وضع داكن
23-12-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الجن - المقدمة 1- الإيمان بالجن، وحدود قدراتهم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة الجن.
 أيها الإخوة، هذه السورة تتحدث عن نوعٍ من مخلوقات الله عزَّ وجل وهم الجن.

 تطرف بعض الناس في اعتقادهم بالجن:


 بعض الناس تطرّفوا فأعطَوا للجن كلَّ خارقةٍ، وكلّ علمٍ، وكل فعلٍ، وكل نفعٍ، وكل ضُرٍّ، بل إنهم قد وصلوا إلى أبعد من ذلك حينما زعموا في عهد النبي أن الجنَّ هي التي علّمت النبي عليه الصلاة والسلام.
 وتطرَّف أناسٌ آخرون فأنكروا وجود الجن، مع أنّ الحقيقة تقول: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.  
فالذين أعطوا الجِن قدراتٍ خارقة؛ أعطَوهم القدرة على النفع والضُّر، وعلم الغيب، والتنبّؤ، وأعطوهم كل قوة وكل علمٍ هؤلاء تطرفوا، والذين أنكروا وجود الجن تطرفوا، أين الحقيقة؟ من عند الله عزَّ وجل عن طريق الوحي، لذلك كان أولُّ ردٍ على الذين زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام تلقّى علمه من الجن الذين عاصروا النبي هو أنَّ الجن قد استمعوا إلى القرآن بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوه والنبي لا علم له بذلك، فلولا أنَّ الله أخبره وأمره أن يُخبِر الناس أنَّ الجنَّ استمعت إليه لمَا علم ذلك.
 أيها الإخوة، لا أريد في هذه العُجالة أن أبدأ بشرح الآيات بل أريد أن أضع بعض الحقائق عن الجن كما هي مُستنبَطة من الوحي السماوي، قال الله جلَّ جلاله:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 معنى ذلك أن الإنسان مخلوقٌ أول، ومخلوق مُكرَّم، وقد قَبِل حمل الأمانة، في حين أشفقت السماوات والأرض من حملها، وقد كان من أبرز المخلوقات الذين أشفقوا من حمل الأمانة الملائكة؛ فقد ملّكوا أنفسهم لله عزَّ وجل، وآثروا الإقبال عليه من دون مخاطرة التكليف والاختيار، فكانوا في بحر الأمان، كائناتٌ تسبِّح الله عزَّ وجل وتمجّده وتأتمر بأمره:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾

[  سورة التحريم  ]

 بينما آثر صنف الحيوان النجاة من مخاطرة التكليف، كما أنه آثر الشهوة؛ فسعادته في طعامه وشرابه.

الفرق بين ماهية الإنسان والحيوان والملك:


ملَكٌ يسبِّح الله وهو ناجٍ من مسؤولية الاختيار، ومخلوق آخر يستمد سعادته من الشهوات التي أودعها الله فيه دون أن يكون مسؤولاً، فقد رُكِّبَ الملَك من عقلٍ بلا شهوة، أما الحيوان فقد رُكِّبَ من شهوةٍ بلا عقل، فالملَك يسبِّح والحيوان يأكل ويسبِّح، لقوله تعالى:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(44)﴾

[ سورة الإسراء ]

 إلّا أنّ هناك آياتٍ كثيرة قرنت الجن مع الإنس، فقد قال تعالى:

﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُواْ ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٍۢ(33)﴾

[  سورة الرحمن  ]

﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًا(88)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 لقد استُنبط من هذه الآيات أن الجن أيضاً مخلوقاتٌ من نوعٍ خاص، كما أن الإنسان مخلوق من نوع خاص، فهو مخلوقٌ أول؛ لأنه قَبل حمل أمانة التكليف، كما أنه قَبِل أن يغامر، فأُودِعت فيه الشهوات وأُعطي عقلاً في وقتٍ واحد، فالملَك رُكِّبَ من عقلٍ بلا شهوة، والحيوان رُكِّب من شهوةٍ بلا عقل، لكن الإنسان رُكِّب من كليهما، فعنده نوازع أرضية وعنده تطلُّعاتٌ إلى السماء، فالإنسان مخلوقٌ متميز فهو ليس ملكاً ولا حيواناً، فالحيوان هو شهوة فقط، أما الملَك فهو عقل فقط، أما الإنسان ففيه عقلٌ وفيه شهوةٌ، فإن سمت شهوته على عقله كان دون الحيوان، أحقر حيوانٍ ترونه بأعينكم الإنسان الشارد عن منهج الله أحقر منه:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ (6)﴾

[  سورة البينة  ]

 أي: إن هؤلاء هم شرّ ما برأ الله، ولكن الإنسان إذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة.
 أيها الإخوة، إن هويتك الأساسية هي أنك المخلوق الذي قَبِلَ حمل الأمانة، في حين أن السماوات والأرض أشفقتا من حملها، فإذا سما عقلك على شهوتك تفوَّقت على الملائكة، لأن الملائكة ليس عندها ما تغامر به، أما الإنسان ففيه نوازع أرضية، وفيه قبضة من تراب الأرض ونفخة من روح الله عزَّ وجل وهو بينهما، فحينما قبِلَ الإنسان حمل الأمانة كرَّمه الله أعظم تكريم؛ ومن أعظم أنواع التكريم أنه سخَّر له السماوات والأرض جميعاً منه تسخير تعريفٍ وتسخير تكريم، ليت الإنسان يعرف من هو؟ ليته يعرف أنَّ كلَّ هذا الكون مُسخَّرٌ له، ليت هذا الإنسان يعرف أن الله إذا أدَّبه إنما يؤدِّبَه من أجل أن يُرجِعه إليه، من أجل أن يُسعِده، فقد يظن الناس الجَهَلة أن موارد الأرض قليلة، وأن هناك تفجُّراً سكَّانياً ومجاعات تنتظر أبناء الأرض، وهذا كلامٌ مضحك؛ لأن الله عزَّ وجل إذا قنّن كان تقنينه تقنين تأديب لا تقنين عجز، فهو يؤدِّب هؤلاء الناس الذين خلقهم ليكونوا مخلوقات في الصف الأول فجعلوا أنفسهم في الصف الأخير، الذين سُخِّرت لهم السماوات والأرض فكانوا مُسخَّرين لشهواتهم. 
أنت لله، الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، وأنت لمن؟ أنت لله الواحد الديان، لا يليق بك أن تكون لغير الله، لا يليق بك أن تُحْسَب على غير الله، لا يليق بك أن تُجيّر طاقاتِك لغير الله، لا يليق بك أن تفني شبابك لغير الله، لا يليق بك أن تنفق عمرك لغير الله، فأنت لله، وقد خُلِقت لسعادةٍ أبدية.

مثال يوضح معنى (الأبد):


 أيها الإخوة الكرام، ما الأبد؟ كلمة قد لا نفهمها، لكن ماذا أقول عن شرحها؛ مرة كنت في جامع العثمان وكان أمامي كتاب أقرأ منه، فقدَّرت طوله بخمسة وعشرين سنتيمتراً، وقلت: إذا وضعنا واحداً في طرفه الأول وكل ميليمتر صفر، أصبح لدينا مائتين وخمسين صفراً، فكم هذا الرقم؟ إن أول ستة أصفار من هذا الرقم تعني مليون، وثاني ستة أصفار تعني مليوناً آخر، وثالث ستة أصفار تعني مليوناً ثالثاً، فإذا قسمنا مائتين وخمسين صفراً على ستة لكان الناتج خمسين مليوناً، فلو أن الأصفار كانت إلى مدخل المسجد، فكم هذا الرقم عندئذ؟ لقد كنت أرى ساحة شمدين وأنا على كرسي التدريس، فقلت: تصوروا أن الأصفار ممتدة إلى ساحة شمدين مثلاً، أو أنها ممتدة إلى النبك، وإلى حمص أو حماه أو حلب أو إلى أنقرة أو إلى موسكو أو إلى القطب الشمالي، ولو أننا عُدنا إلى المحيط الهادي إلى القطب الجنوبي، ثم عُدنا صعوداً إلى جنوب إفريقيا ثم إلى مكة، إلى معان وعمَّان، وبعد ذلك عدنا إلى الشام مرة ثانية، فكم يصبح هذا الرقم، إن الإنسان في هذه الحالة يكون أمام أربعين ألف كيلو متر من الأصفار، وكل ميليمتر صفر، فما هذا الرقم؟ إنه رقم يصعب تصوره، فإذا كان أحدنا أمام أصفار تصل إلى الشمس، وإن المسافة بين الأرض والشمس هي مائة وستة وخمسين مليون كيلو متراً، وكل ميليمتر صفر، إن هذا الرقم ضخم جداً، لكنه إذا نُسب إلى اللانهاية، إلى الأبد كان الناتج صفراً، وقيمة الصفر هي: لا شيء، فأنت مخلوق للأبد، أنت مخلوق لجنةٍ لا ينفد نعيمها، فيها من السعادة مالا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمسكينٌ هذا الإنسان الذي يضيِّع سعادة الأبد من أجل سنواتٍ معدودة مشحونة بالهموم والمتاعب، مسكين هذا الإنسان كم هو خاسر الذي يضيع جنةً خلقه الله لها من أجل دُريهمات يكسبها حراماً في سنواتٍ معدودة، أو من أجل أن يمضي وقتاً مع نساءٍ ساقطات يعصي الله بهن، مسكين هذا الإنسان إذا نسي لماذا خلقه الله، مسكين هذا الإنسان إذا ظن أن الدنيا هي كل شيء، وأن المال هو كل شيء، وأن المرأة هي كل شيء، وأن المكانة الاجتماعية هي كل شيء، مسكين هذا الإنسان؛ لأنه ما عرف قيمته ولا هويته، ولا عرف مكانته عند الله عزَّ وجل، ولا عرف أنه مخلوقٌ أوَّل، مكرَّم، مميز، مُكلفٌ بالعبادة، إنه يغفل عن أخطر شيءٍ في حياته:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 من أنت؟


 أيها الأخ الكريم، يجب عليك أن تعرف من أنت، إن الله جلَّ جلاله في عليائه أنزل هذا القرآن ليعرِّفك مَن أنت، ليعرفك بمهمتك الخطيرة التي أُنِيطت بك، ليعرّفك أنّ كلَّ سعادتك في طاعته، وأنّ كلَّ الشقاء في معصيته، وأنّ كل السلامة في طاعته، وأنّ كل العَطب والخطر في معصيته، ليعرّفك أنك زمن، فما أنت إلا بضعة أيام، وكل واحد منا له عُمر عند الله عز وجل، فالواحد منا مثلاً قد يبلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وخمسة أشهر، وثلاثة أسابيع، وخمسة أيام، وسبع ساعات، وثماني دقائق، وأربع ثوان، هذا هو الإنسان، كلّما انقضى يومٌ انقضى بِضعٌ منه، فهو أيامٌ معدودة، ومِضيّ الزمن وحده يستهلكه، مضي الزمن وحده يقضي عليه، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿  وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)﴾

[  سورة العصر  ]

 أية خسارة؟ أنّ مُضيّ الزمن وحده يستهلكه، إنك مخلوق سُخِّرَت لك السماوات والأرض، فهذه المجرة التي تبعد عنا ثلاثمائة ألف بليون سنة ضوئية مُسخّرةٌ لك، وهناك مليون مليونِ مجرة وفي كل مجرة تقريباً مليونُ مليون نجم، وكل هذه المجرات مسخرةٌ لك بنص القرآن الكريم، هذا كلام خالق الكون:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)﴾

[  سورة الجاثية  ]

 ماذا تعمل؟ كيف تمضي وقتك؟ ماذا أعددت ليوم اللقاء مع الله عزَّ وجل؟ وماذا أعددت لهذه الحياة الأبدية التي لا تنقضي، فإما أن تكون في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها، ماذا أعددت؟ ماذا فعلت؟ ماذا تقول إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجل؟ ومما جاء في الآثار القدسية في الكتب السماوية السابقة: "عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين؟" أي: أتعصيني من أجل الرغيف، فتغتصب ما ليس لك، وتغُش الناس من أجل أن تربح، تكذب من أجل أن تربح؟ تحتال على الناس من أجل أن تربح؟ "لي عليك فريضة ولك علي رزق فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطنّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي وكنت عندي مذموماً"
 أيها الإخوة، أريد منكم بعض التأمُّل و بعض التريث:

﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا(63)﴾

[  سورة الفرقان ]

 لقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مشى مَشى مسرعاً:

(( كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفَّأَ تكفُّيَا كأنّما ينحطُّ من صببٍ. ))

[ البغوي ]

وقالت الشفا بنت عبد الله عن سيدنا عمر: "كَانَ وَاللَّهِ عُمَرُ إِذَا تَكَلَّمَ أَسْمَعَ، وَإِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ، هُوَ وَاللَّهِ النَّاسِكُ حَقًّا" .
فما معنى قوله تعالى: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾ معنى (يمشون هوناً) ؛ أي: لا يسمحون لهذه الدنيا الفانية أن تستهلكهم، ولا يسمحون لمشكلاتهم أن تشغلهم عن ربهم، ولا يسمحون لعرَض الدنيا الزائل أن يصرفهم عن هدفهم الكبير، لا يسمحون لعملهم أن يقبرهم:

﴿ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْأَحْيَآءُ وَلَا ٱلْأَمْوَٰتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍۢ مَّن فِى ٱلْقُبُورِ (22)﴾

[  سورة فاطر ]

 نحن نرى الناس الآن كل منهم في قبر؛ فهذا غارق في قبر عمله، وهذا في قبر زوجته، وهذا في قبر أولاده، وهذا في قبر صَنعته، وهذا في قبر أمَله، أما عباد الرحمن فلا يسمحون للدنيا أن تستهلكهم ولا أن تصرفهم عن الهدف الكبير الذي خُلِقوا له، ﴿هَوْناً﴾ بعض التأمل، هؤلاء الذين  من عمل إلى عمل، ومن لقاء إلى لقاء، ومن حفل إلى حفل، ومن نشاط إلى نشاط إلى أن يأتيهم الموت فجأةً، فيقال لهم: "أم ماذا كنتم تعملون؟" أيعقل أن يذهب إنسان إلى بلدٍ غربي لينال الدكتوراه وليعود إلى بلده وهو يحمل أعلى منصب، فينسى سرَّ مجيئه إلى هذا البلد، وينسى أنه أُرسِل ليحصَّل هذه الشهادة العُليا؟ فيتلهّى بالملهيات، ويغرق في الموبقات وفي النزهات وفي المسارح وفي المتاحف وفي النوادي الليلية، ثم تمضي الأيام ويعود صفر اليدين بعد ذلك.
 يا أيها الإخوة، إن هذه دعوةٌ إلى أن تعرفوا أنفسكم من خلال هذا الكتاب الذي هو كلام الله، فالإنسان مخلوق أول:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: لتطيعه طاعةً طوعية مع حبٍ شديد على أساس معرفته، لكي تسعد بقربه، فهؤلاء الملائكة ذكروا الله دائماً من دون مسؤولية، من دون مغامرة، من دون حساب، فليس لديهم شهوات يميلون إليها، أما هؤلاء الحيوانات على كثرة أنواعهم فهم ليسوا محاسبين، ولا مكلَّفين، فليس لديهم تكليف يُحاسَبون عليه فهم يمارسون شهواتهم مُسيَّرين لا مخيَّرين، فهم مُعفَون إذاً من المسؤولية، كما أن الملائكة ذكروا الله وقد أُعفوا من المسؤولية أيضاً، إلا أنّ هذا الإنسان كائن ازدواجي، فيه قبضةٌ من تراب الأرض ونفخةٌ من روح الله، فيه نوازع أرضية؛ كحاجته للطعام والشراب والنساء، كما فيه نوازع سماوية؛ كأن يكون كريماً، أن يكون عفوّاً، أن يكون حليماً، أن يكون جواداً، أن يكون منصفاً، أن يكون مُحسِناً، أن يصل إلى الله ويتعرف عليه، وأن يقترب من الله، ويسعد به، فهنيئاً لمن ضبط شهواته وفق منهج الله.

ضبط الشهوات:


 أول حقيقة أيها الإخوة؛ إن الله عزَّ وجل ما حرم الإنسان الشهوات التي أودعها فيه، ولكنه أمره أن يضبطها وفق منهجه فقط، فقد سُمِحَ له أن يأكل ما شاء، وأن يدعَ لحم الخنزير، وأن يشرب ما يشاء على أن يدعَ شرب الخمر، وأن يختار أية امرأة راقت له فيتزوجها على أن يدع الزنى وإطلاق البصر إلى الحرام، وقد سُمِحَ له أن يكسب المال الحلال على أن يدعَ المال الحرام، فهناك منهج: افعل ولا تفعل هو منهج تفصيلي، فيا سبحان الله! ما شأن هؤلاء المسلمين الذي ضغطوا الدين فجعلوه صوماً وصلاةً وحجاً وزكاةً فقط؟ إن في الدين _إن صح التعبير_ مليون بند؛ فالإسلام معك في بيتك حينما تغتسل، وحينما تلتقي مع أهلك، وحينما تربي أولادك، كما أنه معك حينما تخرج من بيتك وتدخل إلى دكانك، وهو معك في لهوك وفي جِدّك، وفي سفرك وإقامتك، وفي حربك وسلمك، وفي مسرَّاتك وأحزانك، هناك منهج دقيقٌ دقيق يجب أن تسير عليه، فهذا الإنسان الأول الذي منحه الله شرف التكليف، أعطاه أمانة التكليف، أعطاه المقومات، فسخر له كوناً ينطق كلُّه بوجود الله ووحدانيته وكماله، وأعطاه عقلاً وقوةً إدراكيةً يتميز بها على كل المخلوقات.

الإنجازات المذهلة للعقل الإنساني:


 انظر إلى هذه الطائرة التي تحمل سبعمائة راكب يجلسون على مقاعد وثيرة، ويأكلون أطيب الطعام الساخن، ويشربون أطيب الشرابات الباردة، ويحلّقون على ارتفاع أربعين أو خمسين ألف قدم، هذه الطائرة قد صُنعت عن طريق هذا العقل الذي أودعه الله فينا، فما هذا العقل؟ إنه شيء معجز، وإني لا أبالغ إن قلت: إن العقل البشري هو أعقد شيءٍ في الكون، انظر إلى هذا الإنسان، وأنا هنا لا أمدح الذي اخترعه ولا أثني عليه، لكني أبين لكم هذه المخترَعات، فهي شيء لا يُصدّق، ومنها أن يصور إنسان إنساناً آخر في أقاصي الأرض، فيلتقط حركاته وسكناته، فتُنْقَل هذه الصورة إلى كل بقاع الأرض في وقتٍ واحد، هل هذا شيء سهل؟ وإنك الآن تضرب كلمات بحروف، فتُنقَل هذه الكلمات خلال ثانية إلى أقصى المعمورة، وهذا عمل الفاكس أليس كذلك؟ فهناك منجزات مذهلة للعقل، وقد صنع هذا العقل جهازاً يقرأ أربعمائة وخمسين مليون حرف في الثانية.
 أيها الإخوة، إن الإنسان قد وصل إلى القمر، ثم أرسل مركبة إلى المريخ وهو يبعد عن الأرض ثلاثة وتسعين مليون كيلو متر، كما أنه أرسل مركبة إلى المشتري بقيت تسير ست سنوات بسرعة أربعين ألف ميل في الساعة، وقد اخترع الإنسان الحاسوب الذي يقرأ أربعمائة وخمسين مليون حرف في الثانية، كما اخترع الإنسان وسائل للمعرفة، منها الأسطوانة التي دُوِّن فيها كتب تملأ أربع جدران، أين المعلومات؟ وقد وصل الإنسان إلى أعماق البحر، فحفر فيها آبار النفط، واستخرج النفط من قعر البحر، فوالله الذي لا إله إلا هو لو بذلَ هذا الإنسان من هذه الطاقة الفكرية، ومن هذا العقل الذي أودعه الله فيه واحداً بالمليون لعرف الله ولَسعد بقربه، فمسكين هذا الإنسان حينما استخدم عقله لغير ما خُلِق له، لقد استخدمه من أجل السيطرة على الطبيعة فتمّ له ذلك، كما استخدمه لنقل الأشخاص بلمح البصر، وتمّ له ذلك، لنقل المعلومات، لنقل الصور، استخدم عقله لصنع مركبات فارهة جداً وطائرات كبيرة جداً، وناقلات تزيد حمولتها عن مليون طن، فحمولة ناقلات النفط العملاقة هي مليون طن، فكأن هذه الناقلة مدينة مصغرة، فلو استخدم من عقله واحداً بالمليون لعرف الله فسعد بقربه في الدنيا والآخرة، أما هذا العقل الذي هو أثمن شيءٍ نملكه استُخدِم لغير ما خلقه الله عزَّ وجل:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104)﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾

[  سورة الأنعام  ]


 حقيقة الدنيا:


 لقد أعطى الله الإنسانَ الشهواتِ ليرقى بها إلى رب الأرض والسماوات صابراً وشاكراً، كما أعطاه حرية اختيار ليُثمَّن عمله، وأعطاه منهجاً تفصيلياً يسير عليه، وأعطاه شرعاً حنيفاً لا يخطئ، فالحسَن ما حسَّنه الشرع والقبيح ما قبَّحه الشرع، فمن كونٍ إلى عقلٍ إلى فطرةٍ إلى شهوةٍ إلى حرية اختيارٍ إلى منهجٍ، وذلك لأنه قَبِل حمل الأمانة، أما الغافل عن ذكر الله، والغافل عن حقيقته،  الغافل عن مهمته، الغافل عن هذه الدنيا الفانية القصيرة التي تنقضي بلمح البصر، فإنه سيكون تحت أطباق الثرى ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، فقد يكون الإنسان ملء السمع والبصر، فإذا هو خبرٌ على الجدران، فيقال: انتقل إلى رحمة الله تعالى عميد الأسرة الفلانية، وسيُشَيَّع إلى مثواه الأخير، ثم ينتهي بعد ذلك كل شيء، فإلى أين نحن ذاهبون؟ إن هذا الذي يعيش يومه ولحظته، فلا يفكر من أين ولا إلى أين، ولا لماذا؟ هذا إنسان يعيش على هامش الحياة، هذا إنسان يحتقر نفسه.

﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)﴾

[  سورة البقرة ]

 هناك أشياء كثيرة يرفضها الإنسان احتقاراً لها، إلا دين الله عزَّ وجل إذا رفضته ترفضه لأنك تحتقر نفسك، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ .

اعرف نفسك:


 أيها الإخوة الكرام، مَن عرف نفسه عرف ربه، فإذا عرفت نفسك وظّفت كل شيء أعطاك الله إياه في الحق، وإذا عرفت نفسك تستخدم كل شيء فيما خُلِقْتَ له، فتستخدم عقلك لمعرفة الله، وعينك للنظر إلى آيات الله، وأذنك لسماع الحق، ولسانك لذكر الله عزَّ وجل، فإذا عرفت نفسك عرفت خطورة نفسك، والمهمة التي أناطها الله بك، وعرفت أن الله عزَّ وجل خلقك ليسعدك، قال تعالى:

﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾

[ سورة هود ]

 فإذا عرفت هذه الحقيقة كنت إنساناً آخر، أما إذا شردت عن منهج الله فإنك ستكون من الذين: 

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)﴾

[ سورة الواقعة ]

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

[  سورة الواقعة  ]

 أيها الإخوة الكرام، اكسبوا حياتكم، واعرفوا هُويّتكم، واعرفوا لماذا خُلِقتم في الأرض، لقد خُلِقتم لمعرفة الله والعمل الصالح، وحينما تحققون هذين الهدفين، تأتيكم الدنيا وهي راغمة، والله الذي لا إله إلا هو تاتي وهي راغمة لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿  مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)﴾

[  سورة النساء  ]

 فماذا يفعل بعذابكم إن أردتم سعادة الدنيا والآخرة، إن أردتم السلامة في الدنيا والآخرة، فاعرفوا من أنتم، واطلبوا العلم، تعرّفوا إلى الله عزَّ وجل، تعرّفوا إلى منهجه، تعرّفوا إلى أهل الحق، تعرّفوا إلى الطريق المستقيم، تعرّفوا إلى طريق سعادتكم.

من الجن؟


 لقد أردت من هذه المقدمة أن أقول: إن الجن الذين هم موضوع هذه السورة مخلوقات كالإنس.

﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُواْ ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٍۢ(33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)﴾

[  سورة الرحمن ]

 وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نشرَعُ في تفسير هذه السورة التي تعطي الجن الحقيقة التي ينبغي أن نعرفها عنهم دون زيادةٍ أو انحرافٍ أو إسرافٍ أو إنكار، فالجن كائنات خلقها الله عزَّ وجل.

الإيمان بالجن:


 إن معرفة الإيمان بالله تحقيقاً، والإيمان بأسمائه الحسنى، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالجن، والإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، والإيمان بالقضاء والقدر، هذه كلها عقائد يجب أن تُعلم بالضرورة، فهي فرض عينٍ على كل مسلم.

توضيحٌ دقيق:


 توضيح دقيق: لو أن إنساناً اشترى سيارةً، وجب عليه أن يعرف أنه إذا تألق الضوء الأحمر في لوحة العدادات فلا بدَّ له من أن يقف فوراً ليُضيف زيتاً إلى المحرك، وإلا احترق المحرك، فهذه معلومات يجب أن يعرفها كل من يقود السيارة، لكن معرفة نوع الخلائط التي استُخدمت في صناعة المحرك ليست واجبة على كل من يركب السيارة، فهي للذين يتخصصون في صناعة السيارات، فهناك علوم يجب أن يعلمها كل إنسان مسلم ولا عذر له في جهلِها، وإذا جهِلَها زاغت عقيدته فانحرف سلوكه وشقي في الدنيا والآخرة، وموضوع الجن من العقائد التي يجب أن تُعلَم بالضرورة، لأنك إذا توهَّمت أن هذا فلان يعرف الغيب، وأن هذا الشيخ يطّلع على ما سيكون، وأنه قال لك افعل كذا وكذا فإنك في هذه الحالة تمشي في متاهاتٍ لا أساس لها من الصحة.
 

مدى تأثير الجن على الإنس:


 فالسؤال اليوم عن مدى علاقة الجن بالإنس: وقد مَرَّ معنا من قبل أن من الجن مَن هم مؤمنون ومنهم مَن هم كافرون، قال تعالى:

﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا(11)﴾

[  سورة الجن  ]

أولاً_ إن كان لخبثاء الجن بعض التأثير الجسمي على أحدٍ من الإنس، فهذا التأثير إنما يكون على مَن يستكينُ بأوهامه وتخيلاته إلى سلطانهم، فالجن لا يستطيعون أن يؤثّروا على أحد إلا إذا استكان وخضع لهم، واتّبعهم، واعتقد بهم، وأشركهم مع الله عزَّ وجل، هذا الذي يفعل ذلك يتحمّل تأثيرات الجن، فكلُّ مَن يستكين بأوهامه لهم، كلّ مَن يتخيل أن بيدهم نفعه أو ضُرُّه، كلّ من يخضع بسلطانهم من ذكر أو أنثى، يتعرض لمسّهم وتخبُّطاتهم، باستعاذته بهم والتماسه نفعهم أو استخدامه لهم من أجل الإضرار بأعدائه من إخوانه من الإنس، وهذه الحالات محددة، فمن أراد أن يستخدم الجن ليُضِرَّ بهم إخوانه من الإنس، أو مَن التمس النفع عندهم، أو مَن استعاذ بهم، أو مَن خضع لسلطانهم، أو من اعتقد بهم، أو من استكان بأوهامه لهم، هذا الإنسان بالذات يدفع ثمن جهله وثمن شركه وثمن ضلاله، إذاً قد يتعرَّضون له بالأذى، وقد علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نستعيذ بالله من همزات الشياطين ومن حضورهم، ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( إذا فَزِعَ أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامَّات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لن تضره. ))

[ رواه أبو داوود والترمذي ]

 فإذا رأى إنسان مثلاً ابنه يبكى في الليل بكاءً شديداً فجأةً فليستعذ بالله من همزات الشياطين، وهذا هو السلاح الفعَّال المجدي.
 ومنه ما رواه أبو داود وابن ماجه بإسنادٍ صحيح عن زيد بن الأرقم قال عليه الصلاة والسلام:

(( إن هذه الحشوش (أي مكان قضاء الحاجات) مُحتضَرة (أي يحضرها الشياطين)، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبْثِ والخبائث. ))

[ رواه ابو داوود وابن ماجه ]

 و هذا دعاءٌ مأثورٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام، أعوذ بالله من الخبْثِ ومن الخبائث.
  فالفكرة الأولى هي أن الشياطين ليس لهم سلطانٌ على الإنسان إلا إذا اعتقد بهم الإنسان، أو أشركهم مع الله، أو خضع لسلطانهم، أو توهَّم أنهم ينفعونه أو يضرونه، أو ابتغى النفع عندهم، أو استعاذ بهم والتجأ بهم، أو أراد أن يكيد لإخوانه من الإنس عن طريقهم، فإذا فعل هذا مسَّه شرُّهُم ومسّته همزاتهم، ودفع ثمن شركه وبغيه وعدوانه غالياً.
 

هل يُلْقِي الجن للإنس علوماً وأخباراً ؟


 الآن السؤال المهم: هل يُلقي الجن للإنس علوماً وأخباراً؟ إن الجن قد يلقون العلوم والأخبار إلى قُرَنَائهم من الكُهَّان، وبالمناسبة: لا يمكن لإنسان يتعاون مع الجن إلا أن يكون كافراً، وهذا قول واحد، لأن من أدق التعريفات الساحر أنه الشخص الذي يتَّصل بالجن، فأي اتصالٍ بين الجن والإنس، لا بد أن يكون هدفه إضلال البشر، ولو تزيَّا هذا الذي يتصل بالجن بألف زيٍّ وزيّ، ولو كان له زي ديني في بعض الأحيان، فقد يلبس هذا الإنسان عمامةً خضراء، لكنه كافر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم فعله ذلك، لأن هدفه إيهام الناس أنّ بيد الجن النفع والضُر، هدفه تحويل الناس عن الله سبحانه وتعالى إلى خلقه.
 والسؤال الآن: هل يُلقي الجن للإنس علوماً وأخباراً؟ الجواب: أما العلوم والأخبار التي يمكن أن يلقيها الجن إلى قرنائهم من الكُهَّان فهي بحسب مواضيع هذه العلوم التي يُلْقونها.

1- العلوم المشهودة:

فإن كانت من العلوم التي تتعلَّق بالأمور المشهودة، كأن يخبروا عن الأمطار الغزيرة التي نزلت في حلب هذا اليوم، فنزول الأمطار في حلب هذا اليوم من الأشياء المشهودة التي وقعت، وليس من الأشياء الغيبية، لكن نقل الخبر قد لا يكون مُتيسّراً للإنس قبل وجود الاتصالات السلكية واللاسلكية، وقبل السفر السريع إلى هذه البلاد، قبل أن يكون هناك اتصال، نقل أنباء الأمطار التي هطلت في حلب اليوم إلى الشام مُتعذَّر، فالجن أحياناً يستطيعون أن ينقلوا هذه الأخبار التي وقعت، وليس التي ستقع، وهذا ليس من عالم الغيب بل هو من عالم الشهادة، فإن كانت هذه الأخبار التي ينقلها الجن من العلوم التي تتعلق بالأمور المشهودة أو الأخبار عن الوقائع الماضية، فإنها أخبارٌ تحتمل الصدق والكذب، قد يصدقون وقد يكذبون، وليس ببعيدٍ أن يكون في الجن كذَّابون، وقد أثبت الله تعالى أن منهم العصاة الكافرون، ومن جهة ثانية فإنه لا يصح الثقة بأخبارهم؛ لانعدام المقاييس التي بحوزتنا في معرفة صدقهم وكذبهم، ومن الممكن أن يكون انتقال الجن سريع جداً، والدليل:

﴿ قالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ(39)﴾

[  سورة النمل ]

 فقبل أن يقوم سيدنا سليمان من مقامه يستطيع العِفْريت من الجن أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى القدس، فانتقاله سريع جداً، لذلك عندما قال الله عزَّ وجل: ﴿يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُواْ ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٍۢ﴾ فقد قدَّم الله سبحانه وتعالى الجن على الإنس لأنهم أقدر من الإنس على خرق السماوات والأرض، لمِيزاتٍ أعطاها الله إياهم.

 قصة تبين كذب بعض الجن:


 سأذكر لكم هذه القصة وقد سمعتها بأذني من صاحبها الذي توفي الآن رحمه الله، فقد سُرِقت من بيته سجادة ثمينةٍ جداً، فدلّه بعضهم على مَن يضرب له (المندل)، فقال: ذهبت إلى (ضارب المندل) فجاء بوعاءٍ وضع فيه زيت، وجاء بغلام صغير، وصار يسأل هذا الغلام والغلام يجيب قائلاً: إن هذه السجادة موجودة الآن في بيت كذا، ثم حدد الحي، و(الدَخلة) والحارة، وقال: أمام البيت هناك حجر كبير، والباب لونه كذا، وهو يُفتَح على بهو واسع، ويوجد على اليمين غرفة تدخلونها، وفي زاوية الغرفة مكان في الحائط يشبه هذا المكان، يوجد عليه فُرش ولُحف، فتنزعون الفرش واللحف، فتجدون صندوقاً فيه قطن، والسجادة تحت القطن، هكذا قال ضارب المندل، فقال هذا الرجل: توجَّهت إلى هناك وأخذنا معنا المختار وقد كان له عمل في الدرك، واقتحمنا البيت، فكان كل شيءٍ قاله هذا الطفل في (المندل) صحيحاً، بأدقِّ التفصيلات، فقد دخلنا البيت ووجدنا الفسحة السماوية، ودخلنا إلى الغرفة ووجدنا في صدرها فراغاً يوجد عليه صندوق وفرش ودُسُر، ففتحنا الصندوق، ووجدنا القطن ولكننا لم نجد السجادة، فذهبوا إلى صاحب البيت، فكان بائع سجاد، فضربوه إلى أن قال لشدة الضرب: لقد أخذتها وبعتها، فانتقوا أحد السجادات وخذوها مكانها، قال هذا الرجل: ثم أخذنا سجادة بنفس القياس، وبعد أربعة أشهر قال لي رجل كان في السجن: أتدري مَن سرق من عندك السجادة؟ قلت له: أعرف، وقد استرددتها، قال له: لا، فقد كنت في السجن فحدثني أحد السجناء أنه هو الذي دخل إلى بيتك وسرق السجادة.
 فأين كلام الجن؟ إنهم كذَّابون، لكنهم قد يعرفون معالم هذا البيت بلا شك، فأعطوه كلاماً صحيحاً عنه، لكنهم لا يعرفون مَن أخذ السجادة، فلذلك كان (ضرب المندل) خلْط بخلط، بكذب بدجل، ولكن قد يوجد في أثناء الكلام بعض الحقائق ليست الغيبية بل المشاهدة، فهذا الجني يعرف أن في هذا المكان يوجد الحي الفلاني، والبيت الفلاني، والمكان الفلاني، وقد أردت من هذه القصة الطويلة أن أقول: إن الجن في نقلهم للأخبار المشهودة يكذبون ويصدقون، فهم لا يُعوَّل على كلامهم إذاً، لأننا لا نملك المقاييس للتفريق بين كذبهم وصدقهم.

 2- العلوم الغيبية:

إن كانت الأخبار التي يخبرون بها من المغيبات فهي على نوعين:
 أ - إما أن تكون من المغيَّبات التي استأثر الله بعلمها ، كعلم الساعة مثلاً، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌۢ بِأَىِّ أَرْضٍۢ تَمُوتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۢ(34)﴾

[ سورة لقمان  ]

فهذه العلوم لا يمكن لإنس، ولا جن، ولا لنبي أو رسول أن يعرفها.
 وقد ألقى أحد العلماء غير المستنيرين محاضرةً في بعض عواصم الدول العربية، عن إعجاز القرآن الرياضي، واجتمع حوله علماءٌ كثيرون، فقد بدت لهم المحاضرة قيِّمة، وقد كان هذا المحاضر يعمل على الكمبيوتر، فلقَّم كلمات القرآن لهذا الجهاز فجاء بحقائق مدهشة، لكنه شطَّ به الطموح فعيَّن يوم القيامة، فانسحب عندئذٍ كل من في المحاضرة من العلماء، لأن هذا دَجل، لأن الله عنده علم الساعة وحده.
 إذاً: إن كانت المعلومات من الحقائق التي استأثر الله بها، فلا يمكن لإنس ولا جن ولا مَلك ولا أنبياء ولا رسل أن يعرفها، فإن كانت من المُغيّبات التي استأثر الله بعلمها، وهذه لا يمكن لإنس ولا لجن معرفة شيء منها، ولا يكون التحدُّث بشيء منها إلا كذباً وافتراء على الله وارداً على لسان أحد القرينين من الإنس والجن، قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍۢ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ(59)﴾

[  سورة الأنعام ]

 فلو قال الله عزَّ وجل: (ومفاتح الغيب عنده) ، لكان هناك فرقٌ كبيرٌ جداً في اللغة، فإذا قال الله عزَّ وجل: (ومفاتح الغيب عنده)، معنى ذلك أنها عنده، كما أنها قد تكون عند غيره، ولكن حينما قدَّم الظرف على المبتدأ فقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ كان معنى ذلك أن الغيب محصورٌ ومقصورٌ على الله وحده، وليس لأحدٍ كائناً من كان أن يعلمه، فمبدئياً كل من قال لك: أنا أعلم ما سيكون، فهو دجَّال وكذَّاب، فما بال هذه (الصَّرعة) التي ظهرت حديثاً بين الناس، فجعلت في كل عاصمة كبيرة كاهنة أو كاهن يأتيه رجالٌ من عَلِيَّة القوم فيسألونه عن المستقبل، فيقولون: هل سأبقى في هذا المكان؟ هل سأبقى بهذه البحبوحة؟ ماذا سيحصل لي في المستقبل؟ وهذا كله سخفٌ في سخفٍ، ودجلٌ في دجلٍ، وكذبٌ في كذبٍ، وغباءٌ في غباءٍ، فلا يعلم الغيب إلا الله.
ب- قد تكون هذه المغيَّبات من الأمور التي قُضِيَ أمرها في السماء ، وأصبحت معلومةً لذوي الاختصاص من الملائكة، كما أصبحت مُعدَّةً لتبليغها للملائكة، ومثال ذلك أن ترتئيَ الحكومة فجأةً أن تقدِّم الساعة أو أن تُؤخرها، فتداول الأمر مَن في مجلس الوزراء، لكن هذا الخبر لم يُذَعْ، فلو فرضنا أن أحد الأذَنة (المستخدمين) دخل ليقدِّم لهم الشاي أو القهوة، فسمع أنهم يُزمِعون تقديم الساعة، فهذا القرار لا يزال طيَّ الكتمان، لكن هذا (الآذن) استطاع أن يأخذه بشكلٍ أو بآخر، فلما أذاعه في الناس بين أسرته وأقربائه، ظنُّوه أنه يعلم ما سيكون، وهذا غير صحيح، لأن هذا مما هو كائن، أما ما سيكون فلا يعلمه إلا الله، لكن اتُّخِذ قرار بتقديم الساعة، وكان هذا الآذن قد دخل ليقدم القهوة فسمع شيئاً عنه، فيأتي إلى أهله ويقول: لقد آتاني الله قدرة على كشف الغيب، ودليله على ذلك، أنهم في يوم الثلاثاء سوف يقدِّمون الساعة، وليس ثمة أحد ذكر هذا الكلام، فيصدق الناس ما يقول، ويعتقدون أنه ولي، والعملية في النهاية ما هي إلا استراق خبر بعد أن اتُّخذ به قرار، فأذاعه هذا المستخدم قبل أن يُذاع في الإعلام، وهذا هو الموضوع كله. فالنبي الكريم من هذا القبيل يوجد شيء قاله، فإما أن تكون من المغيَّبات التي قُضِيَ أمرها في السماء، وأصبحت معلومةً لذوي الاختصاص من الملائكة، كما أصبحت معدَّةً لتبليغها للملائكة، وهذه قد جاء فيها حديثٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ (اتخذ فيه قرار) فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم. ))

[  صحيح البخاري ]

﴿ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 هكذا قال الملائكة لسيدنا إبراهيم، فالقرية كانت لا تزال على حالها؛ تعيش حياتها الطبيعية، لكن الملائكة أباحوا لسيدنا إبراهيم ما سيُصنع بها: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ*مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ فهل هذا من قبيل علم الغيب؟ لا، هذا قرارٌ اتُخذ في السماء وبُلِّغ لأصحاب العلاقة لينفذوه، وقبل أن يُنفَّذ علمه سيدنا إبراهيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام من هذا القبيل: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) فقد يعطون خبراً صحيحاً ويخلطون به مليون خبر كذباً، (فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم) ، فهي عملية استراق أمر قضى الله به في السماء وبُلِّغَ للملائكة لتنفيذه، فيأتي الشيطان فيسترق هذا الخبر ويوحيه إلى الكاهن، فيقوله للناس، فيوهم الناس أنه يعلّم الغيب، وهو لا غيب ولا شيء من هذا القبيل، إنما هو استراق الشياطين السمع من الملائكة، بعد نزولها إلى جو الأرض، وليس هو استراق السمع من السماء كما كان دأبهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه والسلم، فقد مُنعوا منه بالشهب:

﴿  وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9)﴾

[  سورة الجن  ]


 إثم المتصل بالجن من الإنس:


 وفي تكذيب مَن يلقي سمعه للشياطين وإثمه الكبير، قال تعالى في سورة الشعراء، وهذه الآية وحدها تكفي فاستمعوا لها:

﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)﴾

[  سورة الشعراء  ]

 لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لَكَفت، فهذا الذي يلقي أذنه للشيطان، هو أفَّاكٌ أثيم كاذب، ضالٌ مُضِلّ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ*تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ*يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ فأي تعاونٍ بين أي إنسانٍ وأي شيطان هو دليلٌ قطعيٌ على أن هذا الإنسان أفَّاكٌ أثيمٌ كاذب، ولو لبسَ جُبّةً ووضع على رأسه عمامةً خضراء، وسمى نفسه الولي الفلاني، مهما فعل ما دام على علاقة مع الجن والشياطين، فهو أفَّاكٌ أثيمٌ كذاب، مهما يكن زَيّه، قال عليه الصلاة والسلام:

(( فقيهٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. ))

[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف ]

 العلم سلاح يا إخوان، يوجد عندنا آية أعظم وأدق وأوضح، تخبرنا أن الجن لا يعلمون الغيب أبداً، فسيدنا سليمان قد قبضه الله عزَّ وجل وهو مستندٌ إلى عُكّازه، وقيل إنه بقي مدةً طويلة- ولا أدري كم بقي- إلى أن جاءت دابة الأرض (السوسة) ونخرت في هذه العكازة حتى أتت عليها كلُّها، فلما أتت عليها كلها انكسرت فوقع سيدنا سليمان، قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُۥ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ(14)﴾

[  سورة سبأ  ]

﴿مِنسَأَتَهُ﴾ أي: عصاه، ﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ أي: لما وقع، ﴿تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ﴾ لقد كان سليمان عليه السلام قد كلفهم بأعمال شاقة جداً وكانوا يتحملونها خوفاً منه، فلو أنهم يعلمون الغيب لتخففوا من هذه الأعمال بمجرد أن قبضه الله عزَّ وجل، فربنا عزَّ وجل جاء بهذه القصة ليؤكِّد بشكلٍ قاطعٍ ودليل قطعي على أن الجن لا يعلمون الغيب: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ﴾ فنقول قولاً واحداً: إن الجن لا تعلم الغيب، كما أنهم ليس لهم تأثيرٌ جسماني على الإنسان، فإذا كان هناك إنسان يقع بـ(الساعة) فهذه الحالة يوجد لها سببان؛ فإما أن يكون هناك مرض عصابي، أو أن يكون في الشخص نوع من تأثير الشياطين، والمرض العصابي كما قال لي بعض الأطباء: هو تخريشٌ في الدماغ، وهو قابل للعلاج، لكن بعض أنواع الصرع قد يكون فيه أثر الشيطان في الإنسان، فإذا اعتقد الإنسان به، أو استسلم له، أو ابتغى النفع من عنده، أو توهَّم أنه ينفعه أو يضره، أو أشركه مع الله عزَّ وجل، أو خنع له، عندئذٍ يقع تأثيره عليه، أما لو اعتقد بالواحد الديان، وقال: " أعوذ بالله من همزات الشياطين" فلا يمكن للجن ولا للشياطين ولا للإنس أن يؤذوه.
 فإذا وقع واحد في الساعة فقد يؤذِّنون أمامه، وبمجرد أن يؤَذَّن أمامه يذهب عنه الشيطان.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور