الحمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمتنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمتَنا، وزِدْنا عِلماً، وأرِنَا الحقَّ حقّاً وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس من سورة الجن، ومع الآية الثامنة عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا(18)﴾
إن القرآن الكريم كتابٌ أُحكِمت آياته ثم فُصِّلت، فكلُّ آيةٍ تأخذ بالآية التي بعدها لتصبح كأنها سلسلة، فالآية الأولى في هذه السورة هي قوله تعالى:
﴿ قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا(1)﴾
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾
﴿أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ﴾ ، ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ .
فقد كان مما أُوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن المساجد لله؛ أي: إن هذه البقاع في الأرض التي يُعْبَد الله فيها تؤدَّى فيها الصلوات ويعلّم فيها العلم، هذه بقاع مقدسة هي لله وحده، لا لجهةٍ، ولا لفئةٍ، ولا لشخصٍ، ولا لأحد، ومعنى أنها لله؛ أي: لا يجوز أن تكون الدعوة في المساجد إلا لله، فلا تقام فيها علاقة تجارية كالبيع والشراء، كما لا تقام فيها دعوة إلى إنسان.
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ أيها الإخوة الكرام، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا. ))
ففي الأسواق تُعرض الدنيا بأبهى شكلٍ وزينة، أما المساجد ففيها الآخرة، فحياة الإنسان مرتبطة بمعرفة الله، فأين يعرف الله؟ في المسجد، كما أن حياة الإنسان مرتبطة بالعلّم، فأين يتعلّم العلم؟ في المسجد، حياته في الاتصال بالله، أين يكون هذا الاتصال بالله؟ في المسجد، فإذا كنت في المسجد كنت في المكان الذي يذكرك بالآخرة، في المكان الذي يذكرك بالله عزَّ وجل، في المكان الذي يذكرك بطاعته، في المكان الذي يذكرك بالعلم، وقد ورد في الحديث القدسي:
(( إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره. ))
فإذا كنت في بيتٍ من بيوت الله كنت في ضيافة الله، وضيافة الله عزَّ وجل ليست طعاماً تأكله، أو شراباً تشربه، ولكنها أمنٌ يملأ قلبك، ولكنها توفيقٌ في عملك، وصحةٌ في رؤيتك وتوازنٌ في حياتك، فعطاء الله عزَّ وجل لا يقدَّر بثمن.
حب المساجد من علامات الإيمان:
إن من علامة إيمانك أنك تحب الله وتحب رسوله وتحب أصحابه، وتحب القرآن وتحب المساجد، لذلك:
(( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان. ))
[ رواه الترمذي بسسند ضعيف ]
فمن أين استنبط النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث؟ من قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا ٱللَّهَ ۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ(18)﴾
أساساً من علامات إيمانك أنك ترتاح في المسجد، كما أن من علامات ضعف الإيمان أنك تتضايق في المسجد، فالمؤمن في المسجد كالسمك في الماء، أما غير المؤمن من المسجد فهو كالعصفور في القفص لشدة تضايقه.
حينما تقتطع وقتاً من وقتك الثمين للمجيء إلى المسجد لسماع درس علم، لأداء صلاة، لذكرٍ لله عزَّ وجل، فإن ثمن هذا الوقت الذي اقتطعته من وقتك أن الله عز وجل يكون في حاجتك بينما أنت في المسجد، فأنت في المسجد والله من ورائك بالتوفيق والتأييد والنصر والحفظ.
(( إِنَّ البيتَ الذي يذكرُ اللهُ فيه لَيُضِيءُ لأهْلِ السماءِ كما تضيءُ النجومُ لأهْلِ الأرضِ. ))
فأنت عندما تنظر من الأرض إلى السماء ترى النجوم متألقة، وإن هذه المساجد كأنها نجوم الأرض تضيء لأهل السماء، فالمساجد فيها الحق، وفيها الذكر، فيها الأمر، فيها النهي، فيها التعريف بالحلال والحرام، فيها النهي عن الشر، فيها الطريق الموصل إلى الله عزَّ وجل، فيها الطريق الموصِل لسعادة الدنيا والآخرة، لذلك كانت المساجد تتألق لأهل السماء كما تتألق النجوم لأهل الأرض.
وقد قال عليه السلام:
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))
لذلك قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا(63)﴾
يمشون هوناً؛ أي: لا يسمحون للدنيا أن تستهلكهم، فهم يقتطعون من وقتهم وقتاً لمعرفة الله يقتطعون من وقتهم وقتاً لطلب العلم، يقتطعون من وقتهم وقتاً لأداء العبادات، فهم يمشون هَوناً لأن الدنيا لا تستهلكهم، ولا تستحوذ عليهم، ولا تجعلهم ينسون كلَّ شيء.
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومن تشعبت به الهمومُ في أحوالِ الدنيا؛ لم يبالِ اللهُ في أي أوديتها هلك. ))
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها. ))
فإنك عندما تأتي إلى بيت الله لتطلب العلم وتطلب القرب من الله عزَّ وجل فإن الله عز وجل يعاملك معاملةً خاصة، فيعاملك بالنصر والتأييد والحفظ والتوفيق، إذاً: ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ﴾ وقل أوحي إليَّ أيضاً ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ فشيء كبير جداً أن تستخدم مكاناً مقدساً إنما بُنِي لتعريف الناس بالله، إنما بُنِي لتعريف الناس بحقيقة وجودهم، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الكون، إنما بُنِي ليقرِّب الناس إلى الله عزَّ وجل.
فحينما يستخدم هذا المكان للبيع والشراء ولقضايا الدنيا ولحل مشكلات الناس المادية هذا استخفافٌ بهذا البيت المقدس. ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ .
إن كلمة مساجد واسعةٌ جداً:
1- المعنى الأول:
فكل مكانٍ سجدت فيه لله عزَّ وجل هو مسجد، فإذا وسعنا كلمة المسجد؛ أي مكان سجدت فيه لله عزَّ وجل فهو مسجد، فالمسجد اسم مكان، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( حَيْثُما أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، والأرْضُ لكَ مَسْجِدٌ. ))
فبهذا المعنى وجب عليك أن تكون خالصاً لله في كل مكان، وهذا أوسع معنى للآية؛ أي مكان صليت فيه فهو مسجد ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ أي: ليكن عملك دائماً وأبداً، خالصاً لله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً(9)﴾
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر:
(( وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً. ))
فالمسلم أينما أدركه وقت الصلاة صلَّى، وهذا مما يؤكد أن هذا الدين العظيم بسيط، فأنت لا تحتاج إلى معابد فخمة ولا إلى أبنية شاهقة، ولا إلى كهنوت ولا إلى رجال دين، فأينما وجدت نفسك قد دخلت في وقت الصلاة فصلِّ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (حَيْثُما أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، والأرْضُ لكَ مَسْجِدٌ) وقال: (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) فهذا أوسع معنى للآية؛ ليكن عملك خالصاً لله طول حياتك، لأن أي مكان تصلي فيه هو مسجد، والسجود لله وحده.
المساجد: جمع مَسْجَد، الأعضاء التي تسجد بها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( إذا سجَد العبدُ سجَد معَه سبعةُ آرابٍ وجهُه وكَفَّاه ورُكبَتاه وقَدَماه. ))
والآراب: الأعضاء؛ أي: الرأس، والركبتين، واليدين، والقدمين، فهي سبعة، فيصبح معنى الآية: إن الله عز وجل قد كرمك بأعضاء، فلا ينبغي لك أن تسجد بها لغير الله، فهذا الرأس لا ينبغي له أن ينحني لغير الله، وهذه اليد لا ينبغي أن تخضع لغير الله، لأن هذه الأعضاء التي كرَّمك الله بها هي لله، وأنت لله، فلا يليق بك أن تكون لغير الله، كما لا يليق بك أن تُذِلّ رأسك لغير الله، (ارفع رأسك يا أخي متى موَّت علينا ديننا؟)
المعنى الأول: أي مكان سجدت فيه فهو مسجد، ففي اي مكان يجب أن يكون عملك خالصاً لله عز وجل،
المعنى الثاني: المساجد بمعنى الأعضاء التي تسجد بها، وهذه الأعضاء ينبغي ألا تنحني لغير الله، هذه اليد ينبغي ألا تعطي لغير الله، هذه الرجل ينبغي ألا تسير بها إلى غير ما يرضي الله ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ هذا معنى آخر.
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ المساجد: مصدر ميمي (مَسْجِد)، على وزن (مَفْعِل)، أي: السجود، الصلاة لله عز وجل، فالصلاة هي العبادة الخالصة لله عزَّ وجل، وينبغي أن تكون عباداتك كلها وفي مقدمتها الصلاة خالصةً لله عزَّ وجل، كما ينبغي أن تكون أعضاؤك التي كرَّمك الله بها في استعمالاتها؛ في خضوع الرأس، وفي عطاء اليدين، وفي تنقُّل الرجلين، إنما تخضع لله وحده، ولا تخضع لأحدٍ سواه.
إن المعنى المألوف للمساجد هو هذه البيوت التي يبنيها المسلمون ليؤدوا فيها الصلوات (أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا) المكان الذي نصلي فيه، المكان الذي نتعلم فيه ونلتقي بإخوتنا المؤمنين فيه، فهذا المسجد بالمعنى الضيِّق الذي نألفه هو لله، فإذا اعتلى إنسان منبراً في المسجد فلا ينبغي له أن يعرض آراءه الشخصية -فمن أنت؟- كما لا ينبغي له أن يتشفى من خصومه وهو على هذا المنبر، لأن هذا المنبر منبر رسول الله، وهذا الكرسي كرسي التدريس، فلا ينبغي ولا يُسمح أن يُتخَّذ المنبر والكرسي لتحقيق الأغراض الشخصية، ولا للنيل من الخصوم، فهذا المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكرسي كرسي التدريس كرسي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي عليك أن تنحي كلَّ نزواتك وأهوائك ومصالحك، وأن تجعل الدعوة لله وحده، لئلا يشوبها شائبة، هذا المعنى الرابع، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ أي: هناك أهواء وآراء ومصالح وانتماءات وعلاقات وقضايا، وهذه كلُّها ممنوعٌ أن تُعالَج في المسجد؛ لأن هذا البيت بيت الله، فالموضوع الذي ينبغي أن يُعالَج فيه فقط هو ذكر الله وما والاه، فالقرآن من ذكر الله، والسنة من ذكر الله، والسيرة من ذكر الله، والفقه من ذكر الله، فكل شيءٍ يقرّبك من الله عزَّ وجل يمكن أن يُعالَج في المسجد، كما أن كلُّ شيءٍ يقرّبك من الدنيا يُعالَج خارج المسجد، لأن الجامع مُقَرِّب إلى الله، أما الأسواق والبيوت والمتنزهات والمقاصف فهي مقربة من الدنيا.
المسلون في المسجد سواسية:
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ أيها الإخوة الكرام، قال العلماء: إن كلمة ﴿ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ إضافة تشريفٍ وتكريم، لكن هذا لا يمنع أن ينسب المسجد إلى غير الله، فلا حرج في قولنا: هذا جامع الفاروق مثلاً، أو جامع الوليد بن عبد الملك، وهذا لا يمنع من كون المساجد لله، فلا يمنع من أن تنسب إلى الباني أو المنفِق أو المشرف، أما في الأصل فهي لله عزَّ وجل، لذلك وجب على الإنسان حينما يأتي إلى المسجد يجب أن يخلع الدنيا خارج المسجد، مهما كانت مرتبته الاجتماعية أو حجمه المالي، أو درجته العلمية أو رتبته العسكرية، فإن كل شيء متعلِّق بالدنيا يجب أن يبقى خارج المسجد، وهذا شيء دقيق جداً، فالناس يتفاوتون خارج المسجد، ففيهم المدير العام، وفيهم الحاجب، لكن حكمة الله عزَّ وجل شاءت أن يكون هذا التفاوت المبني على تفاوت مراتب الدنيا متلاشياً في المسجد.
يروى أن أحد الخلفاء كان في المسجد الحرام _ وأظنه أنه الإمام مالك إمام دار الهجرة فطلب منه بعض العلماء أن يزوره- فقال له: قولوا له يا هارون إن العلم يُؤتى ولا يأتي، قال: صدق، نحن نأتيه، ثم قال: قولوا له: إذا جئتنا فلا ينبغي أن تتخطى رقاب الناس.
فأنت في المسجد مسلم فقط، لا يوجد في المسجد رتبة عسكرية، ولا رتبة علمية كالدكتوراه مثلاً، ولا رتبة اجتماعية كعضوية غرفة التجارة، بل أنت في المسجد مسلم، فيجب أن تجلس حذاء أخيك المسلم دون أي تفرقة، فلا يجوز لك في المسجد تخطي رقاب الناس، أما إذا كنت في احتفال أو في دائرة فقد تمتلك مرتبة خاصة، فالمدير العام له غرفة خاصة كما له طاولة خاصة ومقعد خاص، أما الموظفون الآخرون فلهم غرفهم الخاصة، والمستوى فيها أقل، فالمراتب في الدنيا تتفاوت، أما في المساجد فكل المسلمين عند الله سواء، فهم سواسيةٌ كأسنان المشط، فالمساجد لله، والذين فيها عبادٌ من عباد الله.
إن الإنسان في المسجد الحرام مثلاً لا يمكن أن يخطر في باله أنه في السعودية أبداً، فلا يذكر إلا أنه في بيتٍ من بيوت الله، في داخل المسجد الحرام، فلا تشعر أنك في بلد، لأن هذا بيت الله، وكذلك حال أي إنسان يدخل إلى بيت من بيوت الله في أي مكان من العالم فنراه ينسى في أية دولة هو، لأنه في بيت من بيوت الله، وتقريباً لهذا المعنى أقول: يعد بناء السفارة في العرف الدُبلوماسي جزءاً من البلد التي تمثِّلُه، وهذا المسجد هو بيت الله، فهو يعدُّ جزءاً من مقدسات المسلمين، فالمسجد لا يُمَلَّك أبداً، فليس في الإسلام إنسان يملك مسجداً، فمن الممنوع أن تبني فوقه، بحسب الأحكام الفقهية يمنع أن يكون تحته شيء، فهي أرضٌ حرة لا شيء تحتها ولا شيء فوقها، لأنه بيتٌ من بيوت الله.
قال تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ﴾ أي إنها بقاع مقدسة جداً، فالدعوة فيها لله وحده، فليس فيها آراء ولا انتماءات، ولا فكر معين ولا مصالح، ولا نزوات، كما أن هذه المساجد ليست لأشخاص ولا لجماعات ولا لفئات.
سأعرض لكم الآن حكماً فقهياً يقول: إذا أُغلِقت أبواب المسجد وألقيت فيه خطبة الجمعة كانت الخطبة باطلة، فلو اخترنا الجامع الأموي وهو من أكبر المساجد في بلدنا، وأظن أنه يتسع لمائة ألف؛ فالصحن يتسع لخمسين ألفاً، والحرم يتسع لخمسين ألفاً آخرين، فلو اجتمع في هذا المسجد مائة ألفٍ ثم عيَّنا أعظم خطيبٍ لهم ليلقي خطبة الجمعة، ثم أغلقنا الأبواب، كانت الخطبة باطلة، لأن المساجد لله، فأيُّ عبدٍ لله له أن يدخل المسجد، ولا يوجد عندنا مسجد مغلق، أو مسجد خاص لفئة معينة أو لجماعة معينة، أو مسجد خاص للمذهب الفُلاني، أو خاص بالاتجاه الفلاني، هذا لا يوجد..
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ فهذا بيت الله، فهل تستطيع أن تمنع مسلماً من دخول مسجد، من أنت ومن أين أنت حتى تفعل ذلك؟ إن هذا بيت الله، يدخله كل مسلم من أي انتماء، وأريد من هذا التفصيل أن تعتقدوا أن هذا البيت بيت الله، وأن الدعوة لله، وأن الأسلوب مُستقى من كتاب الله، وأن الأهواء والمراتب العلمية والمراتب الأخرى والحجم المالي توضع خارج المسجد، فأنت هنا مسلم، وتتحقق هذه المساواة في الصلاة، وقد جاء في الحديث أن
(( أحسِنوا إقامةَ الصُّفوفِ في الصَّلاةِ، خَيرُ صُفوفِ الرِّجالِ في الصَّلاةِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها، وخَيرُ صُفوفِ النِّساءِ في الصَّلاةِ آخِرُها، وشَرُّها أوَّلُها. ))
فقد تجد إنساناً يعمل حاجباً فهو في المرتبة الدنيا الاجتماعية، ثم تجد إلى جانبه شخص كبير جداً في المرتبة الاجتماعية، ففي المساجد لا يوجد أماكن خاصة، لأن المساجد لله وكل من فيها عباد الله، فالمساواة تتحقق في المساجد، أما في الدوائر فهناك مدير ومعاون مدير ورئيس دائرة وموظف وكاتب وضارب آلة كاتبة ومراسل و (آذن) وحاجب، أما في المسجد فكل هؤلاء عند الله سواء، فلا يجوز للإنسان أن يتخطى رقاب الناس في المسجد، كما لا يجوز له أن يقول: هذا المكان مكاني، فلا يوجد في المسجد حجز أماكن، ولا مقاعد مرقمة، بل القاعدة في ذلك: اجلس حيث ينتهي بك المجلس.
إلا أن هناك ثلاث استثناءات؛ إن الصلاة في بيت الله الحرام بعشرة آلاف صلاة فيما سواه، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سواه، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. ))
أي أن الصلاة عند رسول الله بألف ثواب، وفي تتمة الحديثٍ يقول: (إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَام)
وفي جاء حديثٍ آخر:
(( صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فإن صلاةً فيه خيرٌ من مائة صلاةٍ من مسجدي هذا. ))
فالصلاة عند رسول الله بألف، وهي في بيت الله الحرام مضروبة بمائة، فهي تساوي: مائة ألف، وقد مر بكم من قبل أنه:
(( لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى.))
نرجو الله سبحانه وتعالى أن نعود إليه.
ما سوى هذه المساجد الثلاث، فالمساجد كلها هي عند الله سواء، فليس من السنة أن تشد الرحال إلى مسجد في حلب، ولا إلى مسجد آخر في أي مكان من العالم الإسلامي، لأن المساجد كلُّها عدا هذه المساجد سواءٌ عند الله عزَّ وجل، فليس من السنة أن تتجه إلى مسجد غير هذه المساجد؛ المسجد الحرام، والنبوي والأقصى.
جواز نسبة المساجد إلى غير الله تعريفاً:
قال العلماء: إن المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً، فإنها قد تُنسب إلى غيره تعريفاً، أي: قد تنسب إلى من بناها، أو من أشرف على بنائها.
استثناء فقهي:
وهناك استثناء فقهي آخر، فقد قال العلماء: مع أن المساجد لله عزَّ وجل ولا يذكر فيها إلا الله، فإنها تجوز فيها قسمة الأموال - أي: الغنائم - ويجوز فيها وضع الصدقات، ويجوز فيها حبس الغريم، وربط الأسير، وسكنى المريض، وفتح الباب للجارِ إليها، وهذه بعض الاستثناءات التي أقرها العلماء ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ .
بعض الأدعية المعلقة بالمساجد:
من الأدعية المأثورة: "اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزورٌ حقٌ وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أنت تَفُكَّ رقبتي من النار"
وهناك دعاء مختصر عنه يقول:
(( إذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أبْوابَ رَحْمَتِكَ، وإذا خَرَجَ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ.))
فالرحمات تتنزل على المؤمنين في المساجد، فإذا خرجت من المسجد فقل: (اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ)
فعندما تكون في المسجد تتنزل عليك الرحمات، أما عندما تكون خارج المسجد فإنك تسأل الله من فضله، فأنت في حالين: إما أن تطلب رحمة الله وأنت في بيته، أو أن تطلب التوفيق في عملك وأنت خارج المسجد، فإذا خرج من المسجد قدَّم رجله اليسرى ومن الأدعية الماثورة: "اللهم صُبَّ علي الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كداً واجعل لي في الأرض جداً أي غنىً"
هناك نقطة دقيقة: فمن أهم آداب المسجد أنه:
(( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يَعْنِي الثُّوم- فَلا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ. ))
وهناك حديث آخر يقول:
(( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ و قَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ. ))
فيجب أن يكون المسلم على أكمل وجه عندما يأتي إلى بيت الله، فإذا دعيت إلى عقد قِران في صالة فماذا تفعل؟ إنك ترتدي أجمل ثيابك، وتتعطر، وتحاول أن تظهر بأبهى منظر، فهذه العناية ينبغي أن تكون في بيتٍ من بيوت الله، فيجب عليك أن تبتعد عن أي شيءٍ يؤذي المسلمين في المسجد، فقد يكون هناك أشخاص متفاوتون في طباعهم، فهناك إنسان يتأذى مثلاً من ثياب غير نظيفة يرتديها مصلٍ، وقد يتأذى من رائحة العرق، أو رائحة الثوم، فينبغي عليك أن تبتعد عن أية رائحةٍ من فمك أو من أعضائك أو من ثيابك يتأذى منها المسلمون.
فإذا أكل الإنسان من هذه الشجرة فلا يقربن المسجد، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فلا يقربنْ مصلانا) يوجد عندنا حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام فيه:
(( إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلاً من نتن ما جاء به. ))
فعلينا هنا أن نوسع الموضوع، فلو كان الإنسان يكذب ثم دخل المسجد فإن له ريحاً منتنة يتأذَّى منها الملك، فالأكمل لك ألا تدخل بيت الله إلا وأنت منيبٌ إلى الله، إلا وأنت طاهر داخلاً وخارجاً، قلباً وقالباً، سراً وعلانيةً..
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إن هذه المساجد لا تَصْلُحُ لشيء من هذا البَول ولا القَذَر، إنما هي لِذِكْر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن. ))
إنما: أداة قصر، لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، فلذلك كان على الإنسان أن يحتاط كثيراً وأن يتأدب كثيراً لأن الله تعالى قال:
﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ(32)﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً:
(( إنَّ هذه الصلاةَ، لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنما هو التَّسبيحُ، والتَّكبيرُ، وقراءةُ القرآنِ. ))
فقد سمع سيدنا عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ ثم قال لصاحب الصوت: أتدري من أين أنت؟ وقد كان خلف ابن أيوب جالساً في مسجده، فأتاه غلامه يسأله عن شيءٍ فقام وخرج من المسجد وأجابه خارج المسجد، أرأيتم إلى هذا الأدب؟ إنه من شدة ورع المسلمين من السلف الصالح، أنهم كانوا لا يجيبون عن سؤال دنيوي إلا خارج المسجد، فالمساجد إنما هي التسبيح والذكر وقراءة القرآن.
