- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (010)سورة يونس
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
عرض موضوعات القرآن الكريم بأشكالٍ مختلفة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ كتاب الله سبحانه وتعالى الذي بين أيدينا يضم موضوعاتٍ متعددة ، لو تتبعنا هذه الموضوعات لوجدنا في مقدمتها الآيات الكونية الدالة على عظمة الله تعالى ، هذا موضوع ، هناك آيات التشريع ، موضوعٌ آخر ، هناك مشاهد الجنة والنار ، موضوعٌ ثالث ، فلو قسَّمنا آيات القرآن إلى موضوعات لوجدنا أن بعضها يتحدث عن ذات الله سبحانه وتعالى من خلال خلقه ، بعضها يتحدث عن تشريعاتٍ دقيقة كسورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، بعضها ينقلنا إلى الدار الآخرة ، مشاهد الجنة وما فيها من نعيمٍ مقيم ، ومشاهد النار وما فيها من عذابٍ أليم ، وهكذا .
لكن عرض هذه الموضوعات له أشكال ، فمثلاً هذا الكأسُ له شكلٌ وفيه مضمون ، الشكل هذه الكأس بهذه الخطوط ، أما المضمون فهو ماء ، هذا الماء قد يوضع في كؤوس مختلفة ، ذات أشكال مختلفة ، ربنا سبحانه وتعالى حينما عرض موضوعات القرآن الكريم عرضها أيضاً بأشكالٍ مختلفة ، أحد هذه الأشكال السرْد المُباشر ، أحد هذه الأشكال المَثَل ، أحد هذه الأشكال القصة ، فالقصة شكلٌ تعبيري من أشكال الأسلوب القرآني ، والله سبحانه تعالى يقول :
﴿
فلما يقرأ الإنسان كتاب الله ينبغي أن يعرف في هذه السورة موضوع البعث يوم القيامة ، في هذه السورة موضوع خَلْقِ الإنسان في عالم الأزل ، في هذه القصة موضوع الطلاق ، فالموضوعات متعددة ، لكن الموضوع الواحد يمكن أن يُعْرَضَ بأساليب متعددة ، فالله سبحانه وتعالى قال :
﴿
هذا سردٌ مباشر ، لكنك لو استمعتَ إلى قصة مُرابٍ انتهى ماله في النهاية إلى الزوال والهلاك ، هذا شكلٌ آخر عُرِضَ به موضوع الربا ، شكل قصصي ، والحقيقة أنك إذا قرأت القصة وجدت متعةً بالغةً في متابعتها ، لو استمع الإنسان إلى قصةٍ لا ينساها أبداً ، أما لو استمع إلى محاضرةٍ ربما ينسى منها معظم أفكارها ، لأن طريقة عرض المحاضرة طريقة السرْد المباشر ، أما طريقة القصة فطريقة الحدث والرواية وعرض الشخصيات وما شاكل ذلك ، لو أن أحد كبار النقَّاد درس ما في القرآن الكريم من قصص لوجد العجب العجاب .
قصةٌ واحدة كقصة سيدنا موسى عرضت في كتاب الله سَبْعَ عشرة مرة ، لكل مرةٍ زاويةٌ عُرضت منها ، وفي كل مرةٍ ضَوْءٌ سُلِّطَ على جانبٍ من جوانبها ، فهناك بداية القصة ، وعقدتها ، ونهايتها ، هناك الأحداث ، هناك الشخصيات ، هناك البيئة ، هناك الحوار ، فحينما تدرسون أو تقرؤون قصةً في كتاب الله ترون أن هذه القصة قد عرضت بأرفع أسلوب .
اختلاف الناس في التعامل مع القصة :
لكن الذي أريد أن أقوله لكم هو أن الإنسان حينما يقرأ قصةً يفقد خطوط دفاعه ، كل إنسان له أفكار يؤمن بها ويصدقها ، إذا قرأ قصةً ما يمكن أن تتسرب إليه قِيَمُ هذه القصة من دون أن يشعُر ، من هنا كانت عظَمة فائدة القصة وخطورتها في وقتٍ واحد ، مثلاً قد تقرأ قصة كاتب القصة أَسْبَغَ على إنسان معين صفات البطولة ، من شجاعة ، من ثبات ، من جُرأة ، من تضحية ، من بذل ، فإذا صوَّر لك هذا البطل الإيجابي بأنه يشرب الخمر مثلاً تسرَّب إلى نفس القارئ - وهذا أخطر ما في القصة- أن شُرْبَ الخمر من لوازم البطولة ، لذلك مِثْلُ هذه القصص تدمر جيلاً بكامله .
إذا قرأت قصةً ، أو قصيدةً ، أو عملاً أدبياً ، وشعرت أنه حرَّك مشاعرك العليا فأنت أمام أدبٍ رفيع ، كما أن القصة سلاحٌ خطيرٌ جداً بيد الجهلة ، أو بيد المارقين مِن الدين ، أو بيد تُجَّار الأدب ، أو بيد من سوَّلت لهم نفسهم إضلال المجتمع ، تغدو القصة في القرآن الكريم أسلوباً تعبيرياً رائعاً جداً يأخذ بقلوب القارئين ، فالذي لا يهتدي عن طريق البيان المباشر قد يهتدي عن طريق القصة .
مثلٌ مِن واقعنا : لو أننا جمعنا سائقي السيارات في بلدةٍ ما ، وألقينا عليهم محاضرةً عميقةً جداً عن مضار السرعة ، هؤلاء السائقون يتأففون ، يتململون ، لا ينتبهون ، يصرون على أنهم قادةٌ مهرة ، وسائقون يقظون ، فإذا رأى أحد السائقين المتهورين حادثاً مروِّعاً مؤلماً ، وقد سالت فيه الدماء ، هذا المنظر يدخل في نفسه إلى المكان الذي يؤثِّر فيه ، ويتعظ ، فالإنسان بالقصة يتعظ ، أي أن ترى حادثاً مروعاً بسبب السرعة أبلغ من أن تقرأ كتاباً عن مضار السرعة ، لأن هذا شيء حيوي ، مثل حي ، لذلك قالوا : القصة هي فكرةٌ مع البرهان عليها .
يمكن أن أحدثك عن مُرابٍ كيف تَدَمَّرَ مالُه ، هذا أبلغ من أن أقول لك : الربا حرام ، لذلك المُرَبِّي ، المعلم ، الأب في البيت ، يستطيع أن يستغل طاقة القصة التربوية إلى أقصى الحدود ، إذا جلس أب مع أولاده ليحدِّثهم ، وكانوا صغاراً ، حتى ولو كانوا كباراً يستطيع أن يسلك معهم أسلوب القصة ، قصة شاب استقام على أمر الله فرفع الله شأنه ، سيدنا يوسف مثلاً ، شاب ، عبدٌ في قصر ، لا يملك من أمره شيئاً ، ماذا فعل ؟ لم يفعل إلا أنه قال : إني أخاف الله رب العالمين ، و :
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
جعله الله عزيز مصر ، أي أيها الأب ، أيها المعلم ، أيها الموجِّه ، أيُّ إنسان هو في موقع التوجيه ، عندك محل فيه خمسة عمال ، وأنت لك إشراف عليهم ، عندك مثلاً أسرة ، أنت معلم بمدرسة ، موظف تحت يدك سبعة موظفين ، لك مكان الإشراف ، مكان التوجيه ، فكل إنسان في موقع التوجيه أو الإشراف قد يستخدم القصة كما استخدمها ربنا سبحانه وتعالى ليعظنا بها ، فبالقصة تصل إلى أعمق ما في الإنسان ، بالقصة تصل إلى مكان التأثير ، فربنا عزَّ وجل في قصة سيدنا نوحٍ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال :
العجيب أن هذه القصة وردت في أماكن أخرى ، والأعجب من هذا أن أبرز أحداثها وهي السفينة ، والطوفان ، لم يذكرا هنا إطلاقاً ، كأن الله سبحانه وتعالى سَلَّطَ الضوءَ على الحلقة الأخيرة فيها ، بعض المفسرين قالوا : هذه القصة تؤكد حقيقةً واحدة ، وهي أن الأقلية إن كانت على حق سوف تنتصر على الأكثرية إن كانت على ضلال ، فلما يؤمن الإنسان بالله ، ويستقيم ، يرى نفسه أحياناً وحيداً ، يجوز أن يتواجد بمكان يلتقي فيه بثمانية أشخاص لا يصلّون ، قام وصلى وحده ، يكون في رحلة تسعةِ أشخاص شربوا ما حرم الله ، أما هو فقال : لا أشرب ، إني أخاف الله رب العالمين ، أحياناً الإنسان إذا رأى أن أهل الحق قلة قد يخاف ، وإن رأى أهل الباطل كثرة قد يغريه هذا بالانضمام إليهم ، هذه القصة تُسَلِّطُ الضوء على هذه الحقيقة ، وهي أنك إذا كنت مع الله مهما كنت ضعيفاً ، ومهما كانت حيلتك ضعيفة ، ومهما كنت عديم الامتلاك للقوة ، فالله سبحانه وتعالى معك ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .
قوم نوحٍ على كثرتهم ، وعلى قوتهم ، وعلى استعلائهم ، وعلى كفرهم ، وعلى تمرُّدهم ، وعلى استخفافهم ، أغرقهم الله سبحانه وتعالى عن آخرهم ، وسيدنا نوح الذي كان قومه يسخرون منه .
﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
سَخِرُوا مِنْهُ ومن بناء السفينة ، حتى ابنه :
﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ
فسيدنا نوح كان ضعيفاً ، والذين آمنوا معه ضعاف ، لذلك سيدنا النبي اللهم صلِّ عليه حينما أسلم عدي بن حاتم قال له :
(( لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ ، فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُدُهُ ، وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ ، فَوَاَللّهِ لِيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ ، وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ - لعل أن يكون هذا أحد الموانع - وَاَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ . ))
أحياناً الإنسان الضعيف من عقبات الإيمان أمامه أن المؤمنين قلة ، وليس في أيديهم شيء ، وهم مستضعفون ، وأعداؤهم كثيرون ، فلا يملكون حيلةً ، ولا وسيلةً ، ولا شيئاً يظهرون به ، كن مع الحق ولا تبالِي ، أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟
النبي عليه الصلاة والسلام أسوة لنا في الثبات على الحق :
ربنا سبحانه وتعالى في مواطن دقيقة جداً عرض النبي الكريم إلى مواقف حرجة ، في الطائف سار على قدميه ثمانين كيلو متراً ، ليلقى عداوةً ، وسخريةً ، واستخفافاً ، وكفراً ، وردًّا ، ومع هذا بقي ثابتاً على المبدأ ، قال أحدهم: ألم يبعث الله إلينا رجلاً سواك ؟ قال : إن الله ناصر نبيِّه ، حينما اجتمعت قريش ليثنوه عن دعوته ، عرضوا عليه زواجاً من أجمل امرأةٍ ، عرضوا عليه مالاً ، عرضوا عليه سيادةً ، قال : عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة :
(( يَا عَمّ ، وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ . ))
في معركة أُحُد شُجَّ النبي عليه الصلاة والسلام وانكسرت رباعيته ، وكان صابراً ، محتسباً ، ولم يثنه هذا عن مبدئه .
في الخندق اجتمع عليه العرب كلُّهم ، وجاؤوا بجيشٍ لم يُجيَّش في الجزيرة ، عشرة آلاف مقاتل جاؤوا ليستأصلوا النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ، ليست القضية قضية نصرٍ أو هزيمة ، قضية حياةٍ أو موت ، اليهود نقضوا عهدهم مع النبي ، حتى إن أحدهم قال : أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ونحن على وشك الموت بعد ساعات ، على وشك أن نُباد كلياً ، ربنا عزَّ وجل يعرِّض الإنسانَ أحياناً لمواقف صعبة حتى يمتحن إيمانه ، سيدنا موسى حينما كان فارّاً من فرعون وقومه ، لما دنا من البحر قال أصحاب موسى :
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى
فهذه القصة أي قومٍ بأكملهم ، أمةٍ بأكملها ، كفروا ، وكذبوا ، واستخفوا ، واستعلوا ، والنبي الكريم مع أصحابٍ قِلَّة كانوا على الحق ، لمن كانت الغلبة ؟ ولمن كان النصر ؟ له ولأتباعه ، إذاً أنت حينما تؤمن بالله عزَّ وجل كأنه لا تدري مع من تتعامل ؟ مع خالق الكون ، مع الذي بيده ملكوت كل شيء ، مع مَن :
﴿ اللَّهُ الَّذِي
مع من :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مع من لا يقع شيءٌ في الكون إلا بإذنه ، مع من بيده حياة كل مخلوق ، أنت تتعامل مع إله ، فإذا استقمت على أمره ، إذا أحببته ، إذا أخلصت له ، إذا عملت الصالحات إرضاءً له ، هنيئاً لك في الدنيا والآخرة ، فالموضوع ليس موضوع أؤمن أو لا أؤمن ، الموضوع موضوع حياة أو موت ، سعادة أو شقاء ، صعود أو هبوط ، خلود في نعيمٍ مقيم أو في عذابٍ أليم .
المؤمن الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يخاف إلا الله :
فرعون لما استقدم السحرة من أطراف البلاد ، بل إنه استقدم مهرة السحرة ، ووعدهم بمناصب عليا إن هم أعانوه على دحض دعوة سيدنا موسى ، فقالوا :
﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ
فكان هناك إغراء كبير جداً :
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) ﴾
﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)﴾ ﴾
إيمانهم نزلَ على فرعون كالصاعقة ..
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123)لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(124) ﴾
﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)﴾
هذا هو الإيمان ، المؤمن الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، المؤمن الحق لا يخاف إلا الله ، أتخشون الناس والله أحق أن تخشوه ، لكن من هذا الذي يستطيع ألّا يخاف وهو لا يعرف الله سبحانه وتعالى ؟
﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)إِلا الْمُصَلِّينَ(22) ﴾
هذا المصلي لا يخاف ولا يبخل ، التبْرُ عنده كالتُراب .
تقديس العمل :
إذاً :
إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، فإذا كان الإنسان في عمله عطاء للناس وفيه خدمة ، فهذا من دواعي السعادة ، وإذا كان عمله مبنياً على سَلْب أموال الناس ، وعلى بَثِّ الرُعب فيهم ، وعلى ظلمٍ ، فهذا مِن دواعي الشقاء ، كل إنسان له مقام ، أحياناً الإنسان يعيش من مصلحة دنيئة ، من مصلحة فيها معصية ، من طريقة في التعامل مع أُناس فاسقين ، فلو أن أحداً مثلاً فتح ملهى ، وباع فيه الخمر ، وباع فيه اللذَّة ، وجَمَّع ملايين ، هذا بنى رزقه على شقاء الناس ..
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
لأن هذا الذي يُقتل قد يموت شهيداً ، أما الذي يُفْتنُ فإلى جهنم وبئس المصير ، فهذه الكلمة يجب أن نعرف بالضبط حدودها ، كل إنسان يمتحن مقامه ، ألك عند الله مقام ؟ هذا المقام محبب ؟ إذاً جعلك في خدمة الخلق ، المقام غير محبب جعل تأديب الخلق على يديك ، فالإنسان قبل أن يوافق على عملٍ ما يجب أن يعد للمليون ، هل في هذا العمل أذى للمسلمين ؟ هل فيه ضرر ؟ هل فيه شيء يتعبهم أم أن فيه نفعاً للمسلمين ؟ يمكن أن يبيع إنسان حاجاتٍ تفسد حياة الناس ، تفسد عقائدهم ، تفسد إيمانهم ، تفسد وجهتهم إلى الله عزَّ وجل ، قبل أن تقبل عملاً ما عُدَّ للمليون ، أي ابحث ، هل في العمل وجه حرام ؟ أله مؤدَّى حرام ؟ له آثار محرمة ؟ له أسباب محرمة ؟ لأنه عندما يكون عمل الإنسان نظيفاً وبيته نظيفاً فأغلب الظن أنه يسعد ، أغلب الظن أن العقبات الأخرى تغدو ثانوية جداً ، ما دام العمل نظيفاً وبيتك نظيفاً فلا يوجد مشكلة ، أما إذا كانت الزوجة فاسقة ، أي غير منضبطة ، فهذه تسبب شقاء لا ينتهي .
شيئان لاصقان في الإنسان : عملك وزواجك ، فإيَّاك أن تتسرع في موافقتك على الزواج من امرأةٍ ما ، قد تكون شريرة ، قد تكون فاسقة ، قد تكون قد نبتت نباتاً سيِّئاً ، قد تكون قد نشأت في بيئةٍ سيئة ، دنيئة ، لذلك أنا قد علقت هذا التعليق على كلمة مقامي ، فكل إنسان يعرف ما مقامه عند الله .
هناك قول آخر : إذا أردت أن تعرف مالك عند الله فانظر ما لله عندك ، وفي آية أخرى تقول :
﴿ وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) ﴾
هذا المقام المحمود ، يوجد مقام أوحد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم :
عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ، وَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ . ))
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . ))
هذا أعلى مقام ، لكن لا يمنع هذا من أن يكون لكل مؤمن عند الله مقام ، أنت دعوت الناس إلى الله فَهَدَيْتَ ثلاثةً ، مقامك قوته ثلاثة ، هديت خمسة خمسة ، مئة مئة ، ألف ألف ، سيدنا عمر قال : ما أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر ، كل حجم سيدنا عمر حسنة من حسنات سيدنا أبي بكر .
الصحابة الكرام رأوا رجلاً قُبَيْل الشمس يغدو خارجاً من بيته ، فاتهمه بعضهم بحبّ الدنيا ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( عن كعب بن عجرة : مر على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ. ))
عن المقدام بن معدي كرب عن النبي عليه الصلاة والسلام :
(( من بات كالاً من عمله بات مغفوراً له . ))
إتقان العمل جزءٌ من الدين :
لحكمةٍ بالغة جعل الله سبحانه وتعالى الرزق الحلال صعباً ، وجعل الرزق الحرام سهلاً ، وتعرفون أنتم تفصيل هذا الكلام ، من أجل أن تكسب رزقاً حلالاً صحيحاً مئة في المئة لابدَّ من أن تبذل جهداً كبيراً ، وإذا اخترت الطريق غير المشروع فربما قبضت في يومٍ ما لا تأخذه في سنة بشكلٍ غير مشروع ، فلذلك قدَّس النبي الكريم العمل ، رفع الذي يكسب قوت يومه ، قال :
(( عن ثَوْبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قال : مَن يَكْفُلُ لي أن لا يسأل النَّاسَ شيئاً ، وأتَكَفَّلُ لَه بالجنَّة ؟ فقال ثوبان : أنا ، فكان لا يسألُ أحداً شيئًا . ))
سيدنا أبو بكر كان يركب ناقته ، وكان خليفة رسول الله - أي قمة المجتمع - وقع زمام الناقة ، وحوله أصحابه ، فنزل من على الناقة ليأخذ زمام الناقة ، فعجب أصحابه : نكفيك ذلك ، قال : لا، أمرني حبيبي ألا نسأل الناس شيئاً .
عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( ثلاثٌ أُقسِمُ عليهِنَّ : ما نقَصَ مالٌ قطُّ من صدقةٍ ، فتصدَّقُوا ، ولا عَفَا رجلٌ عن مَظلمةٍ ظُلِمَها إلا زادَهُ اللهُ تعالَى بِها عِزًّا ، فاعفُوا يزِدْكمُ اللهُ عِزًّا ، ولا فتَحَ رجلٌ على نفسِهِ بابَ مَسألةٍ يَسألُ الناسَ إلا فتَحَ اللهُ عليه بابَ فقْرٍ ))
قيمة المرء ما يحسنه ، يجب أن يكون لك عمل تعيش منه من أجل أن تضرب للناس مثلاً أعلى في البذل والعطاء .
سيدنا رسول الله أول ما نشأ أخذ مال خديجة وتاجر به ، وقال علماء الفقه : هذه أولُ شركةِ مضاربةٍ في الإسلام ، هي بمالها وهو بجهده ، وكان راعياً ، وعمل بالرعي ، فلما يتقن الإنسان عمله أنا أقول لكم : إتقان العمل جزءٌ من الدين ، لا يتجزَّأ .
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه . ))
إنما أهلك الصنعة قول غدٍ وبعد غدٍ ، ( الصَنَعَة ) ، إتقان العمل ، تنفيذه في وقته المضروب جزءٌ أساسيٌ من دين الإسلام ، ويحسب الجهلة أن الدين بالصلاة والصوم فقط ، لا والله ، الدين في إتقان عملك ، الدين في إنجازه في الوقت المحدد ، الدين في الصدق ، الدين في المعاملة ، الدين في الورع ، الدين في خدمة الناس ، وربنا عزَّ وجل بالمرصاد يحاسب كلاً على عمله .
دخل شخص له سيارة فيها عطل على خبير بهذا العطل ، طلب منه الخبير عشرة آلاف ليرة ، صاحب السيارة لا دراية له بتصليح السيارات فرضي بهذا المبلغ ، فلما خرج قال هذا الرجل الغاش لجاره : هكذا الربح ، هكذا البيع والشراء ، هكذا المُشارطة ، قال له جاره : حرامٌ عليك ، سعرٌ فاحشٌ جداً ، قال : هو لا يعلم ، ابن هذا الرجل يعمل في مخرطة ، دخلت نثرة فولاذٍ في عينه فكلفته عشرة آلاف ليرة في اليوم التالي ، كله محسوب .
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) ﴾
فلذلك الإنسان عندما يتعامل مع الناس عليه أن يضع خوف الله بين عينيه ، فإذا خاف الله في تعامله مع الناس لن يبعث الله له أحداً يخيفه ، يقول له : هات هويتك وامش معنا ، لن يبعث الله له أحداً يخيفه في التعامل مع الناس ، أما إذا استغلهم ، استغل حاجتهم ، رفع السعر ، أعطاهم بضاعة مغشوشة ، أعطى صيدلي دواءً منتهياً مفعوله ، انتهى مفعوله ، باعه ، بعتَ شيئاً فاسداً ، بعت شيئاً على أنه تصنيع هذه الدولة وهو تصنيع دولة أخرى ، هذا كله غش :
عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( من غشنا فليس منا . ))
التطبيق العملي لقوله تعالى : إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي :
على كل كلمة مقام :
﴿
هل تحس أن الله يدافع عنك ؟ هل تحس أن الله ينصرك ؟ هل تحس أن الله معك حيثما تحركت ؟ هل تحس أن الله يلهمك ؟ يسدد خطاك ؟ هذا المقام ، فكل واحد منا له مقام بحسب عمله ، وإذا أردتم تفصيلاً لذلك يوجد عندنا في القرآن آيتان :
الآية الثانية :
﴿
كل إنسان له عند الله درجة بحسب عمله .
التوكل على الله :
﴿
لماذا ؟ قال :
الثقة بأن الأمر كلَّه بيد الله :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( احصوا هلالَ شعبانَ لرمضانَ ، و لا تخلِطوا برمضانَ ، إلا أن يوافقَ ذلك صيامًا كان يصومُه أحدُكم ، وصوموا لرؤيتِه ، وأفطِروا لرؤيته ، فإن غُمَّ عليكم ، فأكملوا العدَّةَ ثلاثين يومًا ، فإنها ليست تُغمى عليكم العدَّة))
معنى غمَّ عليكم أي كان هناك سحابٌ يحجب القمر ، وأحياناً الغَم هو ضيق النفس ، وهناك علماء وفَّقوا بين المعنيين ، الغم هو الستر ، والغم هو ضيق النفس ، إذا الإنسان وقع في ورطة ولم ير حلاً لها ، يُصاب بضيق النفس ، فالاتصال بين المعنى المادي وهو الستر ، والمعنى المجازي وهو ضيق النفس أن الإنسان إذا وقع في مشكلةٍ عويصة ليس لها حل يفكر في مخرج فلا يجد ، إذا سدت عليها المخارج ، أي لم ير مخرجاً ضاقت نفسه ، فهذه الآية حملت على معنيين ..
﴿
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ
على الإنسان أن يكون واضحاً وصريحاً في كل أموره :
عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( وعظَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ مَوعظةً ذَرَفَتْ منها العيونُ ووجِلَتْ منها القلوبُ فقلنا يا رسولَ اللهِ إنَّ هذه لموعِظَةَ مُوَدِّعٍ فماذا تعهَدُ إلينا ؟ فقال : تركتُكم على البيضاءِ ليلِها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ ، ومن يَعِشْ منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرَفتُم من سُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ المهدِيِّينَ الرَّاشدينَ . وعليكم بالطاعةِ وإن كان عبدًا حبشيًّا عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ فإنما المؤمنُ كالجملِ الأَنِفِ كلما قِيدَ انقَادَ. ))
كن واضحاً ، كن صريحاً ، لا تُخْفِ شيئاً ، ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً ، قال رجل لسيدنا عمر : هل تحبني ؟ قال له : والله لا أحبك - بصراحة - قال له : هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي ؟ قال له : لا والله ، المحبة شيء ، وأن يصل حقك إليك شيءٌ آخر .
إذاً :
من يثبت على الحق يعامله الله بعد توبته معاملةً جديدة :
يروون قصة قد تكون رمزية ، مغزاها أن امرأة آمنت بسيدنا نوح ، وحينما علمت أن هناك طوفاناً كبيراً يعم المنطقة ، ولن ينجو أحدٌ منه رَجَتْه بإلحاحٍ أن يذكِّرها قبل الطوفان حتى تركب معه السفينة ، تروي هذه القصة الرمزية أن سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام وهو في السفينة والموج كالجبال ، وقد تمّ إهلاك كل الناس عدا مَن في السفينة تذكر المرأة ، فأسِفَ أشد الأسف ، وتألم جداً لأنه نسيها ، فلما انتهى الطوفان .
﴿
جاءت هذه المرأة إلى سيدنا نوح فقالت له : يا نوح متى الطوفان ؟ ، أي الله عزَّ وجل لا ينسى أحداً ، لا تخف ، الإنسان ينسى أما الله فلا ينسى ، إذا كنت معه ينجيك ، فلو أن الله سبحانه وتعالى قرر إهلاك ستة آلاف مليون إنسان عدا واحداً ينجو بقدرة الله ، بمعجزة منه سبحانه .
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
أنا الذي أراه أن الذي يثبِّت المؤمن على الحق ، غير أن الحق منطقي ، وغير أن الحق يلبي كل حاجات فكره ، وغير أن الحق يعطي تفسيراً متكاملاً للحياة ، تفسيراً متكاملاً ، يفسِّر الحياة ، ما بعد الحياة ، الموت ، ما بعد الموت ، طبيعة العمل الصالح ، الأسرة ، فضلاً عن أن الحق يُعْطي تفسيراً شافياً ، كاملاً ، متماسكاً ، صحيحاً ، وفضلاً عن أن الحق يلبِّي حاجة الفكر البشري ، وفضلاً عن أن الحق منطق وواقعي ، الذي يثبِّت المؤمن على الحق أن الله سبحانه وتعالى يعامله بعد توبته معاملةً جديدة ، يوفِّقه ، يقول لك أحدهم : كان بيتي جحيماً فصار نعيماً ، كنت أشكو من عللٍ كثيرة فشفاني الله منها ، كان عملي صعباً فصار سهلاً ، كانت نفسي تزيغ في الطريق فتوحَّدت وجهتها ، كان لي مع زوجتي كل يوم مشكلة فأصبحت زوجتي مثالية ، وأصبحنا زوجين سعيدين ، هذا كله بفضل الحق ، فلما يتوب الإنسان توبة نصوحاً يعامله ربنا عزَّ وجل معاملة خاصة ..
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
على الإنسان أن يكون مع الأقلية المؤمنة لا مع الأكثرية الفاسقة :
﴿
الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده لا يهلكهم إلا بعد إنذارهم :
إنسان كان يركب سيارته أصيب بأزمة قلبية وهو يقودها ، أول عمل بعد أن صحا طلب مسجلة حتى يصرِّح أن المحل الفلاني ليس له وحده ، له ولإخوته جميعاً ، وإخوته فرحوا بذلك ، لأن هذا الاغتصاب قد انتهى ، بعد أن صحا وانتعش وذهب إلى البيت وأزيحت عنه هذه الأزمة وعاد إلى ممارسة عمله التجاري أنكر حقهم في ذلك ، وطوَّب المحل التجاري باسمه الشخصي ، وبعد ثمانية أشهر مات ، فقلت في تحليل هذه القصة : سبحان الله ! إنَّ الله عزَّ وجل أعطاه فرصة ، هذه الأزمة الأولى فرصة ليتوب ، الهلاك يكون بعد الإنذار دائماً ، الإنذار أولاً ، ثم الهلاك ثانياً ، فلما يرى الإنسان مناماً مخيفاً ، يكون له عمل منحرف ، ماله حرام ، معتدٍ ، ظالم ، فيه انحراف ، فيه إثم ، فيه فجور ، فيه فحشاء ، رأى مناماً مخيفاً جداً ، عليه أن يأخذ بهذا المنام ، وأن يَحْمِلَهُ على محمل الجد ، وإلا فسوف يقع .
* * *
القلب آية من آيات الله الكونية :
آية من آيات الله الكونية ، الحقيقة لفت نظري اليوم أن :
(( عن النعمان بن البشير رضي الله عنه : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: وأَهْوَى النُّعْمانُ بإصْبَعَيْهِ إلى أُذُنَيْهِ، إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ. ))
الإنسان له أعضاء كثيرة قد يصاب أحدها بالعطب ، وتبقى حياته مستمرة ، لكن الحياة متوقفة على عمل القلب ، فإذا أصيب القلب بالعطب انتهت الحياة .
أربعة أشياء تقي من أمراض القلب :
لذلك علماء القلب قالوا إن أربعة أشياء تقي من أمراض القلب ،
(( عن عبد الله بن مسعود : كنا يوم بدرٍ اثنينِ على بعيرٍ وثلاثةٌ على بعيرٍ وكان عليّ وأبو أمامةَ زميلي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكان إذا حانتْ عقبتهُما قالا يا رسولَ اللهِ اركَبْ نمشِ عنكَ ؟ فيقول : إنّكُما لستُما بأقوى على المشي منّي ، ولا أرغبُ عن الأجرِ منكُما . ))
في المعركة سار ، وركب صاحباه ، في الخندق حفر ، كان يكنس بيته ، ويرفو ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخسف نعله ، وكان في مهنة أهله ، وكانت همته عالية ، وكان يقول : لأن أمشي مع أخ مؤمن في حاجته أفضل من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا .
يوجد كثير من الأحاديث أثنى فيها على بذل الجهد .
إن هذه اليد لا تمسها النار ، لماذا ? لأنها خشنة ، من العمل اليدوي ، فالعلماء قالوا : أول شيء يقي القلب بذل الجهد .
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾
قال: قال رسول الله ﷺ: عن أبي يحيى صهيب بن سنان :
(( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير- وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له . ))
ليس ذلك لغير المؤمن ، راض مستسلم :
هم الأحبة ان جاروا وان عدلوا فليس لي معدل عنهم وان عدلوا
والله وان فتتوا في حبهم كبدي باق على حبهم راض بما فعلـــوا
***
هذا كلام الأطباء ، أول شيء : بذل الجهد ، الشيء الثاني : الراحة النفسية ، والبعد عن التوترات العصبية .
(( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع واذا اكلنا لا نشبع ))
أي قبل الشبع .
وقال : عن المقدام بن معدي كرب عن النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍ ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ ، فإن كانَ لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنفَسِهِ . ))
والبطنة تذهب الفطنة ، والخير كله مجموع في خزائن الجوع ، فأنا اليوم حللت هذه القواعد الأربع التي انتهى بها أحد مؤتمرات الطب بذل الجهد ، والراحة النفسية ، ونوع الطعام ، وكمية الطعام .
هذه كلها متوافرة في توجيه النبي عليه الصلاة والسلام ، هذه كلها في الطب الوقائي ، فهذا القلب الذي ينبض بعد الشهر الأول وأنت في رحم الأم إلى نهاية الحياة ، باليوم ينبض مئة ألف نبضة ، مئة ألف ، بالشهر ثلاثة ملايين ، وينبض بعمر ثمانين سنة مئتين وثمانين ألف مليون نبضة ، دون كلل ولا ملل ، القلب لا ينام ، لا ينام أبداً ، له مواصفات ، له احتياطات ، له مركز تنبيه كهربائي ذاتي ، له صمامات ، له تروية خاصة ، له تنبيه عصبي خاص ، شيء في منتهى التعقيد ، من أجل أن تستمر الحياة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
صحة القلب تأتي من هذه التوجيهات النبوية ، أول بدعة ابتدعها المسلمون بعد وفاة رسول الله الشبع ، أول بدعة ، لما الإنسان يعتدل بالطعام والشراب يعيش حياة ثانية ما كان يعرفها من قبل ، حياة النشاط ، حياة القيام للصلاة خفيفاً ، حياة العبادة الراقية ، حياة الإخلاص ، هذا كله يحس به إذا طبق قوله تعالى :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
أي الحديث عن القلب له مئات ألوف الكتب ، لا يوجد موضوع الآن يستأثر باهتمام البشر كموضوع القلب ، والنبي عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نقي هذا القلب العطب والعطاء.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين