الحمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمتنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمتَنا، وزِدْنا عِلماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السسادس من سورة الجن، ومع الآية الكريمة التاسعة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدًا(19)﴾
عبد الله هنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إن نهاية رقي الإنسان وتفوقه هي أن يصل إلى مرتبة العبودية لله عزَّ وجل، لأن الرب ربٌ والعبد عبدٌ، وإنك لا ترتقي إلا إذا كنت عبداً لله، لأن هذا هو مكانك الطبيعي، وهذه هويتك، وهذه خصائصك، فالذي يدَّعي الربوبية أو يتألَّه أو يتعاظم أو يتكبَّر يسقط من عين الله ومن عين الخلق، فليس هناك درجةٍ أعلى عند الله وعند الناس من أن تكون عبداً لله، وكلما ازددت لله خضوعاً زادك الله عزاً، وكلما ازددت لله طاعةً زادك رفعةً، وكلما ازددت لله انصياعاً لأمره زادك قرباً، فما من مرتبةٍ وصلها بشرٌ على الإطلاق كالمرتبة التي وصل إليها النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿ فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ(10)﴾
في سدرة المنتهى وهي أعلى مقامٍ بلغه إنسان، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ. ))
والوسيلة هي المرتبة التي وصل بها إلى سدرة المنتهى، قال تعالى:
﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾
وقد قال الله عزَّ وجل: ﴿فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ﴾ فقد كان أعلى وصْف وُصِفَ به النبي عليه الصلاة والسلام أنه عبدٌ لله، لكن القضية هنا محيَّرة، لأنها تقول: إنك كلما ازددت خضوعاً زادك رفعةً، وكلما ازددت تواضعاً زادك مكانةً، وكلما ازددت انصياعاً لله عزَّ وجل زادك رفعةً، ولكن الله عزَّ وجل قال:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
إن الله عزَّ وجل لم يُذكَر مرة إلا ذُكِر معه النبي عليه الصلاة والسلام، فأنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله، وهل يعقل أن يقسم الله جلَّ جلاله بعمر إنسان؟ لقد أقسم الله عز وجل بعمره الثمين، فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾
وقد أثنى الله جلَّ جلاله على خُلُقه العظيم، فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(3)﴾
إن هذا تعليمٌ لنا، فإيَّاك أن تتكبر وإياك أن تستعلي، إياك أن تتطاول، إياك أن تدّعي ما ليس لك، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
(( الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما، قذفتُهُ في النَّارِ. ))
فأنت تزداد رفعةً عند الله بخضوعك له، تزداد مكانةً بعبوديتك له، تزداد غِنىً بافتقارك إليه، تزداد قوةً بإعلان ضعفك أمامه، تزداد علماً بإعلان جهلك أمامه:
مالي سِوى فَقري إليـك وسيلة فبالافتقارِ إليك فقري أدفـعُ
مالي سوى قرعي لبابك حيلـةً فلئن طُرِدت فأيّ بابٍ أقرعُ
