وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة العنكبوت - تفسير الآيات 4 - 6 التكليف - امتحانات المؤمن - أنواع الصدق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الآية التالية أصلٌ في التكليف:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة العنكبوت.

في الدرس الماضي بحسب توفيق الله عزَّ وجل كان شرح الآية الكريمة: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ .. هذه الآية تُعَدُّ أيضاً من الآيات الدالة على التكليف، الإنسان هو المخلوق الأول، والمخلوق المُكَرَّم، والمخلوق المُكَلَّف، أول لأن كل السماوات والأرض سُخِّرَتْ من أجله..

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا  ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾ 

[  سورة البقرة ] 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾ 

[ سورة الجاثية ] 

والمخلوق المُكَرَّم:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾ 

[ سورة الإسراء ] 

أنت مخلوقٌ أول، ومخلوقٌ مكرم، ومخلوقٌ مُكَلَّف.

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ  إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾ 

[ سورة الأحزاب ] 

أنت مكلفٌ بهذه النفس البشرية أن تُنْقِذَهَا، وأن تعرفها بالله عزَّ وجل، وأن ترقيها، وأن تسعدها في الله عزَّ وجل في الدنيا والآخرة، والدليل:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ 

[  سورة الشمس  ] 

إذا جاء في القرآن الكريم كلمة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ هذا كلام خالق الكون، خالق الكون يقول لك:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)  ﴾ 

[ سورة المؤمنون  ] 

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾  لأنك إذا زَكَّيْتَها، وعرَّفتها بالله عزَ وجل فقد حققت أمانة التكليف، فقد حققت المهمة التي من أجلها خلقت، إذاً يفهم من هذه الآية أيضاً: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾  أنك مُكَلَّف، مكلفٌ بهذه النفس كي تُعَرِّفَهَا بالله عزَّ وجل.  

 

دعوة القرآن إلى التأمل في الكون وفي النفس:


لكن الله عزَّ وجل أعطاك مقومات التكليف، سخَّر لك الكون، وجعله دالاً على أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، الكون يمكن أن ترى أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى من خلال تأمُّلك في خلق السماوات والأرض. 

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾ 

[ سورة يونس ] 

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)﴾ 

[ سورة يوسف ] 

إذاً هناك دعوة..

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25)﴾ 

[  سورة عبس  ] 

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)﴾ 

[  سورة الطارق  ] 

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) ﴾ 

[ سورة الشمس  ] 

 

مقومات التكليف:

 

1 ـ الكون:

آياتٌ كثيرة جداً بَثَّها الله في الكون، وأشار إليها في القرآن، وجعل هذه الآيات دليلاً على عظمة الله عزَّ وجل، فإذا فكر الإنسان في الكون توصَّل من جولته التأمُّلِيَّة إلى معرفة الله عزَّ وجل، أعطاك الكون.  

2 ـ العقل:

أعطاك العقل، العقل كما يقرر العلماء هو ميزةٌ كبيرةٌ جداً منحها الله للإنسان، فبالعقل تتعرف إلى الله عزَّ وجل، ولكن العقل ميزان كما قلت، والفطرة ميزان، وجعل الله الشرع ميزاناً على الميزان، فما دام العقل يعمل وفق أوامر الله ونواهيه، إذا توصَّل العقل إلى النتائج التي قررتها الشريعة، فهذا التفكير صحيحٌ ومنطقي، أما إذا جَنَحَ العقل، وابتعد عن الذي جاء به القرآن الكريم فهذا عقلٌ ضالٌ وعقلٌ مغرور.. 

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾ 

[  سورة المدثر  ] 

 إذاً من مقوِّمات التكليف الكون، من مقوِّمات التكليف العقل.  

3 ـ الفطرة: 

من مقوِّمات التكليف الفطرة، منحك الله فطرةً عالية، ترتاح إذا فعلت الخير، وتشقى إذا فعلت الشر، ترتاح إذا آمنت بالله، وتشقى إذا كفرت به، ترتاح إذا سرت على منهج الله وتشقى إذا حدت عنه، أول مقوم الكون، والعقل، والفطرة.  

4 ـ الاختيار:

وأعطاك حرية الكسب. 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾ 

[ سورة البقرة ] 

انبعاثك إلى العمل هذا باختيارك، أما الفعل فهو فعلُ الله عزَّ وجل، والعلماء يقولون: إن الأشياء لم يودِعِ الله فيها قوةً ذاتية، ولكن الله عزَّ وجل جعل فعله عندها لا بها، أي عند مشيئته، لا بقوةٍ مودَعَةٍ في الأشياء. إذاً: أعطاك الله حُرِّيَةَ الكسب، وأودع الله فيك الشهوات لترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، الكون، والعقل، والفطرة، وحرية الكسب.  

5 ـ الشهوة:

الشهوة إذا فعلت شيئاً، الشهوة هدفها تثمين العمل، إذا تركت شيئاً لله فهذا الشيء الذي تركته له قيمة عندك، ولكنك آثرت رضاء الله على شهوة النفس، لذلك: 

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ 

[  سورة النازعات  ] 

هذه مقومات التكليف.


