الحمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمتنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمتَنا، وزِدْنا عِلماً، وأرِنَا الحقَّ حقّاً وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع من سورة الجن ومع الآية الأولى من هذه السورة وهي قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا(1) يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا(2)﴾
أيها الإخوة الكرام، لقد قال تعالى: ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ﴾ إلى ماذا استمع الجن؟ لقد استمعوا إلى القرآن الكريم، والنفر: ما بين الثلاثة والعشرة، وقد تُستخدَم هذه الكلمة للتعبير عن الأربعين، من الثلاثة إلى العشرة هم النفر، وقد تُستخدَم هذه الكلمة للتعبير عن الرّهْط وهم الأربعون.
لقد وصف أحد العلماء أجناس المخلوقات بوصفٍ جميل فقال: "قد مرَّ أن في الوجود نفوساً أرضيةً قوية هي الجن، لا في غِلَظِ النفوس السبعيّة والبهيمية وقلة إدراكها كالحيوانات، ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها، ولا في صفاء النفوس المُجرّدة ولطافتها" .
فهؤلاء المخلوقات ليسوا كالحيوانات، ولا كالملائكة، ولا كالبشر، فالحيوانات نفوسٌ سبعيةٌ بهيميةٌ قليلة الإدراك، والملائكة نفوسٌ صافيةٌ مجردةٌ لطيفةٌ متّصلةٌ بالعالم العلوي، أما عالَم الإنس فهو نفوسٌ إنسانيةٌ لها استعداداتها الكبيرة جداً، فهؤلاء المخلوقات لا من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فقد غلبت عليها الصفات الهوائية أو النارية أو الدُخانية، هم من طبيعةٍ ناريةٍ ودُخانية على اختلاف أحوالها، كما أن للجن علومٌ وإدراكاتٌ من جنس علومنا وإدراكاتنا، ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوي أمكنَها أن تتلقّى من عالَمه بعض الغيب، فقد تلقت من قبل بعض الحقائق التي استرقتها من الملائكة، فلا يُستبعَد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة، ثم تنزل إلى الأرض ومعها من أوامر الملائكة بعض الشيء، ولأنها مخلوقات أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القِوى السماوية فقد تأثَّرت بتأثير هذه القِوى، فرُجِمَت بتأثيرها عن بلوغ مرادها، وإدراك مداها من العلوم.
لقد كانت هذه لمحة عن حقيقة الجن، فهم مخلوقاتٌ ليسوا كالبشر في استعداداتهم العالية وفي الجمع بين النفخة الروحية والبَضعة الأرضية، ولا هم كالملائكة في أجسامها النورانية المتصلة بالعالم السماوي، ولا هم كالحيوانات البهيمية السبعية ذات الإدراك القليل، بل هم بين هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.
النبي صلى الله عليه وسلم لم تعلمه الجن:
أيها الإخوة، قال تعالى: ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا﴾ إن هذه الآية أكبر دليل على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما رَآهم وما قرأ عليهم وما علّمهم، بل إن الله جلَّ جلاله أخبره أنهم استمعوا إليه وآمنوا به، فقد اتّفق حضورهم في بعض أوقات قراءته صلى الله عليه وسلم، فسمعوا الآيات، فأخبره الله بسماعهم وإيمانهم، فمن خلال هذه الآية نستدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرَ الجن ولم يعلِّمهم، لكن اتفق أن حضروا مجلسَه فسمعوا تلاوته، وآمنوا بهذا القرآن الذي جاء به.
فلما رجعوا إلى قومهم ﴿فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا﴾ أي: كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية وللأحكام وللمواعظ، وجميع ما يُحتاج إليه في أمر الدارين؛ الدار الدنيا، والدار الآخرة: ﴿إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا﴾ عجباً؛ أي: إن أسلوبه فوق أسلوب البشر، فهو ليس من كلام البشر بل من عند خالق البشر، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا﴾ أي: جامعاً للحقائق الإلهية والكونية، وللحِكَمِ والأحكام والمواعظ، فهذا القرآن فيه كلُّ ما يحتاجه الإنسان في الدارين؛ في دار الدنيا ودار الآخرة، أما كلمة ﴿عَجَبًا﴾ ؛ أي: غريباً، فهو ليس في مستوى عبارة الخلق، بل في مستوى عبارة خالق الأكوان.
﴿يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ﴾ أي إلى الحق والصواب بل إلى سبيل السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة، ﴿فَـَٔامَنَّا بِهِۦ﴾ فهم إذاً مكلفون أن يؤمنوا.
﴿وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا﴾ لا من خلقه، ولا في عبادته، إذاً: ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا*يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ﴾ .
إن الإنسان حينما يؤمن بالله عزَّ وجل ويستقيم على أمره فقد اهتدى إلى رشده، فحينما يشعر الإنسان أنه على صواب، وأنه على منهجٍ واضح، وأنه في طريقه إلى سعادةٍ أبدية، وأن الجنة هي دار القرار التي خُلِقَ الإنسان من أجلها، إذا شعر أنه نحو الهدف الصحيح، وعلى الطريق الصحيح فإنه يشعر بسعادةٍ لا توصف، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباسٍ رضي الله عنه قال:
(( انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِين وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ (فقد كان الجن والشياطين يسترقون السمع من أخبار السماء، بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء)، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ (إلا من استرق السمع فأتبعه شهابٌ ثاقب) فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ (مُنِعنا من خبر السماء) وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالَ: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا مَا حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ. فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَة وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا. ))
إننا نستفيد من هذه الآية أن الإنسان إذا قامت أمامه الحجج والأدلة والبراهين على أن هذا الدين حق، وعلى أنه الصراط المستقيم، وعلى أنه حبل الله المتين، وعلى أنه طريق السلامة والسعادة، فما الذي يمنعك أن تتمسك به، ما الذي يمنعك أن تحاول الحفاظ عليه؟ ما الذي يمنعك أن تصطلح مع الله؟ ما الذي يمنعك أن تقيم الإسلام في بيتك؟ ما الذي يمنعك أن تقيم الإسلام في عملك؟ ما الذي يمنعك أن تنطلق إلى الله؟ ما الذي يمنعك أن تفر إليه؟
﴿ فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(50)﴾
ما الذي يمنعك أن تُقْلِع عن كل ما لا يرضيه؟ إذا كان الجن قد استمعوا في جلسة واحدة إلى القرآن الكريم من فم النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، فقالوا: ﴿فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا﴾ فكم من خطبة دينية سمعها المسلم، وكم من درس تفسير وكم درس حديث وكم درس سيرة وكم درس فقه يُلقى عليه، فالأدلة قامت ناصعةً كالشمس، والبراهين قامت قوية كالجبال، فما الذي يحول بينك وبين أن تكون مهتدياً؟ ما الذي يحول بينك وبين أن تكون مع الله دائماً؟ ما الذي يحول بينك وبين أن تكون في ظله يوم لا ظل إلا ظله؟ إن القضية بيدك، فقد قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام:
أيها الإخوة الكرام، عندئذ أنرل الله جل جلاله على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه السورة، قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه الفجر، فاستمع الجن إلى قراءته، ولم يعلم ذلك إلا بعد أن أعلمه الله عز وجل، فهل يُعقَل أن تكون الجن هي التي علَّمت النبي صلى الله عليه وسلم كما يدَّعي المشركون؟ إنه لم يرَهم ولم يسمع بهم، ولم يعلم بوجودهم إلا بعد أن أخبره الله عزَّ وجل.
لقد زاد الإمام مسلم على هذا الحديث هذه الزيادة فقال:
(( مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلا رَآهُمُ. ))
فهو ما قرأ عليهم القرآن وما رآهم ولكن الله أخبره، ويقول أحد العلماء: "إن الجن آمنوا عند سماع القرآن، والإيمان بالقرآن يقع بأحد شيئين؛ يُعلم حقيقة الإعجاز" فحينما تضع يدك على إعجاز القرآن، وعلى أن هذا الكلام لا يستطيعه أحد من بني الإنسان، وأنه كلام خالق الأكوان، والأدلة على إعجازه كثيرةٌ جداً، فهناك أدلة قاطعة على أن هذا القرآن كلام الله، وسبيل أن تعرف أن هذا القرآن كلام الله هو الإعجاز، فإذا علمته كلام الله عز وجل فالذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك ثلاثة ثوابت في الحياة تدل على الله، وهي:
1- الكون يدل على الله.
2- إعجاز القرآن يدل على أن القرآن كلام الله.
3- الذي جاء به هو رسول الله.
فإذا آمنت بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، وآمنت أن هذا القرآن كلامه، وأن الذي جاء بهذا الكلام وفسَّره وبينه لك هو رسوله، فقد استكملت الإيمان العقلي، وبقي عليك أن تستكمل الإيمان الإخباري، وهو أن تؤمن بكلُّ شيءٍ أخبرك الله به في القرآن، أو أخبرك به النبي عليه الصلاة والسلام في السنة، وهو الجانب الآخر المسموع من الوحي.