إن المؤمن الصادق -أيها الإخوة- له علاقةٌ طيِّبة بالله، وعلاقته بالله علاقة الخضوع، وإذا أعزَّ الله سبحانه وتعالى إنساناً سخَّر له أعداءه في خدمته، وإذا أذل إنساناً تنكَّر له أقرب الناس إليه، وإن مما يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى وصف النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى وصفٍ بلغه إنسان، فقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ أنت عبد لله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال:
(( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده. ))
من أنا؟ لذلك الشيء العجيب أنك كلما ازددت خضوعاً، كلما مرَّغت وجهك في أعتابه زادك عزاً وزادك رفعة، وحفظك وأيَّدك ونصرك وأكرمك ورفع ذكرك ودافع عنك، وكلما قلت: أنا! تخلَّى عنك، وقد ذكرت هذا كثيراً من قبل؛ في حياة المؤمن يومان يتكرران كل يوم، وهما يوم بدرٍ ويومُ حنين، ففي يوم بدرٍ قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123)﴾
أي مفتقرون إلى الله، أما في حنين فقال:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ(25)﴾
فحينما قالوا نحن في حنين، لن نغلب من قلة ، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وهم الصحابة الكرام من خير خلق الله تخلى الله عنهم ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ أما في بدر حينما التجؤوا إلى الله وابتهلوا إليه نصرهم، وهم قلةٌ قليلة ضعيفةٌ ذليلة على كثرة كثيرة مدججةٍ بأنواع السلاح، فماذا نستفيد من هذين اليومين؟
إنك مع الله بين حالين؛ أن يتولاَّك، وأن يتخلَّى عنك، فإذا قلت: أنا! لدي خبرات متراكمة وعلم ومال ونسب ومكانة ومركز مرموق وذاكرة قوية وصحة جيدة، تخلى الله عنك، وإذا قلت: هذا من فضل ربي، وهذا بتوفيق الله وحفظه وهذا بتيسيره تولاَّك الله، فأنت مخيَّر؛ فإما أن تقول: أنا، فيتخلى الله عنك ويكِلُك إلى نفسك، وإما أن تقول: الله، فيتولاك بحفظه ورعايته، وكلما اقتربت من أن تكون عبداً لله نلت كل مراتب هذه المكانة التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصى.
1- المعية العامة: (معية العلم ):
إن ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾
فالمراد هنا أن الله مع كل الناس، مع كافرهم ومؤمنهم، مع طائعهم وفاسقهم، مع القريب والبعيد، مع الملحد والمنكر، مع الكافر والفاجر، وهذه المعية تسمى معية العلم.
2- المعية الخاصة: (معية التأييد):
أما عندما قال الله تعالى:
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)﴾
فهذه معيةٌ خاصة، لأنها معية التوفيق، ومعية التأييد، ومعية النصر، ومعية الحفظ، والمعية الخاصة لها ثمن، والثمن يملكه كل واحد منا، تقول الآية الكريمة:
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ(12)﴾
إن هذا ثمن المعية، أتُحِبُ أن يكون الله معك ناصراً ومؤيداً وحافظاً وملهماً ومسدداً ومدافعاً؟ إذا أردت ذلك فآمِن به، واستقِم على أمره، وأيِّد رسله، واعمل الصالحات لخدمة خلقه، ففي هذه الحالة يكون الله معك، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ لا أحد يجرؤ أن يكون عليك إذا كان الله معك، فإذا كان الإنسان في مجتمعاتنا مع أعلى رجل في البلاد فمن يستطيع أن يقف ضده؟ لا أحد، فإذا كان هذا في مجتمع البشر، فكيف عند الله عزَّ وجل وهو القوي العزيز، ألا تقرأ في الدعاء: "سبحانك إنه لا يذِلُّ من واليت، ولا يُعَزُّ من عاديت" .
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على علوِّ مقامه وعلى عِظم مكانته عند الله وعلى شدة قربه، وعلى أنه فانٍ في سبيل الله حينما كان في الطائف يدعو أهلها إلى طاعة الله وعبادته، ردوه شرَّ رد وكذبوه وسخروا منه، وأغرَوا صبيانهم بإيذائه، فماذا دعا؟ لقد قال:
(( يا رب إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى لكنَّ عافيتك أوسع لي. ))
فهذا هو مقام العبودية: (إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي) وحينما وجد الأنصار في أنفسهم عليه، وجاءه سعد بن عبادة، وقال:
(( لمَّا أعْطى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعْطى من تلك العَطايا في قُرَيشٍ وقَبائِلِ العَرَبِ، ولم يكُنْ في الأنْصارِ منها شَيءٌ، وَجَدَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ في أنْفُسِهم؛ حتى كَثُرَت فيهم القالةُ؛ حتى قال قائِلُهم: لَقِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَومَه، فدَخَلَ عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا الحَيَّ قد وَجَدوا عليكَ في أنْفُسِهم؛ لِمَا صَنَعتَ في هذا الفَيءِ الَّذي أَصَبتَ؛ قَسَمتَ في قَومِك، وأعْطَيتَ عَطايا عِظامًا في قَبائِلِ العَرَبِ، ولم يَكُ في هذا الحَيِّ من الأنْصارِ شَيءٌ، قال: فأين أنتَ من ذلك يا سَعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلَّا امرُؤٌ من قَومي، وما أنا؟! قال: فاجْمَعْ لي قَومَك في هذه الحَظيرةِ، قال: فخَرَجَ سَعدٌ، فجَمَعَ الأنْصارَ في تلك الحَظيرةِ، قال: فجاءَ رِجالٌ من المُهاجِرينَ، فتَرَكَهم فدَخَلوا، وجاءَ آخَرون، فرَدَّهم، فلمَّا اجتَمَعوا أتاهُ سَعدٌ، فقال: قد اجتَمَعَ لكَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ، قال: فأَتاهُم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بالَّذي هو له أهْلٌ، ثُمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنْصارِ، مقالَةٌ بَلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وَجَدتُموها في أنْفُسِكم؟! أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بيْنَ قُلوبِكم؟ قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضَلُ، قال: ألَا تُجيبونَني، يا مَعشَرَ الأنْصارِ؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المَنُّ والفَضْلُ، قال: أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم، فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّبًا فصَدَّقْناك، ومَخذولًا فنَصَرْناك، وطَريدًا فآوَيْناك، وعائِلًا فآسَيْناك، أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَومًا لِيُسلِموا، ووَكَلتُكم إلى إسْلامِكم، أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امرَأً من الأنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْبًا، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ! قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ قَسْمًا وحَظًّا، ثُمَّ انصَرَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَفَرَّقوا. ))
والآن أريد منكم أن تدققوا: لقد كان عليه الصلاة والسلام أقوى رجل في الجزيرة العربية، فقد دانت له الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، وكان هذا بعد حنين، وفي ذاك الوقت لم يكن هناك مشكلة، فقد كان كل الناس خاضعين له، وقد قال: (أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم، فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّبًا فصَدَّقْناك، ومَخذولًا فنَصَرْناك، وطَريدًا فآوَيْناك) فبماذا ذكَّرهم هنا؟ لقد ذكرهم بفضلهم عليه، وهو أقوى رجل، لقد كان بإمكانه أن يلغي وجودهم، كما كان بإمكانه أن يهدر كرامتهم، وكان بإمكانه أن يهملهم أو أن يعاتبهم، فما الذي فعله؟ لقد ذكَّرهم بفضلهم عليه، فقال: (يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟) إنه هنا لم يقل: فهديتكم، أرأيتم إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم إلى افتقاره لفضل الله، إلى إقراره أنه لا شيء (أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بيْنَ قُلوبِكم؟ أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْبًا، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ! قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ) فما هذه العبودية لله عزَّ وجل؟ إن المؤمن كلما تواضع لله ازداد عند الله رفعةً، وكلما أعلن افتقاره إلى الله ازداد عند الله رفعةً، لذلك هناك أربع كلماتٍ مهلكات، هي: (أنا، نحن، لي، عندي)، فهناك من يقول مثلاً: أنا ابن فلان! أنا أحمل هذه الشهادة! أنا أشغل هذا المنصب! أنا أستطيع أن أفعل كذا وكذا! لقد قال الشيطان:
﴿ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ(76)﴾
فأهلكه الله، وقال قوم بلقيس:
﴿ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍۢ وَأُوْلُواْ بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ(33)﴾
فأهلكهم الله عزَّ وجل، وقال قارون:
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ(78)﴾
أي: على خبرات متراكمة أمتلكها.
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ(81)﴾
وقال فرعون:
﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِۦ قَالَ يَٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ ٱلْأَنْهَٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىٓ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)﴾
فأهلكه الله عزَّ وجل.
(أنا، نحن، لي، عندي) كلمات مهلِكات، إن ملخصَ الملخص هو أنك بين أن تقول: الله! فيتولاك الله، وبين أن تقول: أنا! فيتخلى عنك، وقد يكون ذلك على علمك، وعلى علو قدرك، وعلى عِظَم شهاداتك، وعلى تراكم خبراتك، وعلى ضخامة مالك، لأن هذا كله ليس بشيء عند الله، فليس هناك ذكاء ولا غنى مع الله عز وجل، لأن الذي أعطاك يستطيع أن يأخذ كل ما أعطاك في يوم وليلةٍ فتصبح من الفقراء، كما أن الذي منحك نقطة دم قادر على أن يجمدها، وإن كل ما تملك في الدنيا منوط بسيولة دمك، فلو تجمد دمك في بعض العروق، كعروق الدماغ مثلاً وكان ذلك في مكان الذاكرة فإنك لن تعرف ابنك وهو أقرب الناس إليك، ثم يتوسَّط لك أقرب الناس إليك لتكون أحد نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية، فنهاية الإنسان متوقفة على سيولة دمه، فإذا تجمد دمه انتهى، فحتى يستيقظ الإنسان من النوم ويمشي لا بدَّ له من توافر آلاف الشروط، كما أن جهاز الهضم السليم الذي يبدأ من الفم إلى البلعوم إلى المرئ إلى المعدة، إلى البنكرياس، إلى الأمعاء إلى الصفراء، إلى الغدد الصمَّاء، إلى الأمعاء الدقيقة، ثم الأمعاء الغليظة، فالمستقيم، والمستقيم له آفات، فالإنسان يجلس بين الناس طاهر الثياب عطر الرائحة، فلو أصيب المستقيم بالشلل كان لا بدَّ للإنسان من أن يحمل قَذَرَه إلى جانبه، ولو أن كُلْيتي الإنسان توقفتا عن العمل كان لا بدَّ من أن يذهب كل أسبوع مرتين ليغسل دمه، ولو أن دسَّاماً تعطل في قلبه كان لا بدَّ له من إجراء عمليةٍ تساوي ثمن بيته، فكيف تقول: أنا؟ من أنت؟ إنك تقف على قدميك برحمة الله، وتمشي على رجليك بلطف الله، وأنت بحماية الله يصونك الله ويحفظك، وكل هذا الكلام يدور حول قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ إنك لن تكون إنساناً كاملاً إلا إذا كنت عبداً لله، ولن تكون محطَّ عناية الله إلا إذا اعترفت له بالعبودية، لأن العبد عبدٌ والربُّ رب.
أيها الإخوة:
(( إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ. ))
الله عز وجل ينظر إلى قلوبنا، والقلب منظر الرب، فإيَّاك أن يرى الله فيه كِبراً أو حقداً أو تَعَنُّتاً أو استعلاءً أو استكباراً أو تَمَيُّزاً على الخلق.
كن مع إخوانك واحداً منهم، لا تكن فوقهم، لا تستعلِ عليهم، ولا تكن فوقيَّ التصرفات، كن واحداً منهم، لقد كان سيدنا عمر وهو عملاق الإسلام، يقول: "أتمنى أن أخص عاملاً بعمل له صفتان: إذا كان أميراً على إخوانه بدا وكأنه واحدٌ منهم" .
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، لقد كان يدخل الأعرابي والنبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فلا يعرفه فيقول: أيُّكم محمد؟ فلم يكن له كرسي خاص فخم، وليس له ثياب خاصة من ذهب، بل إن كان الأعرابي كان يقول قال: أيكم محمد؟ فيقول: أنا، وقد ورد في رواية ثانية أنه قال: أيكم محمد؟ فقال له أحد الأصحاب: ذاك الوضيء؛ أي: متألق الوجه، هذا هو محمد.
(( دخل رجلٌ على جملٍ فأناخَه في المسجدِ ثم عقلَه ثم قال: أيُّكم محمدٌ ؟ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ بين ظهرانيهم فقلنا له هذا الأبيضُ المُتَّكِئُ فقال له الرجلُ: يا ابنَ عبدِ المطلبِ فقال له صلى الله عليه وسلم قد أجبتُك فقال له الرجلُ: يا محمدُ إني سائِلُك وساق الحديثَ. ))
فهكذا عامل النبي عليه الصلاة والسلام الناس، وهذا الذي نريد أن يكون بين المسلمين، فليس في الإسلام طبقة رجال دين، قال تعالى:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)﴾
فقط، من هو الولي؟ يجب أن يكون كلُّ واحدٌ منكم ولياً لله عزَّ وجل، لأنك إذا آمنت بالله واستقمت على أمره كنت ولياً له.
لقد ذكرت اليوم أن التفوق في الدين لا يكون بحجم ثقافتك الدينية، ولا بحجم مشاعرك الجيَّاشة نحو الإسلام والمسلمين، ولا بحجم المظاهر التي تحيط نفسك بها، ولكن التفوق في الدين بحسب استقامتك على أمر الله، وطاعتك له.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾
وبحجم عملك الصالح الذي تفضَّل الله عليك، وأجراه على يديك، والذي يعود نفعه على المسلمين بخاصة، وعلى الإنسانية بعامة، فهذا هو التفوق، إنه التفوق في إيمانك وفي طاعتك وفي عملك الصالح.
سيدنا عمر رضي الله عنه قال لسيدنا سعد بن أبي وقاص، وسيدنا سعد بن أبي وقاص ما داعب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه كما داعب سيدنا سعد بن أبي وقَّاص، فقد كان إذا رآه يقول:
(( أقْبَلَ سَعْدٌ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هذا خالي فليُرِني امرُؤٌ خالَه. ))
هذه مداعبة، فقد كان هناك مودة بالغة بينهما، وما فدى النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من أصحابه إلا سيدنا سعد حيث قال له:
(( ما رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يقولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وأُمِّي. ))
فماذا قال له سيدنا عمر بعد موت النبي؟ لقد قال له: (يا سعدُ لا يَغُرَّنَك أنه قد قيل خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواء ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له) فكلنا عند الله سواسية، ولا توجد طبقية في الإسلام، ولا يوجد انتماء، ولا يوجد فرق بين أبيض وأسود، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة. ))
وقد وقف أبو سفيان سيد قريش، بباب عمر ساعاتٍ طويلة فلم يؤذن له، وكان بلالٌ وصهيب يدخلان بلا استئذان، فلما دخل عليه عاتبه وقال: سيد قريش يقف ببابك الساعات الطوال وصهيبٌ وبلال يدخلان بلا استئذان؟ قال له: يا أبا سفيان، أنت مثلهما؟ أي: أين أنت منهما، فكل إنسان له عند الله مرتبة.
فيا أيها الإخوة، توقفي عند كلمة: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ إنك ترقى عند الله بقدر عبوديَّتك له، وتواضعك لعظمتك، وأُنْسك به، لقد صلى عليه الصلاة والسلام مرةً بأصحابه فأطال السجود، فقلق أصحابه، ما الذي حدث؟ ثم علموا أن أحد أولاد ابنته -الحسن- ارتحل ظهره فكره أن يزعجه، فما هذا التواضع؟
وقد كان عليه السلام في بيته كأنه واحدٌ في أهل البيت، فكان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحَّاكاً، وقد قيل: "أكرموا النساء فوالله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم يغلبن كلَّ كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً" .
هذه العبودية، هذا التواضع، لا يوجد في الإسلام كلمة أنا، بل هناك كلام علمي؛ فالأمور في الإسلام تتم بفضل الله وتوفيقه وبرعايته وبمعونة من الله، فإذا أراد ربك إظهار فضله عليك، خلق الفضل ونسبه إليك، فالفعل فعله، وقد نُسِبَ هذا الفعل إليك تكريماً لك: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ قيل: يدعوه؛ أي يعبده، وقيل: يدعوه؛ أي: يدعو إليه، والأصح أن نجمع بينه، فنقول المعنى: يدعو إليه ويعبده.
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ أي: يدعو الناس إلى معرفته وطاعته ويعبده.
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ لهذه الآية معانٍ عدة.
﴿ إن الجن الذين استمعوا إلى القرآن اجتمعوا بأعدادٍ كبيرةً جداً، وكان بعضهم فوق بعضٍ من شدة الازدحام، وقالوا:
قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبًا (1)﴾
فهذا كلام رائع وهو منهج قويم، وفيه تفسير رائع للكون، كما أن فيه أمراً ونهياً لصالح الإنسان، وقد قال بعض العلماء: الشريعة عدل كلُّها، رحمةٌ كلها، مصلحةٌ كلها، حكمةٌ كلها، وقد اجتمع هؤلاء الجن إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم بوجودهم، إلّا أن الله أخبره بهم، فتكاثفوا حوله وتجمَّعوا وازدحموا وتدافعوا إلى درجة أن بعضهم كان فوق بعض من شدة دهشتهم، واستغرابهم، وتعلُّقهم بهذا الكلام الرائع، فإذا كان الجن كذلك فكيف بنا نحن الإنسَ وقد أُنْزِلَ القرآن بلغتنا وكان إلينا في الأصل! ما بال هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجورًا؟
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
إن هؤلاء الجن لما كانوا عند النبي استمعوا إلى القرآن يتلى عليهم ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ فقد كان هناك كثافة واجتماع وتزاحم وتدافع، بل إن بعضهم كان فوق بعض لدهشتهم، وذلك لأن الحق مسعد، كما أنه يحل مشاكل الإنسان كلها، لأن الثقل الذي على الإنسان هو ثقل ظُلُمَات وثقل معاصي وثقل الشكوك بالله عزَّ وجل، أما حينما تتضح الحقيقة، ويصطلح الإنسان مع الله فلا يوجد مشكلة على الإطلاق، لأن الإنسان يؤمن حينئذ أن أمره كله بيد الله، وأن كمال الله عزَّ وجل مطلق، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا ألمَّت به نازلة أو مصيبة يقول:
(( لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ العَلِيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ. ))
هذه أدعية النبي عليه الصلاة والسلام حينما تأتيه مصيبة، فلذلك اندهش الجن وعجبوا من هذا القرآن الذي تخشع له الجبال، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وهناك إنسان أجنبي اعتنق الإسلام بسبب إيمانه بآيةٌ واحدة في القرآن، وهي قوله تعالى:
﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً(21)﴾
﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ أي المهر، إن الذي يراه الزوج من زوجته لا يستطيع أبٌ ولا أخٌ ولا قريبٌ أن يراه منها، لذلك كان أغلظ ميثاق بين إنسانَين ميثاق الزواج، كما أن الطلاق يهتزُّ له عرش الرحمن، إذاً هذا هو المعنى الأول.
2- المعنى الثاني:
لقد تعلق الصحابة الكرام بسيد الأنام
﴿وكَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ لتعلُّقهم بهذه الدعوة، ففهِم كفار قريش أن النبي عليه الصلاة والسلام سحرهم، وقد كان أحد الصحابة وهو سيدنا ربيعة يخدمه، فإذا آوى إلى فراشه أمره أن ينصرف فلا ينصرف بل يبقى على عتبة بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قريباً منه، فلماذا كان الصحابة مشدودين إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ بسبب كماله.
لقد كنت أقول دائماً: إن الأقوياء يملكون الرقاب بقوتهم، والأنبياء يملكون القلوب بكمالهم، أنت مع من؟ إنك إذا كنت من أتباع الأنبياء ملكت القلوب بكمالك، وإذا كنت من أتباع الأقوياء أرهبت الناس بقوتك.
وهناك شيء آخر ذكرته في درسٍ سابق ولا بأس من إعادته؛ إن هناك قانون يجعلك تتصل بالله، وبسبب هذا الاتصال تستقر في قلبك الرحمة، وهذه الرحمة تُجسَّد باللين، وهذا اللين يدعو الناس إلى أن يلتفوا من حولك، فهناك اتصال ورحمة ولين والتفاف، أما غير المؤمن فهو منقطع عن الله، فقلبه قاسٍ كالصخر، وإن الفظاظة والغلظة من لوازم القسوة، فينفضُّ الناس من حولك، فالقانون هو: أن تتصل بالله، فتستقر الرحمة في قلبك، وتلين في المعاملة، فيلتف الناس حولك، فإن انقطعت عنه قسا القلب، فتصبح فظاً غليظاً ينفض الناس من حولك، والآية الكريمة تقول:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍۢ﴾ أي: بسبب رحمتك، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ .
3- المعنى الثالث:
أهل الفسق والفجور دائماً متعلِّقون بالشهوات والأهواء والنزوات، فإذا جاءت دعوةٌ من السماء لتَحُدّ من حركتهم وانطلاقهم إلى شهواتهم، عارضوها أشدَّ معارضة، وهذه حقيقةٌ ثابتة، فهناك معركةٌ أزليةٌ أبدية بين الكفر والإيمان، فأهل الكفر والفسوق دائماً وأبداً يعادون أهل الإيمان والتقوى، لأن:
(( فالناسُ رجلانِ: رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ. ))
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة وهو أكمل الناس خُلقاً وخَلقاً، ومنطقاً، وحكمةً، ورحمةً، وبلاغةً، وفصاحةً، ولكن ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ أي: كاد الكفار يكونون عليه لِبداً، وفي هذا إشارة دقيقة إلى أن الكفار يتعاونون على إطفاء نور الله عزَّ وجل، ويسهرون من أجل ذلك الليالي، فيجتمعون، ويأتمرون، ويخططون، وإن العالم كله بشرقه وغربه الآن يخطط ضد الإسلام، فهم يكيدون له، لأنهم أيقنوا أن لا سبيل إليهم لمواجهة هذا الدين، لأنه دين الله، وكلما شددت عليه ازداد تألُّقَاً، فأصبحوا كالذي يريد أن يطفئ النار بالزيت، كلما صبَّ عليها الزيت ازدادت توهُّجاً، فأيقنوا أن هناك طريقاً قذراً شيطانياً آخر، وهو تفجيره من داخِلِهِ، واصطناع فئاتٍ لا تنتمي إلى الدين أبداً ترفع شعار الدين، وتسيء إلى الدين أبلغ إساءة، حتى يقتنع أهل الغرب والشرق أن المسلم مجرم، فهذه المذابح التي تجري في بعض البلاد المسلمون منها بُرَآء، لأنه لا يوجد إنسان فيه ذرة إيمان يفعل ذلك، والذين يفعلونها إنما هم مجرمون يوصفون بالمسلمين، وما هذا إلا من خطط تفجير الإسلام من داخله، فهناك كتب تؤلَّف ومذاهب تنتشر وعقائد زائغة تُشاع بين الناس، وفِرَق تنتشر وتأتي بشيءٍ جديد كأن تنكر الجن، وتنكر المعجزات، وتَدَّعي أن هناك نبياً بعد رسول الله، فخطة أعداء الدين الآن تفجيره من داخله، من خلال مؤلفاتٍ باطلة، ومن خلال نظرياتٍ منحرفة، ومن خلال جماعاتٍ فاسدة، فالمعنى الثالث قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ في كل عصر من العصور هناك من أهل الدنيا من يحارب أهل الحق، فيجتمعون ويتعاونون ويتكاتفون، وفي سورة بالأنفال آية تؤكِّد هذا المعنى تقول: إن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما أن الكفار بعضهم أولياء بعض، فهم يتعاونون لإطفاء نور الله عزَّ وجل، فإن لم يتعاون المؤمنون ولم يتناصروا ويتناصحوا ويتضامنوا ولإن لم ينسوا خلافاتهم تأججت الخلافات بينهم، ومن يؤجج هذه الخلافات؟ إنه الشيطان،
(( إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكُم هذِهِ، ولَكِنَّهُ قد رضيَ منكم بما تَحقِرونَ . ))
إن الشيطان له مهمة كبيرة جداً، ومن أكبر مهمَّاته أن يوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، فكل إنسان يُعَادي مؤمناً ويتحرَّش به ويطعن بإيمانه ويطعن باستقامته ويشوِّه سمعته هو أداةٌ بيد الشيطان، وهو يفعل هذا لصالح الشيطان.
أخوة المؤمنين:
﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10)﴾
فالمؤمنون إخوة، فإذا لم تنتم إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً، فلا تنتم إلى جماعةٍ صغيرة فأنت أكبر من ذلك! أنت مسلم! وكل مسلمٍ أخوك في الإسلام، أنت مؤمن! وكل مؤمن أخوك في الإيمان! أما أن تقول: نحن من جماعة كذا، أو من جامع كذا، ونحن وحدنا على حقٍ، فهذا كلامٌ سخيف مضحك يدعو إلى السخرية، يجب عليك أن تنتمي لمجموع المؤمنين، كما يجب أن يكون كل مؤمنٍ في بقاع الأرض أخاك في الإيمان، فما بال المسلمين على مستوى الحلقات يجعلون هذه الحلقة ضد هذه الحلقة، وهذه الجماعة ضد هذه الجماعة، وهذه الفئة ضد هذه الفئة، وهذا الجامع ضد هذا الجامع، إن هذا شيء مضحك يدعو إلى القرف، فما من يومٍ نحن في أمسِّ الحاجة إلى أن نجتمع فيه وأن نتعاون وأن نتكاتف وأن نتناصر كهذه الأيام، فالعالم كلُّه يخطط لإطفاء نور الله عزَّ وجل، والعالم كله يأتمر على الإسلام والمسلمين، فقد آن أوان، هذه الصحوة الدينية ينبغي لها أن تُرَشَّد لا أن تبقى هوجاء موجهة توجيهاً ما أراده الله عزَّ وجل.
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ فالمعنى الأول يتعلِّق بالجن لدهشتهم، والمعنى الثاني متعلق بالصحابة لاستفادتهم، والمعنى الثالث متعلق بأهل الكفر والعصيان، لأنهم تجمعوا وتكاتفوا، وتناصروا، وائتمروا لإطفاء نور الله عزَّ وجل.
والمؤمن الصادق لا يتأثر لكل معارضةٍ للدين، فهذا شيء مألوف طبيعي، وهكذا الحياة، وهكذا سنة الله في خلقه، فهناك مؤمنٌ وكافر، والمعركةٌ أبديةٌ سرمدية، فقد ورد في مناجاة سيدنا موسى: أن يا رب لا تبق لي عدواً، فقال جلَّ جلاله لنجيّه موسى: يا موسى هذه ليست لي، فهناك أُناس أعداءٌ لله عزَّ وجل، فعليك أن تقول: الله معي، ثم ذرهم في غيهم يعمهون.
﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(12)﴾
ألا تكفي هذه الآية ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ﴾ .
قال تعالى:
﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوٓاْ ۖ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
وقال:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾
لقد كان درسنا عن هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾
الملف مدقق