  امتحان كل إنسان في الدنيا ليكشف على حقيقته :


إذا استخدم الإنسان هذه المقومات، وتعرف إلى الله عزَّ وجل معنى ذلك أنه لا بدَّ من ابتلاء، لا بدَّ من حساب، لا بدَّ من سؤال. 

قلت لكم في الدرس الماضي: إن جامعة عظيمة تُنشأ بقاعاتها، بمدرجاتها، بمكتبتها، بحدائقها، بملاعبها، بمطعمها، بمساكن الطلاب فيها، بمختبراتها، أيعقل أن يترك الطلاب بلا امتحان؟! 

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾ 

[ سورة القيامة  ] 

هكذا بلا سؤال؟ آيات كثيرة.. 

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾ 

[  سورة المؤمنون  ] 

لذلك هذه الآية تشير إشارةً دقيقةً إلى أن الإنسان مكلَّف، والدليل مبتلى، والدليل يمتحن.. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾  أي هذا الطالب في الجامعة أيكتفي منه أن يقول: درست هذه المادة، وأتقنتها، وينجح؟

مثلاً جامعة كلفت مُنْشِئيها ألوف الملايين، وقبلنا فيها الطلاب، أيعقل أن يقبل من الطالب في الجامعة أن يقول: أنا درست هذه المادة، وتمكَّنت منها فيعطى الشهادة؟ أيقال له: أنت نجحت لأنك قلت: إنك درست هذه المادة، شيء مضحك، أتفعلها جامعة؟ أن يقول الطالب بلسانه: لقد درست هذه المادة جيداً، إذاً تعال خذ مئة على مئة، وانتهى الأمر، لابدَّ من امتحان، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾  من دون أن يمتحنوا، من دون أن يُبْتَلوا، من دون أن يُتَحقق من إيمانهم، من دون أن يُتَحقق من صدقهم في إيمانهم، من دون أن يُتَحقق من صبرهم، من معرفتهم، كل ضعفٍ في الإيمان يظهر في امتحانٍ معين، فمن ادّعى حب الله عزَّ وجل. 

تعصي الإله وأنت تظهر حبه          هذا لعمري في المقال بديع

لو كـان حبك صادقاً لأطعـتـــه          إنّ المحب لمن يحب يطيـع

* * *

 

كل دعوى لها ما ينقضها:


دعوى حُبِّ الله عزّ وجل تنقضها المعصية، دعوى الشوق إلى لقاء الله عزَّ وجل ينقضها كراهية الموت، دعوى أن هذا الإنسان لا تأخذه في الله لومة لائم ينقضها أن ينهار أمام ضغطٍ خفيف، دعوى أن يصبر الإنسان على أمر الله ينقضه أن ينهار أمام إغراءٍ طفيف، فالذي ينهار أمام إغراء، أو أمام ضغط، أو تستحوذ عليه شهوته، أو ينطلق إلى غاياته الدنيوية ضارباً عرض الطريق بأوامر الله عزَّ وجل، هذا امتحن ورسب، إذاً نحن في امتحان، ما دام القلب ينبض فأنت في امتحان، وكما قلت في الدرس الماضي: لك أن تقول ما شئت، ولكن الله عزَّ وجل سوف يضعك في ظروفٍ دقيقةٍ بالغة التعقيد، هذا الذي تدَّعيه لابدَّ من أن يكشف على حقيقته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.. 

وكلٌ يدَّعي وصلاً بليلى                وليلى لا تقرُّ لهـم بذاكا

* * *

 

عدي بن حاتم في ضيافة النبي عليه الصلاة والسلام: 


شيء ثانٍ، ذات مرةٍ سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام جاءه أحد ملوك الجزيرة، اسمه عدي بن حاتم، دخل عليه فقال عليه الصلاة والسلام: "من الرجل ؟"قال: "عدي بن حاتم"، قال: "فرحَّبَ بي، وأخذني معه إلى البيت"، وهذا من التكريم، في الطريق استوقفته امرأةٌ ضعيفةٌ مسنة تكلِّمه في حاجتها فوقف معها طويلاً، فقال عدي بن حاتم: "والله ما هذا بملك"، فلما دخل البيت، قال: قذف إليّ بوسادةٍ من أدمٍ محشوةً ليفاً، وقال: "اجلس عليها"، قلت: "بل أنت"، قال: "بل أنت"، قال: "فجلست عليها، وجلس هو على الأرض"..  هذه قصة تعرفونها.. قال: "إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسياً ؟"، قال: "بلى"، قال: "أو لم تَسِرْ في قومك بالمرباع ؟"، قال: "بلى"، قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك"، قال: "فعلمت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل"- أي ما كنا نعتقد أنه يجهل بها- قال: "إيه يا عدي بن حاتم، لعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى ما ترى من حاجتهم.."أي من فقر أصحابه، إذاً الفقر ابتلاء، أحياناً يكون المرء فقيراً ومستقيماً، ويرى إنساناً غنياً، منحرفاً يزداد انحرافاً، ويزداد غنىً، هو يزداد تواضعاً لله عزَّ وجل، ويزداد استقامةً على أمره، ويزداد فقراً، هذه فتنة.  

