وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الجن - المقدمة 2 - منهج التلقي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة الجن.
 

ملخص المقدمة الأولى:


 في الدرس الأول قدمت لهذه السورة بمقدمةٍ فحواها أن المخلوقات على أصناف، يقع في أعلاها الإنس والجن؛ لأنهما قَبِلا حملَ الأمانة، أما بقية المخلوقات فمنهم مَن أشفق منها ولم يحملها، وآثر القرب من الله، والسلامة على المغامرة فكان المَلك، ومنهم من آثر الشهوة والسلامة فكان الحيوان، بينما قبِل الإنسان أن يأتي إلى الدنيا وأن يحمل الأمانة، وفي أرجح الأقوال: الأمانة هي نفسه التي بين جنبيه، قال تعالى:

﴿  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾

[  سورة الشمس  ]

 لقد أودعت فيه الشهوات ليرقى بها صابراً أو شاكراً لرب الأرض والسماوات، كما أُعطي العقل وهو أداة معرفة الله الأولى، وأُعطي الفطرة وهي مقياسٌ نفسيٌ يكشف له الخطأ من الصواب، ثم جاءته الكتب السماوية وهي المنهج القويم، فكانت حجةً على مقياسَي العقل والفطرة، وأُعطي حرية الاختيار كي يُثمَّن عمله، وأُودِعت فيه الشهوات كي يندفع إلى الله عزَّ وجل، وهذا ملخص الدرس الأول، والإنس والجن على سويّةٍ واحدة:

﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُواْ ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٍۢ(33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)﴾

[  سورة الرحمن ]

 إلى آخر الىيات، واليوم أجدني مضطراً إلى مقدمةٍ ثانية تعدُّ أساسيةً في فهم هذه السورة.
 يا أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان كائن قبل كل شيء، وهو من أرقى الكائنات، وأرقى ما فيه هو هذه الأداة الإدراكية التي يمتلكها وهي العقل، إلا أن الإنسان مزوَّد بوسائل معرفية غير العقل؛ فعنده الحواس وعنده العقل، وهناك وسيلة لمعرفة بعض الحقائق ليس لها علاقةٌ بالعقل ولا بالحواس.

 وسيلة معرفة الأشياء المحسوسة:


 الحواس الخمس:

 يمكننا أن نقول إن الأشياء المحسوسة هي الأشياء التي لها وزن ولها حيِّز وجسم وطول وعرض وارتفاع ولون وصوت ورائحة وملمس، فهذه الأشياء يمكننا أن نعرفها عن طريق الحواس، ونحن بهذا والحيوانات الأخرى سواء، فقد ترى بعينك ضوء الشمس، وتسمع بأذنك صوت السيارة، وتشمُّ بأنفك رائحة الزهر، وتمسك بيدك قطعةً من القماش تتحسّس نعومتها، فهناك سمعٌ وبصرٌ وشمٌ وحاسة اللمس، وهذه الحواس متعلقة بالمحسوسات، فسبيل معرفة الشيء الذي ظهر جسمه وأثره هو الحواس الخمس، وهذا لا خلاف عليه، وليس مشكلة في موضوعنا إطلاقاً، فأنت تمسك بالكأس مثلاً فتقول: هذا كأس فيه ماء وله وزن، فتقيِّم وزنه بيدك، وقد ترى أن الماء لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، فقد تشربه وتقول: هذا ماء بارد وهو عذبٌ فرات، وهذه معرفة حسية ليست مشكلة، ولا خلاف عليها.

 فرق الإنسان عن الحيوان والجماد:


 إلا أن الإنسان هنا يتميّز، فإن صح أن نقول: إن الجماد شيءٌ يشغل حيّزاً، وله طولٌ وعرضٌ وارتفاعٌ ووزنٌ، هذا الجماد، شيء محسوس وله حجم؛ طول، عرض، ارتفاع، له وزن، أما النبات فيشغل حيزاً كالجماد تماماً، فله وزن وطول وعرض وارتفاع، لكنه ينمو، والحيوان يشغل حيزاً كالنبات أيضاً، وله وزن وطول وعرض وارتفاع وينمو لكنه يتحرك، أما الإنسان فهو شيءٌ له طول وعرض وارتفاع وله وزن، ويشغل حيزاً ويتحرك وينمو، لكنه يدرك. وهنا يتميَّز الإنسان، فكل إنسان عطَّل عقله، أو أساء استعماله فقد هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوىً لا يليق به، لذلك يقول أهل النار في النار:

﴿  وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)﴾

[  سورة الملك  ]

