وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الملك - تفسير الآيات 12-14 - الإيمان بالغيب وحدود العقل.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإنسان كلَّما ارتقى خاف بعقله وكلَّما هبط مستواه خاف بحواسه :

 أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع من دروس تفسير سورة المُلك، ومع الآية الثانية عشرة وهي قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

[سورة الملك: 12]

 أيها الأخوة؛ إن أهم ما يميز الإنسان هو أن الله سبحانه وتعالى أعطاه عقلاً، و بهذا العقل يستطيع أن يعرف حقيقةً غائبةً عن حواسه، فالحيوان أعطاه الله حواساً إلا أنه يرى بهذه الحواس محيطه فقط، أما الإنسان فقد أعطاه الله حواساً فيرى بها محيطه، وأعطاه عقلاً يكْشِفُ له ما غيَّبه عن حواسه، و هذه ميزةٌ كبيرةٌ للإنسان، فالله سبحانه وتعالى لا تُدركه الأبصار، ولكن العقل الذي أودعه الله في الإنسان يمكن أن يعرف الله دون أن يراه، يمكن أن يعرفه من أثره، فالعقل يعرف المؤثِّر من الأثر، كما يعرف الخالق من المخلوق، والمنظِّم من النظام، والمسيّر من التسيير، والحكيم من الحكمة، والقوي من القوة، والغني من الغنى، فأنت تملك عقلاً يكشِفُ لك شيئاً مغيَّباً عنك من خلال آثاره، وقد شاءت حكمة الله جلَّ جلاله أن يغيب عن أبصارنا و تراه عقولنا، فالذي يعطّل عقله لا يصل إلى الله، كذلك الذي يُسيء استخدام عقله، فيستخدمه لغير ما خُلِق له فإنه يشقى في الدنيا والآخرة، فالذي يرى الله بعقله من خلال خلقه هو الذي خشي الله بالغيب..
 وكنت أقول لكم دائماً: إن الإنسان كلَّما ارتقى خاف بعقله، وكلَّما هبط مستواه خاف بحواسه، فالإنسان حينما يرى الخطر أمامه بعينه يخافه، أما الإنسان العاقل فهو الذي يُدرِك الخطر البعيد فيخشاه في الوقت المناسب، و ربنا عزَّ وجل يقول في أول سورةٍ في القرآن:

﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾

[سورة البقرة:1-3]

 فعينه لم تر ربَّه ولكن عقله رآه، فعرفه واستقام على أمره، فبهذا استحق الجنَّة، لأن حواسه لم تر الله عزَّ وجل لكن عقله عرف الله من خلال خلقه..

 

الدّين كله معرفة الله و طاعة منهجه :

 وأنت أيها الأخ الكريم؛ القضية لديك دقيقة جداً، فالدين كلّه هو أن تعرف الله، وأن تطيعه، فتعرفه بآياته الكونية والتكوينية والقرآنية، وتطيعه بمنهجه و بتشريعه، فإن تعرَّفت إليه وتعرَّفت منهجه وأطعته سعدت بقربه في الدنيا والآخرة، و أهم شيء في حياة المؤمن هو أن يعرف الله، فإذا عرفه كان أكثر شيء يشغله هو أن يطيعه، فهو يتفكَّر في خلق السموات والأرض..

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[سورة آل عمران: 190-191]

 فخلقه نتفكَّر فيه، وأفعاله ننظر فيها..

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾

[سورة الأنعام:11]

 وكلامه نتدبَّره..

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾

[سورة محمد:24]

 بهذا يمكن أن تعرفه، فإن عرفته ابحث عن شرعه، ابحث عن أحكامه، ابحث عن أوامره ونواهيه، فإن طبقتَّها حققت المراد من وجودك، وحققت غاية وجودك، وتكون قد حققت الهدف الذي من أجله خُلِقت..

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾

[سورة لملك: 12]

 أما لو أمكن حواسك أن ترى الله.. فأنت إذاً في الآخرة..

((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال :إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر))

[ متفق عليه عن جرير بن عبد الله]

 ترون ربكم بأعينكم، و هكذا شاءت حكمة الله..