لقد كَرِه العلماء -أيها الإخوة- البيع والشراء في المسجد؛ كأن تبيع بضاعة في المسجد فتساوم عليها، حتى إن بعض التابعين قال: (يا أبناء الأفاعي، أتخذتم مساجد الله أسواقاً؟ هذا سوق الآخرة) هذا المسجد سوق الآخرة تُباع فيه بضاعة الآخرة، وهي معرفة الله عزَّ وجل.
وورد أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( مَنْ سَمِعَ رَجُلا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا. ))
فتحقيق مصالح شخصية في المسجد من بيع و شراء، أو حل مشكلة ما، يكون خارج المسجد، لأن هذه المساجد لم تبنَ لهذا.
وآخر شيء أود ذكره هو أن السلف الصالح والعلماء كرهوا رفع الصوت في المسجد، فخفض الصوت في المسجد من السنة، فإذا انتهى الدرس كان من الأَولى أن يكون الصوت خفيضاً وذلك أدباً مع الله عزَّ وجل، فالإنسان دائماً يتأدَّب مع صاحب البيت، وكلما كان صاحب البيت عظيماً تأدب معه الإنسان أشد التأدب، كانت هذه بعض الأحاديث المتعلقة بالمساجد التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الآية الكريمة تقول: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ .
1- المعنى الأول:
إن المساجد هي مكان السجود، وإن أي أرضٍ تصلي فيها هي الله، فيجب أن تكون مخلصاً لله في كل شؤون حياتك، وفي كل أحوالك وحركاتك وسكناتك.
2- المعنى الثاني:
إن هذه الأعضاء (المساجد) التي تسجد بها لله ينبغي ألا تُخْضعها لغير الله، فلا تحنِ رأسك لغير الله، ولا تمد يدك ليدٍ مشبوهة، ولا تسِر برجلك إلى معصية.
3- المعنى الثالث:
المساجد: (مصدر ميمي) وتعني: الصلوات، والصلوات تكون لله وحده.
4- المعنى الرابع:
المسجد هو البيت الذي بُني لأداء الصلوات، وإن هذا البيت بني لتعريف الناس بالله، فلا ينبغي لك أن تطرح فيه نظرية أرضية، ولا دعوة لإنسان أو جهة، أو فئة أو جماعة، فالمساجد لكل المسلمين، وفيها تتحقق المساواة بينهم، فإذا كنت خارج المسجد فقد يكون لك مرتبة علمية، أو مكانة معينة، أو وظيفة مرموقة، أو حجم مالي كبير، أما إذا دخلت إلى بيت الله فأنت واحدٌ من المسلمين، وهذا شيءٌ مهمٌ جداً، فقد نجد أحياناً إنساناً يشعر بعزَّته في المسجد فيقول: أنا مقامي كمقام أغنى إنسان! أنا مقامي كمقام أقوى إنسان! فالمسجد يوحِّد بين المسلمين، بينما تفرِّق الدنيا بينهم.
أيها الإخوة الكرام ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ وأنه ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا﴾ فإذا أتيح للإنسان أن يتكلَّم في مسجد، أو أن يخطب في مسجد فليعلم علم اليقين أن هذا المنبر منبر رسول الله، وأن هذا الكرسي كرسي رسول الله، بمعنى أنه لا يجوز أن تنطق بأهوائك، ولا أن تروِّج أفكارك، ولا أن تنال من خصومك، لأن هذا المنبر لله عزَّ وجل، فينبغي أن تنطق فيه بالحق، وأن تضع تحت قدمك كل مصالحك وأهوائك.