يقول الإمام الرازي: "إنه عليه الصلاة والسلام بُعِثَ إلى الجن كما بُعِث إلى الإنس" ، وقد قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ(107)﴾
ففد بُعِثَ رسول الله إلى الإنس كما بعث إلى الجن، بل إن كل المخلوقات سعِدت ببِعثته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نشر الهدى في الأرض، لقد قرأت مرةً هذا الحديث الشريف:
(( إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ. ))
فما علاقة الحوت في البحر كي يصلِّي على معلِّم الناس الخير؟ أنت إن علّمت الناس الخير ترفَّقوا بالحيوانات، وذبحوها وفق منهج الله فلم يعذبوها، فما من مخلوقٍ إلا ويحمد الله على بعثة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنها خيرٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصلحةٌ كلّها، وصوابٌ كلها، وكمالٌ كلُّها.
حقائق مستنبطة من هذه السورة:
1- الشيء الأول الذي نستنبطه هو أن الرسول عليه الصلاة والسلام بُعث إلى الجن كما بعث إلى الإنس.
2- والشيء الثاني: أن الله جلَّ جلاله أراد أن يُعْلِمَ قريشاً أن الجن مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا به وبرسوله، فما بال هؤلاء الفصحاء البلغاء يكذِّبون القرآن الذي جاء بلغتهم؟ الجن آمنت به، قال تعالى:
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
الإنسان من المخلوقات المتميزة التي أعطاها الله قوةً إدراكية، فالجن استمعوا إلى القرآن فآمنوا به ولم يشركوا بربهم أبداً، كما أن كل من في السماوات والأرض يسبِّح الله عزَّ وجل، أما هذا الإنسان الذي سُخِّرَ له الكون كله هو وحده الغافل.
3- وهذه السورة تؤكِّد لنا أن الجن مكلَّفون كالإنس تماماً ، قال تعالى:
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ(31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(32)﴾
لقد أراد الله عزَّ وجل من هذه السورة أن يُعْلِمَ القوم أن الجن مُكلَّفون كالإنس تماماً، كما أراد الله جلَّ جلاله كما قال الإمام الرازي أن يعلمنا أن الجن يستمعون إلى كلامنا ويفهمونه، ويفهمون لغاتنا كلها.
4- والشيء الآخر الذي نستنبطه هو أن بعض الجن الذين آمنوا يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان قال تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا*يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا﴾ .
5- إن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن ووُفِّقوا للتوحيد والإيمان تنبَّهوا إلى الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه، واتخاذه صاحبةً وولداً، فاستعظموا ذلك ونزَّهوا الله عز وجل عن ذلك، فليس كل ما قالته الجن صواباً، وهذه ناحية دقيقة جداً، فما كل شيء تسمعه صحيح، وما كل كتاب تقرؤه صحيح، فهناك كتب وقصص فيها ضلالات، وهناك مقولات كلها خطأ، فالإنسان عليه أن يختار الحق وأن يصطفي، وأن يتخذ مقياساً لتلقِّي الحقائق، لا أن يبقى هكذا يقبل بكل ما يسمع!
(( كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ. ))
لأن الذي تسمعه قد لا يكون صواباً، قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةً وَلَا وَلَدًا(3)﴾
فقد كان الشيطان سفيه الجن يقول على الله شططاً، فيتأوَّل ما لم يكن، ويقول إن الله اتخذ من الجن زوجةً، وأنجب من هذه الزوجة ملائكةً، وهذا شيءٌ لا أصل له، لذلك قالت الجن: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ .
الافتقار إلى الجنس الآخر دليل على الضعف:
إن الإنسان مفتقر إلى الطرف الآخر، فكل طرف من بني البشر مفتقر إلى الجنس الآخر، فالمرأة مفتقرةٌ إلى زوج، والزوج مفتقرٌ إلى زوجة، ولا يتمُّ كيانه إلا بالزواج، كما لا يتمُّ كيان المرأة إلا بالزواج، وهذا من ضعف الإنسان، فالإنسان لا يستغني عن زوجة، والزوجة لا تستغني عن زوج، هذا من علائم ضعفه، أما الإله جلَّ جلاله فلا يمكن أن يكون محتاجاً إلى زوجة، فحينما تقول: الإله اتخذ صاحبةً وولداً؛ فهذا يعني أنه ليس إلهاً ولا خالقاً، فالله جلَّ جلاله وجوده ذاتي، قال تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)﴾
إن الإنسان حينما يتخذ زوجةً يسكن إليها، ومعنى يسكن إليها؛ أي: يكمِّل نقصه بها، والزوجة حينما تسكن إلى زوجها معنى ذلك أنها تكمِّل نقصها به، ينقصها الحماية، ينقصها رجل يقودها إلى الصواب، ينقصها رجل يحميها، ينقصها رجل يُسْعدها، ينقصها رجل تكون تحت جناحه، أما هو فتنقصه أنثى يرتاح ويطمئنُّ ويسكن إليها، فالرجل والمرأة متكاملان، والإنسان لضعفه يحتاج إلى زوجة تؤنسه، كما أن المرأة لضعفها تحتاج إلى رجل يسعدها، فكلاهما مفتقرٌ إلى الآخر، هذا لا يليق لله عزَّ وجل: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ الجَد: بمعنى الحظ، نقول: إن فلاناً ذو جَدٍّ في هذا الأمر إذا كان له حظٌ كبيرٌ فيه، والمعنى في الآية أن الله سبحانه وتعالى جلَّ جلاله وعزَّ نواله، حظه من المُلك والسلطان والقدرة لا حدود له، فهو الذي بيده الأمر،
﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (4)﴾
﴿ إِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُۥ مِن شَىْءٍۢ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44)﴾
قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا﴾ أي حظه من كل شيء؛ من القوة ومن الغنى ومن العلم ومن القدرة ومن الرحمة ومن الحكمة: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا﴾ الإله العظيم الواحد الأحد، الفرد الصمد، لا يليق به أن يتخذ صاحبةً وولداً: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ لقد أُودِعت في الإنسان شهوة، فهو يشعر أنه بحاجةٍ إلى تلبيتها، فيبحث عن زوجة، وهذا ضعفٌ فيه، لأن الذي ينطلق بدافعٍ من شهوةٍ ليلبيها فيتزوج هذا إنسان ضعيف، أما الإله جلَّ جلاله فلا يليق به أن تكون له زوجة ولا ولد، فالولد قد يأتي ثمرةً لهذا الزواج، وربنا عزَّ وجل مُنزَّهٌ عن أن يتخذ ولداً، وعن أن يتخذ زوجةً، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا﴾ إن أسماء الله الحسنى وذاته الكاملة لا يليق بها أن تتخذ زوجةً، فقد ينشب خلاف بين الزوج وزوجته، فتبتعد عنه أسابيع فيتضايق، كما قد يبتعد عنها أسابيع فتتضايق، فهي مفتقرةٌ إليه وهو مفتقرٌ إليها، وهذا من شأن الإنسان، أما الله سبحانه تعالى، الواحد الديان فليس هذا من شأنه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: "علا مُلك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته عن أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وقاعٍ إلى شيءٍ يكون منه الولد" فهذا لا يليق بالله عزَّ وجل.
﴿ وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطًا(4 ﴾
سفيههم؛ أي: مُضِلّهم ومُغوِيهم، والشطط: القول ذو الشطط؛ أي: القول المنحرف عن الحقيقة، كالكلام الكاذب غير الصحيح، الذي فيه افتراء، الذي لا يطابق الواقع، فهذا من الشطط، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطًا﴾ أصل الشطط مجاوزة الحد، فالكلام إذا جاوز الحد الصحيح صار شططاً.
﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا(5)﴾
ضرورة امتلاك مقياس التلقي:
لقد كان الجن يعتقدون أن كلَّ شيءٍ يقال هو الصحيح، وهذا مرض خطير في الإنسان أن يعتقد أن كل شيء قرأه أو سمعه صحيح، وكل شيء قاله أي إنسان صحيح، لأن الإنسان في هذه الحالة يكون إمَّعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يكن أحدكم إمَّعة. ))
أي: وعاء يستقبل كل شيء، فمعظم الناس في لقاءاتهم وسهراتهم واجتمعاتهم وولائمهم، ينقلون كل شيء سمعوه كالآلة، ولا يوجد عندهم تدقيق وفحص وتمحيص ولا ميزان دقيق، فلا يقولون: هذه القصة غير صحيحة، وهذا الخبر كاذب، وهذا الرقم فيه مبالغة، وهذا الشيء لا يليق بكمال الله، فتجدهم يلقون على الناس قصصاً ما أنزل الله بها من سلطان، أو خرافات ليس لها قيام، أو كلاماً ليس له دليل، ومع ذلك يصدقهم الناس، وهذا مرض خطير.
وهناك ضخُّ معلومات كثيف جداً في هذا العصر إن صح التعبير، فمن الممكن أن تسمع أخبار العالم في ربع ساعة، وقد تسمع تحليلات وأحياناً تكون هذه التحليلات غير صحيحة، وقد تكون هذه الدراسات تهدف إلى خلق شعور معين عند المستمع، فقد تقرأ كتاباً كلُّه ضلالات وكله كذب وافتراء، كما أنك قد تستمع إلى محاضرة في ناد أو في مكتبة، فيكون كل ما قيل في هذه المحاضرة لا ينتمي إلى الحقيقة بِصِلة، فالإنسان العظيم هو الذي يملك مقياساً للتلقي، ويكون معه ميزان دقيق، فيقبل به ما كان صواباً، ويردُّ به ما كان خطأً، فلا ينبغي على الإنسان أن يكون وعاءً للتلقي، وهذا شأن معظم الناس، فترى أحدهم سمع شيئاً، فيقول لك ما سمع بلا تمحيص ولا دراسة ولا تحليل ولا دليل أحياناً، فإن جلست جلسة -وما أكثر هذه الجلسات– فجاء فيها موضوع الجن، استمعت إلى قصص ما أنزل الله بها من سلطان! وكأن الجن آلهة يفعلون ما يريدون ولا يعجزهم شيء، وهذا شيء غير معقول، لذلك كانت هذه السورة مهمة جداً لئلا يقع المسلمون في أوهام، وفي مبالغات، وفي تُرُّهات، فقد جاءت هذه السورة لتضع حداً لهؤلاء المخلوقات الذين هم الجن، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطًا*وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا﴾ إن هذا من سذاجة الجن، فإذا قال الإنسان: هكذا سمعت وهكذا قالوا، وقد يقرأ أحدهم مقالة جاء فيها أن الربا لا شيء فيه، فيقول: إن فلاناً قال ذلك، وهو عالم كبير في مصر، قال أن الربا لا شيء فيه، فهذا الشخص عبارة عن وعاء يقبل كل شيء يُصبُّ فيه.
(( فقيهٌ أشد على الشيطان من ألف عابد. ))
[ أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف ]
(( اُغْدُ عالِمًا أو متعلمًا أو مستمِعًا أو محبًّا، ولا تكنِ الخامسَ فتهلكَ. ))
﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطًا*وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا﴾ اعلموا علم اليقين أن هناك مَن يكذب على الله، وأن هناك مَن يكذب على رسول الله، وأن هناك مَن يُعْطي أفكاراً لا أصل لها في الواقع، واعلموا أن الضلالات منتشرة في كل مكان، وأن السعيد الذي يُوفَّق إلى الصواب ولو كان قليلاً، فلا تفرح بأن معظم الناس يعتقدون بهذا، قال تعالى:
﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)﴾
﴿ وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ ۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا (28)﴾
إن الله عزَّ وجل في هذه الآية الكريمة القاطعة في دلالتها يبيِّن أن أكثر أهل الأرض في ضلالاتٍ ما بعدها ضلالات، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ))
أناسٌ صالحون في قوم سوءٍ كثير.
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)﴾
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: "كان رجالٌ من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً" لأن هذا شرك، وقد كان هناك وادٍ في الجزيرة اسمه وادي عبقر فزعمت العرب في جاهليتها أن الجن تسكنه، فكانوا إذا رأوا من أحدٍ ذكاءً وألمعيةً سموهُ عبقري، أي هو كالجني، وهذا هو أصل كلمة عبقري، وادٍ اسمه وادي عبقر تسكنه الجن، فإن لمحوا من إنسان ذكاء وفِطنة وحركة غريبة قالوا: هذا عبقري أي جني، "كما كان أحدهم إذا نزل الوادي يقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً، وكان العرب يعتقدون في جاهليتهم أن الوديان مقرُّ الجن، وأن رؤساء الجن تحميهم منهم، وكانوا إذا نزلوا الوادي يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً!" .
وهذه هي الحقيقة، فالجاهل يقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، وأعوذ بسيد هذا الوادي، والجن يقولون: لا نملك لكم ولا لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ، فإذا كان سيد الخلق وحبيب الحق يقول: "لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً" ، بل إنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فمن باب أولى ألا يملك لغيره شيئاً.
وعن الربيع بن أنس أنهم كان يقولون: "فلان من الجن ربُّ هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب هذا الوادي من دون الله، فيزيدهم ذلك رهقاً" أي: خوفاً، يدخل الوادي ويقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، أو أعوذ برب هذا الوادي، أو أعوذ بسيد هذا الوادي فيزداد خوفاً وهلعاً، ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ أي: إن الخوف رَهَقهم؛ أي: أتعبهم وتغشَّاهم.
الاستعاذة بالله في الإسلام:
فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5)﴾
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)﴾
فقد حلّت المعوَّذتان محل كل استعاذةٍ يستعيذها العرب في الجاهلية، ولا نملك _نحن المسلمين- حيال الجن إلا أن نستعيذ بالله منهم، واستعاذتُنا بالله سلاحٌ ماضٍ فتَّاك، لا تحتاج إلى شيءٍ آخر، فلا تحتاج إلى شيخ، ولا إلى إنسان خبير بالجن، ولا إلى إنسان ليخرج لك الجن، ولا إلى إنسان يبطل لك السحر، إنك لا تحتاج إلا إلى هاتين الآيتين: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وانتهى الأمر.
قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ(201)﴾
أي: ذكروا الله، وقال:
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ(36)﴾
أربع آيات، فهناك آيتان وسورتان لعلاج الجن، وهذا سلاحٌ فتاكٌ ضد الجن، وليس في الإسلام غير هذين السلاحَين، فقد روى مسلمٌ:
(( عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ. ))
فإذا كنت في السفر فدخلت بيتاً لا تعرف أهله، أو نزلت في فندق، أو ركبت مركبة، فقلت: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) قال: (لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) .
أيها الإخوة الكرام، لقد قال تعالى: ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ أي: زادوهم ضعفاً وخوفاً وحيرة وقلقاً وشقاءً، قال: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ .
﴿ وَأَنَّهُمۡ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدًا(7)﴾
تلازم الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر:
إن إنكار الآخرة موجود في عالم الجن كما هو في عالم الإنس، والحقيقة أنه لا يوجد من أركان الإسلام ركنان متلازمان كتلازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن الإنسان إن لم يؤمن باليوم الآخر لن يستقيم على أمر الله، وإن المفصل الأساسي كي تستقيم على أمر الله هو أن تؤمن أنك محشورٌ إلى يومٍ تُحاسَب فيه على كل شيء، ثم يقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمۡ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدًا﴾ إن الإنسان إذا أنكر الدار الآخرة، تفلَّت من منهج الله، فهناك علاقة:
﴿ أَرَءَيْتَ ٱلَّذِى يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
إنك لن تستقيم على أمر الله استقامةً تامة إلا إذا علمت علم اليقين أن الله سيحاسبك على كل شيء، وأنك واقفٌ بين يديه، وأنك لن تستطيع التفلُّت من بين يديه، وأنه يعلم وسيحاسب، فإما أن يكون الإنسان في جنةٍ لا ينتهي نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها.
استماع الجن لأخبار السماء قبل البعثة:
﴿ وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا8)﴾
هذا بعد البعثة.
﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابًا رَّصَدًا(9)﴾
هذا قبل البعثة ﴿فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابًا رَّصَدًا﴾ أي: مُلئت السماء بالحرس والرواجم، فإذا اقترب الجني من السماء جاءه شهابٌ فيحرقه.
﴿ وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدًا(10)﴾
فهذا الحادث الذي مُنعوا به هو من خبر السماء، وهذا الحادث الذي هو امتلاء السماء بالحرس والشهب: ﴿وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدًا﴾ وهذا كلام في منتهى الأدب، لأن الشر ليس إلى الله عزَّ وجل، فقد قالوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ﴾ فالفاعل هنا مجهول ﴿بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدًا﴾ فقد أراد الله جلَّ جلاله بخلقه رشداً حينما بعث لهم نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أراد بكم رشداً حينما سمح لكم أن تستمعوا إلى الحق، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ(23)﴾
فقد يكون في هذه الساعات المباركات أناسٌ في الملاهي أو في دور السينما أو النوادي الليلية، أو في جلسات عائلية مختلطة يلعبون النرد، أو في كلام كله غيبة ونميمة، فحينما يسمح الله جلَّ جلاله لك أن تستمع إلى الحق، وأن يشرح صدرك لدخول المسجد وسماع الدروس فيه، فهذه نعمةٌ عظمى.
﴿ وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدًا(10) وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا(11)﴾
والجن أنواع، فهناك جن مؤمنة وهناك جن كافرة، وهناك جن ضالة مضلة، وهناك جن مسلمة ﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا﴾ أي متفرقة.
﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُۥ هَرَبًا(12)﴾
أي: أيقنّا أننا في قبضة الله وأن الأمر بيد الله يفعل بنا ما يشاء، وهذا هو التوحيد ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُۥ هَرَبًا﴾ إن هذا الذي يعصي الله، ويأكل المال الحرام، ويعتدي على خلق الله، فيبتزّ أموالهم، ويُذِلُّهم على أي شيء يعتمد؟ كأنه اعتمد على قوته الذاتية، لكنه لم ينتبه إلى أنه في قبضة الله عز وجل في أية لحظة.
﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَن يُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخۡسًا وَلَا رَهَقًا(13)﴾
إخواننا الكرام، إن أرقى أنواع الهداية هو الهداية البيانية، فإذا كنت صحيحاً معافىً ولا يوجد عندك مشكلة، ثم حضرت مجلس علم أو استمعت إلى خطبة واضحة فيها آيات وأحاديث، فاستجبت إلى الله عزَّ وجل كانت هدايتك هداية بيانية، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
هذا كلام دقيق جداً أقوله لكم في نهاية الدرس؛ أرقى أنواع الهداية الهداية البيانية، لا يوجد مشكلة، استمعت إلى الهدى فآمنت به ففي هذه الهداية منطق ودليل وحجة وبرهان، والطريق فيها واضح، كما أن الهدف واضح أيضاً.
إن لم يستجيب الناس بالهداية البيانية، فلعلهم يستجيبون بالتأديب التربوي..
(( عجِب ربُّنا عزَّ وجلَّ من قومٍ يُقادونَ إلى الجنةِ في السلاسلِ. ))
أي: بالابتلاءات، وأنواع الأمراض والعذابات.
فإذا جاء الإنسانَ التأديبُ التربوي فعليه أن يتوب، فإن لم يتب فهناك حل ثالث له، وهو الإكرام الاستدراجي، لعله يشكر، لعله يفهم بالدعوة البيانية، لعله يتوب بالتأديب التربوي، لعله يشكر بالإكرام الاستدراجي، فإن لم يفهم ولم يتب ولم يشكر، قصم.
﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لآيَٰتٍۢ لِّكُلِّ صَبَّارٍۢ شَكُورٍۢ(19)﴾
إن هذا كلام دقيق، فالدعوة البيانية فهم، والتأديب التربوي توبة، والإكرام الاستدراجي شكر، فإما أن تفهم، وإما أن تتوب، وإما أن تشكر، فإن لم تفهم -لا سمح الله- ولم تتب ولم تشكر، فقد بقي القصم.
﴿ فَقُلْنَا ٱذْهَبَآ إِلَى ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَدَمَّرْنَٰهُمْ تَدْمِيرًا(36)﴾
قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَٰهُمْ أَحَادِيثَ﴾ .
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾
﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا*وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُۥ هَرَبًا﴾ فنحن في قبضته ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَن يُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِ﴾ والآن دققوا ﴿فَمَن يُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخۡسًا وَلَا رَهَقًا﴾ أي: لن يضيع عليك شيء، ولن تُبْخَس أجرك الذي وعدك الله به، ولن يُضل الله عملك، ولن يَتِرَك، ولن يدعك، فإذا كنت طائعاً لله فأنت في حفظ الله ورعايته وتأييده ونصره وتوفيقه، وزوال الكون أهون على الله من أن يخيِّب ظن عبدٍ مؤمن فيه.
﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ﴾ فإذا غض الإنسان بصره مثلاً فلن يضيع عليه شيء، بل ستأتيه الدنيا وهي راغمة، وسيملأ الله قلبه غنىً، فيسعده بزوجةٍ صالحة، تسرّه إن نظر إليها، وتحفظه إن غاب عنها، وتطيعه إن أمرها، فكل شيء بحسابه، وهذه آية دقيقة جداً ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً﴾ فلا تخف أن تضيع الدنيا من يدك، إنها ستأتيك وهي راغمة، ولا تخف أن تكون أقل حظاً من غيرك، فأنت المتفوِّق أنت السعيد، أنت المتوازن، أنت المطمئن، أنت الآمن، أنت الموفَّق، أنت المنتصر، هكذا..
﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً﴾ أي: أن يبخسه الله عمله، فإذا ضحيت وآثرت وطلبت العلم، وطلب غيرك الجهل، وآثرت الاستقامة وكان غيرك متفلِّتاً، وآثرت الإنفاق وأمسك غيرك، فإنه من سابع المستحيلات أن يستوي هذا مع هذا.
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
أن يستوي المستقيم مع المنحرف، والصادق مع الكاذب، والأمين مع الخائن، والمحسن مع المسيء، يتناقض مع وجود الله، عندئذٍ ينبغي أن تؤمن بعدها بالعبثية، والله عزَّ وجل ينفي العبثية بقوله:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾
﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ﴾ هذا كلامٌ لنا جميعاً ﴿فَلَا يَخَافُ بَخْساً﴾ أن يُظلَم، ﴿وَلَا رَهَقاً﴾ أن تأتيه شدة، فإن آمنت بالله فلن يضيع عليك شيء، قل دائماً هذه الكلمة: يا ربي ماذا فقد من وجدك؟ ما فقد شيئاً، وماذا وجد من فقدك؟ ما وجد شيئاً، إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك، لعل هذه الآية من أبرز ما في هذه السورة ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً﴾ فإذا تعففت عن مال حرام فلن تكون فقيراً، لأنك تعففت عن هذا المال ورعاً وطاعةً لله، فلن تكون فقيراً.
(( إنك لن تدع شيئا لله عز و جل إلا بدّلك الله به ما هو خير لك منه. ))
وإذا تعففت عن الحرام (بالمعنى الثاني) فلن تكون شقياً بزوجتك، وإذا تعففت عن عملٍ لا يرضي الله فلن تكون مُهاناً في مجتمعك، فأنت الفائز، وأنت الرابح، وأنت الناجح، وأنت المتفوّق، وأنت المفلح في طاعتك لله ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً﴾ .
﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَٰسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَدًا(14)﴾
القاسطون: الظالمون ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ﴾ أي: منا ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَدًا﴾ فقد بحثوا عن الحقيقة فوجدوها.
﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً(15)﴾
فالجن مكلَّفون كالإنس، ويدخلون إلى الجنة، وإلى النار.
﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَٰسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَدًا﴾ هناك معنى دقيق؛ لا يمكن للمسلم أن يكون ظالماً، فإما أن تكون مسلماً، وإما أن تكون قاسطاً، فهناك ضوء وهناك ظلام، فالضوء والظلام متناقضان فأحدهما ينقض وجود الآخر، فإن كنت مسلماً فلن تكون ظالماً، وإن كنت ظالماً فليس هذا من شأن المسلم.
﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَٰسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَدًا﴾ عرفوا الحقيقة ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ﴾ أي: الظالمون ﴿فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ .
(( الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يومَ القِيَامةِ. ))
﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا(16)﴾
أي: على المنهج الصحيح، وعلى صراط الله، فتمسَّكوا بحبل الله، وأطاعوا رسول الله ﴿وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا﴾ أي خيراً كثيراً.
﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً(17)﴾
إذا أعرض الإنسان عن ذكر الله أتته المشكلات والمضايقات والصعوبات والمصائب والأزمات والخوف والإرهاق والقلق.
الخيار صعب؛ فإما أن تستقيم وإما أن تستعد للبلاء، وهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾ أي: إن الله عزَّ وجل يسيِّره في طريق كلُّه متاعب، وكله ألغام، وكله انفجارات، وكله هموم، وكله أحزان، وكله إحباطات، وكله قلق، فإن ذكرت الله كنت في أمنٍ ودَعة.
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
وإن أعرضت عن ذكر الله فإن الله يسلك بالإنسان عذاباً صعداً، فمن صعوبة إلى أشد، وذلك كما يفعل الطبيب مع المريض، فإذا أعطاه دواء عيار خمسين فلم يستفد قال له: تناول عيار مائة، فإن لم يستفد يتناول خمسمائة ثم ينتقل إلى ألف، فكلما جاءته شدة كي تردعه، فلم يستجب لهذه الشدة جاءته شدة أكبر...وهكذا، وهذا كلام دقيق واضح كالشمس، فإما أن نستقيم على أمر الله، وإما يأتينا العذاب صعدا ً، وهذا كلام رب العالمين، هذا حل حقيقي.
﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَٰسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَدًا﴾ أي: بحثوا عن الصواب فأصابوه، بحثوا عن الحقيقة فأدركوها، بحثوا عن سبل السعادة فوصلوا إليها.
﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً*وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا﴾ أي: يأتيهم التوفيق، والدعم، والنصر، والحفظ، والأمن، وهذا كلّه من نتائج الاستقامة ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾ .
الآيات تخاطب المسلمين كما تخاطب الجن:
أيها الإخوة الكرام، هذه آياتٌ كريمة تحدثت عن الجن كقوله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ﴾ فهل هي للجن فقط أم لنا أيضاً؟ إن هذه آيات لنا أيضاً، أي (إياك أعني واسمعي يا جارة) هم يتحدثون هكذا كما قال ربنا عزَّ وجل، ولكننا نحن المعنيون بهذا الكلام، فإذا آمن الإنسان فلن يبخسه الله عمله، ولن يَتِرَهُ عمله.
الملف مدقق