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾

[سورة القيامة:22-23]

 فلو أنَّنا أتيح لنا أن نراه بحواسنا لما كان هناك جنَّة، فكيف يمكن لنا أن نرقى؟ الشهوات محسوسة لكن حقيقة الدين مُخْبَر عنها في القرآن فقط، فالجنة خبر، والنار خبر، وذات الله خبر.. لكن الدنيا محسوسة، فأنت تمشي في الطريق فترى أمامك امرأة، وقد تنظر إلى مركبة فارهة و بيت فخم، قد ترى طعاماً لذيذاً، هذه كلها محسوسات أمامك، تدركها بحواسك الخمس، بعينك وأذنك، وسمعك وبصرك، ولكن حقائق الدين تحتاج إلى إعمال عقلي، تحتاج إلى قراءة قرآن، و تفكُّر، و نظر، فإذا آمنت بشيءٍ مغيّبٍ عنك ارتقيت عند الله عزَّ وجل، فلذلك كانت المُشاهدات بالحواس، والمُغَيَّبات بالعقول، وبقيت هناك حقيقةٌ لا يستطيع عقلك أن يدركها ولا حواسك أن تراها، هذه الحقيقة أخبرك الله بها..

 

مستويات البحث :

 أيها الأخوة الكرام؛ هناك حقيقةٌ أكررها كثيراً: أنت أمام ثلاثة مستويات في البحث، وثلاث أدوات بحث.
 مستويات البحث؛ المستوى الأدنى: وهو للأشياء المحسوسة الملموسة، التي تراها وتسمعها و تشمها وتلمسها، و تدرك حرارتها وبرودتها، خشونتها ونعومتها، شكلها ولونها، حجمها وصوتها، هذه كلها أشياء محسوسة، وهذا المستوى الأول يتعلق بدائرة المحسوسات، وأدواتها الحواس الخمس، ونحن وبقية المخلوقات سواء في هذا المستوى، فإذا وضعت يدك أمام نملةٍ تتحرَّك وقفت لأنها رأت حاجزاً جعلها تقف، وإذا رأت دابة حفرةً وقفت أيضاً، والإنسان كذلك حينما يرى حفرةً يبتعد عنها، لأنه يكون قد رأى خطراً فخاف فلم يقع في الحفرة صوناً لسلامته، فنحن لا ترتقي بالمحسوسات، بل إننا وبقية المخلوقات سواء فيها وذلك بدافع حب البقاء واستمراره وكماله، وبدافع حب السلامة، فلا يمكن لنا أن نتحرك حركةً نهلك بها بحواسنا، فنحن حينما نتعامل مع المحيط الخارجي نتعامل من أجل أن نسلم، فنحن لا نقترب من النار لأن وهجها يبعدنا عنها، كما أننا لا نأكل الطعم الكريه، ولا نقترب من الأشياء المؤلمة كالكهرباء مثلاً، فلا نمسك بالتيار الذي فيه خطر الموت، كل هذه الأشياء تقع تحت سمعنا وأبصارنا وإحساسنا، فنبتعد عن الأشياء المؤلمة والخطرة بدافع من طبعنا وفطرتنا، و هذا مستوى يشترك فيه الإنسان وغير الإنسان.
 المستوى الأعلى، الدائرة الأعلى: شيءٌ غابت عنك ذاته، وبقيت آثاره، فالإنسان في المستوى الأول كأي حيوان يرى حفرةً أو حاجزاً فيقف، أما إذا رأى الثريا والمصابيح متألقة، ورأى هذا الجهاز الذي يكبِّر الصوت فإنه يقول: لا بدَّ من تيارٍ كهربائي في هذا المسجد، إنه لا يرى التيار الكهربائي بعينه، ولكنه يحكم بوجوده بعقله، الأقدام تدل على المسير، والبعر يدل على البعير، والماء يدل على الغدير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟
 هذه هي ميزة العقل، فالعقل يمكن أن يرى دُخاناً فيقول: لا دخان بلا نار، و العقل يحكم على وجود النار من خلال الدخان، ويحكم على وجود التيَّار من خلال المصابيح و تكبير الصوت، ويحكم أن هناك مركبةً مرَّت من آثار عجلاتها، ويحكم بوجود التهابٍ من ارتفاع الحرارة، هذا هو العقل له مهمة استدلالية على شيء غابت عينه، وبقيت آثاره، فمن خلال آثاره تتعرف إليه، هذا هو الإيمان بالغيب، فأنت لم تر النار، لكنك رأيت الدخان فحكمت بأنه لا دخان بلا نار، فقلت: لا بدَّ من وجود النار..
 أقول هذا الكلام بدقةٍ بالغة: العقل البشري في هذا المستوى يُبْدِع ويحقق أعلى الغايات، فحينما تفكر في الأثر وتستخدم العقل ترى من خلاله المؤثِّر، و حينما تفكر في النظام ترى المُنَظِّم، و حينما تفكر في الخلق ترى الخالق، و حينما تفكر في التسيير ترى المسيّر، كذلك حينما تفكر في الحكمة ترى الحكيم، و حينما تفكر في القوة ترى القوي، هذا هو مجال العقل.
 أخواننا الكرام؛ أريد أن أضيف لكم حقيقة أخرى وهي أن العقل محدود الإمكانيات، بمعنى أن العقل لا يستطيع أن يبحث عن شيءٍ غابت عينه وآثاره، هذا مستحيل بالنسبة له، لذلك كان من أكبر الضلالات، وأعظم المتاهات، وأكبر المُنزلقات أن تأتي بعقلك، وتُسَلِّطه على موضوعٍ غيبيٍّ ذاتاً وآثاراً، فعقلك لا يمكن أن يصل إلى معرفة الجن مثلاً لأن الجن لا يمكن رؤيتهم.

﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾

[سورة الأعراف: 27 ]

 الملائكة كذلك.. لن تستطيع أن تؤمن بهم بعقلك، لأنهم ليس لهم آثار، كذلك اليوم الآخر، والماضي السحيق، و نشأة العالَم، وغير ذلك الكثير من الأشياء التي غابت آثارها، فلا يستطيع العقل أن يفعل شيئاً إزاءها، لذلك قد تزل قدم الإنسان، ويضل حينما يأخذ قضية غيبية مطلقة، أي غيبية ذاتاً وآثاراً، ويعرضها على العقل، فالعقل هنا ينحرف ويتخبَّط ويأتي بأفكار مضحكة، مثال توضيحي: كنت أضرب هذا المثل دائماً؛ بقالية فيها عشرة آلاف صنف ولديك ميزانٌ دقيقٌ حساسٌ جداً، هذا الميزان قدرته على الوزن تتراوح بين خمسة غرام إلى خمسة كيلو غرامات، فإذا استعملته وفق هذين الحدين أعطاك نتائج دقيقة جداً- وهو ميزان غالٍ جداً - أما إذا فكرت أن تزن بهذا الميزان سيارتك، فإنك تضعه على الأرض وتمشي فوقه من أجل أن تزن هذه السيارة عندئذ سيتحطم، فإذا اتهمت صانع الميزان، قال لك: اتهم نفسك أنت من استخدمته لغير ما خُلِق له، وخلافاً لتعليمات الصانع، أنت الذي لم تعبأ بالحدود القصوى والدنيا لاستعماله. لذلك فإننا نعرف بالحواس الأشياء المادّية التي ظهرت عينها وآثارها، و نعرف بالعقل كلَّ شيءٍ غابت عنا عينه وبقيت آثاره، لأن العقل يتعامل مع المحسوسات والدليل:

﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ﴾

[سورة الإسراء: 36 ]

 الفؤاد هو العقل، و العقل يتعامل مع المحسوسات، و السمع نافذة للعقل، والبصر نافذة ثانية.
 الآن المستوى الثالث الدائرة الثالثة هي دائرة الإخباريات؛ فالدائرة الأولى هي دائرة المحسوسات، والثانية دائرة المعقولات، والثالثة دائرة الإخباريات.
 فإذا كان هناك شيءٌ غابت عنك عينه، وغابت عنك آثاره، فلا سبيل لعقلك أن يعرفه، فإذا فكَّرت فيه كفرت، و دخلت في متاهات لا تنتهي، لذلك الدائرة الأولى أدواتها الحواس الخمس، والدائرة الثانية أداتها العقل، والدائرة الثالثة أداتها الخبر الصادق، كل شيءٍ عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، فأنت أمام شيءٍ محسوس تدركه بعينك، وشيءٍ غابتٍ عنك عينه فتعرفه بآثاره عن طريق عقلك، وشيءٍ غابت عنك عينه وآثاره فتتلقاه بالخبر الصادق، لذلك قالت الآية الكريمة:

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ﴾

[سورة الملك: 10]

 العقل للأشياء التي لها آثار، والسماع للأشياء التي ليس لها آثار، فأنت تسمع أو تعقل..

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾

 إذاً هناك ثلاثة مستوياتٍ للبحث العلمي؛ دائرة المحسوسات وأداتها الحواس الخمس، دائرة المعقولات وأداتها العقل، دائرة الإخباريات وأداتها الخبر الصادق.

 

ضرورة تحديد هوية أية قضية لاستخدام الأداة المناسبة لها :

 وطِّن نفسك على أن تصنف أية قضيةٍ تعرض عليك في بابها، هذه مع المحسوسات، هذه مع المعقولات، هذه مع الإخباريات.. لذلك لا تحاول أن تقنع إنساناً ملحداً بوجود الجن، إنك لن تستطيع أن تقنعه، ولن تستطيع أن تقنع إنساناً ملحداً بالملائكة، ولا بأصل العالَم، وأنه من آدم وحواء، هذه كلَّها أخبار أخبرنا الله بها، فأنت إذا وضعت كل قضية في الدين في مكانها الصحيح فإنك ستفهمها فهماً دقيقاً، أما إذا وضعت قضية في مكان غير صحيح فإنك ستضل، فلو أردت أن تثبت لي بعقلك عن وجود الجن فلن تستطيع، ستتخبط، ولسوف ينتقصك الذي يناقشك، لأنك ليس معك دليل، فقضية الجن والملائكة، وقضية الحساب والعذاب، والجنة والنار، والصراط والميزان، والحوض، هذه قضايا إخبارية الله أخبرنا بها.
 الآن التسلسل: أنت حينما تؤمن بالله من خلال آثاره، وتؤمن بالقرآن من خلال إعجازه، وتؤمن بالنبي من خلال كتابه، والقرآن أخبرك أن هناك يوماً آخر، فإن إيمانك باليوم الآخر إيمان إخباري، والقرآن أخبرك:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾

[سورة محمد: 12 ]

 والله أخبرك أن الكافر سيُلقى في النار خالداً فيها مخلَّداً، فكل قضية حدد هويَّتها، واستخدم الأداة المناسبة لها، فنحن في الإيمان بالله نعتمد على العقل والأثر، فإذا وجد أثر استخدم العقل، وإذا لم يوجد أثر فاستخدم الخبر، ففي الشيء المحسوس مثلاً تستخدم العين وانتهى الأمر، و الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يغيب عن أبصارنا، وأن تعجز حواسنا الخمس أن تدركه، لذلك تحتاج معرفته إلى جهد عقلي، فالذي آمن بالله آمن به عن طريق الغيب، كيف آمن بالغيب؟ نظر في الخلق فعرف الخالق، ونظر في النظام فعرف المنظِّم، نظر في الحِكَم فعرف الحكيم، كلمة آمن بالغيب هل تعني كلمة ألقاها؟ لا، بل إنها بحث دقيق توصَّل إليه.
 الآية مرَّة ثانية.

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[سورة آل عمران: 190-191]

 يتفكَّرون فعل مضارع أي باستمرار..

﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[سورة آل عمران: 190-191]

 فيا أيها الإخوة الأكارم؛ دققوا في هذه الحقيقة.. مستوى المحسوسات أدواته الحواس الخمس، مستوى المعقولات أداته العقل، مستوى الإخباريات أداته الخبر الصادق، وقبل أن تبحث في موضوعات الدين أولاً حدد هوية القضية؛ هل هي محسوسة أم معقولة أم إخبارية، فإن حددت هويتها استخدمت الأداة المناسبة لها.
 أمثلة موضحة؛ لو كنت أمام كأس ماء فلن تحتاج إلى عقل لتعرف ما هذا، ولكن هذه تحتاج إلى حاسة البصر، فعن طريق العين تعرف هل الماء صافٍ أم لا.
 أما في المسجد فإن نظرت إلى الثريات وجدتها متألقة، ووجدت الصوت مكبَّراً، إذاً يوجد كهرباء، هنا نحتاج إلى عقل.
 أما إذا سألت: يا ترى ماذا يوجد فوق هذا السقف؟ فاسأل المهندس لأن هذا إخبار، لأن العين لا ترى ماذا فوق السقف، يوجد سقف قرميد، ويوجد سقف تقليدي أي خشبي، و بينهما فراغ؟ لا نعلم، لأن هذا شيءٌ مغيَّبٌ عن حواسنا وبالتالي عن عقولنا، إذاً لا بدَّ فيه من خبرٍ صادق، فلو دخلت إلى بيت مثلاً فوجدت غرفة مغلقة، فسألت صاحب البيت: ماذا في هذه الغرفة؟ يقول لك: هذه غرفة نوم، هذا خبر، أما إذا كان أمامك أداة، مسجِّلة أو مُكيّف مثلاً فلا يوجد داعٍ لأن تسأل لأن عينك تراه، كل هذا الكلام من أجل كلمةٍ واحدة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾

 فمعنى آمن بالغيب أي أعمل عقله حتى توصَّل إلى حقيقةٍ ثابتة، أي إنه بذل جهداً، لذلك كانت أول آية كما قلت قبل قليل:

﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾

[سورة البقرة:1-3]

 غابت ذات الله عن حواسهم فأدركته عقولهم، والعوام بكلمةٍ بسيطةٍ متداولةٍ يقولون:
 الله لم يُر بالعين لكن العقل يدركه.

 

ضرورة التفكر في عاقبة كل أمر :

 لذلك فإن آيات العقل والعلم تزيد عن ألف آيةٍ في القرآن الكريم..

﴿ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾

[سورة يس:68]

 أفلا يتفكرون ؟ أفلا يتذكرون ؟

﴿ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾

[سورة الغاشية: 17 ]

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

[سورة الملك: 12]

 عمل الجنة حزْن بربوة، وعمل النار سهل بسهوة، لو أن أحد الأشخاص ركب دراجة وكان يمشي في طريق مستوية، وفجأةً رأى طريقين؛ طريق نازلة وطريق صاعدة - الطريق تُذكر وتؤَنَّث- فركب الدراجة ليرتاح في النزول، ولكن الصعود يصعب عليه، فالشيء المحسوس هو أن الطريق نازلة وهذه صاعدة، لكن هذه الحركة على هذه الطريق بالدراجة ممتعة جداً، وهذه الحركة متعبة جداً، فلو أن لوحةً كُتبت عند مفترق الطرق: هذا الطريق النازل ينتهي بحفرةٍ سحيقةٍ ما لها من قرار، فيها وحوشٌ مفترسةٌ كاسرة، تلتهم كل من يقع فيها، وهذه الطريق الصاعدة تنتهي بقصرٍ مُنيف فيه كل شيء، فإذا اعتمد الإنسان على حواسه اختار الطريق النازلة، أما إذا قرأ اللوحة واعتمد على عقله فإنه سيسلك الطريق الصاعدة.. لذلك:

((إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ))

[أحمد عن ابن عباس]

 لذلك..

((حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ))

[مسلم عن أنس بن مالك]

 فإذا عطَّل الإنسان عقله؛ فإنه ينظر إلى النساء، يشرب أي شراب، يسهر في أي مكان، يحكي أي قصة، إذا عطَّل عقله فإنه سينساق مع شهواته، أما إذا فكَّر في أن هذه لا تُرضي الله، وأن هذه محرَّمة، فهذان الطريقان أمامك، فبحسب طبيعة جسمك والدراجة التي لا يوجد فيها محرِّك النزول أكثر راحة لك، أما الصعود فهو صعب جداً.
 ولكن إذا قرأت اللوحة، صار القصر خبراً، والحفرة السحيقة خبراً، أما النزول المحسوس والصعود المحسوس فهما سهلان بالنسبة للحواس، فالذي لا يُعمل عقله ويتعامل مع حواسه يختار الطريق النازلة، والذي يُعمل عقله و يقرأ اللوحة يعرف أن وراء النزول هلاكاً، ووراء الصعود نعيماً، فيختار الصعود.
هذا الذي يفعله الناس إذا رأوا مؤمناً يخشى الله، يضبط لسانه، يتحرَّى الحلال، يؤثر دخلاً قليلاً حلالاً على دخل كبير حرام، فإنه يُتَّهم عند الناس بالجنون وهو العاقل وحده لأنه قرأ اللوحة واختار الصعود.
 هذا القصر المنيف فيه كل شيء، مع أنَّ الصعود إليه صعب جداً بالدراجة، ويتطلب جهداً، وقد يضطر الصاعد أحياناً إلى أن يحمل الدراجة، والطريق الصاعد فيه عقبات، فيه صخور وغبار و أكمات، ولكن من وصل إليه سينال قصراً منيفاً، أما الطريق النازل فهو طريق معبَّد محفوف بالرياحين والورود والدراجة ترتاح بالنزول لكنه ينتهي بهذه الحفرة، هكذا الحديث:

((إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ))

[ أحمد عن ابن عباس ]

 فالقضية كلَّها هي أن تُحَكِّم عقلك.
 سأضرب مثلاً آخر وقد ذكرته مئات المرَّات :أحد باصات المهاجرين مثلاً كان يقف في ساحة المَرْجَة باتجاه غرب شرق، يصعد الركَّاب إليه، على اليمين كان هناك شمس وعلى اليسار ظل، والوقت صيف والحرارة أربعون، يصعد الراكب إلى هذا الباص، فإذا حكَّم عقله فإنه سيجلس في الشمس، والذي لا يُحكَّم عقله، بحكم فطرته وجسمه فإنه سيجلس في الظل، يتحرك الباص ويدور حول المرجة وخلال دقيقة تنعكس الآية، فالذي اختار الظل تنعَّم بدقيقة، وتحمَّل الشمس نصف ساعة، فأنا كنت أصعد إلى هذه الحافلة لأمتحن الركاب.. فأجد أن هذا جلس في الظل وهذا في الشمس كل حسب تفكيره وإعماله لعقله، هذا المثل على بساطته هو الدنيا كلَّها.
 فإذا أردت الدنيا، فإن مرت امرأة جميلة في الطريق، فنظرت إليها وملأت عينيك منها تكون بذلك قد انقطعت عن الله عزّ وجل، وإذا كان لديك دخل كبير ولكنه مشبوه، فقلت: لا- معاذ الله- أنا قارئ اللوحة واخترت الصعود، هذا المثل ضعوه في أذهانكم، اقرؤوا اللوحة واختاروا الصعود، أو اختاروا الشمس واتركوا الظل، الشمس دقيقة ولكن الظل ليس نصف ساعة إنه إلى أبد الآبدين، والذي اختار الظل دقيقة تحمَّل جهنم إلى الأبد، هذه هي القصة كلَّها..

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

[سورة الملك: 12]

 مغفرة تَمحي عنك كل السيِّئات، و الماضي مطوي بمغفرة، كل الماضي بكلمة واحدة، فلا تيئس:

((لو جئتني بملء السموات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي ))

﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

 فالقضية كلَّها قضية تحكيم عقل، تفكُّر في خلق السموات والأرض، تدبّر القرآن، وانظر في أفعال الله، و ابحث عن أمر الله وتطبيقه تكن من أسعد الناس، أما إذا عطَّل الإنسان عقله فإنه سيتعامل بالحواس مع أشياء مادِّية، فكل شيء موجود في الطريق، إذا أطلق بصره وأطلق سمعه فسمع الأغاني المحبَّبة، وأطلق عينه فملأها من جمال الحسناوات في الطريق، وأكل ما يشتهي، وجلس مع من يشتهي، وقبض المال الكبير من شبهة أو من غير شبهة، فإن هذا لم يقرأ اللوحة واختار النزول، و ينتظره الهلاك.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

[سورة الملك: 12]

 أيها الأخوة؛ نستفيد من هذه الآية أن الإنسان الذي لا يؤمن بالله غيباً لا يخشاه، الناس يتوهمون أن معنى الإيمان به غيباً كلمة واحدة، لا إنها جلسات تفكُّر طويلة، تدقيق، استنباط، تمحيص، أي أنك ستعمل عقلك في الكون حتى تعرف مكونه فتخاف من خالقه، وترغب في مرضاته، وتبحث عن أمره ونهيه فتطبقه، هذا هو معنى الآية:

﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾

الله تعالى يعمل السّر و ما يخفى :

 الآن:

﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

 أي أنت مكشوف، قال تعالى:

﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾

[سورة طه:7]

 يعلم جهرك وعلانيَّتك، ما تعلنه، وما تقوله، وما تبديه، ويعلم الذي تخفيه عن الناس، يعلم سرّك ونجواك، ويعلم الذي لا تعلمه أنت، عَلِم ما كان، وعلِم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، علم جهرك، وعلم سرَّك، وعلم ما يَخْفى عنك..

﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾

[سورة طه:7]

﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

[سورة الملك:13]

 أي لا تتخذ موقفاً تمثيلياً مع الله أبداً، فإذا وقفت موقفاً تمثيلياً مع الله عزَّ وجل فإنك لا تفهم شيئاً لأن الله يكشف كل شيء..

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

[سورة البقرة:14-15]

 إياك أن تتخذ مع الله موقفاً تمثيلياً، إياك أن تتخذ موقفاً مزدوجاً، لأن الله كاشفٌ كل حقيقة.

﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾

[سورة الملك:13-14]

 بلى هو الذي خلقك، هو المكوِّن، هو الخالق، هو الرب، هو الحكيم، هو العليم، أنت بين يديه..

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾

[سورة الأنفال: 24]

﴿مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾

[سورة المجادلة: 7]

 لذلك متى ستنجو أنت؟ إن علِمت أن الله يعلم، و أن الله معك، والله متطَّلِعٌ عليك..

﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾

[سورة النساء:1]

﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾

[سورة الفجر:14]

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾

[سورة الحديد: 4 ]

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾

[سورة الإسراء:78]

أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان :

 بعد هذا توجد آية أخرى تقول:

﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾

[سورة الشعراء:219]

 يرى تقلُّبَك في الساجدين، يرى صلاتك، يرى ذِكْرَك، يرى إقبالك، يعلم مضمون كلامك، كلُّه في علمه..

﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾

[سورة الملك:13-14]

 فما مناسبة اللطيف الخبير؟ هو خبير بك وهو معك، ولكن وجوده معك غير مُحْرِج، إنه لطيف، فإذا رافقك إنسان ساعتين مثلاً تقول: والله لقد مللت وجوده. أما آن له أن يذهب، أما الله فهو دائماً معك دون أن تشعر، ودون أن تُرهَق..

﴿ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة الحج:63]

 أي هو معك بلطف، خبير بكل أعمالك دون أن تشعر، فلذلك أحد أكبر دوافع المؤمن إلى طاعة الله أن الله معه، وأن الله يراقبه، وأفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان، و أنه مُطَّلِع عليه، أي كلمة تنطق بها يعلم الله صحتها من كذبها، إخلاصها من خيانتها، صوابها من خطئها، أي تصرُّف، أي نظرة، أي حركة، أي موقف..

﴿ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة الحج:63]

 خبير بما تفعل لكن دون أن تشعر، دون أن يكون هذا عبئاً عليك.

﴿ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة الحج:63]

﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾

[سورة الملك:13-14]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور