ثالثاً، فالمؤمن عرف الله، وبحث عن منهجه، وطبَّقه، وتقرَّب إليه واتَّصل به، وأحْسَنَ إلى خلقِهِ، فسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وغير المؤمن غفَلَ عن الله، وتفلّت من منهجه، وأساء إلى خلقِهِ، وانقطع عن الله فَشَقِيَ في الدنيا والآخرة، لن تجد رجلاً ثالثاً، ويؤكِّد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ. ))
فإذا قال الله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ فهو يُخاطب مَن عرفهُ، يخاطب من آمن بِوُجوده، مَن آمن بوحْدانِيَّته وكماله، يخاطب مَن عرف سِرَّ وُجوده، وغاية وُجوده، من أين؟ ماذا كنا قبل الحياة، وإلى أين؟ ولماذا؟ فهذا الذي عرف الله هو المَعْنِيُّ بالخِطاب، ولذلك أودّ أن أُزجي نصيحة لإخوتنا المؤمنين: قبل أن تُعرِّفوا الناس بأمر الله؛ عرِّفْوهُم بالآمِر، وقبل أن تُعرِّفوهم بِتَفاصيل الدِّين، عرِّفوهم بأُصول الدِّين، لأنَّ تفاصيل الدِّين لا معنى لها إنْ لم نؤمن بِأصول الدِّين، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾.
التَّقوى: مِن وقى، والوِقاية لا تكون إلا من شيء مُخيف، يعني ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ إيمانكم لا معنى له إنْ لم تتَّقوا الله، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ إيمانكم لا يُجدي إن لم تُطيعوا الله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ إيمانكم لا يرقى بكم إن لم تستقيموا على أمره، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ إيمانكم لا يقدِّم ولا يؤخّر إنْ لم تعتمدوا منهج الله في حياتكم، ففي الحج هناك أربعة ملايين من الناس يطوفون حول الكعبة كل عام، وهذا شيء جميل جداً، ولكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح يقول:
(( خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ. ))
والمسلمون يعدون مليار ومئتا مليون.
أريد أن أقول لكم حقيقة أيها الإخوة: ربنا عز وجل إذا قال:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
هناك علاقة جدليَّة بين الإيمان والاستخلاف؛ فإن كنت مؤمناً كما أراد الله تعالى اسْتخْلفَكَ الله في الأرض، وهذا ليس شيئاً نادراً، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ هذه سنَّة الله وقانونه في خلقه، فإن لم نُسْتخلَف، ولم يكن أمرنا بأيدينا، ولم تكن كلمتنا هي العليا، فمعنى ذلك أنَّ في إيماننا خللاً وخطأً، لسنا في مستوى الإيمان الذي أراده الله، لسنا في المستوى الذي ينبغي أن نكون عليه، لسنا في المرتبة التي ينبغي أن نكون فيها، فالقضيَّة دقيقة جداً أيها الإخوة، وقد يسأل سائل: يارب ألم تقل في كتابك الكريم:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
ألم تقل في كتابك الكريم:
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(160)﴾
ألم تقل في كتابك الكريم: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾
أريد هنا أن أقول لكم كلمة مختصرة: إن الإيمان الذي لا يَحْمِلُكَ على طاعة الله والخوف منه، ولا يجعلك تقف عند الحلال والحرام، هذا الإيمان لا جَدوى منه إطلاقاً، فإقرارك بأنَّ الله خلق الكون قد أقرَّهُ إبليس من قبل، كما أن إقرارك بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق قد أقرَّ به كلّ الكفار، فهم عبدوا الأصنام وقالوا كما في قوله تعالى:
﴿ أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ(3)﴾
فالعِبرة أن تضَعَ يَدَك على جَوْهر الدِّين، العبرة أن تؤمن الإيمان الذي ينبغي أن يكون، فإن آمنْتَ الإيمان الصحيح ينبغي أن تقطف ثِمارَهُ، إن آمنْتَ الإيمان الصحيح ينبغي أن تلمس بيدك نتائجهُ.
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أي: أطيعوه، نقفُ هُنَيْهةً عند هذه الآية:
﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ فكيف تطيع الله إن لم تعْرفْهُ؟ ثم كيف تُطيعه إن لم تعرِف أمرَهُ؟ فمن أجل أن تطيعه، ومن أجل أن تتَّقي معْصِيَتَه، ومن أجل أن تتَّقي غضبَهُ، ومن أجل أن تتَّقي سَخَطه، ومن أجل أن تتَّقي نارَهُ ينبغي عليك أن تُطيعه، وإنك لن تُطيعهُ قبل أن تعرفَهُ، فسَلْ نفْسَكَ هذا السُّؤال: كم من الوقت خصَّصتَه لِمَعرفة الله منذ الصَّباح حتَّى المساء؟ لا شك أنك إذا حضرْت مجلسَ العِلم وأصْغَيْت فيه إلى الآيات فراجعتها ودقَّقْت فيها وتأمَّلْتها وانْعَكَسَ هذا على سُلوكك طاعةً لله تعالى، انعكس هذا على ضَبط جوارحك، انعكس هذا على ضبط دخلك، انعكس هذا على ضبط بيتك، انعكس هذا على ضبط علاقاتك، فلا شكّ أنَّ هذه المعرفة أثْمرت هذه الطاعة، فَقُرَّ عَيْنًا بهذه الطاعة، أما إن لم تكن هناك طاعة، وكان هناك كسب مال حرام وعلاقات اجْتِماعيَّة غير منضبطة، أن تعيش مع الناس مع انحطاطهم وانْحِرافهم وتعلُّقهم بالشَّهوات، فلن يؤتي الإيمان ثماره، والله تعالى قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ هذا الأمر ضمنه: تعرّفوا إليه، وهذا الأمر ضمنه: تعرّفوا إلى منهجه، فلا ينبغي أن يكون للمؤمن همٌّ أكبر من أن يعرف الله تعالى، ويعرف منهجه، فهذا الأمر لا يعلو عليه أمر، ولا يفوقه أمر آخر مهما بدا لك مهِمًّاً:
(( يا ابنَ عمرَ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ ودمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، ولا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا. ))
والحقيقة إنَّك ما لم تأخذ موقفًا عمليًّا فلست مؤمنًا، قال أحدهم:
وعالمٌ بِعِلمِه لم يعْملَنْ مُعذَّبٌ من قبل عُبَّاد الوثَن.
[ عمر بن عبد العزيز الريس ]
ما لم تأخذ موقفًا عمليًّا؛ ما لم تُحرِّر دخْلك من الحرام، ما لمْ تُقِم الإسلام في بيتك، ما لم تكن علاقاتك إسلاميَّة؛ ما لم تكن صادقاً، ما لم تكن أميناً، ما لم تكن منجِزاً للوعد، ما لم تكن وفيّاً للعهد، ما لم تكن حليماً، ما لم تكن كريماً، ما لم تكن شجاعاً فلست مؤمناً؛ لأنَّ الخُلُق ذهَبَ بِكُلّ الخير، وأكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقاً.
مكانة السنة المطهرة في التشريع الإسلامي:
﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أين الأمر والنهي؟ في القرآن الكريم أمْرٌ ونهْيٌ، ولكن جاءت السنّة المطهَّرة تفصيلية، فالله تعالى يقول:
﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
فينبغي أن نبحث عن الأمر التَّفصيليّ في سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم فيه أوامر إجْماليَّة، مثلاً:
﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ(43)﴾
ولكن القرآن لم يفصّل كيف تصلي؟ كم وقت؟ كم ركعة؟ الفرائض، الواجبات، السنن، المستحبّات، المكروهات، ما ينقض الوضوء، ما ينقض الصلاة؟ هذا كلّه موجود في سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، كيف تبيع وتشتري؟ قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)﴾
كيف تتاجر؟
(( أطيبُ الكسبِ كسبُ التجارِ الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يُخلِفوا وإذا اشتروْا لم يَذُمُّوا وإذا باعوا لم يُطروا وإذا كان عليهم لم يمطُلوا وإذا كان لهم لم يُعسِّروا. ))
فالقرآن الكريم فيه مبادئ كُبرى، توجيهات كبرى، فقد أمرك الله تعالى في القرآن أن تؤتي الزَّكاة، لكنه لم يبين نِصاب الزَّكاة، زكاة الذَّهب والفضَّة، زكاة عروض التِّجارة، زكاة الإبل، زكاة البقر، زكاة الغنم، زكاة الحِليّ، زكاة العسل، وزكاة الإنتاج الزراعي، فمِن أين سنأخذ تفاصيل هذه الأحكام؟! من السنة النبوية الشريفة، فمن يقول لك: أنا أكتفي بِكِتاب الله فقط يكون مُخالفاً لكتاب الله تعالى نفسه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فأنت مُكَلَّف أن تأخذ ما آتاك الرسول صلى الله عليه وسلم.
والقرآن الكريم أيها الإخوة، قَطْعِيُّ الثُّبوت، وقطعِيّ الدلالة وظَنِيُّها، أما الحديث الشريف فهو ظنِّيّ الثبوت، وظنيّ الدلالة وقَطْعِيُّها، فالقرآن الكريم كلُّه ثابت عن الله عز وجل، أما السنَّة فهي تحتاج إلى تدقيق في صِحَّتها، فهناك الحديث المتواتر، والحديث الصحيح، والحديث الحسن، والحديث الضعيف، والحديث الضعيف جداً، وهناك الحديث الموضوع، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. ))
(( من حدَّثَ عني حديثًا وهو يَرَى أنه كذِبٌ فهو أحدُ الكاذِبَيْنِ. ))
إن الله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أي أطيعوه، من لوازم هذا الأمر مثلاً: أيها الموظف اذهب إلى حلب، من لوازم هذا الأمر أن تركب مركبة إلى حلب؛ إما أن تركب قطاراً أو مركبة، أو طائرة، فلا بد لك من آلة للنقل، الآية الكريمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ جميل، كيف أتّقي الله؟ كيف أعرف أن هذا أمر وهذا نهي؟ لا بدّ من معرفة منهج الهِ، ومن هنا كان طلب العلم حتماً واجباً على كل مسلم، فطلب العلم فريضة، لأنك إن أطَعْت الله فُزْتَ فوزاً عظيماً، وإن لم تُطِعْهُ خَسِرْت خسارةً عظيمة، ومِن لوازم طاعة أمر الله عز وجل أن تتعرَّف إلى الأمر، فمَجلس العلم فرض عيْنٍ على كلّ مسلم، ومن خلاله يمكنك التعرف إلى أحكام الإسلام، كأحكام الزَّواج، والطلاق، وأحكام البيع والشِّراء، أحكام الشركة، والمزارعة، والمساقاة، والمضاربة، والأمانة، والهبة، والقرض، والدَّين، والوكالة، والحوالة، والوصيّة، وهناك آلافٌ وآلاف الموضوعات في العلاقات المالية والاجتماعية؛ وهذه كلها لها أحكام تفصيليَّة، فإن لم تعرف هذه الأحكام كيف تتَّقي الله تعالى! فمِن لوازم هذا الأمر أن تعرف منهج الله، من لوازم هذا الأمر أن تعرف الحلال والحرام، فما من شيءٍ في الحياة الدنيا إلا وتُسْحَبُ عليه أحكام خمسة؛ فرض وواجب، وسنة مؤكِّدة، وسنة غير مؤكدَّة، ومُباح، ومكروه تنزيهاً، ومكروه تحريماً، وحرام، فأيّ شيء، أيّ نشاط إنساني يتراوح بين الفرضِيَّة والحُرْمة، وبينهما واجب وسنة مؤكدة، وسنة غير مؤكّدة، وإباحة، وكراهة تنزيهية، وكراهة تحريمية، وحُرمة.
فيا أيها الإخوة الكرام، ينبغي عليك أن تسأل: ما حُكم هذا الشيء؟ وما حُكم هذا البيع؟ وما حُكم هذا الطلاق؟ وما حكم هذا الزَّواج؟ وما حُكم هذه الزِّيارة؟ وما حكم هذه النُّزْهة؟ وما حكم تلْبيَة هذه الدَّعوة؟ أيجوز أن تُلبَّى أو لا تُلبَّى؟ وما حكم التِّجارة بِهذه البِضاعة؟ مباح أن أتاجر بها؟ فَمِن علامة إيمانك أن تبْحث عن أمر الله تعالى، لأنَّ هناك قاعدة تقول: "ما لا يتمّ الفرض إلا به فهو فرض، ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب، ما لا تتم السنة إلا به فهو سنة" ، فقوله تعالى: ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ من لوازم هذا الأمر أن تعرف أمر الله، فأنت مأمور أن تُطيع الله تعالى، فلو أن مديراً عاماً استدعى أحد موظفيه وقال: آمرك أن تطيعني، ماذا يقول هذا الموظف؟ ماذا تأمر؟ ما أمرُك حتى أطيعه؟ هذا شيء بديهي، فإنسان يُقال له: اتّقِ الله، ولا يبحث عن أمر الله! هذه مشكلة، يقال له: اتّقِ الله وهو لا يعرف الحلال والحرام! لا يعرف ماذا يأكل! فهناك طعام فيه شُبهة، وطعام فيه شحم خنزير، وطعام فيه عظام مسحوقة، وطعام أساسه شحوم حيوانات أكلها مُحرّم، فقبل أن تأكل ينبغي أن تعرف ماذا تأكل، قبل أن تنطق ينبغي أن تعرف ماذا تنطق، فلا تتكلم كلاماً فيه سخرية، ولا غيبة، ولا نميمة، ولا بهتان، ولا إفك، ولا اسْتِعلاء، ولا كِبر، ولا عُجب، ومن هنا كان طلب العلم حتماً واجباً على كلّ مسلم، فأنت حينما تحضر مجلس العلم تفعل شئياً مصيرياً في حياتك، لأنك إن لم تعرف منهج الله عز وجل، وحِدْتَ عنه دفعت الثمن باهظاً في الدنيا والآخرة، فإذا كان الإنسان لا يعرف أصول القيادة، ثم ركب في سيارة واقفاً أو مستريحاً على وِسادة فليست لديه مشكلة، أما إن كان وراء المِقْوَد، وكانت المركبة مُتحرِّكة بسُرعة فائقة، وهو لا يعرف كيف يُوقِفها، ولا كيف ينحرِفُ بها يَمنةً أو يسْرةً، فإنه يكون بفعله هذا منْتحِراً، فمعرفة قِيادة المركبة وإيقافها وتحريكها والانعطاف بها يَمنةً أو يسْرةً من الأشياء المفروضة على قائد المركبة، وإلا كان الهلاك مصيره، فأنت كائنٌ متحرِّك أُودِعَت فيك الشَّهوات من حبّ المال وحب النِّساء، وحب العلو في الأرض، فإذا كان عندك زوجة وأبناء، وبنات، فربما كان لزوجتك طلبات مخالفة للشَّرع أو موافقة له، فلا بدّ لك من معرفة الله.
سأروي لكم طرفة ولكنها وقعت، هناك إنسان حجّ بيت الله الحرام، فرأى ازدحاماً غير معقول، فقد كان هناك أربعة ملايين، فنزل في أحد الأيام لِيطوف فلم يَجِد أحداً! فقال: يا الله، أين الناس؟ لمَ لمْ يأتوا لِيَطوفوا معي في هذا الوقت المُريح، فإذا باليوم هو يوم عرفات، وهو لا يعرف أن:
فهذا مثَل لِواقِع الناس اليوم، تجد شخصاً يرتكب الحرام؛ ماله حرام، بيته مُتَفلِّت، نساؤه كاسيات عاريات، وبناته متفلِّتات، ثمّ يقول لك: أنا مسلم! فأين منهج الله عز وجل؟ ينبغي أن يبدو في حياتك، وفي بيتك، وفي عملك.
فأنا وقفتي الدقيقة عندما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ هذا أمر إلهي معناه: أطِعني يا عبدي، اتَّقِ غضبي، اتَّقِ سَخطي، اتَّقِ معصِيَتي، اتَّقِ ناري، هذا معنى: اتّقِ الله، لأنّ هذه الأشياء خطيرة، وعليك أن تتَّقِيَها، فإذا لم تعرف هذا الأمر والنهي فكيف تتَّقي الوقوع في الحرام، وترك الحلال؟ فَمن لوازم الأمر بِتَقوى الله عز وجل أن تتعرَّف إلى أمر الله ونهْيِه.
أما العلاقة بين قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾ الحقيقة إن الإنسان يستطيع بِعَقله أن يصل إلى الله تعالى، وذلك عن طريق التّفكّر بالكون، لا أقول أن يُحيط بالله، بل أن يصل إليه، فأن تصل إليه شيء، وأن تُحيط به شيء آخر، قال تعالى:
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ (255)﴾
فيُمكن لعقلك أن يوصِلَك إلى الله تعالى، عن طريق الكون الذي هو مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فإذا عرفْت أنَّ لهذا الكون خالقاً عظيماً فمن لوازم كمال الخالق ألّا يدَعَ عباده في غفْلة عنه، فلا بدّ من إنزال الكتب، ولا بدّ من إرسال الرّسل، وإن أيّ رسول يرسله الله لِبني البشر يُعطيه بيّنةً تؤكِّد أنَّه رسول، وهذا شيء ثابت، وهذه البينة إما أن تكون معجزة حِسيَّة؛ كضرب البحر فأصبح طريقاً يبَساً، أو كضرب العصا تصبح ثعباناً مبيناً، أو إحياء الموتى كما فعل سيّدنا عيسى، أو خروج الناقة كما في معجزة سيدنا صالح، فهذه الأشياء لا يستطيعها البشر، بل هي من خصائص خالق البشر، والله سبحانه وتعالى يُجري على هذا الإنسان المعجزات التي تدل أنَّه رسول الله، فمن خلال المعجزة تؤمن بالرسول، ونبيُّنا عليه الصلاة والسلام معجزته القرآن الكريم، وهذا الكتاب أحد أكبر الدلائل التي تثبت أنَّه كلام الله تعالى إعجازه، ومن مظاهر هذا الإعجاز، إعجازه البياني، وإعجازُهُ التشريعي، وإعجازه التربوي، إعجازه العلمي، وإعجازهُ الإخباري، إذا ثبت لديك من خلال إعجاز القرآن الكريم أنه كلام الله، ومن خلال تطابق أفعال الله مع آياته وأحكامه، هذا أيضاً أكبر دليل على أنه كلام الله، فالذي جاء به هو رسول الله.
والآن دخلنا إلى النقطة الثانية في الدرس؛ وهي أنَّ حديث رسول الله تَشريع، فإذا نطق، أو فعَل، أو أقرّ (شيء حدث أمامه وبقي ساكتاً) فهذا الشيء الذي حدث أمامه وبقي النبي ساكتاً هو تشريع، أقواله وأفعاله وإقراره وصفاته، فالنبي عليه الصلاة والسلام مشرِّع، الآن إذا أيقنت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإذا أيقنت أنه مشَرِّع، فأقواله وأفعاله وإقراره وصِفاته لها حكم الأمر والنَّهي، ومن هنا جاء قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾ إن آمنتَ أنَّ هذا رسول الله، فيجب عليك أن تؤمن أن الله عصَمَهُ من الخطأ في أقواله وأفعاله وإقراراته وصِفاته، وأنه لا ينطق عن الهوى، لا ينطق إلا بِالحقّ، الآن تستفيد من حديثه، ومن هنا قال سيّدنا سَعد بن معاذ: (ثلاثة أنا فيهنّ رجل، وفيما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس، ما سمِعتُ حديثاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا علمت أنه حقٌّ من الله تعالى، وما صلَّيْتُ صلاة فَشُغِلَت نفسي بغيرها حتَّى أقضيها، ولا سِرْتُ في جنازةٍ فحدَّثتُ نفسي بِغير ما تقول حتَّى أنْصرِف منها ).
فهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إذا شرِبَ أحدُكم فلْيَمُصَّ مصَّا، ولا يَعُبُّ عبًّا، فإِنَّ الكِبادَ مِنَ العَبِّ. ))
وقد اتَّضِح بعد ألف وخمسمائة عام أنَّ هناك عصباً اسمه العصب الحائر أو العصب المُبهَم، وهو بين القلب والرِّئتين والمعدة، التأثير الشديد جِدًّا على المعدة قد ينتقل هذا إلى القلب نهْيًا عن نبْضِهِ، فمن شَرِب الماء غبّاً -مرَّةً واحدة من دون تمهّل- يعَرِّض نفسَهُ لأخطار، والآن كشف العلم آلية هذه الأخطار، فإذا علمت أن كلام النبي حقّ من الله تعالى، فهو الذي لا ينطق عن الهوى.
إخواننا الكرام، هناك آلاف الأحاديث لا يمكن لعصر النبي، ولا لِمَن عاصرَ النبي، ولا للحضارات التي عاصَرت النبي، ولا الحضارات التي جاءت بعد ألف وأربعمائة عام، لا يمكن أن يكون في هذه العصور والحِقب حقائق علمية تكفي ِلتَفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمُعظم أحاديث رسول الله تدلّ على أنَّه نبي، فإن آمنتَ بالله خالقاً ومُربِّياً ومُسيِّراً وموجوداً وواحداً وكاملاً، وآمنتَ أنَّه من كماله لا بد من إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، وآمنت أنّ هذا الكتاب كتاب الله كلامه، من إعجازه، ومن تطابق أفعال الله مع أقواله، وعَلِمتَ أنَّ الذي جاء بهذا الكتاب هو رسول الله، عندئذ تؤمن أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ وقال تعالى:
﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)﴾
فقد عصمه الله في كلّ أقواله وأفعاله، والتمهيد الآن: أين أمرُ الله ونهْيُه؟ هنا السؤال، إن أمْر الله ونَهيه هو سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل الأقوى قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(31)﴾
لذلك: طاعة النبي صلى الله عليه وسلَّم عَيْنُ طاعة الله تعالى، فهي مُتطابقة مع طاعة الله تطابقًا تامّاً ومن هنا قال الله عز وجل:
﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ(62)﴾
بِضَمير المفرد، لأنَّ إرضاء رسول الله عين إرضاء الله تعالى، لأنه يَشِفّ عن الحق.
ثمّ يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾ الجزاء ﴿يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ﴾ الرحمة: أوسع كلمة ينضَوي تحتها عطاء الله كلِّه! والرحمة شيء مُريح للإنسان، فلعلّ الصحة من الرحمة، ولعلّ الكفاية من الرحمة، ولعلّ الزّوجة الصالحة من الرحمة، ولعلّ الأولاد الأبرار من الرحمة ، ولعلّ سلامة الجسم من الرحمة، ولعلّ دِقَّة الفهم من الرحمة، ولعلّ السُّمعة الطيّبة من الرحمة، ولعلّ التجلي الذي ينزل على قلب المؤمن من الرحمة، ولعلّ السكينة التي تهبط على قلب المؤمن من الرحمة، عطاء الله، حِفظه، وإسعاده، وتوفيقه، وتأييده، ونصره، وإكرام العبد كل هذا من رحمة الله تعالى.
قال تعالى: ﴿يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ﴾ مرحوم، إخواننا الكرام، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقني لتوضيح هذه الفكرة؛ إذا تصوّرت أنَّ المؤمن الذي عرف الله، وعرف منهجه، وتقرَّب إليه، واستقام على أمرِهِ، وطلب رِضاه يمكن أن يُعامَله الله تعالى كإنسان عادي؛ مُتفلِّت، جاهل، منحرف، عاصٍ، إذا توهّمت أن المؤمن المستقيم يمكن أن يُعامَل كهذا الإنسان المتفلّت، فأنت لا تعرف الله أبداً، لأنَّ الله تعالى يقول:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سـَاءَ مَا يَحـْكُمُونَ(21)﴾
﴿يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ﴾ فحياة المؤمن تختلف عن حياة الآخرين، فبيته غير بيتهم، وسعادته غير ملذَّاتهم، وأعماله غير أعمالهم، وإذا لم يكن هناك تميّز صارخ في حياة المؤمن كان الإيمان لا جَدوى منه.
﴿يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ﴾ (الكِفْلين) : هما النَّصيبان؛ فهناك نصيب في الدنيا، ونصيب في الآخرة؛ ففي الدنيا هناك نصيب مُعجَّل تشجيعي، وفي الآخرة هناك نصيب مؤجَّل تقديري، والحقيقة أنَّ الذي يشدُّنا إلى الدِّين وإلى الإيمان وإلى طاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى طاعة الرحمن هو أنَّ حياة المؤمن شيء نفيسٌ جدّاً، فالإيمان مرتبة أخلاقيَّة، الإيمان مرتبة عِلْمِيَّة، الإيمان مرتبة جماليَّة، وأذواق المؤمن تختلف عن أذواق غير المؤمن؛ حياته، أسرته، وبيته، وزواجه، وأولاده، وتربيته، ومبادئه وتصرّفاته، حتَّى لهْوُهُ كل هذا بريء ونظيف وعفيف ومنضَبِط، حتى أفراحه كلها طاعات ودعوة إلى الله، حتى أتْراحُهُ كلها صبرٌ وإنابةٌ وتجمُّل، فإن لم يكن المؤمن صارخًا في أخلاقه وعلاقاته ومبادئِهِ وقِيَمِهِ، فما قيمة إيمانه إذاً؟ هذا مؤمن، المؤمن يعرف الله، قلبه رحيم، منطقه سليم، وعقله ناضِج، وعلاقاته واضِحَة، كان النبي عليه الصلاة والسلام يمشي مع زوجته السيدة صفيّة:
(( أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتَتْهُ صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ معهَا، فَمَرَّ به رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ فَدَعَاهُمَا، فَقالَ: إنَّما هي صَفِيَّةُ ، قالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، قالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . ))
النبي واضح، (إنَّما هي صَفِيَّةُ) والمؤمن كذلك يوضّح، ولا يدع الناس في شك، ولا في ريب، واضح جداً، المؤمن حظوظه الدنيوية كلها تحت قَدَمه، فهذا سيّدنا الصِّديق رضي الله عنه الذي يحمل المرتبة الأولى بعد النبوَّة، رسول، نبي، صدِّيق، ولي، مؤمن، وقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( خيرُ النَّاسِ بعدَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أبو بَكْرٍ. ))
ومع ذلك لمَّا توفيّ النبي عليه الصلاة والسلام، واجتَمَع أصحاب النبي في السقيفة، وقف أبو بكر رضي الله عنه، وقال لِعُمر: "يا عمر، مُدَّ يَدَك لأُبايِعَك" ! فصُعِقَ سيدنا عمر وقال: "أنت أفضل مِنِّي" ! فانظر إلى التواضع والإنصاف والأدَب والتعاوُن، فقال أبو بكر: "بل أنت أقوى مِنِّي" ، فما كان من عمر إلا أن قال: "قوَّتي مع فضلك" أنا أُعِينُك، وأنا تحت جناحك، وأنا وزير لك، قال له: "مدّ يدك يا عمر لأبايعك" ، قال عمر: "لا أُطيق أن أكون أميراً على قوم فيهم أبو بكر"، هذا شيء مستحيل، وقال: "أنت أفضل مِنِّي"! فقال أبو بكر: "بل أنت أقوى مِنِّي" ، فقال: "قوَّتي مع فضلك" فهذا المؤمن؛ لا يوجد عنده صراعات ولا تنافس، ولا أنانية، ولا طعن بالآخرين، هذه من علامات الإيمان، الذي أريد أن أقوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ يعني أنت لك رحمة الله، ولا تنسَ هذه الآية:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
يقول لك ثروته: أربع وعشرون مليوناً، مئة مليون، ألف مليون، سبعة آلاف مليون ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ القبر صندوق العمل، ومصيرنا جميعاً إلى القبر، وهناك ينعدم التَّمييز، فالموت –أيها الإخوة- يُلغي غِنى الغنيّ، وفقرْ الفقير، ويُلغي قوَّة القويّ وضَعف الضَّعيف، ويُلغي وسامة الوسيم، ودمامة الدميم، ويُلغي صِحَّة الصحيح ومرض المريض، فالموت يجمع الناس سواءً.
قال تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِ﴾ فأنت مرحوم في الدنيا.
﴿ وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48)﴾
أنت محفوظ، أنت مُوفَّق، أنت منصور، والله جلّ جلاله خالق الأكوان يُدافع عنك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)﴾
ألا تتمنَّى هذه المرتبة؟ ألا تتمنَّى أن تكون كقوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾
ألا تتمنَّى أن يُلقي الله في قلبك الأمن والطمأنينة والرضا والسرور؟ ألا تتمنّى أن تكون لك هَيبة؟ لقد قلتُ لكم مرةًّ أنَّ الحَجّاج أراد قتل الحسن البصري، فقد تكلم الحجاج كلاماً فأراد الحسن البصري أن يؤدي ما على العلماء من نُصْحٍ للأمراء، فغضِبَ الحجاج وأمر بقتله، فدخل الحسن على الحجاج، وكان السياف واقفاً، والنَّطْعُ قد مُدّ، الأمر منتهٍ، فتكلَّم الحسن بِكَلمات لم تُفْهم! فما كان من الحجاج إلا أن وقف له واسْتَقبلهُ وأجْلسَهُ إلى جانبه على السرير وقال له: يا أبا سعيد أنت سيّد العلماء ثم استفتاه في قضيَّة، وطلب الدعاء منه، وعطَّرهُ وشيَّعهُ إلى باب القصر، فصُعِق السيَّاف وكذا الحاجب، فلَحِقاه، وقالا له: يا أبا سعيد، لقد أُوتِي بِكَ لِغير ما فُعِل بك، فماذا قلتَ لِربِّك وأنت داخل؟ قال قلتُ: "يا ملاذي عند كربتي، ويا مؤنسي في وحشتي، اِجعل نقمته عليّ برْداً وسلاماً كما جعلت النار برْداً وسلاماً على إبراهيم" ، فأنت كمؤمن لك هَيبَة، ومن اتَّقى الله هابَه كلّ شيء، ومن لم يتَّقِ الله خاف من كلّ شيء، قال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا ۚ فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82)﴾
والله أيها الإخوة، لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لَكَفت، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ﴾ فالله عز وجل يَمْنحُكَ نِعمة الأمن، لتكون مطمئناً، واثقاً، لا تخاف، لا تنافق، لا ترجو، لا تتملّق، لا ترتعِدُ فرائصك من فلان وفلان، لأنك مع الله، وإذا كان الله معك فَمَن عليك وإذا كان عليك فمن معك؟ يا رب، ماذا وجد من فقَدَكَ؟ وماذا فقَدَ من وجَدَك؟
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِ﴾ هذا كلام خالق الكون، وإن زوال الكون أهون على الله من أن لا يؤتِيَك كِفلين من رحمته إذا كنت مؤمناً، فالعِبرة أن تكون مؤمنًا، وأن تنفِّذ ما أمرك الله أن تنفِّذَهُ، فضلاً عن هذه الرحمة التي تملأ قلبك رضىً، وتملؤه أمناً، وتملؤه سروراً، وتملؤه سعادةً، وتملؤه ثِقةً بالمستقبل، قال تعالى:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51) ﴾
لنا لا علينا، لنا هذه لام المُلك، أيُّها الإخوة، إن مستقبل الإنسان من دون إيمان مستقبل مخيف، مظلم، فهناك أمراض عُضالة مخيفة كالأورام الخبيثة، وهناك قهر وفقر، وأشياء مخيفة جداً، أما المؤمن فهو واثق من حفظ الله له، لقد كان هناك شيخ مؤمن في السادسة والتِّسعين من العمر، لكنه منتصِب القامة، حادّ البصر، مُرهَف السمع، نشيط، وأسنانه في فمه، فقيل له: يا سيّدي ما هذه الصِّحة التي متَّعَك الله بها؟ فقال: يا بني، حَفظناها في الصِّغر فحَفظها الله لنا في الكِبر!
من عاش تقيًّا عاش قويّاً، والله تعالى يمتِّع المؤمن بالصِّحة وبالأولاد الأبرار وبالزوجة الصالحة وبِدَخل يكفيه، لا يُطغيه، فللمؤمن شيء كبير جداً، وكلّ وُعود الله ثمنها أن تؤمن وأن تُطيعه فقط ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِ﴾ .
ثم قال تعالى: ﴿وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِ﴾ هناك شيء آخر الدِّين غير الراحة والطمأنينة، وهو الرؤية الصحيحة؛ فإذا كنت مؤمناً أعطاك الله هذه الرؤية الصحيحة، فإذا كان الناس في غفلة، كنت في صَحو، وإذا كانوا في عمىً كنت مُبصِراً، وإذا كانوا في متاهة كنت على مَحجَّة واضِحة، وإذا كانوا في قلق، كنت في طمأنينة، فالطريق واضِح، والهدف واضح كذلك، والدنيا واضحة، فهي ليْسَت مقرّاً، لكنها ممرّ، فهي حياة دنيا إعداديَّة لِحياة عُليا أبديَّة، فمراكز الثّقَل عند المؤمن في الآخرة، واهتِماماته في الآخرة وحِرصُه في الآخرة.
أيها الإخوة الكرام، قال تعالى: ﴿وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِ﴾ يلقي الله في قلبك النور، فالمؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، ويسمع ما لا يسمعون، لديه بصيرة، فلو دقَّقْتِ في أيّ إنسانٍ يرتكب حماقة، لماذا يرتكب هذه الحماقة؟ لأنه يرى أن هذه الحماقة لِصالِحِه، فيرى أن الكذب مثلاً يجلب له المال، وهو أحمق في هذا، ويرى أنَّ هذا العمل يجلب له السرور، وهو أحمق في هذا أيضاً، وهذا كلهّ لأنَّه أعمى، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
والله أيها الإخوة، هناك خمسة آلاف مليون إنسان على وجه الأرض تقريباً، فإذا كان هناك إنسان واحد قد أعرض عن ذِكر الله وهو ليس في معيشة ضنك لكانت هذه الآية ليْسَت من كلام الله تعالى! ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ مَن صيغة شرطية، ابحث ودقق، اسأل بصدق فهؤلاء الذين بلغوا قِمَم النَّجاح في المال هم أشقى الناس من دون ذكرٍ لله، كذلك الذين بلغوا قِمم النجاح في المراتب العليا هم أشقى الناس إن لم يعرفوا الله.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126( ﴾
كنت أعمى في الدنيا، لم تكن ترى، أما المؤمن فهو يتمتَّع برؤية سليمة، فهو يرى بواعث الأمور، يرى مآل الأمور، يرى النِّهايات، يرى العواقب، ويرى الأهداف لأنه يمشي على هدى، قال تعالى:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
﴿يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِ﴾ هذا النور نور الله يأتيك في الصلاة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
والمصلّي الحقيقي يُلقي الله في قلبه الطمأنينة والرؤية الصحيحة، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾
فهذا مستثنى، قال تعالى: ﴿وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ﴾ الماضي، فالماضي كلّه مغطَّى بالمغفرة، الآن آمِن، الآن اصطلِح مع الله، الآن تُبْ إليه توبة نصوحة، الماضي مُغطى، ﴿وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ﴾ فأنت إنْ عرفت الله وآمنت به كما ينبغي واتَّقَيْت أن تعْصِيَهُ، آمنت به وعرفت أمره فاتّقَيْتَ أن تعصيَه كانت النتيجة ﴿يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِ﴾ في الدنيا والآخرة، ﴿وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِ﴾ وهذا النور هو الرؤية الصحيحة، أكثر مصائب الناس من حماقاتهم، وأكثر حماقات الناس من جهلهم ومن عَماهم، فالعمى يؤدي إلى حماقة، فالإنسان إذا مشى ليلاً في أرض وعِرة، فيها أكَمَات وحفر، وفيها وحوش، ومنزلقات، ولا يوجد معه مصباح، فالوُقوع حتمي، التعثُّر حتمي، الهلاك حتمي، أما الآخر الذي يمشي في نفس المكان الوعِر ولكن معه مِصباح متألِّق يكشف له كلّ شيء، فأنت إن اتَّصلت بالله عزّ وجل ألقى الله في قلبك نورًا (الصَّلاةُ نُورٌ)
﴿وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
الفضل بيد الله: الآية الأخيرة، قوله تعالى:
﴿ لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٍ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ(29) ﴾
فهذا الفضل مُتاحٌ لِكُلّ إنسان كائنًا من كان، وفضل الله عظيم، وهو ليس لِفئة ولا لأُمّة، ولا لعصرٍ، ولا لِجيل، قلتُ لأخٍ كريم قبل أن أصل لهذا المسجد: دينُ الله كالهواء للناس، لا يستطيع أحدٌ أن يحتَكِرهُ، لا جماعة، ولا فئة، ولا عصر، ولا مصر، ولا إقليم، ولا حِقبة، فدين الله لكل الناس، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: ﴿وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ .
قال تعالى: ﴿لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ أي ليعلموا ﴿أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٍ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾ ففضل الله ليس بيَدِ أهل الكتاب بل هو بيَدِ الله تعالى، والجنَّة بيد الله وليس بيَدهم، ﴿وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ﴾ كلُّنا عباد الله، كلنا عبيده، قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وحزنَه، وأبدلَه مكانَه فرجًا قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلَّمُها؟ فقال بلى، ينبغي لمن سمعَها أن يتعلَّمَها. ))
الأمر بيد الله، الجنة بيد الله، لا يحتكرها إنسان، في العصور الوسطى بِيعَت بالقراريط والأسهم، وهناك من اشترى جهنم وقال: سأغلقها، فَبَارت سوق الأول، فاشتراها منه مرة ثانية، هذا كله كلام غير مقبول ﴿لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٍ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾ فأهل الكتاب لا يقدرون على شيء من فضل الله، وفضل الله ليس بيدهم إنما هو بيد الله، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ .
الملف مدقق