إن هذه الآيات هي حكم قطعي، فهؤلاء هم الجن لا يعلمون الغيب، ولا يملكون النفع ولا الضُر، وهم محاسبون ومعذَّبون إن عصوا، كما أنهم مكافَؤون إن نجوا، وقد أُرسل النبي عليه الصلاة والسلام لهم، لكن النبي لم يعلم بوجودهم إلا بعد أن أعلمه الله بذلك، وقد ذكرت هذا كثيراً، ولكن الدرس الماضي لا يعني أنه ليس هناك إنسٌ يتعاونون مع الجن، إن هذا التعاون موجود، ولكنه غير مشروع، فقد نفيت مشروعية التعامل مع الجن، لكن الواقع يؤكِّد أن هناك أُناساً كما قال الله عز وجل:
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6)﴾
وقد يستمتع الجن أحياناً بالإنس في مصالحهم وفي نشر ضلالاتهم، فأنا أنفي مشروعية التعاون مع الجن، أما التعاون بين الإنس والجن فهو قائم، وقد ذكره الله عزَّ وجل، ولكني أؤكد لكم أن هذا التعاون غير مشروع، بل هو محرَّم (ومن سحر فقد كفر) ، لكن هناك من يزعم أنه يتصل بالجن، وأنه يستقي الأخبار منهم ويتعاون معهم، فهو قد يستفيد من خصائص الجن في سرعة التنقُّل وفي الإتيان بأخبار دقيقة عن الشخص، وقد يستحضرون أرواح الموتى، وهم لا يفعلون هذا في الحقيقة، بل إنهم يستحضرون قرناءهم من الجن، فيأتون بتفاصيل دقيقة جداً، فأنا لم أنفِ التعاون، بل أنفي مشروعية التعاون، فالتعاون غير مشروع، وليس عندنا إلا قول الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ(36)﴾
وما عندنا إلا قول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ(201)﴾
وما عندنا إلا المعوذتين:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)﴾
هذا هو ديننا، إنه دين علم، ودين النقل الصحيح، دين القرآن الكريم، أما ما سوى الكتاب والسنة فلا تلتفت إليه، ولا تعبأ به بل اركله بقدمك؛ لأنه باطل في باطل.
فأنا لم أنْفِ التعاون فالتعاون قائم، ولكنني أنفي مشروعية التعاون، ووالله الذي لا إله إلا هو لقد ذكر لي أحد الإخوة الكرام عن رجل يتعاون مع الجن، فقال: والله إنه لا يصلّي وهو من أكبر الزناة، وله أساليب في قنص النساء يندى لها الجبين، فهذا التعاون قائم ولكن ليس مشروعاً، بل هو ضلالة.
وقد ذكرت لكم كثيراً أن كل خرقٍ للعادات إذا كان على يد نبي فهو معجزة، وإذا كان على يد ولي فهو كرامة، وإذا كان على يد فاسق فهو استدراجٌ وضلالة، فخرق العادات موجود حتى عند المضلّين، فقد تقول لي: ما تفسير هذا؟ فأقول: إن الدين لم يقره حتى يعطي تفسيراً له، فاسأل أهل الذكر، واسأل الأطباء، فقد يجلس بعض الناس، ويتحدث عن خرق العادات، وعن هذا الذي يدخل سيخاً في جسمه ويخرجه مثلاً، ففي جلسة من الجلسات قال أحدهم: ما قولكم فيّ؟ وهو لا يصلّي، وله أعمال من دون ذلك، ثم قال: أنا وآبائي على هذا المنوال. فهو يستخدم ذلك وسيلة للارتزاق.
أما الإسلام فهو بريء من هذه الخزعبلات والخرافات والتجاوزات والشطحات، لأن الإسلام دين علم، ودين كتاب وسنَّة، ودين منهج واضح، فكل شيء لم يفعله النبي فهو غير مشروع.
أقالَ الله حينَ عبدتُموه كُلُوا أكلَ البهائمِ وارقصوا لي
لقد علَّم النبي أصحابه أن يكونوا رهباناً في الليل فرساناً في النهار، وأنا لا أريد أن أطيل الحديث، لكني أريد أن أقول: إننا لا نملك إلا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:
﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(7)﴾
فيجب عليك أن تمتلك منهجاً للتلقي، فترفض أي شيء خلاف الكتاب والسنة، وإلا وقعنا في متاهات لا تنتهي.
الملف مدقق