 

لابدّ من الامتحان وبعد الصبر الفرج:


لا تنسوا أن أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله في معركة الخندق، ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾ 

[  سورة الأحزاب ] 

أي بعض مَنْ عاصر النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول أحد الأشخاص: أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجاته!! إذاً: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ، لكن..

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ 

[  سورة الأحزاب  ] 

إذاً: أن تكون في ضائقةٍ من العيش، وأنت مستقيمٌ على أمر الله، وأن ترى إنساناً في بحبوحة، وهو يصول ويجول، ويطغى، ويبغي، تقول: هذا امتحان، هل أنت واثقٌ من عقيدتك؟ هل أنت واثقٌ من أن الرزق بيد الله عزَّ وجل؟ هل أنت واثقٌ من أن الأمر بيد الله؟ هل أنت واثقٌ من أن الدنيا لا قيمة لها؟ لا تعدل عند الله جناح بعوضة؟ أم ماذا؟ ادّعِ ما شئت هذا امتحان، أن تكون أنت في ضائقة على استقامتك، والآخرون في بحبوحة على انحرافهم، هذا أحد أنواع الامتحان. 

أحياناً يسأل المدرس طالباً سؤالاً، يأتي الطالب بالجواب صحيحاً، فيقول له المدرس: غلط، ليمتحن مدى ثقته بنفسه، فالطالب الضعيف يقول: غلط، يقف، ويتخلى عن صوابه مباشرةً، أما الطالب المتمكن فيقول: لا، هذا هو الصواب، فأحياناً تمتحن فيما إذا كنت مؤمناً أو غير مؤمن، وأحياناً تمتحن فيما إذا كنت واثقاً من عقيدتك، ما الذي ينجيك يوم القيامة؟ أن تكون على أمر الله عزَّ وجل، ما أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان في الأرض؟ أن يكون في رضوان الله، ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ﴾  إذا شعرت أن الله راضٍ عنك، وأن الدنيا قد تفلَّتت من يديك، سيدنا الصديق يوصف بأنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قَط، فإذا أطاع الإنسان الله ورسوله يجب أن يشعر بالفوز الكبير. 

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾ 

[ سورة الأحزاب  ] 

قد تقرأ الآية، وقد تفهمها، ولكن لست في مستواها، إن شعرت بالحرمان، وأنت مطيعٌ لله ورسوله فأنت لست في مستوى الآية، لست واثقاً من أن طاعة الله هي كل شيء، لست واثقاً من أن الإيمان بالله هو كل شيء، فهذه فتنة.  


عودة إلى عدي بن حاتم:


قال له: "لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك في دخولٍ من هذا الدين ما ترى من حاجتهم - ترى أصحابي فقراء، ضعفاء- وأيم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوِّهم"، هذا امتحان آخر، أنك إذا عرفت الله عزَّ وجل، وسرت على أمره فالجميع يعادونك، إذا كان الإنسان منحرفاً فلا يرضيه أن يستقيم قريبه، يتمنى عليه أن يعود كما كان، أن يكون على شاكلته، فحينما يتجه الشاب إلى الله عزَّ وجل بالتوبة النصوح يرى معارضةً ممن حوله، من أقرب الناس إليه، حتى ممن في البيت، هذا امتحان، حينما تأتيك المضايقة لأنك عرفت الله عزَّ وجل، واستقمت على أمره، وتثبت، فهذا ابتلاءٌ آخر، ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾  إنسان يؤمن بالله عزّ وجل، ويستقيم على أمره، يلقى معارضة شديدة ممن حوله فيتخلى عن اتجاِهِه، يقول لك: أفضل من دون دين، هذا امتُحِن فرسب، إذاً إيمانه ضعيف، وإنسان آخر يتجه إلى الله ورسوله، ويستقيم على أمره، ولا تزيده المعارضة إلا تَمَسُّكَاً بالله وبرسوله، امتُحِن فنجح. 

إذاً من السهل جداً أن تقول: أنا مسلم، أنا مؤمن، أنا لن أعصي الله عزَّ وجل، ثم لضغطٍ خفيف تتخلَّى عن طاعتك، لإغراءٌ طفيف تتخلى عن طاعتك، إذاً أنت راسب.. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ ، إذاً كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم"،  أي أنت مع الحق لا مع الأكثرية..

﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾ 

[ سورة يونس ] 

سيدنا علي يقول: "نحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال"، الأصل هو الحق، فلو أن أناساً كثيرين كانوا على غير الحق فكثرتهم لا تأبه لها أنت، وإذا كانت القِلَّةُ على الحق فأنت مع الحق. 

 

الشعور بالغربة امتحان فتنبَّه:


هناك امتحان آخر، أن تشعر بالغربة، أي إذا عرفت الله عزَّ وجل، إذا استقمت على أمره، هذا الطريق في البيع والشراء حرام، ولكنه شائعٌ بين التُجَّار تصبح كأنك غريب، إذا أردت أن تغض بصرك عن محارم الله تشعر بالغُربة، الكل ينظر، وينظر بنَهَم، وأنت تستحي أن تنظر إلى امرأةٍ أجنبيةٍ عنك، تحس بالغربة، إذا تحرَّجت عن أخذ مبلغٍ من طريق مشبوه اتهمت بالغباء، وتحس بالغربة، هذا امتحان أيضاً. 

أحياناً الامتحان لمعرفة مقدار المعلومات، وأحياناً الامتحان لمعرفة ثقتك بهذه المعلومات، تأتي بعض المضايقات، قال له: لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وأيم الله ليوشك أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى أن المُلك والسلطان في غيرهم.. قد يكون الصحابة مستضعفين ضعافاً لا شأن لهم، هناك قوى كبيرة جداً تعاديهم في مكة، وفي أطراف الجزيرة، هم ضعاف هاجروا، تركوا بلدهم إلى الحبشة وإلى المدينة، أنت تحب القوة، إذاً أنت لست مع الحق مع القوة، إذاً انحزت إلى القوي المُبطل، وتركت المُحِقَّ الضعيف، فأنت لست مع الحق، أنت مع القوة، هذا امتحان، فأن تقول كلمةً، وتعدّ هذه الكلمة صحيحة بلا امتحان، هذا مستحيل. 

أعيد إلى أذهانكم هذا المثال، جامعة ضخمة جداً، قال أحد الطلاب: إنني درست هذه المادة دراسة جيدة، أي مستحيل أن يقبل هذا الكلام، وأن توضع لك علامة مئة بالمئة؛ إلا أن تقدِّم امتحاناً، هذا الامتحان يثبت صواب كلامك أو خطأك، قال له: "وايم الله ليوشكن أن تسمع بالحصون البابلية مفتحةً للعرب"، أن تسمع بهذه الحصون، وقد فتحها العرب، لقد عاش عدي بن حاتم حتى رأى كل ذلك. 

 

كن مع الحق دائماً وفي كل شيء:


كأن النبي عليه الصلاة والسلام عرَّفنا من هذه القصة، وذاك التوجيه أن هناك امتحاناتٍ، فإذا أردت أن تكون مع الحق قد يكون الحق ضعيفاً، قد يكون أصحاب الحق فقراء ضعفاء، قد يكون هناك عِدَاءٌ كبير لأهل الحق، أنت مع من؟ أنت مع الحق. 

والشيء بالشيء يذكر، يروى أن أبا جعفر المنصور كان خليفةً عباسياً، وكان عنده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وعنده قاضٍ من ألَدِّ أعداء أبي حنيفة، فقال هذا القاضي لأبي حنيفة في حضرة المنصور: "يا أبا حنيفة، إذا أمرني الخليفة بقتل امرئٍ أأقتله أم أَتَرَيَّث فلعله مظلوم؟ سؤال مُحْرِج، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: "الخليفة على الحق أم على الباطل؟ ردّ له الكرة، قال: "هو على الحق"، قال: "كُن مع الحق"، فلما خَرَجَ قال: "أراد أن يُقَيِّدَنِي فربطته". 

أردت من هذه القصة كُن مع الحق، يا ترى أنت مع الحق أم مع القوي؟ مع الحق أم مع الشهوة؟ أحياناً تُملي عليك شهوتك أن تدافع عن فكرة الاختلاط مثلاً، أنت لست مع الحق، أنت مع الشهوة، قد تُملي عليك مصلحتك المادية أن تدافع عن طريقةٍ في التعامل في البيع والشراء فيها شبهة الربا، أنت مع مصلحتك لا مع الحق، فكلما ادَّعيْتَ أنك مع الحق يأتيك ظرفٌ مُعَقَّد، فإذا بك تكشف على حقيقتك، فلذلك ليتعامل الإنسان مع الله عزَّ وجل بصدقٍ وإخلاص. 

 

حياة الإنسان منذ سِنِّ التكليف وحتى نهاية الحياة سلسلة متصلة من الامتحانات:


أحياناً ترى بلداً أجنبياً في غاية الرفاه، في غاية الطمأنينة، في غاية الأمن والوداعة، كل شيءٍ فيه على ما يرام، وهذا البلد يُشاقق الله ورسوله، أي الدين قد أُلْغِي من حياتهم كُلِّياً، الشهوات مستعرة، الفتن يقظة، هذا امتحان، ضعاف الإيمان يزلزلون، وتجدهم يقولون: انظر تجد الإنسان محترماً عندهم، الحاجات مؤمَنة، كل شيء ميسور، وهم يعصون الله كل يوم، في طُرُقَاتهم، وفي أنديتهم، وفي مسابحهم، أي المعاصي على قدمٍ وساق، ومع ذلك هذا البلد قوي جداً، وفيه رفاه، هذا امتحان، هذا الامتحان معناه أنك لم تقرأ قوله تعالى: 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾ 

[ سورة الأنعام  ] 

ليس باباً، أبواب، ليس شيئاً واحداً، كل شيء.. ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ ، هذا كذلك امتحان، أي يجب أن تعتقد أن حياتك منذ سِنِّ التكليف وحتى نهاية الحياة سلسلةٌ متصلة من الامتحانات.  

 

الامتحان يشمل جميع النواحي الحياة:


كما قلت في الدرس الماضي: زواجك امتحان، وعملك امتحان، والمرض امتحان، والصحة امتحان، والفراغ امتحان، والشُغل امتحان، هناك شغل ينسيك طاعة الله عزَّ وجل، امتحنت فرسبت، وهناك فراغ يُنسيك الله عزَّ وجل امتحنت فرسبت، والزوجة امتحان قد تطغى من أجلها، وقد ترضيها بمعصية الله عزَّ وجل، قبل الزواج ممتاز، بعد الزواج صار لديه ضعف، قبل التجارة ممتاز، لما كان لك دخل محدود كنت ورعاً جداً، بعد مزاولة التجارة صرت تقول: لا نقدر عندنا أولاد، هكذا السوق كله، ماذا نفعل؟ زلت قدمه، التجارة امتحان، الوظيفة امتحان، فلذلك الامتحان مستمر، حياتنا سلسلةٌ متصلة من الامتحانات. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ ، كلامك موقوف، والوقائع تمتحنه، وأنت مكلف، وما دمت مكلفاً فلابد من امتحان، أنت طالب في مدرسة لابدَّ من الامتحان، والدليل الامتحان سُنَّة، الابتلاء سنة، الفتنة سنة، من سنن الله عزَّ وجل..﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ .

﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ .. أي ليتحقق علمه، الله عزَّ وجل يَعْلَم، ولكن حينما تفعل يتحقق علمه ويؤاخذك على عملك لا على علمه فيك، هذه من رحمة الله بنا، أنه يؤاخذنا على أفعالنا لا على علم الله بنا، هو يعلم؛ ولكن حينما تفعل يتحقق علمه.. ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ .

 

أنواع الصدق:


قلت لكم في الدرس الماضي: إن الصدق نوعان، مطابقة الأقوال للأفعال، أو مطابقة الأفعال للأقوال، الأول معروف، فلان صادق، فلان كذاب. 

الثاني مهم جداً في الطريق إلى الله عزَّ وجل، أي قد تأتي الدعوى كبيرة جداً، والعمل قليل، نقول: فلان صِدْقُهُ قليل، يدّعي أنه محبٌ لله، كلام كبير، فإذا وضعته على المِحَك جاء حبه قليلاً، ضعيفاً، يدّعي أنه ورع فإذا تحاكك بالدرهم والدينار بدا ورعه ضعيفاً، قليلاً، فهذا الصدق صدق الأفعال، أن تأتي الأفعال مطابقةً للأقوال.. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾ 

[ سورة التوبة  ] 

الصادقون هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه كما قال اله عزَّ وجل. 

 

معاني قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا: 


1 ـ ما من إنسان مهما كَبُر وما من قوةٍ مهما عظمت إلا وهي في قبضة الله عزَّ وجل:

الآية الثالثة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ، ربنا عزَّ وجل قال: ﴿أَمْ حَسِبَ﴾ .. معنى حسب أي ظَنَّ، الذين يعملون السيئات، أي أشمل كلمة تشير إلى من يعصي الله عزَّ وجل الذين يعملون السيئات ؛ سواء أكانوا مشركين، غير مشركين، موَحِّدين، الذين يعملون السيئات.. ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾  .. ما معنى ذلك؟ أي إذا نسبت الفعل للإنسان، تظن أن هذا الذي يفعل كذا وكذا هو يفعل هذا باختياره، ويفعله بقوَّته، خالق أفعاله، وكأنه سَبَقَ الله عزَّ وجل، وكأن الله لا علاقة له بهذا الفِعل، هذا أحد أنواع الإشراك، يجب أن تعلم علم اليقين أنه لا يقع شيءٌ في الكون إلا بقُدرة الله، وبعلم الله، فإذا نسبت الفعل إلى الإنسان، إذا عَزَوْتَ الفعل إلى الإنسان تتوهم أن هذا الذي يفعل كذا وكذا وكذا، هذا الإنسان خالق فعله، كأنه سبق الله عزَّ وجل، وكأن الله لا علاقة له به، مع أن الله عزَّ وجل يقول: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) ﴾ 

[ سورة الزخرف  ] 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾ 

[ سورة الفتح ] 

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾ 

[ سورة الأنفال ] 

أكثر من أربعين أو خمسين آية تؤكِّد أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء..

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ  وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾ 

[  سورة هود ] 

لذلك كلمة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾  أي هؤلاء الذين يعملون السيئات لا يعملونها إلا بقدرة الله عزَّ وجل وعِلمه، وضمن خِطَّةِ الله عزَّ وجل، هم لم يسبقوا، فعلوها بإذن الله وبحكمةٍ بالغة، والظالم سوط الله ينتقم به ثم ينتقم منه..

﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾ 

[ سورة الأنعام ] 

أنت إذا شعرت أن الفعل بيد الله ترتاح نفسك، ويطمئن قلبك، ويدخل على قلبك الأمن والدعَة، أما إذا اعتقدت أن الإنسان خالق فعله، هذا الإنسان قد يفعل شيئاً ما أراده الله، يجب أن تعلم علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله عزَّ وجل، لماذا أراده؟ لأنه وقع، لأنه لو لم يرده الله عزَّ وجل ما وقع، وكل شيءٍ أراده الله وقع، كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلِّقَةٌ بالحكمة، وأن حكمته متعلقةٌ بالخير المطلق، هذا هو التوحيد. 

الإنسان ينبعث إلى أن يفعل كذا، ينبَعِث، يمده الله بالقوة، القوة فعلُ الله عزَّ وجل، وانبعاثه إلى هذا الشيء هو كسبه، هذا ما هم عليه أهل السنَّة والجماعة.. ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾  هذا المعنى الأول، أي أنَّه ما من إنسان مهما كَبُر، ما من قوةٍ مهما عظمت، إلا وهي في قبضة الله عزَّ وجل، فإذا تحرَّكت فبعلمه، وإذا تحرَّكت فبقدرته، بقدرته وبعلمه، إذاً هذه الجهة حينما فعلت، أو تركت، أو اقتحمت، أو اجتاحت، أو أعطت، أو منعت، أو وصلت، أو قطعت، هذه الجهة تفعل هذا بعلم الله ولم تفعله بمبادرةٍ منها، أي أنها ما سبقت بهذا أمر الله عزَّ وجل، هذا المعنى الأول ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ 

2 ـ توهُم من عمل السيئات ونجا من عقاب الله أنه سبق الله عز وجل:

المعنى الثاني:  هؤلاء الذين يعملون السيئات يتوهَّمون أحياناً أنهم فعلوا السيئات، ونجوا من عقاب الله عزَّ وجل، سبقوا الله عزَّ وجل، يقول لك: ليس عندي أي خللٍ، ماله حرام، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، والله سبحانه وتعالى يُرخي له الحبل، إلى أن يتوهَّم أن الله غافلٌ عنه، أو أن الله لن يحاسبه، أو أنه نجا من عقاب الله، فيتوهم خاطئاً أنه سبق الله عزَّ وجل. 

المعنى الثاني: أنه فعل المعاصي، واغتصب أموال الناس، وظلمهم، وهو في أشد حالات القوة، يقول لك: أين الله عزَّ وجل؟ أنا فعلت ما شئت ولم يحدث لي شيء!! الله عزَّ وجل قال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ ، قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)﴾ 

[ سورة النمل ] 

هذه الفاء للترتيب على التعقيب، وقال:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾ 

[ سورة الأنعام ] 

مرة بالفاء ومرة بثم، بالفاء إذا جاء العِقاب تالياً للذنب، ممكن، حلف يميناً غموساً في المحكمة، بعد ربع ساعة دُهِس، ممكن، وأحياناً يفعل السيئات، ويمضي عليه الأسبوع تلو الأسبوع، والعام تلو العام، وهو في أتمّ الصحة والقوة، يقول لك: لم يحدث لي شيء، إنك في قبضة الله عزَّ وجل، الحبل مُرخى، هذا استدارج من الله عزَّ وجل، أنت ما سبقت الله عزَّ وجل، في لحظةٍ واحدة يَشُدُّ الحبل فإذا أنت في العقاب والعذاب الأليم. 

إذا شاهد الإنسان جهة أو مخلوقاً يفعل كل ما يشتهي من المعاصي، وهو يزداد صحةً وقوةً وغنىً ووجاهةً، هذا فتنة له.

 

الحكم السيّئ يعود على صاحبه بالوبال والبوار:


 ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ .. هذا حكمٌ سيئ، هذا حُكْمٌ خاطئ، هذا حكمٌ غير صحيح، أن تتوهم أنك إذا فعلت السيئات سبقت الله عزَّ وجل، إما أنك نجوت من عقابه، أو فعلت شيئاً بقوتك الذاتية كما تتوهم، مع أن القوة هي لله عزَّ وجل. 

﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ .. أي هذا الحكم سوف يسوءهم، بمعنى أنه إذا توهَّم الإنسان أنه يفعل ما يشتهي، ولا يعاقب يزداد طغياناً، الإنسان عندما يتيقن أنك إذا فعلت الشر سوف تحاسب، هذه حالة طيبة، العمل سيِّئ، لكن هناك رجوع إلى الله، هناك ندم، هناك توبة، هناك استغفار، هناك إقلاع عن الذنب، ما دُمت تعتقد أنك إذا فعلت الذنب لابدَّ من أن تعاقب فهذه الحالة حالة جيدة، معنى ذلك أن هذا الحال، أو هذا الشعور، أو هذا اليقين، أو هذا التصوُّر، أو تلك العقيدة، لابدَّ من أن تحملك على التوبة، أما إذا توهَّمت أنك تفعل السيئات، وتنجو من عقاب الله عزَّ جل، قال: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾  هذا حكمٌ سيئٌ جداً سوف يعود عليهم بالهلاك والبوار. 

ألم أقل لكم مرة: إن رجلاً سمع من شيخه أن لكل سيئةٍ عِقاباً، فعل شيئاً مخالفاً للشريعة، فتصور أن الله عزَّ وجل سوف يعاقبه، هو ينتظر؛ ينتظر مرضاً، ينتظر حادثاً، ينتظر مشكلة في البيت، ينتظر مشكلة في عمله، بقي ينتظر أسبوعين أو ثلاثة إلى أن ناجى ربه فقال: يا رب، لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ قال: وقع في قلبه أنْ يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟.

 

أرقى عقيدة تُريح الإنسان في الحياة الدنيا وفي الآخرة الإيمان بأنه لا إله إلا الله:


الإنسان أحياناً إذا كان تعامله مع الله صحيحاً، يقول لك: أنا فهمت على ربي، أكرمه ففهم سرّ الإكرام، ضَيَّقَ عليه ففهم سر التضييق، ألم يقل الإمام الشعراني: "أنا أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي". أحياناً الإنسان يضجر من زوجته، أحياناً تكون هذه الزوجة مسخَّرة من قِبل الله عزَّ وجل لتذكير الزوج، فإذا بلغ الإنسان مرتبةً بدأ يفهم على الله، يشعر أن هذا الشيء ساقه الله له لحكمةٍ، وهذا الشيء ضيَّق الله به عليه لحكمةٍ، إذا بدأ يشعر أن أفعال الله كلها غايةٌ في الحكمة والرحمة، والعدالة واللطف، عندئذٍ يرتاح لقضاء الله وقدره، لذلك ورد: "الإيمان بالقدر يُذهب الهم والحزن".. مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ..عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. )) 

[ أحمد : الهيثمي : مجمع الزوائد : رجاله ثقات  ] 

وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، أرقى عقيدة تُريحك في الحياة الدنيا وفي الآخرة أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله، لا رافع إلا الله، لا خافض إلا الله، لا مُعطي، لا مانع، لا رازق، لا باسط، لا قابض، لا مذل، لا معز، أي مَن جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، واعمل لوجهٍ واحد يكفك الوجوه كلها، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد. 

 

تلخيص لما سبق: 


إذاً: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾  لهذه الآية معنيان؛ أول شيء: يظنون أنهم خالقو أفعالهم؟ يظنون أنهم مستقلون بأفعالهم عن الله عزَّ وجل؟ وكأنهم سبقوا الله عزَّ وجل، هذا هو الشرك بالله، من يعتقد هذا فهو مشرك، الإنسان لا يملك إلا الكسب..﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ، الكسب أن ينبعث إلى الشيء فقط، أما القُدرة التي تحقق هذا الشيء فهي قدرة الله عزَّ وجل، والأمر كله بيد الله، هذا المعنى الأول. 

المعنى الثاني: أي أنهم فعلوا السيئات، ونجوا من عقاب رب الأرض والسماوات، وكأنهم سبقوا الله أو تحدوا الله عزَّ وجل، قال: لا، قد أُعَجِّل لكم العقاب وقد أُؤخر، لهذا قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾ 

[  سورة إبراهيم  ] 

 

الله تعالى سميع للدعاء عليم بالنوايا:


﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ .. بعض العلماء فسروا لقاء الله بالجنة، من كان يرجو الجنة فإن الجنة آتيةٌ لا ريب، وسوف تلوح للإنسان بعد الموت.. ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾  .. أي سميعٌ لدعائكم، عليمٌ بنواياكم. 

 

الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم:


الله عزَّ وجل يعبِّر عن المستقبل بالفعل الماضي، علماء اللغة يقولون: من باب تحقق الوقوع، أي وعد الله حق، إذا وعد الله المؤمن بالجنة فالجنة حق، حتى إن بعضهم حينما قال: 

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾ 

[ سورة الفيل  ] 

ينشأ سؤال هنا: أنا والله لم أر، هذه حادثة قديمة جداً، قال: إن الخبر إذا ورد في القرآن كأنه شيءٌ مشاهدٌ لصدقه، ما دام الخبر جاء في القرآن فكأنك تشاهده، ما دام الوعد في القرآن فكأنه وقع.

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾ 

[ سورة النساء ] 

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ  فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ 

[  سورة التوبة ] 

 

الإنسان وقتٌ:


لذلك: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾  .. الحقيقة الزمن يمر سِرَاعاً، الإنسان كما تعرفون زمن، الإنسان وقت، الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه، والذي مضى من حياته أربعون عاماً، يسأل نفسه هذا السؤال: كيف مضت هذه الأعوام الأربعون؟ كلمح البصر، وهكذا تمضي الحياة- يقول لك باللغة الدارجة: مصابح مماسي ترى نفسك بين يدي الله عز وجل- وكل شيء مضى وسوف تحاسب عليه.

الحقيقة أن الإنسان لابدَّ من أن يعرف الحقيقة، ولكن عند الموت، أما البطل فهو الذي يعرفها قبل فوات الأوان، ألم يقل فرعون: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ ، وقال تعالى:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾ 

[ سورة ق ] 

الحقيقة لا بدَّ من أن تُعرف، ولكن تعرف عند الموت، أما المؤمن فيعرفها قبل الموت كي يستثمرها، ويستفيد منها. إذاً: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾  لكن ربنا عزَّ وجل له حكمة، له حكمة يفتح عليك أو لا يفتح، يتجلَّى على قلبك أو لا يتجلَّى، يُلهمك هذا الطريق أو ذاك الطريق، ما دمت قد سلّمت أمرك لله عزَّ وجل فالله ربك، يتولى نقلك من حال إلى حال، من مقام إلى مقام، من منزلة إلى منزلة، من مستوى إلى مستوى، من عمل إلى عمل، البطولة أن تكون ذا نوايا طيِّبة، وعلى الله الباقي.

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾ 

[  سورة الزمر  ] 

 

تناقض التكاليف مع الطباع:


﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ .. الحقيقة لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل جعل التكاليف متناقضةً مع الطِباع، هذا هو الجهاد، التكليف يتناقض مع الطَبع، طبعك يدعوك إلى النوم، وأنت مُكَلَّفٌ بصلاة الفجر، طبعك يدعوك إلى أن تنظر إلى المرأة، والتكليف يأمرك أن تغض بصرك عنها، طبعك يأمرك أن تقبض المال، والتكليف أن تنفقه، طبعك يدعوك أن تتحدث عن الناس كي تروي غليلك، والتكليف يأمرك ألا تغتاب أحداً، فالتكليف يأتي دائماً مناقضاً للطبع كي نرقى إلى الله عزَّ وجل، لو جاء التكليف موافقاً للطبع فلا يوجد رقي إلى الله.. ماذا فعلت؟ لو أن إنساناً ذهب لينام، كان متعباً ونام، ماذا يشعر؟ أنه عمل طاعة كبيرة جداً؟ فتح البلاد؟ ضحى؟ أخي أنا ضحيت ونمت؟ نمت فارتحت، إذا جاء التكليف موافقاً للطبع فلن ترقى أنت إلى الله عزَّ وجل، لو أن الله عزَّ وجل ما أودع فيك الشهوات لا ترقى إلى الله، ماذا فعلت إذا غضضت بصرك عن امرأةٍ وأنت لا تحب أن ترى امرأةٌ ؟ لكن لأن الله أودع في قلبك حبّ النساء، وحبّ المال، وحبّ العلو في الأرض، لولا الشهوات لا تَرْقَى، إذاً التكاليف جاءت كي ترقى إلى الله، اسمه تكليف، شيء مُكْلِف، الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وغض البصر، وذكر الله عزَّ وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنفاق المال، هذه كلها تكاليف. 

أن تحب الأمُّ ابنها هذا طبع، لذلك لم تؤمر بذلك، أما أن يبَرَّ الابن أمه فهذا تكليف، لذلك أمر به: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾  الشيء الذي هو طبع لا يوجد فيه أمر ولا نهي، طبيعي جداً، الإنسان يفعله بلا شعور أنه أطاع الله عزَّ وجل، أنت جائع فأكلت، ماذا فعلت؟ ما فعلت شيئاً، هكذا دعتك فطرتك، دعتك جِبِلَّتُك، دعتك بُنيتك، أما إذا فعلت شيئاً خلاف ما أنت عليه من طبع عندها ترقى إلى الله عزَّ وجل، لا نرقى إلى الله إلا بمخالفة الطبع، والدليل:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ 

[  سورة النازعات  ] 

 

مِن أنواع الجهاد فهمُ القرآن وتعلُّمه وتعليمه:


﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ .. عندنا آية قرآنية يقول الله عزَّ وجل فيها:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾ 

[ سورة الفرقان ] 

على من تعود الهاء؟ على القرآن..﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾  إذاً فَهم القرآن، وتعليم القرآن، وتطبيق القرآن نوعٌ من الجهاد.. ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾  بتلاوته، وفهمه، وتعليمه وتطبيقه، الجهاد أنواع، هناك جهاد النفس والهوى، وهناك جهاد الكفَّار، وهناك جهاد التعليم والتَعَلُّم.

 

من جاهد فإنما يجاهد لنفسه لأن الله غني عن الناس:


﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾  .. الله أطلقها، وفي القاعدة الأصولية المطلق على إطلاقه.. ﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾   إما بماله، أو بوقته، أو بعقله، أو بعضلاته.. ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾  إذا تجشَّم الإنسان فرضاً المشاق، وركب السيارات، وأودع بالمصرف مبلغاً، ليس لنا علاقة أهذا حلال أم حرام؟ ولكنَّا نضرب مثلاً، ماذا فعل؟ أودع في هذه الجهة مبلغاً للاستثمار، ثم تجده يقول: أخي أنا دفعت، هذه لك آخذ بها إيصالاً، والربح في آخر العام ثلاثون بالمئة، أتمنّ علينا أيضاً؟ أخي ركبت سيارات، ووصلت عنده بعد ساعة، وانتظرت، ودفعت المبلغ، وقبضت إيصالاً، ماذا فعلت؟ أنت هذه المشقة تجشَّمتها لمصلحتك، عادت عليك بالنهاية. ربنا يطمئننا إذا فكرت، وآمنت، واستقمت، وغضضت بصرك، وحضرت مجلس علم، وتعلمت وعلَّمت، وخدمت، وبذلت، وأنفقت، أنت لم تفعل شيئاً لغير ذاتك، ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ..هو غني لكنه حميد، غنيٌ عنك، لكنه يُعاملك معاملةً تحمده عليها، ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ .


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور