الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع من سورة الجن ومع الآية العشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدًا(20)﴾
أيها الإخوة، إذا كان الحديث في الدرس السابق عن مقام العبودية، فالحديث اليوم عن التوحيد،
﴿قُلۡ﴾ أي: قل لهم يا محمد ﴿إِنَّمَا﴾ : أداة قصر، ولو أن الله عزَّ وجل قال: قل أدعو ربي فقط لما كان هناك مانع من يدعو رسول الله غير الله، لكن حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي﴾ أي: أدعو ربي وحده، وهذا هو التوحيد.
إن التوحيد لا يقبل الشرك، فيجب عليك أن تدعو الله وحده، أن تدعوه؛ أي: أن تصلِّي له، أن تدعوه: أن تعمل له، أن تدعوه: أن يكون القلب متعلقاً به، أن تعبده، وأن توحّده، وأن يتعلق القلب به وحده ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي﴾ .
أيها الإخوة، إن القضية بسيطة جداً، فإذا دخلت إلى دائرة كبيرة فيها ألف موظف وكانت مشكلتك لا تُحَلّ إلا مع مدير هذه الدائرة، فلا يمكن لأي إنسان عاقل أن يبذِل ماء وجهه لإنسان غير مدير الدائرة العام، لأن هذا مضيعةٌ للوقت، وبذلٌ لماء الوجه، وجهدٌ ضائع، وعملٌ أخرق، وطريقٌ مسدود، فإذا دعا الإنسان غير الله كان الطريق أمامه مسدوداً، لأن هذا الذي تدعوه ضعيفٌ مثلك، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فلأن لا يملك لك نفعاً ولا ضراً من باب أولى، لأنه لا يملك لنفسه، فهو ضعيف عاجز، وجوده غير ذاتي، بل إن وجوده كان بسبب إمداد الله له، فلو أن الله قطع عنه الإمداد ثانيةً لأصبح جثةً هامدة، فكيف تعلِّق الآمال على إنسان يستمد وجوده من غيره، أما الله جلَّ جلاله فهو واحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، أي وجوده ذاتي، لا يتعلَّق وجود الله عز وجل على وجود غيره، أما البشر فكل مكتسبات الإنسان متعلقة ببقائه حي، متعلقة بنبض قلبه، متعلقة بسيولة دمه، متعلقة بسلامة أعضائه، متعلقة بعقله الذي في رأسه، فالإنسان يستمد وجوده من عوامل كثيرة جداً، فإذا تعطَّل أي عاملٍ أُلْغِيَ وجوده، لذلك قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي﴾ الحقيقة إن التوحيد نهاية العلم، وكلما تعمَّق إيمانك ازداد توحيدك، وكلما ازداد توحيدك ازداد إخلاصك، حينما توقن أن أحداً لن ينفعك ولن يضُرَّك، وأن الإنسان إذا ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى، وأنه إذا عبد غير الله عزَّ وجل كان الله له بالمرصاد، فلا بدَّ من أن يخَيِّب ظنه، ولا بد من أن يحبط عمله، ولا بد من أن يريه هذا الشريك ضعيفاً لئيماً.
أيها الإخوة، إن بطولتنا لا في أن نُقِر أن الله خالق السماوات والأرض، ولكن بطولتنا في الإيمان أن نوقن أن الله بيده كلُّ شيء، وأنْ ليس في الكون إلا الله، هذا هو التوحيد.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ ليس المقصود هذه الكلمات التي تقولُها، فالمسلمون جميعاً يدعون الله بلسانهم، فهم في الصلاة يدعون الله عزَّ وجل، وفي الدعاء يدعون الله عزَّ وجل أيضاً، وفي الاستغفار يستغفرون الله عزَّ وجل، ولكن المشكلة أن الناحية العملية ليست كالناحية النظرية، فالإنسان يدعو الله بلسانه ويُعَلِّق الآمال على غيره، يدعو الله بلسانه ويتّكئ على غير الله، يدعو الله بلسانه ويعتمد على ماله، يقول لك: الدراهم مراهم، وهذه كلمةٌ إبليسيَّة، فهناك مليار مشكلة لا تَحُلُّها الدراهم أبداً، إنه يعتمد على ماله ويدعو ربه بلسانه، يعتمد على أولاده ويدعو ربه بلسانه، يعتمد على مركزه ويدعو ربه بلسانه، يعتمد على صحته ويدعو ربه بلسانه، فعليك أن تشعر أن كل شيءٍ تتمتع به إنما هو من فضل الله عزَّ وجل، وفي أية لحظةٍ يسلبه منك.
ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغيِّر الله من حالٍ إلى حال.
فقد ترى الإنسان ملء السمع والبصر، فإذا بخثرة دم في الدماغ تجعله مشلولاً، فعلى الإنسان ألا يعتمد على صحته ولا على قوته، ولا على ماله.
لقد كان هناك رجل مثقف ثقافة عالية يجلس مع أصدقائه، فقال: أنا موتي بعيد، فسأله صديقه: لماذا؟ قال له: لأن وزني خفيف، وأكلي قليل، وأمشي، ولا أدخِّن، ولا أكترث للضغوط، وليس عندي شدة نفسية.
لقد كان كلامه صحيحاً بمجمله، فالشدة النفسية مع النَّهم في الأكل، مع بطء الحركة، مع التدخين أشياء كلها قاتلة، وقد قال هذا الكلام يوم السبت في سهرة مع أصدقائه، فما جاء يوم السبت الذي يليه إلا وهو تحت الأرض، فلا تعتمد إلا على الله، فأحياناً المال قد يذهب في ثانية واحدة، فقد تكون من أغنى الأغنياء فإذا أنت من أفقر الفقراء.
لقد زارني رجل فقال لي: أنا كنت أملك عدداً كبيراً من الدونمات، وإني لا أذكر العدد، فهو كبير جداً، فقد يكون مائتان وخمسون دنماً، وقد كان هذا الرجل يقيم كل يوم في بيته مضافة ويدعو الضيوف، أما الآن فهو يبحث عن عمل ناطور في بناء براتب ثلاثة آلاف ليرة في الشهر، فالله عزَّ وجل يُعطي ويدهش، ويأخذ ويدهش، فلا تعتمد على صحتك ولا على مالك، ولا على من حولك من الأعوان، ولا على أقرب الناس إليك، ولا على أبعد الناس عنك، ولا على أقوى الناس، ولا على أضعف الناس.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ علِّق أملك بالله، ضع الآمال عند الله، ثِق بالله وحده، اتكل عليه وحده، ارجُ الله وحده، هذا هو التوحيد الحقيقي، إن التوحيد سهل جداً في الكلام، فإدراكه سهل، وشرحه سهل، أما في الأزمات فهو ليس كذلك، فقد تأتيك أزمة فتبحث عن إنسان يحميك ويُعطيك ويقيك، لا، لا تفعل ذلك، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصلاة، والله عزَّ وجل متكَفِّل أن يُرِيَك من آياته.
عَوِّد نفسك في الأزمات والأوقات الحِرجة أن ترجو الله وحده، وأن تعلِّق عليه الآمال، وأن تصطلح معه، وأن تتذلّل بين يديه، وأن تُمَرِّغَ جبهتك في أعتابه.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ لا تكن مُجَيَّراً لصالح إنسان، ولا تكن محسوباً على جهةٍ أرضيةٍ أبداً، ولا تعطِ طاقتك وجهدك ووقتك وعمرك لغير الله عزَّ وجل، فغير الله ليس أهلاً لأن تعطيه طاقتك ولا جهدك ولا ذكاءك ولا علمك، فأنت لله، ولا يليق بك كإنسان إلا أن تكون في خدمة الله عزَّ وجلَّ، أي في خدمة خلقه، فلا تكن محسوباً على جهةٍ أرضية، وهذه نصيحةٌ لله عزَّ وجل، لأن ذلك لا يليق بك، فإن كنت محسوباً على جهةٍ أرضية فأنت تدعوها ولا تدعو الله عزَّ وجل، وترجوها ولا ترجُو الله عزَّ وجل، وتخاف بطشها ولا تخاف بطش الله عزَّ وجل، ترجو ما عندها ولا ترجو ما عند الله عز وجل، أنت لله، فإذا كان الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، فلمن الإنسان؟ إنه لله الواحد الديَّان.
إن الإنسان في حياته شروط وأزمات ومضائق ومشكلات، فعليه أن يعتمد على الله وحده ويدعوه، ومعنى ﴿أَدْعُو﴾ هنا؛ أي: أصلي له، والصلاة دعاء، وأنا أدعو بلساني له، في أي جلسة تجلسها، لا تدعُ لزيد أو عبيد، ولا لفلان ولا لعلاَّن، ولا لجهة، بل ادعُ الله عزَّ وجل، ادعُ لله عز وجل، يقول تعالى في الحديث القدسي عن العبد:
(( إنْ ذكَرني في نفسِه ذكَرْتُه في نفسي وإنْ ذكَرني في مَلَأٍ ذكَرْتُه في مَلَأٍ خيرٍ منه وأطيَبَ. ))
﴿قُلْ إِنَّمَا﴾ المفصل عند إنما فهي: أداة قصر، أي: أنا أدعو الله وحده ولا أدعو أحداً سواه.
والنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أنه ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أقرب إلى مخلوقٍ كقرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من سيدنا الصديق، ومع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِباً رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ. ))
و قد قال سيدنا الصديق بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام:
(( فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. ))
فديننا دين توحيد، لا دين أشخاص ولا دين جهات ولا دين شرك.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ عليك هنا أن توسِّع المعنى، فمعنى أدعو الله؛ أي: أصلي له، وأخافه وحده وأرجوه، فكلُّ أملي معقودٌ على رحمته، وكلُّ خوفي منه، وكل رجائي له، فأنا أرجو ما عنده، وأخشى عذابه، وأتهيّب جفوته، وأرجو نواله، وهذا هو الإيمان، فالعلاقة مع الله يجب أن تكون غنية ومفعمة بالحب، مفعمة بالاتصال، مفعمة بالإخلاص.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ أي: أدعو ربي وحده ولا أدعو أحداً سواه، وإذا جرِّبت أن تعتمد على غير الله فإن الله جلَّ جلاله يؤَدِّبُك رحمةً بك وعطفاً عليك، فتراه يخيب ظنَّك بفلان، وقد يكون هذا الإنسان بغير هذه الصفات، لكن الله يلهمه أن يتخلى عنك في أحرج الأوقات، وهذا عقاب من الله، لأنك اتكلت عليه، وعقدت الآمال عليه، واطمأننت إلى وعده، فيجب عليك أن تطمئن لوعد الله وحده، كما يجب أن تستجير بالله وحده، وأن تستعيذ بالله وحده، وأن تُقبِل على الله وحده، أن ترجو الله وحده، أن تكون متعلِّقاً بالله وحده.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ فالإيمان بالله سهل، أما بالتوحيد صعب، والإيمان بالتوحيد نظرياً سهل، أما عملياً فهو صعب ويحتاج إلى جهد كبير.
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ(106)﴾
إن أكثر الناس يعتمدون على بعضهم بعضاً شِركاً، فلا يقول لك أحدهم: أنا أعبد فلان، أما حينما يكون قلبه مُفْعَماً بمحبته، ورجاؤه معلقاً به، قلبه يرتعد خوفاً من وعيده، هذا شرك، لأنه في هذه الحالة يعامله كإله.
لذلك كلما تذلل الإنسان لله رفعه الله، وكلما اعتمد على الله وحده دافع الله جل جلاله عنه وحَفِظَه، فالقضية تحتاج إلى إيمان عميق، وإرادة قوية.
فقد يكون هناك ضيق في الدخل في حياتنا اليومية مثلاً، وقد يُفتَح لك باب فيه دخل كبير لكن هذا الباب لا يرضي الله، فماذا يفعل المؤمن؟ إنه يؤثر ما عند الله على الشيء الذي لا يرضيه، وبعد حين الله جلَّ جلاله يفتح له باباً واسعاً، هذا الباب الواسع يُفتح بعد حين، ولو أنه فتحه مباشرةً لما دفع ثمن الطاعة، والله عزَّ وجل قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦٓ إِن شَآءَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)﴾
والمشركون الآن يشكلون ما يسمَّى صناعة سياحية، فينفقون أموالاً طائلة، ويروِّجون السلع في البلد، يستأجرون البيوت، وينفقون أموالهم على الطعام والشراب وعلى أشياء أخرى، فمن نتائج السياحة الرائجة دخل كبير، وربنا عزَّ وجل قال: ﴿إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ﴾ في الآية شيء دقيق جداً، فأنت حينما تلتزم مبدئياً بطاعة الله عزَّ وجل قد يقلّ دخلك، لأنك قد ترفض هذا العمل، وهذا المشروع، وهذه الصفقة، وهذه التجارة لِمَا فيها من شبهات، وحينما ترفضها كلَّها يقلُّ دخلك، فإذا ما قلّ الدخل معنى ذلك أنك لم تدفع ثمن هذه الطاعة، وثمن هذا الإيثار، فبعد أن يعلم الله منك صدقاً وإصراراً على طاعته وتضحيةً في سبيله، يأتي الفرج القريب، فيأتيك رزقٌ من حيث لا تحتسب، لأنك كنت خاضعاً لقانون مُستنبَط من حركة الحياة، فبعد أن علم الله صدقك واستقامتك، وخوفك من الله، وحرصك على طاعتِهِ، أخضعك الله إلى قانون آخر، وهو قانون العناية الإلهية المباشرة، وهناك آلاف القصص على ذلك.
أيها الأخ الكريم، تصوَّر تصوُّراً فقط أنه ليس هناك وجود للقرآن والسنة، وأن هذه الحياة تجري كما هي، فلو كان عندك نفسٌ طويل، وتحليلٌ دقيق وتتبعت كيف يعامل الله خلقه، لاستنبطت من معاملة الله لخلقه قواعد وقوانين مطابقة للشرع تماماً، فالمستقيم ينصره الله عزَّ وجل، والمنحرف يخذله، والذي يجمع المال الحرام يدمِّره، والذي يجمع المال الحلال يبارك الله له فيه، والذي يكون في خدمة الناس يكون الله في حاجاته، فييسِّرها له، فهناك قوانين، فإما أن تأخذ بهذه القوانين مركزة من كتاب الله، وإما أن تستنبطها من حركة الحياة، ولكن الشقي كل الشقي هو الذي يعرفها بعد فوات الأوان، وهذه هي المشكلة.
وأقول لكم دائماً: إن خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، فالحقائق التي جاء بها الأنبياء سيعرفها كلُّ الناس عند الموت، حتى الكُفَّار، حتى الملحدون، حتى الفُجَّار، حتى العُصاة، فكلُّ المخلوقات سيعرفون الحقيقة بعد الموت.
﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
لكنك إما أن تعرفها وتنتفع بها، وإما أن تعرفها وتكون معرفتها حسرةً على القلب، والمعرفة مع الحسرة تكون بعد الموت، أما المعرفة مع الانتفاع فتكون قبل الموت.
إننا يا إخواننا الكرام -وأنا معكم- مدعوُّون إلى الله عزَّ وجل، والله عزَّ وجل يريدنا جميعاً.
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً(27)﴾
الله عزَّ وجل يريدنا أن نكون على منهجه، كي يسعدنا بطاعته.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ أي: لا أشرك به أحداً كبيراً ولا صغيراً ولا قريباً ولا بعيداً ولا قوياً ولا ضعيفاً.
وقد يتعلَّق الإنسان بابنه تعلُّقاً غير طبيعي، فهناك إنسان توفِّي ابنه فكفر بالله وترك الصلاة، فيجب عليك أن تكون متعلقاً بالله.
إن النبي عليه الصلاة والسلام مات ابنه إبراهيم فدمعت عينه، فقالوا: أتبكي! قال:
(( إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. ))
إن هذا كلام رائع جداً ومتوازن، كلام فيه توحيد.
ضعف التوحيد هو أصل المعصية:
أقول لكم كلاماً دقيقاً أيها الإخوة: والله الذي لا إله إلا هو ما من معصيةٍ إلا معها ضعف توحيد، وما من نفاقٍ إلا معه ضعف توحيد، وما من تقصير إلا ومعه ضعف توحيد، فحينما يرجو الإنسان أمراً بمعصيةٍ يرى أن هذه المعصية وراءها خير، وهذا غلط شديد، فلا يوجد مع المعاصي إلا الشرور، ولا يوجد مع الطاعات إلا بركات وخيرات.
(( مَن حاول أمرًا بمعصيةٍ، كان أَبْعَدَ لِمَا رَجَا، وأَقْرَبَ لِمَجِيءِ ما اتَّقَى. ))
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)﴾
سبب عدم نجاح الدعوة هو ضعف الإخلاص:
إخواننا الكرام ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ إذا دعا الإنسان إلى الله، دعا الله في عبادته، ودعا إلى الله في حركته، وقد قال العلماء: إن هذين المعنيين منطويان في هذه الكلمة.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو﴾ الصلاة دعاء، فقَولي: أنا أدعو الله في صلاتي؛ أي: أنا أصلي له وحده، أو أدعو إليه ولا أدعو لسواه، فكم من إنسان مُجَنَّد ليدعو إلى غير الله عزَّ وجل، فهناك من يختار الأذكياء وأصحاب الحجة القوية لتكون دعوتهم لغير الله، لجهةٍ أرضيةٍ، فالمؤمن يدعو لله عزَّ وجل، الله عزَّ وجل يقول:
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ(51)﴾
هناك رأي دقيق جداً يقول: إن الإنسان إذا دعا إلى الله ولم ينجح في دعوته كان السببَ في عدم نجاحه ضعفُ إخلاصه وضعف توحيده، فقد يخاف، أو يرى الوقت أثمن من أن ينفقه في الدعوة إلى الله مثلاً، فإذا دعا الإنسان إلى الله، ثم عَزَا إخفاقه إلى الله عزَّ وجل، فإنه يكون قد ردَّ القرآن الكريم، وردُّ أي آيةٍ من كتاب الله كفر، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ﴾ إنا: حرف مشبَّه بالفعل يفيد التوكيد، واللام: لام التأكيد، فهناك توكيدان، لننصر: فعل مضارع، والفعل المضارع مستمر، فالنصر مستمر، ﴿رُسُلَنَا﴾ ونصر الرسل شيء بديهي طبعاً ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ سننصرهم في الآخرة أمر بديهي، لكنه قال: سننصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهذه آية جامعة مانعة ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فإذا دعوت الله عزَّ وجل أو دعوت إلى الله، ولم تَقْطِف الثمار ثم عزوت ذلك إلى الله كان هذا نوعاً من التكذيب، وتكذيب القرآن الكريم كفر.
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ(173)﴾
إخواننا الكرام، إن زوال الكون أهون على الله من ألا تُحقَقُّ هذه الآية، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ﴾ فإن لم تَغْلِب فأنت لست جندياً لله عزَّ وجل، وهذا يكون بسبب شرك فيك، لأنك في هذه الحالة تكون جندياً لجهةٍ أرضية، فلو كنت جندياً لله فلا يمكن أن تُغْلَب أبداً.
﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ﴾ فإذا لم ينصر الله عزَّ وجل الإنسان، فعلى الإنسان أن يراجع نفسه ليتحقق من جنديته لله عزَّ وجل، فهل هو جندي لله؟ وإن أعلى مقام يصله إنسان هو أن يكون جندياً للحق ولا شيء سواه.
درسنا اليوم في التوحيد، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ وحده، ومعنى وحده نستشفه من ﴿إِنَّما﴾ ﴿إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي﴾ أدعوه في عبادتي، وأدعوه بلساني، وأدعو له الخلق، فأنا أدعوه وأرجوه وأصلي له، وأدعو له بين الخلق.
﴿وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ أيها الإخوة، إن الشرك نوعان؛ جليٌ وخفي.
1- الشرك الجلي:
كأن تقول: بوذا إله، وهذا في الهند والصين، وليس في بلادنا والحمد لله.
(( إنّ الشيطانَ قدْ يَئِسَ أنْ يُعبَدَ في أرضكم. ))
فالشرك الجلي ليس له وجود في العالم الإسلامي والحمد لله رب العالمين، بل إن الذي يقال في العالم الإسلامي هو الله؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا مفروغ منه، ونحن والحمد لله ناجون من الشرك الجلِيِّ بعد الدعوة الإسلامية (إنّ الشيطانَ قدْ يَئِسَ أنْ يُعبَدَ في أرضكم) ولكنه رضي بالشرك الخفيّ.
2- الشرك الخفي:
وهو أن تعتمد على غير الله، وأن ترجو غير الله، وأن تخاف من غير الله، وأن تُخْلِصَ لغير الله، وأن تُعَلِّقَ الأمل على غير الله، وأن تدعو غير الله، وأن تَهَابَ غير الله، وهذا هو الشرك، لذلك قال تعالى:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ أي: مشركون به شركاً خفياً، والله عزَّ وجل رب العالمين يربِّي الإنسان، فكلما تعلَّق بجهةٍ أرضيةٍ نبّهه وخَيَّبَ ظَنَّه فيعود.
وكما قلت في الدرس الماضي، إن الصحابة الكرام وفيهم رسول الله رأوا تَجَمُّعاً كبيراً جداً ما سبق له مثيل في الجزيرة، فقد كان هناك عشرة آلاف سيفٍ مؤمن، فقال بعضهم في نفسه: لن نُغَلَبَ من قِلَّة، فقال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)﴾
فهناك شرك جلي نحن والحمد لله ناجون منه، أما الشرك الخفي فهو المشكلة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن أخوف ما أتخوف على أمتي، الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله، وشهوة خفية. ))
[ ابن ماجه بسند ضعيف جداً. ]
﴿وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ أحداً: جاءت نكرة والتنكير هنا تنكير شمول، يعني: أي أحد؛ صغيراً كان أم كبيراً، قريباً أو بعيداً، قوياً أو ضعيفاً ﴿وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ .
مهمة الرسول البلاغ وليس الهداية:
﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً(21)﴾
إن الضر يقابله النفع، والرشَد يقابله الغيّ، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، أي: لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، ولا غيّاً ولا رشداً، فهناك أربع معانٍ بكلمتين، فالهداية باختيار الإنسان، والنبي مبلِّغ، فقد تلقي محاضرة بليغة جداً على مجموعة من الناس، فيستجيب بعضهم ولا يستجيب البعض الآخر، السبب هو أن الإنسان مخير، فأنا لا أملك أن أهديكم ولكني أملك أن أبلغكم، ولا يستطيع مخلوق أن يخلق الهدى في نفس الآخرين، وهذا شيء مستحيل.
قال تعالى:
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)﴾
﴿ قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍۢ (104)﴾
﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41)﴾
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)﴾
النبي هو الذي أوتي المعجزات، وأوتي الكمال الإنساني الكامل، وأوتي المنطق، أوتي الفصاحة، فهو قمَّة البشر، ومع ذلك لا يستطيع أن يهدي الإنسان إلا أن يُبَلِّغه، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ ۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَٰغُ ٱلْمُبِينُ (54)﴾
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ*لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ﴾ أي: أنا لا أملك أن أخلق الهدى فيكم، ولكني أملك أن أدعوكم، أَمْلِك أن أُرْشِدَكُم وأبَيَّن لكم فقط ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ إني لا أملك الهدى ولا أملك الضلال، فالضلال باختياركم والهدى باختياركم.
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾
كما أنني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، وهذا أمر عجيب، فالنبي عليه الصلاة والسلام أقبلَ الناس عليه وافتدوه بأرواحهم، وهو يقول لهم صباح مساء: لا أملك لكم شيئاً، هذا هو التوحيد، فيجب عليك أن تبيِّن للناس أنك ضعيفٌ مثلهم، وأنك لا تملك لهم شيئاً، لا نفعاً ولا ضراً، وكل إنسان يدَّعي أنه يملك النفع أو الضُّر، أو يملك الهدى أو الضلال، هو إنسان مشرك ودجَّال، فأنا أدعوك، أحاول أن أبيّن لك، وأقنعك، وآتيك بالدلائل والحجج والبراهين، فإذا اهتديت واستجبت كان هذا من عندك وباختيارك، هذا من صنع قرارك، فأنا أدعوك وأنت قد تستجيب وقد لا تستجيب، والنبي صلى الله عليه وسلم -على علو مقامه وعلى عظمة دعوته وعلى فصاحة لسانه وعلى أخلاقه الكريمة - استجاب له البعض وحاربه البعض، أليس كذلك؟
﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ إن دعوتك الصحيحة تكون في ألا تُعَلِّق الناس بشخصك، بل علّقهم بالله عزَّ وجل، فهناك من الناس من يسلطون الأضواء على أشخاصهم، أما في الدعوة إلى الله فعليك أن تعلّق الناس بالله عزَّ وجل لأنه معهم أينما كانوا، معهم أينما ذهبوا، وهو معهم في حِلِّهم وترحالهم، في خلوتهم وجلوتهم، في سرِّهم وعلانيتهم، في بيتهم ومع الناس، فلذلك قال: ﴿لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ وكل من يقول خلاف ذلك؛ أنا أملك لكم هدىً أو ضلالاً، أو نفعاً أو ضراً هذا شرك، فيجب على الإنسان أن يعلّن براءته من كل هذه الأفعال، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام -وهو سيد الخلق وحبيب الحق الذي أوتي المعجزات ونزل عليه القرآن- لا يملك لنا ضراً ولا رشداً، لا نفعاً ولا ضراً، ولا غياً ولا رشداً، فمن باب أولى أن لا يملك ذلك أحدٌ بعده إطلاقاً، إلا أن واجب الداعية أن يبين، ومهمتك تنحصر في أن تحاكم وتناقش، ولك أن تستجيب بعد ذلك أو لا تستجيب، لأن هذا أصبح شأنُك وهذا قرارك.
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)﴾
فهذا سيدنا نوح -على عِظَمِ مقامه– لم يستطع أن يقنع ابنه بأن يركب معه، فقال له:
﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)﴾
﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً*قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ والداعية الصادق يبين للناس ﴿لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ الهدى باختيارك، وعدم الهدى باختيارك أيضاً، ونفعك من طاعتك، والضر من معصيتك، فسعادتك بيدك، وشقاؤك بيدك، والتوفيق بيدك، فقد قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾
فالتوفيق بيَدَّك، والتعسير بيدك، والهداية بيدك.
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُوا۟ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا۟ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
والاستجابة بيدك وعدم الاستجابة بيدك، والنفع من طاعتك، والضر من معصيتك.
﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً(22)﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام وهو في أعلى درجة من العبودية، المعنى: إذا شاء الله عزَّ وجل شيئاً فلن يستطيع أحدٌ في الأرض أن يجيرني من الله أبداً.
﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(2)﴾
﴿ لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ(11)﴾
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾
يجب عليك أن تؤمن دائماً أنك في قبضة الله، فلو كان أهل الدنيا كلّها معك، ولم يكن الله معك فإنك لن تستفيد شيئاً، ولو أن أهل الدنيا كلها ضدّك، وكان الله معك فإنك لا تعبأ بهم جميعاً، فإذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك، وهذا هو التوحيد، فأنت في قبضته وفي حفظه وفي توفيقه، وأقول لكم دائماً وأبداً: إن هناك معية خاصة ومعية عامة، فالمعية العامة، يكون الله تعالى فيها مع البشر كلّهم؛ مع الكفار، مع المؤمنين، مع الصادقين، مع الكاذبين، مع الفُجَّار وهو معهم بعلمه، لكنه مع المؤمنين بتوفيقه، مع المؤمنين بتأْييِدِه، مع المؤمنين بحفظه، مع المؤمنين بنصره، فالحفظ والنصر والتأييِد من المعية الخاصة، والمعية الخاصة لها ثمن، فقد قال الله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ(12)﴾
هذا هو الدين، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الخلق وحبيب الحق- يقول: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ فماذا نقول عن الذين يبيعون الجنة بالصكوك؟ هل هذه الدعوة الصحيحة؟ إن نبي هذه الأمة يقول: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ هناك رجل اشترى النار، فاستغرب الذي باعه إياها، لكنه اشتراها وبلّغ الناس أنه اشترى جهنم ولن يدخل إليها أحداً بعد ذلك، فخفَّ الطلب على سوق الجنة، فاضطر ذلك البائع أن يشتريها منه مرة ثانية، إن هذه سخافات وأفكار مضحكة.
﴿ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً(23)﴾
إن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي إبلاغ الناس وأداء الرسالة، فإذا وقف الإنسان أمام مقام النبي في العمرة أو الحج يقول: أشهد أنك بَلَّغْتَ الرسالة وأدَّيْتَ الأمانة، ونصحت الأمة وكشفت الغُمَّة، وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد.
﴿إِلَّا بَلَاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ﴾ فالنبي لا يملك الضر ولا النفع ولا الهدى ولا الغَي ؛ أي: الضلال، ولا يملك أن يحمي نفسه من الله، ولا أن يجير أحداً، لأنه ضعيف، ومهمته التبليغ، كما أنه له مهمة أخرى جاءت بها آيات أخرى، وهي مهمة القدوة، قال تعالى:
﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا(21)﴾
إن مهمته أن يبلِّغ بلسانه وأن يعمل عملاً موافقاً لرسالته، فالإنسان لا يقنع بالكلام وحده، بل إنه يقنع بالكلام المُطَبَّق، فالنبي عليه الصلاة والسلام مبلِّغٌ بلسانه وقدوةٌ بعمله، وهذه مهمة الأنبياء، فينبغي أن تكون مهمة الدعاة من بعدهم على شاكلتها، فهو مبلّغ ومُطَبِّق فقط، فلا يملك لك ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً، ولا أحد يحميه من الله عزَّ وجل.
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نعيد شرح هذه الآيات.
الملف مدقق