المذيع :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، يا ربنا صلّ وسلم ، أنعم وأكرم على النبي المصطفى محمد صلوات الله وسلامه عليه ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، مرحباً بكم في مجلس العلم والإيمان مع فضيلة العلّامة المربي الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، شيخنا الكريم أهلاً وسهلاً معنا على الهواء .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
المذيع :
حياكم الله شيخنا .
مستمعينا هذا اللقاء يأتيكم بحوله تعالى أسبوعياً ، اليوم نتحدث عن العشر الأواخر ونحن على عتباتها ، ونسأل الله سبحانه وتعالى كما بلغنا رمضان أن يبلغنا ليلة القدر وهو راض عنا سبحانه وتعالى ، يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن هذه أو كانت تقول السيدة عائشة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :
(( كان إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وشدّ مئزره ))
صلوات الله وسلامه عليه ، سوف نبدأ حديثنا معكم شيخنا الكريم ونتحدث عن العشر الأواخر وعن فضلها .
العبادة علة وجود الإنسان :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
لابد من مقدمة ، الإنسان خلق ليعبد الله ، والعبادة أن يتبع منهج خالق السماوات والأرض في الأمر والنهي ، فالعبادة على مدى العام ، عندنا عبادات اختصاصية استثنائية موسمية ، منها رمضان ، فرمضان ترك الطعام والشراب ، ترك كل المباحات التي سمح الله بها في غير رمضان ، رمضان شهر الإنفاق ، شهر أداء الزكاة ، شهر صلة الأرحام ، شهر العمل الصالح ، شهر القنوت في الليل ، في قيام الليل ، في التراويح ، في الفجر :
(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
[ سنن ابن ماجة عَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ ]
(( من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي ))
موسم رمضان موسم نقلة نوعية الى الله ، فرمضان الله اختصه بالعطاء والإكرام والتوفيق ، لكن يوجد أيام خاصة ، قبل أن أقول ذلك عندنا عبادة العوام ، أي ترك الطعام والشراب فقط ، عبادة الخواص ترك الطعام والشراب وسائر المخالفات والمحرمات ، أي لا يوجد غيبة ، ولا نميمة ، ولا شاشة مفتوحة ، ولا لقاء مختلط ، ولا دخل مشبوه ، هذا الصيام الذي أراده الله ، صيام الخواص ، أما خواص الخواص فترك ما سوى الله ، مراتب .
ليلة القدر ليلة عرفت فيها عظمة الله عز وجل ، في العشر الأواخر :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) ﴾
الحقيقة مقياس القدر حينما تأتمر بما أمر ، وتنتهي عما عنه نهى وزجر ، فأنت قدرت الله حق قدره ، ليس حق قدره ، القدر الذي يمكنك أن تنتقل به من المعصية إلى الطاعة، من الضعف إلى القوة ، من التفلت الى الالتزام ، هذا القدر ، فالإنسان حينما يعرف القدر يختلف .
للتقريب مثلاً ، إنسان راكب مركبته والطريق مفتوح فيه إشارة حمراء ، لماذا يقف ؟ طبعاً بديهياً وزير الداخلية له قانون السير ، ببنود هذا القانون الالتزام بالإشارات ، لأن هذا وضع القانون علمه يطولك ، وقدرته تطولك ، من خلال هذا الشرطي أو الكاميرا ، أنت إذا قرأت هذا القرآن :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) ﴾
عظمة هذا الدين أنه دين فردي وجماعي :
الآن فحوى دعوة القرآن نقطة أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، قدرته تطولك وعلمه يطولك كيف تعصيه ؟ أنت لا تعصي إنساناً من بني جلدتك لكنه أقوى منك ، ما دمت تعلم أن علمه يطولك وقدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه ، حياتك بيد الله ، الموت بيده ، الصحة بيده ، المرض بيده ، الرزق بيده ، السعادة بيده ، الشقاء بيده ، ومع كل ذلك ما قبل أن تعبده إكراهاً قال :
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ﴾
يحب الإنسان أصلاً . يحب المؤمن حباً استثنائياً ، يحب من كان عمله صالحاً ، يحب المنضبط المستقيم ، ضبط أموره بثلاث دوائر يملكها ، نفسه دائرة ، بيته دائرة ، عمله دائرة، فإذا أقمت أمر الله فيما تملك كفاك ما لا تملك ، هذا الإسلام الفردي ، عظمة هذا الدين أنه إسلام فردي وجماعي ، الفردي تغطيه الآية الكريمة :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147) ﴾
فإذا إنسان شاب واحد من مليوني مسلم أقام أمر الله في نفسه أول دائرة يملكها ، وفي بيته ثانياً أيضاً القرار فيها نافذ ، وفي عمله ثالثاً ، نفسه وبيته وعمله ، هذه دوائر ثلاثة إذا أقام أمر الله فيما يملك كفاه ما لا يملك ، هذا لا يمنع أن تكون داعية للقارات الخمس ، مؤلف كتاب مهم جداً ، أنا لي كلمة أقولها دائماً : لك أن تؤلف القلوب ولك أن تؤلف الكتب ، تأليف القلوب أعمق أثرا وأقصر أمداً ، تأليف الكتب أقل أثراً و أطول أمداً ، ولك أن تجمع بينهما .
المذيع :
الله يفتح عليك دكتور على هذا الكلام الطيب وجزاك كل خير ، من هذا الكلام الطيب شيخنا الحبيب كيف يمكن لنا أن نحضر أنفسنا ونهيئها ليكون العشر الأواخر من رمضان مختلفة عما كان وسبق من العشر الأولى والوسطى أي ماذا نفعل لتكون هذه العشر مميزة بالعبادة ؟
من أقبل على الله سعد بقربه :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
يجب أن يكون هناك زيادة في الأذكار ، زيادة في الصلوات ، زيادة في الإقبال ، زيادة في العمل الصالح ، زيادة بصلة الأرحام ، كلما كان العمل الصالح لم سمي صالحاً أو ما هو الثواب حقيقة ؟ الثواب ارتفع عملاً إلى الله ، خدمت ، تقربت من إنسان فقير ، من إنسان بحاجة إلى مساعدتك ، دائما وأبداً يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ، الذي عنده كرامة ، عنده حياء ، عنده خجل ، لا يتذلل ، فأنت اعرف هذا الإنسان ، أديت زكاة مالك ، أديت الصدقة ، في المال حق سوى الزكاة ، وصلته ، لك أخت في طرف المدينة فقيرة ، أما الأخت التي زوجها غني فكلما عطس تزوره ، أما الفقيرة فتنساها ، البطولة بالفقيرة ، فأنت عندما عملت هذا الشيء دون أن تشعر نشأ لك مع الله خط ساخن ، إن أقبلت عليه سعدت بقربه ، الله يتجلى عليك بأسمائه الحسنى :
(( إن كنتم تحبون رحمتي فارحموا خلقي ))
إذا أنت اتصلت بأصل الجمال والكمال و النوال في الكون ، بالخالق رب العالمين ، بالرحمن الرحيم اتصلت فيه ، إن لم تقل : ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني عندك مشكلة ، فالله يدعوك برمضان للترميم ، إذا إنسان عليه خمسة ملايين دينار ، ومحجوز على بيته ومركبته ومعمله ومحله التجاري ، قال له أحدهم : افعل هذا العمل ثلاثين يوماً تعفى من كل هذه الديون ، وكل هذه الحجوزات ، هل يتردد ثانية ؟ اسمع الحديث :
(( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاححة :
لكن هنا لا بد من ملاحظة خطيرة ، عندنا ثلاثة حقوق ، الله له حق ، والعباد لهم حق ، ذنب يغفر ما كان بينك وبين الله ، والصلحة بلمحة ، وذنب لا يترك ما كان بينك وبين العباد ، هذه الذنوب لا تغفر إلا بإحدى حالتين ، الأداء أو المسامحة ، والدليل صحابي جليل كان مع النبي في كل الغزوات توفاه الله ، من عادة النبي الكريم أن يزور المتوفى من أصحابه في بيته قبل دفنه ، سمع امرأة تقول له : هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، طبعاً يوجد قصة أخرى تكمل هذه القصة ،
(( قال : أعليه دين ؟ قالوا : نعم ؟ قال : صلوا على صاحبكم . ))
شي مخيف أعليه دين ؟ صحبة النبي ما سمحت له ألا يؤدي الدين ، فقال أحد أصحابه : عليّ دينه يا رسول الله ، الشيء الذي لا يصدق ، في اليوم التالي سأل النبي الصحابي المتكفل بالدين :
(( أأديت الدين ؟ قال : لا . في اليوم الثاني : أأديت الدين ؟ قال : لا . في اليوم الثالث قال له : أديته ، فقال النبي الكريم : الآن ابترد جلده . ))
لذلك حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة بينما حقوق العباد مبنية على المشاححة ، لذلك نستنبط أن هناك ذنباً يغفر ما كان بينك وبين الله ، وذنباً لا يترك ما كان بينك وبين العباد ، إلا بالأداء والمسامحة ، وذنباً لا يغفر هو الشرك .
حتى أوضحها للأخوة المشاهدين أو المستمعين ؛ إنسان بحاجة لعمل جراحي فوري بقلبه ، والعمل ناجح ، والأجر مؤدى ، أخذه السائق إلى مصيف يموت ، هذا شرك ، إذا اتجهت لغير الله هذا شرك ، أما الحقيقة فلا يوجد ببلادنا والحمد لله شرك جلي ، لكن يوجد شرك غير جلي ، أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله . نحن مشكلتنا بالشرك الخفي ، نعوذ بالله من الشرك الخفي .
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور .
سيدي دكتورنا الفاضل النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم العبادة لكنه في رمضان كان أكثر عبادة ، وحتى في الصدقة كان جواداً كالريح ، وإذا جاءت العشر الأواخر كان أيضاً يزيد العبادة فيها ، ماذا يزيد المؤمن من كمية العبادة في حياته في العشر الأواخر ؟
الإنسان خاسر لأن مضي الوقت يستهلكه :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
صار عندنا عبادة نوعية ، عندنا عبادة عادية تؤدى مدى العام ، عندنا عبادة خاصة تؤدى في رمضان ، وعندنا عبادة خاصة خاصة تؤدى في العشر الأواخر من رمضان .
المذيع :
ما المقصود بالعبادة الخاصة دكتور ?
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أي المبالغة بالضبط ، المبالغة بإدارة الوقت ، نحن عندنا علم كبير جداً في العالم هو: إدارة الأعمال ، أنا أرشح أن إدارة الوقت علم أهم منه ، إدارة الوقت لماذا ? يوجد سبب خطير جداً ، أدق تعريف جامع مانع رائع للحسن البصري : الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، إذاً هو وقت ، وهذا الوقت لابد من أن ينتهي ، لذلك الله عز وجل أقسم بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول الذي هو في حقيقته زمن ، قال :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الواو واو القسم ، إن أردت أن تكون أداة لفت النظر بالنسبة لله عز وجل ، أو أردت أن تكون أداة قسم للعباد ..
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
إله يقسم أن هذا الإنسان خاسر ، لماذا هو خاسر ? قال : لأن مضي الزمن وحده يستهلكه فقط ، لذلك :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
يا الله .
رمضان موسم اتصال بالله الذي هو أصل الجمال والكمال والنوال :
الإمام الشافعي قال : أركان النجاة ما بعد إلا . إلا الذين آمنوا عرفوا الله معرفة حملتهم على الطاعة ، وأية معرفة لا تحمل على طاعة لا قيمة لها ، شخص علم فوائد الشمس ؛ مشرقة ، شافية ، وجلس بغرفة قميئة ، مظلمة ، فيها رطوبة ، مهما أثنى على الشمس لا قيمة لهذا الثناء ، هذه مشكلة المسلمين اليوم ، يوجد مساجد ، وجوامع ، وكليات شريعة ، كل شي موجود ، لكن هذا المنهج التفصيلي ، الذي يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية يجب أن يطبق بحذافيره ، تصور بيتاً فيه جميع الأدوات الكهربائية بأعلى مستوى ، لكن لا يوجد كهرباء إذاً لا قيمة لكل هذه الأجهزة ، كلها قطع بلاستيكية ، فإذا جاءت الكهرباء الثلاجة بردت، والمكيف كيّف ، و الميكروويف عمل ، هنا الدقة دقيقة ، أنا لو قطعت التيار الرئيسي مليمتراً واحداً أو متراً مثل بعض ، التيار توقف ، ما دام هناك معصية ، أو شبهة في مال حرام ، أو كذب ، أو التدليس ، إلى آخره ، التيار انقطع فلما انقطع خسرت كل ما في هذا الدين من عظمة، الصلاة ، الصلاة عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين ، هذا الإنسان الضعيف يتصل بالقوي ، الفقير يتصل بالغني ، الخائف بالذي يؤمنك على كمالك ، أنت تتصل بأصل الجمال والكمال والنوال ، بصاحب الأسماء الحسنى والصفات العلا ، فلذلك رمضان موسم اتصال بالله ، لكن آخر عشر موسم اتصال كبير إلا أن هناك ملمحاً دقيقاً واحداً، ابن عباس رضي الله عنه هذا له مكانة كبيرة في الإسلام ، كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى رجلاً كئيباً ، قال له : ما لي أراك كئيباً ؟ قال له : والله ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، قال له : لمن ? قال له : لفلان ، قال له : أتحب أن أكلمه لك ? قال له : إذا أردت ، فقام ابن عباس من معتكفه ، قال له رجل : يا بن عباس أنسيت أنك معتكف ? قال : والله ما نسيت ولكن صاحبها القبر والعهد به قريب وبكى يقول : لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافي في مسجدي هذا .
يوجد أشياء ، يوجد أولويات ، إذا كان هناك إنسان فقير والله زيارته وجبر خاطره والله يوجد كلمة عند النبي الكريم مكتوبة تبكي : ما عبد الله في الأرض بأفضل من جبر خواطر .
في رمضان هناك شخص لا يسأل ، كريم النفس ، عنده عفة ، أعط هذا بالذات ، الله ماذا قال ? قال :
﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
الذي عنده حياء لا يطلب منك ، ابحث عنه .
المذيع :
شيخنا الكريم قلتم في كلامكم قبل قليل إلى أن يكثر الإنسان من العبادات التعاملية ، كأن يتفقد إنسانا محتاجاً ، أو أن يغيث ملهوفاً وما شابه ، هل يتجه الإنسان نحو هذه العبادات ويترك القرآن والدعاء والعبادات الشعائرية أم يعتكف في مصلاه بين القرآن والدعاء ويترك الناس؟ ماذا تنصحنا أن نفعل في العشر الأواخر من رمضان ?
بطولة الإنسان أن يعطي كلّ ذي حق حقه :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا أنصح أن يعطي كل جهة حقها ، حق جهة معينة لا تلغي حق جهة أخرى ، فالبطولة أن تعطي كل جهة حقها ، أن تعطي كل ذي حق حقه ، أي الأهل لهم حق ، العمل لهم حق ، الله له الحق ، العبادات لها حق ، الأعمال الصالحة لها حق ، رمضان بشكل مجمل له حق ، شهر استثنائي ، نقلة نوعية من التقصير إلى الجد ، من التفلت إلى الانضباط ، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، رمضان نقلة نوعية ، أي إنسان يطلب منه فعل أشياء لثلاثين يوماً تلغى كل ديونه هكذا .
(( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
سمح لي أن أنتقل نقلة نوعية مع الله ، أن أذوق طعم القرب ، طعم الصلة بالله ، الصلاة متقنة ، صلاة نقرأ آيات طويلة في كل ركعة ، هذا كلام الله ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه .
(( فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))
[ أخرجه الدرامي عن شهر بن حوشب ]
الكون قرآن صامت ، والكون قرآن ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي .
أساسيات الدعوة إلى الله عز وجل :
أنا أقول تعليقاً دقيقاً : ما لم ير المسلمون اليوم إنساناً يمشي أمامهم إن حدثهم فهو صادق ، إن عاملهم فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف ، لا يقتنعون بهذا الدين ، الدين له منهج عملي ، أما التنظيري فلم يعد له قيمة ، التنظير أنت قاعد ببرج عاجي كبير ، تنظر للناس ، هذا لا يقدم ولا يؤخر ، ما دام هناك مثل أعلى أمامك القدوة قبل الدعوة ، الإحسان قبل البيان ، الأصول قبل الفروع ، مخاطبة القلب والعقل معاً ، المضامين لا العناوين ، المبادئ لا الأشخاص ، التدرج لا الطفرة ، كلها أساسيات في الدعوة إلى الله ، والدعوة إلى الله :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
دعا إلى الله بخطابه ، بلقائه ، بسهرته ، بتجارته ، ببيعه ، بشرائه ، وعمل صالحاً، جاءت حركته في الشهر وفي الأسبوع وفي الأعياد وفي الإجازات وفق منهج الله ، لم يكف ذلك، وقال : إنني من المسلمين ، هو ليس متفوقاً عليهم هو منهم ، هذا الإسلام . فلذلك المؤمن له مكانة عند الله كبيرة جداً ، ومتواضع ، وعملي ، ليس تنظيرياً ، عنده فعالية كبيرة جداً ، هذا رمضان نقلة نوعية ، والله أهمس في أذن المستمعين همساً : إذا انقلب رمضان لا سمح الله ولا قدر إلى شهر الولائم والمسلسلات فرغ هذا الشهر من مضمونه ، وأصبح عادة من عوائدنا ، العبادات الآن عادات وتقاليد ، للثقافة ، والثقافة منتج أرضي ، وحي السماء منتج سماوي ، لابد من أن نلتفت إلى وحي السماء وأن نركل بأقدامنا سلبيات وحل الأرض .
المذيع :
شيخنا الحبيب كثير من الناس كان ينتظر أن يأتي شهر رمضان المبارك ، وأن يبدأ مع الله سبحانه وتعالى في عبادة وفي روحانية ، يخشع في صلاته ، يتدبر القرآن عند القراءة ، لكنه اليوم يصلي لكن دون هذا الشعور النفسي ، ما الذي يحول بين الإنسان وبين حلاوة الإيمان?
الفرق بين حقائق الإيمان وحلاوة الإيمان :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
البطولة بالمداومة ، أخي الكريم ذكرت كلمة مذهلة جداً ، عندنا حقائق الإيمان و حلاوة الإيمان ، قد تقتني كتاباً عن مرسيدس ، أرقى وأغلى سيارة ، كتاب مطبوع طباعة فائقة ، وملونة ، وصورة داخلية وخارجية ، وللمحرك ، وتمشي بغابات ، وبجبل عال ، هذه صورة ، فرق كبير بين أن تملك هذا الكتالوج وبين أن تملك هذه السيارة ، أن تملك الكتالوج هذه حقائق الإيمان، أما أن تملك السيارة فهي حلاوة الإيمان...
(( ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان ))
حلاوة الإيمان شيء لا يصدق ، إن لم تقل ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني أنا مسؤول عن كلامي ، هذه حلاوة الإيمان ، حينما تطبق منهج الله كاملاً بدقة بالغة ينشأ لك مع الله خط ساخن ، تذوق طعم القرب .
فـلو شاهدت عيناك من حسننــــــا الذي رأوه لما وليت عنــــا لغيرنــــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابـنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــا
ولو ذقت مـن طعــــــم المحـبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــــة لمــــت غريباً واشتياقــــــــــاً لقربنـــــــا
ولو لاح مـن أنوارنا لك لائـــــــــــــح تــركت جميع الكائنــات لأجلنــــــــــــا
فما حبنا سهل وكل مــــن ادعـــــى سهولته قلنا له قـــــــــــد جهلتنـــــــــا
أن تذوق طعم القرب شيء لا يصدق ، هذا متاح برمضان ، والبطولة أن تبقى بعد رمضان كما كنت قبل رمضان ، وإلا عدنا إلى ما كنا عليه ، والله الذي لا إله إلا هو ولا أبالغ كأنك ما صمت رمضان ، قالها شوقي أقسم بالله أنه ما فعلها : رمضان ولى هاتها يا ساقي ...
البطولة أن تتابع إيجابيات رمضان إلى نهاية العام ، أما يوم العيد فيفطر فمك فقط .
المذيع :
الله يفتح عليكم دكتور .
شيخنا الحبيب الآن وفي ظلّ حديثنا عن العشر الأواخر وعن العبادة الموجودة في هذه الأيام ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يعتزل هذه العبادة ؟ أي ما هي مبطلاته الروحانية إن جاز التعبير ؟ شيخنا ذكرتم قبل قليل مثلاً المسلسلات ما هي الأشياء التي يمكن أن تكون سبباً في فتور الهمة الإيمانية ؟
أسباب فتور الهمة الإيمانية :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
لا ، لا سيدي المسلسلات ليست فتور الهمة ، المسلسلات- أنا أتكلم كلاماً علمياً -خطيرة جداً لأنها تبدل القيم ، ترى بيتاً فخماً جداً ، أربعمئة وخمسون متراً ، ثريات رشانج ، الأثاث فاخر جداً ، زوجة جميلة ، سهرة مختلطة ، قسم منه فيه بار ، سيارتان أو ثلاث على الباب ، خدم ، حشم ، مكانة ، ديكورات ، وترى شيخ القرية أفقه ضيق جداً - بالإعلام طبعاً - بيته صغير ، زوجته وزنها غير معقول ، أولاده بالحارة ، عليه ديون ، عنده ازدواج شخصية ، له موقف داخلي وموقف خارجي ، هم ما فعلوا شيئاً ، الدين ما هاجموه أبداً ، لكن ماذا فعلوا ؟ أعطوك أبشع صورة عن الدين بالإعلام ، مثلاً يجب ألا نرمي القاذورات من الشرفة ، والله هذا أخلاق ، إذا رمتها محجبة لماذا محجبة ؟ هل هذه قليلة ؟ يوجد عدوان خارجي ، العالم أدرك أن الإسلام شيء خطير ، الإسلام ينتشر بسرعة مذهلة ، الإسلام دين وسطي ، متماسك ، متكامل ، جمع بين الدنيا والآخرة ، جمع بين الحاجات والقيم ، شيء مذهل ، والدين ينمو نمواً عجيباً ، دراسة أكاديمية غير إسلامية قالت : إن فرنسا الدين الأول فيها عام ألفين وخمسين هو الإسلام ، والإسلام إذا انتشر خفض الدخل الإباحي للصفر ، نحن التجارة أعلى ربح فيها خمسة عشر بالمئة ، أعلى ربح إذا كان هناك منافسة ، والصناعة خمسة وعشرون بالمئة ، أما الإباحيات ففيها ألف .
المذيع :
شيخنا الحبيب الآن في ظل الحظر الموجود وعدم قدرة الناس على الاعتكاف في المساجد وإن كان الحمد لله رب العالمين أتيحت صلاة التراويح جماعة مشياً على الأقدام ، ماذا تنصح العائلات الموجودة في بيوتها ، لنسميه اعتكافاً منزلياً كيف يحيوا العشر الأواخر ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله جنة المؤمن داره ، أنا مسموح عندي أن أقرأ من المصحف ، ضع مصحفاً كبيراً أمامك ، واقرأ كل ركعة صفحة ، تختم برمضان ثلاثمئة صفحة ، أنت مع كلام خالق الأكوان ، وأنت وزوجتك وأولادك وبناتك وأحفادك ، أنتم جماعة ، الجماعة ليست بالمكان بل بالعدد ، الزوجة وابنتك وصهرك وابنتك الثانية ، هذا كله جماعة ، وجنة المؤمن داره ، ونحن الله فرضه علينا ، أنا أعبد الله كما يريد لا كما أريد .
المذيع :
إذاً أنت تنصح بصلاة التراويح جماعة للعائلة في البيت لمن لا يستطيع الخروج ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
واقرأ بالمصحف إذا كنت لا تحفظ ، مسموح لك ، كبار العلماء ، مصحف له ستاند عال ، كل ركعة صفحة ، لا تمسك بيدك ، قف لتصلي ركعتين ، أول ركعة الصفحة الأولى والثانية الصفحة الثانية ، وراءك زوجتك وبناتك وأحفادك ، كلهم قاعدون ، هذه صلاة جماعة بالدرجة الأولى .
المذيع :
شيخنا الحبيب لمن لا زال بين يديه ذنب ولا زال يصر عليه في رمضان ، مثلاً من كان يستغيب لا زال في الغيبة ، من كان يتعامل في الربا ، من يشاهد ما حرم الله ، كيف يمكن أن يقلع عن هذا الذنب ويستثمر إيمانيات رمضان ؟
من توهم أنه لا يستطيع أن يفعل أمراً ما فهو في الحقيقة لا يريد أن يفعله :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
إذا إنسان توهم أنه لا يستطيع فهو يكذب القرآن ، ليس تكذيباً لفظياً بل تكذيباً عملياً ، الله قال :
﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا ﴾
لا يمكن للعليم الخبير الرحيم الحنان المنان أن يكلفك فوق طاقتك ، لا يوجد شيء إلا سمح لك فيه ، أودع فيك شهوات ، المرأة ، يوجد زواج ، المال ، يوجد عمل ، الرفعة ، تفوق بالعمل الصالح ، يرفع الله لك ذكرك ، هل يوجد إنسان رفع الله ذكره كالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ؟ أذاقه الفقر والغنى ، والقوة والضعف ، والصحة والمرض ، فلذلك هذا الدين دين خالق الأكوان ، يطبق في كل مكان وزمان ، أي إنسان توهم أنه لا يستطيع أن يفعل هذا الأمر هو في الحقيقة يكذب ، هو يريد ألا يفعله ، أي أمر يتوهم الإنسان أنه لا يستطيعه هو الأمر الذي لا يريد أن يفعله من الآخر .
المذيع :
كلام مهم الله يفتح عليكم دكتور ، شيخنا الحبيب معنا نصف دقيقة كيف يمكن لنا أن نوازن بين استمرار حياتنا ، طالب الجامعة في دراسته وامتحاناته ، الموظف في عمله ، الأم في بيتها ، وبين أن يكون لنا نصيب كبير من الوقت في العبادة في أواخر رمضان ؟
ضرورة تنظيم الوقت بين التزامات الإنسان وعباداته :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
تنظيم الوقت ، عندنا مصطلح جديد إدارة الوقت ، هناك وقت لله لا يمكن أن تقصر فيه ، وقت لأهلك ، لك زوجة بحاجة الى مدة ، أقل شيء ساعة في اليوم تقعد معها ، لك والدان يجب أن تزورهما كل يوم ، قال : عيد الأم ، أي بالسنة مرة ، نحم عندنا عيد أم كل يوم ، البطولات في الإسلام شيء لا يصدق .
المذيع :
أشكركم شيخنا لضيق الوقت ، الحل في تنظيم الوقت بين التزامات الإنسان وعباداته ، نختم حلقتنا بالدعاء .
الدكتور راتب :
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك ، اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اجعل صيامنا صياماً مقبولاً ، وصلاتنا صلاة مقبولة ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم ....
المذيع :
بارك الله بكم فضيلة العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي ، نصل إلى ختام حلقتنا كان حديثنا عن العشر الأواخر من رمضان ، نسأل الله أن يجعلنا من عباده الواصلين لأرحامهم، سبحانك اللهم وبحمدك ، نشهد أن لا إله إلا أنت ، نستغفرك ونتوب إليك .