 فقد يركب إنسان مركبة قديمة جداً من موديل الأربعين، فتتدهور ويموت، نقول: إن نوعيتها السيئة جداً أو قِدَمها الشديد أتلفَ أجهزتها فتدهورت فقتلت صاحبها، ولكن إذا ركب الإنسان أحدث مركبة، وكانت الطريق مليئة بالمنعطفات، وكان على اليمين وادٍ وعلى اليسار وادٍ، فلو أطفأ الضوء مرةً واحدة لتدهور، فهل علة تدهور الأول كعلة تدهور الثاني؟ لا، لقد تدهور الأول بسبب ضعف المركبة، أما الثاني فقد تدهور بسبب عدم الرؤية، أو انعدام الرؤية فارتكب حادثاً فأودى به، فقد يكون الإنسان من أذكى البشر، وقد يكون له عقلٌ راجح، لكنه حينما لا يرى بنور الله يهلك، وسأضع لكم على ذلك أمثلة تعرفونها جميعاً.
 قد يفحص الإنسان درجات عينيه عند طبيب عيون، فإذا كشف جهة الحروف في السطر الأسفل كانت درجة رؤيته عالية جداً، فيقول له الطبيب: (اثنتا عشرة على عشرة)، وقد يقول لإنسان أقل منه: (عشرة على عشرة)، والذي أقل (تسعة على عشرة) وهكذا.
 فقد يكون الإنسان حاد البصر، وقد تكون درجة رؤيته اثنتي عشرة على عشر، ولكن ما قيمة هذه العين إذا لم يوجد ضوء؟ لا قيمة لها إطلاقاً، فالعين لا بد لها من وسيطٍ يصل بينها وبين الأشياء، والوسيط هو النور الاصطناعي أو الطبيعي، فكما أن النور أساسيٌ في وظيفة العين، فإن الوحي أساسي في وظيفة العقل، فقد يكون عقل الإنسان مجهزاً بتجهيز من أعلى المستويات، ولكن هذا العقل لا قيمة له من دون وحيٍ يهتدي به.
 فالعقل جهاز ضخم لكن حيادي، فقد يُستخدَم في الخير كما يُستخدَم في الشر، فالآلة الطابعة الملونة الراقية جداً التي يصل ثمنها إلى نصف مليون، من الممكن أن تطبع بها عملة وتزورها فتدخل السجن، كما يمكن أن تصمم بها أغلفة وبطاقات فتغتني، والآلة واحدة.
 

وسيلة معرفة الأشياء غير المحسوسة التي لها أثر:


 العقل:

أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان يملك قوة إدراكية هي العقل، هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة إلا بالأثر، "الأقدام تدلُّ على المسير، والماء يدل على الغدير، والبعر يدل على البعير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فِجاج ألا تدلاَّن على الحكيم الخبير"، فمهمة العقل أن يصل من شيءٍ محسوس، إلى شيءٍ مُغيَّب.
 فالله عزَّ وجل لا تدركه الأبصار، ولكن الكون كله يدلُّ عليه، فالكون أحد آثاره، ونحن نصل من الأثر إلى المؤثِّر، ومن الخلق إلى الخالق، ومن التسيير إلى المسيِّر، ومن الحكمة إلى الحكيم، ومن العطاء إلى المعطي، ومن النِعمة إلى المُنعم.
 فالأشياء المحسوسة أداة معرفتها الحواس الخمس، أما الأشياء غير المحسوسة التي لها آثار فأداة معرفتها العقل، والعقل في هذا الميدان يجول ويصول، ومهما تعمَّقت في التفكر بالآثار تصل إلى الله عزَّ وجل، لذلك يمكن أن أقول لكم بشكلٍ بسيط: إن الكون أوسع بابٍ ندخل منه على الله وأقصر طريقٍ نصل به إليه، أما العقل يتكامل مع الكون، كما أنه قوة إدراكية تكشف المجهول من آثاره، وتكشف الغائب عنك من آثاره، هذا مجال، لذلك يصنِّف المؤمن دائماً وأبداً المقولات فيقول: هذه قضية حسية، وهذه قضية عقلية، ولكن هناك قضية ثالثة، كانت سبب درسنا اليوم، وسبب هذه المقدمة، فقد عرفنا أن الشيء الحسي الذي ظهرت عينه وآثاره نعرفه بحواسنا الخمس، ونحن بهذا نلتقي مع بقية المخلوقات، أما الشي الذي غابت عينه وبقيت آثاره فلا يمكن أن نصل إليه بحواسنا الخمس، وهنا المغالطة التي يطرحها الفلاسفة تقول: (أنا أشعر بوجودي إذاً أنا موجود) والرد على هؤلاء أن عدم الوجدان لا يدلُّ على عدم الوجود، فإذا لم ترَ الله بعينيك ولم تشعر به بحواسك الخمس ليس معنى ذلك أنه غير موجود، فأنت الآن تتعامل مع أشياء كثيرة لا تشعر بوجودها لكنها موجودة، فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وهذه حقيقة.
 فمهمة العقل إذاً هي أن ينتقل من أثر إلى مؤثِّر، ومن خلق إلى خالق، ومن شيء محسوس إلى شيء مجرَّد، ومن شيء له أثر إلى ذات الشيء، لذلك الإيمان بالله يكون بالتفكُّر في خلق السماوات والأرض.

﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا(63)﴾

[  سورة الفرقان ]

 يعني يتفكرون.

﴿  إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 فنحن أيها الإخوة أمام عبادة راقية جداً هي عبادة التفكُّر، وهذه عبادة أهملها المسلمون فضعف إيمانهم بعظمة الله، آمنوا بوجوده لكنهم لم يؤمنوا بعظمته، والدليل:

﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾

[  سورة الحاقة  ]

 فبعض المسلمين يجعل الله أهون الناظرين إليه، يقول تعالى في إنجيل سيدنا عيسى: "عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين أفلا طهَّرت منظري ساعة" فإلى أي شيءٍ ينظر الله عزَّ وجل؟ إنه ينظر إلى قلبك، وقد طهرت منظر الخلق؛ فطليت بيتك، ونظّفت مركبتك، وغيّرت أثاث بيتك، ولبست أجمل الثياب، أنت ماذا تفعل؟ إنك تُطَهِّر منظر الخلق، ليتك تطهر منظر الله عزَّ وجل.

(( إِنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى أَجْسامِكُمْ، ، ولا إلى صُورِكُمْ ، ولكنْ ينظرُ إلى قُلوبِكُمْ. ))

[ صحيح الترغيب ]

 فلو طهرت منظر الله عزَّ وجل لكنت في حال غير هذا الحال، قال تعالى:

﴿  يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾

[  سورة الشعراء  ]

 لأن القلب هو قِوام الإنسان، وقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: "تعاهد قلبك" .
 فلو حطت ذبابة سوداء على عينك لرأيت كل شيء أسود، فتذهب إلى طبيب العيون، وقد يقول لك: الموعد بعد شهر، أو بعد شهرين، أو بعد ثلاثة أشهر، فتنتظر وتتأدب وتدفع وتسخو، لأنها عين، فلماذا تعتني بعينك ولا تعتني بقلبك؟ إن القلب هو منظر الله عزَّ وجل وهو ذخيرتك ورأس مالك يوم القيامة: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ فهو شيء مهم جداً. 
لذلك أيها الإخوة، إن العقل أداة معرفة الله، والعقل حيادي، أداة خطيرة جداً، فإذا سرق إنسان، أو سرقت عصابة ما، فإنها تأتي بآلة حاسبة وتستخدمها في توزيع السرقة، وقد يستخدم إنسان آخر هذه الآلة في عمل عظيم، فهذه الآلة حيادية فيمكن أن تُستَخدم لتوزيع مال مسروق، كما يمكن أن تُستخدَم في عملٍ شريف، فالعقل حيادي، وهو إما أن يكون درجات ترتقي بها أو دركات تهوي بك، وهو أداة معرفة الله، لأن الله عزَّ وجل لا تدركه الأبصار، ولكن تدركه العقول، غير أن العقل لا يمكن أن يحيط بالله عزَّ وجل لكن يصل إليه، وهناك فرقٌ كبير بين أن تصل إليه وبين أن تحيط به، فقد تركب مركبة وتذهب بها إلى البحر، فنقول: هذه المركبة أوصلتك إلى البحر، لكنك لن تستطيع أن تخوض بها البحر فإن فعلت غرقت، فمهمتها أن تصل بك إلى ساحل البحر، وهذا العقل مهمته أن تصل به إلى الله، فيمكن لهذا الكون –وأنا أعني ما أقول- بما فيه من آلاء ومن آيات عظيمة جداً أن يكون جسراً بينك وبين الله، تعبره إلى الله، فالعبرة أن تعبره إلى الله.
 فالصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين وصلوا إلى الله وعبروا هذا الكون إليه، ونحن وصلنا إلى دقائق علمية مذهلة، فقد وصلنا إلى الذرة، وصلنا إلى الهندسة الوراثية، وصلنا إلى المُورِّثات المبرمَجة، كما أن العلوم الطبيعية والحيوية وصلت إلى درجات يصعب أن يصدقها العقل، هذا هو الجسر، لكن الصحابة الكرام وصلوا إلى الله، ونحن ما زلنا على الجسر لم نعبره إلى الله عزَّ وجل، هذا شيء دقيق جداً.
 أقول لكم هذه الحقيقة وقد ذكرتها من قبل: لو أن هناك مدينةً فيها كلُّ شيء ممّا لذّ وطاب، وكان كل شيء فيها ثمين وكل شيء فيها مباح وبلا ثمن، فإنك إن وصلت إليها سعِدت سعادةً لا توصف، لكن العبرة في أن تصل إليها، فالآن مثلاً توجد مركبات مختلفة؛ فهناك المركبة البدائية وهي الدراجة، وهناك مركبة أعلى وهي الدراجة النارية، وهناك مركبة ثلاثة دواليب، وهناك مركبة أربع عجلات وهي أرقى، وبعد ذلك نجد الطائرة، فالمركبات تتنوع، لكنك حينما تختار أي مركبة فإنك تستعملها لتصل بك إلى هذه المدينة، لكن هذه المركبة ينتهي دورها بعد وصولك، فلم يعد لها قيمة لأنها أدت المهمة، ومهمة الكون هي أن تصل منه إلى الله، وإنك قد تصل إلى الله بمعلومات دقيقة جداً، وقد تصل إلى الله بمعلومات بسيطة جداً، فالصحابة وصلوا إليه، لكن هؤلاء الذين يعيشون في عصر العلم فلعل شهواتهم المنحرفة أو معاصيهم الكثيرة كانت حجاباً بينهم وبين الله عزَّ وجل.
الموضوع الثاني هو أن مهمة العقل أن يصل من المحسوس إلى الغائب، ومن المحسوس إلى المُجرَّد، ومن الأثر إلى المُؤثِّر، ومن النعمة إلى المُنعِم، ومن التسيير إلى المسيِّر، ومن الحكمة إلى الحكيم، ومن العطاء إلى المعطي، وهكذا... ولكن، ما علاقة هذه المقدمة بدرسنا!

وسيلة معرفة الأشياء غير المحسوسة التي لا أثر لها:


 هناك طريق ثالث إلى المعرفة، وهذا الطريق ليس حسياً ولا عقلياً، لأن موضوع المعرفة شيء غابت عينه، وغابت آثاره، فليس له أثر ولا نراه، غاب عن أعيننا، وغابت آثاره عن حواسنا، هذا الشيء لا يمكن أن نعرفه إلا بالخبر الصادق فقط، فالعقل ليس له دور هنا، فإياك أن تسأل عن دليلٍ عقلي لوجود الجن مثلاً، فهذا الدليل غير موجود، وقد زلَّت قدم بعضهم فأنكروا الجن، وقالوا: أين الجن؟ وإياك أن تسأل: أين الملائكة؟ لأنه لا يوجد دليل عقلي على وجود الملائكة، لا يوجد حسي، لأنها أجسام نورانية لا نراها، ولا يوجد دليل عقلي لأن العقل يحتاج إلى أثر، والعقل يتعامل مع الأثر، ثم ينتقل بك إلى المؤثر، والحواس تتعامل مع الشيء مباشرةً، لا مع أثره، فلذلك في العقيدة الصحيحة موضوعات كثيرة، وسبيل معرفتها ليس الحواس ولا العقل، وهذه موضوعات قليلة، ليست كثيرة ومنها الجن، فنحن لا نملك عن الجن إلا ما أخبرنا الله به، ولا نستطيع أن نزيد على ذلك شيئاً، ولا أن نحذف شيئاً، وهذا موضوع مسلكُ الإيمان به الخبر الصادق.
 فقد تدخل مثلاً إلى بيت فترى بعينك الأثاث والثلاجة والمقعد الوثير والمكتب، وقد تجد مروحة تتحرك ومصباحاً يتألَّق، وجواً مكيَّفاً، فتقول: إن في البيت كهرباء مع أنك لم ترَ الكهرباء، فقد عرفت الطاولة والأثاث والثلاجة والمكتب بحواسك، وعرفت وجود الكهرباء بعقلك، فلما رأيت المروحة تدور، والمكيف يعمل، ثم طُرِقَ الباب فَرنّ الجرس، تقول: في البيت يوجد كهرباء، فمعرفة الكهرباء تختلف عن معرفة المكتبة والأثاث، فأنت تعرف المكتبة والأثاث بحواسك، والكهرباء بعقلك، أما في غرفة مغلقة فلا تستطيع أن تعرف ما فيها، لا بحواسك ولا بعقلك، مهما كان الإنسان ذكياً وعاقلاً حتى وإن كان يحمل شهادة البورد، فإنك إذا أدخلته بيتاً وأجلسته في غرفة فيها باب، فإنه لا يعلم ما بداخل الغرفة الأخرى، لأن الحائط كاتم يمنع الرؤية، والعقل يحتاج إلى وسائل، ويحتاج إلى آثار لكي يشتغل، فجاء بعد ذلك صاحب البيت وهو إنسان صادق، فقلت له: رجاء ماذا يوجد في هذه الغرفة؟ فيقول لك: فيها غرفة نوم لونها بني، وفيها ثريا، ومنظر طبيعي وستائر بنية أو بيج، فهذا خبر صادق، فقد رأيت المكتب بعينك وأدركت الكهرباء بعقلك، وعرفت ما في الغرفة بالخبر الصادق.
 فالآن أصبحت القضية سهلة جداً، فإذا كنت أمام أي موضوع بالدين، فإن أول عمل يجب عليك هو أن تصنِّفه، هل هو مع الحواس أم مع العقل أم مع الخبر الصادق؟ فإذا كان مع الحواس فانظر إليه وأمسكه بيدك، و قدِّر وزنه بيدك، وقدِّر نعومته بجلدك، وقد يكون مما لا يُرى جسمه ولكن يُرى أثره، فإذا رأيت دخاناً مثلاً قلت: هناك نار، لأنه لا دخان بلا نار، وإذا رأيت الضوء أطْفِئ فجأةً فمعنى ذلك أن الكهرباء قد انقطعت، فهل سبب الانقطاع يا ترى من عندنا أم من المؤسسة؟ فالعقل هنا اشتغل، لوجود الآثار، أما حينما ترى غرفةً مغلقة في البيت، فلا يمكنك أن تعرف ما فيها مهما كنت ذكياً إلا أن تسأل صاحب البيت: رجاءً قل لي ما في هذه الغرفة؟ وهو عندك صادق، فقد عرفت المكتب بعينك، وعرفت وجود الكهرباء بعقلك، وعرفت محتوى هذه الغرفة بالخبر الصادق.
 فإذا استطعت أن تصنف كل موضوع في أي حقل هو، انتهت كل مشكلاتك في العقيدة، وإن أكثر أعداء الدين الآن يأتون إلى مؤمن ضعيف الإيمان ويقولون له: أنا رجل واقعي، أثبت لي وجود الجن بدليل علمي، أو أحضر دليلاً على وجود الملائكة، أين الملائكة؟ فيرتبك هذا الإنسان بسبب عدم وجود دليل مادي، لأن الدليل إخباري فالله عزَّ وجل أخبرني أن هناك مخلوقات تدعى (الجن)، وأن هناك مخلوقات تدعى (الملائكة)، فإيَّاك أن تخوض مناقشةً مع مُلحدٍ حول موضوعاتٍ إخبارية، فالموضوعات الإخبارية لا قيمة لها إطلاقاً إلا أن تصدِّق قائلها، وكلامي هذا دقيق، فإذا آمنت بالله أولاً، وآمنت بكتابه ثانياً، وصدَّقت أنه كلام الله، وأخبرك الله أن هناك مخلوقاتٌ هي الجن، فإنك تؤمن الآن بالجن إيماناً إخبارياً، فأنت لست مكلّفاً أن تؤمن بالجن إيماناً عقلياً، فليس هناك دليل عقلي على وجود الجن، ولن تستطيع أن تؤمن بالجن إيماناً حسياً لأنك لا تراها، قال تعالى:

﴿ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَآ ۗ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)﴾

[  سورة الأعراف ]

 فما دمت لا ترى الجن، فأنت لست مكلفاً أن تؤمن بها إيماناً حسياً، وما دام الجن ليس له أثر فأنت لست مكلفاً بأن تؤمن بالجن إيماناً عقلياً، فالسبيل الوحيد للإيمان بالجن هو الدليل الإخباري وهو الخبر الصادق، وهذا هو حال أية موضوعاتٍ يمكن أن تكون في دائرة الخبر الصادق، كالملائكة والجن والماضي السحيق، قال تعالى:

﴿ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُدًا(51)﴾

[  سورة الكهف ]

 أي: لم يكونوا في ذلك الوقت، فهؤلاء الذين يزعمون أن أصل الإنسان قرد، لم يكونوا شاهدين على خلقه ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ فالملائكة والجن، والماضي السحيق، والمستقبل البعيد، ما بعد الموت، وقصة خلق الإنسان، وذات الله عزَّ وجل، هذه كلها موضوعات نؤمن بها عن طريق الخبر الصادق، فالله أخبرنا مثلاً أنه على العرش استوى، كيف استوى؟ قال الإمام مالك لسائل سأله هذا السؤال: "الاستواء معلوم (الله أخبرنا به)، والكيف مجهول، والسؤال بدعة قم عني"، انتهى الأمر، فمن الممكن أن تريح نفسك من طريق شائك، أو من حقل ألغام، إذا عرفت أن هذا الموضوع متعلق بالخبر الصادق، وذلك طبعاً بعد أن تؤمن بالله الإيمان الحقيقي المتين العميق، وبعد أن تؤمن بكتابه المعْجز، وبعد أن تؤمن برسوله الصادق الذي جاء بهذا الكتاب، الآن العقل يتلقى.

مثال موضح:


 لقد ضربت مرة مثلاً يوضح هذا الأمر فقلت: إذا كان هناك بقالية فيها عشرة آلاف صنف، وأقل صنف يزن خمسة غرامات، أما أكبر صنف فهو يزن خمسة كيلو، فإذا كان هناك ميزان حساس وغال جداً يؤدي الوظيفة بالتمام والكمال، لكن استيعابه هو من الغرام إلى عشرة كيلو فقط، فهذا الميزان يكفي البقالية، وهو في أعلى مستوى، وحساس جداً، لكن صاحب البقالية أراد أن يستخدم هذا الميزان لوزن سيارته، فوضعه على الأرض وسار فوقه فتحطم، فقال: هذا لا يصلح، نقول له: أنت استخدمته في غير ما صنع له، ودققوا الآن في كلامي: إن عقلك محدود المهمة، فإذا عددته مقياساً مطلقاً للمعرفة فقد جانبت الحقيقة، فإذا اعتقدت أن عقلك مقياس مطلق للمعرفة أخطأت خطأ كبيراً، وهذه مشكلة المعتزلة الذين عدّوا العقل مقياساً مطلقاً وحكَّموه بالنقل، فقال بعض العارفين بالله: "العقل حصانٌ تركبه إلى باب السلطان فإذا دخلت إلى السلطان دخلت وحدك" .
 وقد يقول لك الإنسان أحياناً: أريد طبيب هضمية متفوق؛ فيسأل أصدقاءه ومعارفه وأقرباءه وبعض المرضى عن شهادته واختصاصه وخبراته وسمعته وأمانته وذكائه وتواضعه، إلى أن يوصله عقله إلى هذا الطبيب، فإذا دخل إليه أعطاه الدواء، فهل يستطيع هذا المريض بعد ذلك أن يعترض على هذا الطبيب؟ لا، لقد انتهت حدود عقل المريض، فعقله أوصله إلى باب العيادة وانتهى الأمر، أما الآن فهو يتلقى، والشيء اللطيف في الموضوع هو أن الشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، وهذا شيء جميل جداً، فقد جعل لك أشياء محسوسة وأعطاك خمس حواس، وجعل لك أشياء مغيَّبة عنك وأعطاك عقلاً، فعقلك له مهمة محدودة، فهل يا ترى كلمة (محدودة) نقص في العقل؟ لا إنها ليست نقص، فإذا كان عندك مثلاً زوجة وثلاثة أولاد فإنك تحتاج إلى مركبة، فهل من المعقول أن نعطيك (تراكس) لتخرج به إلى نزهة؟ هذا ليس كمالاً، أنت تحتاج إلى مركبة بعشرة أحصنة وليس إلى مركبة بخمسمائة حصان -أحصنة سيارة طبعاً وليس أحصنة عادية-، فلذلك كان كمال عقلك في أن يكون محدوداً بالمحسوس وبالآثار، أما العقل المطلق فهو الله عزَّ وجل، فالشيء الذي عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، والقضية سهلة، قال تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)﴾

[ سورة الرعد ]

﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 لقد عرَّفك بذاته، وعرفك بأسمائه، وعرّفك بكمالاته، وعرّفك بالأنبياء السابقين، قال تعالى:

﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)﴾

[ سورة آل عمران ]

 عرَّفك بتاريخ الأنبياء وتاريخ الشعوب وبالأمم السابقة، كما عرفك بالمستقبل:

﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ(116)﴾

[  سورة المائدة ]

 لقد عرّفك بالماضي السحيق، وبالمستقبل البعيد، وبحكمة الأشياء، وبعلَّة الخلق، وبسر وجودك، وبغاية وجودك، فكلُّ شيءٍ يعجز العقل عن إدراكه أخبره الله به، فهناك أشياء محسوسة أداتها الوحيدة هي الحواس الخمس، كما أن هناك أشياء معقولة غابت عينها وبقيت آثارها وأداتها الوحيدة العقل، وهناك شيء لا يستطيع عقلك ولا حواسك أن تدركه وهو متعلق بالإخباريات التي أخبرك الله عنها، فإذا قرأت القرآن مثلاً شعرت أن هذا كتاب معرفة كامل، ففيه محسوسات، قال تعالى:

﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[  سورة يونس ]


تسلسل عقلي...


 هناك معقولات وهناك إخباريات، لكني أريد أن أنصحك بشيء: إياك ثم إياك ثم إياك أن تناقش إنساناً منكراً ملحداً في الإخباريات، الإخباريات تأتي في المرتبة الرابعة، فيصبح التسلسل كالآتي: أولاً تؤمن بالله عن طريق الكون، الكون شيء موجود ومُسلَّم به، وهناك من يسميه: الشيء الثابت، فإذا أعملت عقلك في الكون وصلت إلى أن له خالقاً عظيماً، لأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فلا يمكن أن يخلق الخَلقَ عبثاً:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[  سورة المؤمنون ]

  فلا يمكن للخالق أن يخلق الخلْق سدىً.

﴿  أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾

[  سورة القيامة  ]

 هذا غير معقول، فلا يوجد إنسان عاقل يرسل شخصاً إلى حلب بمهمة في سيارة، ثم يدفع له ألفين ليرة أجرة، فيقول الشخص: ماذا أفعل؟ يقول له: لا تفعل شيئاً، اذهب وارجع فقط، هذا مستحيل، كما لا يوجد مدير شركة يحترم نفسه يعطي أمراً ليس له معنى، أو أمراً فيه إتلاف للمال أو هدر للوقت والجهد بلا سبب، اذهب إلى حلب ثم ارجع، لماذا؟ هكذا بلا سبب، إن فعل ذلك لا يسمى مديراً بل مجنوناً، فهل يمكن لإله عظيم أن يخلق الخلق عبثاً! ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا﴾ ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ إن كمال الخلق يدلُّ على كمال التصرف، وربنا عزَّ وجل خلق إنساناً، فلا بد من أن يدله عليه، لا بد من أن يرشده، لا بد من أن يحذره، لا بد من أن ينبهه، فقد يشق الإنسان طريقاً، وبعد أن يُشق الطريق توضع عليه لافتات: (ممنوع مرور، ممنوع تجاوز، منحدر خطر، جسر، طريق تحويل) وهذه كلّها إرشادات، والله عزَّ وجل قد خلق الخلق، ونوَّر الخلق بكتابه، فإذا آمنت بالله واحداً وموجوداً وكاملاً، ثم آمنت أنه لا بدَّ من أن يُخْبِر خلقه عن سبب خلقهم، فآمنت بهذا الكتاب عن طريق إعجازه، وآمنت بالنبي عن طريق هذا الكتاب، وهذا تسلسل عقلي رائع، فإذا آمنت بالله عن طريق الكون، وبالقرآن عن طريق إعجازه، وبالنبي عن طريق قرآنه، انتهى دور العقل، ويأتي بعد ذلك دور النقل، لذلك قالوا: "الدين نقلٌ" فأساس الدين وحي من السماء؛ إخبار السماء للأرض، إخبار الله الخلق، وتعريفهم به؛ إلهاً ورباً وخالقاً وحكيماً وسميعاً وبصيراً ورحيماً وغنياً ولطيفاً وقديراً، فالدين وحي، لكن التأكد من صحة هذا الوحي يكون عن طريق العقل، كما أن فهمه يكون عن طريق العقل، فدور العقل يكون قبل النقل وبعد النقل، فدوره قبل النقل لإثبات صحته، ودوره بعد النقل لفهمه، فالعقل لا يتناقض مع النقل، ولكن لا يجوز أن يُحَكَّم العقل بالنقل، فالإنسان المنحرف قد تقول له الآية أو الحديث فلا تعجبه، لأنه جعل عقله هو الأصل، والعقل في الحقيقة وسيلة، وهو محدود المهمة، فلا يمكن أن يكون العقل حكماً على النقل.
 لذلك كان درسنا اليوم متعلِّقاً بالخبر الصادق، فالله أخبرنا أن هناك مخلوقات لا نراها لكنها ترانا، وتسمعنا لكننا لا نسمعها، والدليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق الذي يوحى إليه، قد حضرتْ مجلسه الجن، واستمعتْ إلى القرآن الذي يتلوه على أصحابه والنبي لا يعلم، فلولا أن الله أخبر النبي أن الجن حضرت مجلسك وسمعت القرآن من فمك لمَا علم النبي، فمعنى ذلك أننا لا نرى الجن، كما أننا لا نسمع صوتهم:

﴿ قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا(1)﴾

[ سورة الجن ]

 قل يا محمد لإخوانك ولأصحابك، وللناس قاطبةً: ﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ فلولا أن الوحي جاءه ما علم النبي الكريم أن الجن حضروا معه، فالنبي الكريم -على عظمته- لا يعلم إلا أن يُعْلِمه الله عزَّ وجل.

هذه السورة تنبذ الخرافات والأوهام..


 إخواننا الكرام، من الممكن الآن بعد أن استمعت إلى هذا الدرس أن تضع تحت قدمك مليون قصة ليس لها أصل، فهناك من الناس من يعيش في أوهام عالم الجن، وقد تجد أشخاصاً محترمين يذهبون إلى أشخاص من أجل إخراج جني، أو إدخال جني أو تعامل مع الجن، فنحن نسمع قصصاً لا تنتهي حول ذلك في كل جلسة نحضرها، وهذه السورة هي الحاسمة، لأنها مقياس دقيق، لقد قلت في بداية الدرس الماضي: إن هناك أناساً تطرفوا حينما أنكروا الجن، كما أن هناك أناساً تطرفوا حينما أعطوا الجن كل شيء، فالجن لا نراهم ولا نسمع أصواتهم، ولكنهم يروننا ويسمعوننا: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ ولولا أن الله أوحي إلى النبي لمَا عرف النبي أن الجن حضرت مجلسه.
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ وبالمناسبة: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "قل لا أعلم الغيب" ، فأي مخلوق يدَّعي بعد ذلك أنه يعلّم الغيب يجب أن تركله بقدمك، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿  قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)﴾

[ سورة الأعراف  ]

  فإذا كان النبي لا يعلم الغيب، فهل نقبل من أحدٍ كائناً من كان أن يعلم الغيب؟ فكم من قصة تسمعونها كلَّ يوم عن أناس يعلمون الغيب! يقولون: يوجد أمامك قبضة (أي قبض نقود)، أو يوجد لك عدو يمكر بك. 

(( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. ))

[ الألباني ]

(( من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً. ))

[ مسند الإمام أحمد ]

ولا دعاؤه أربعين ليلة، فهذا شيء كبير جداً، فمن الكبائر أن تقرأ حظك هذا الأسبوع في المجلات، كبرج الثور، وبرج (الديب) وهذا كله كذب، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا ديننا، فأنت عندما تفهم القرآن تركل بقدمك مليون قصة كذب، فلا أحد يعلم الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب كذلك، قال تعالى:

﴿  قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً(21)﴾

[  سورة الجن ]

 فهل يستطيع مخلوق كائناً من كان أن يدّعي أنه يملك لك النفع والضر؟ فإذا كان سيد الخلق النبي على عظمته يقول: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ وهناك آية أبلغ تقول: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾ انتهى الأمر، فأي إنسان يدَّعي أنه ينفعك أو يضرك، قل له: أنت كاذب.
 إخواننا الكرام، مرةً ثانية: إن الله عزَّ وجل يقول أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ فهل يستطيع إنسان آخر أن يدعي علم الغيب؟ كم من قصة بإمكانك أن تنفيها بآية واحدة؟ إذا قال الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾ ولا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، فهل من إنسان بإمكانه أن يدعي أنه ينفعك أو يضرك؟ هذا مستحيل، كما قال الله تعالى:

﴿ قُلْ إِنِّىٓ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍۢ(15)﴾

[  سورة الأنعام  ]

 فهل تحترم إنساناً يقول لك: أنا لا تهمني المعصية؟ يجب عليك أن تحتقر هذا الإنسان، لأن: 

(( رأس الحكمة مخافة الله. ))

[ البيهقي في شعبه بسند ضعيف ]

إذاً: هذه آيات تعدُّ مفصلية في القرآن الكريم، وكذلك هو شأن هذه السورة، وإن شاء الله في الدرس القادم سنشرع بتفسيرها بشكل دقيق، لكنك إذا استوعبت آيات سورة الجن، والآيات الأخرى التي تتحدث عن الجن في غير سور، بإمكانك أن ترد مليون قصة ولا تعبأ بها إطلاقاً، فهناك مقولات وأخطاء وأوهام وخرافات وخزعبلات ومتاهات كثيرة، لا ينجينا منها كلها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، وهذا الكتاب: 

﴿ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ(42)﴾

[ سورة فصلت ]

 وأي شيء آخر غير القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة، فيه خلط وإضافات وحذف وزيادات وتأويلات خاطئة نحن عنها في غنى.

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ))

[ ابن مالك في الجامع الصغير بسند ضعيف ]

(( يا ابنَ عمرَ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ ودمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، ولا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا. ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

 يهمنا أن تكون هذه السورة حاسمةً لنا في موضوع الجن إطلاقاً، فلا نسمح لقصة تخالف هذه الآيات أن نروجها أو أن نستمع إليها أو أن نصدقها أو أن نخاف منها، فقد يقال لك مثلاً: إن فلاناً سحروه، فليس هناك تفاهم بينه وبين زوجته، إنه (كتبوا له سحراً)، فما هذا الكلام؟ فسبب عدم التفاهم بينه وبين زوجته سوء معاملته لها، فقد خالف منهج الله في معاملته لزوجته، فيجب أن تكون علمياً في طرحك وفهمك للأمور، لأن هذا الدين علم، والصحابة الكرام ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالعلم وبالدقة البالغة، وهذه المقدمة الثانية كانت في منهج التلقي، أما المقدمة الأولى فقد كانت في تعريف الإنسان، وفي الدرس القادم إن شاء الله نبدأ بشرح هذه الآيات آيةً آية.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور