- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (072)سورة الجن
حقائق الجن من خلال القرآن
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الثالث من سورة الجن، و المقدمةٌ الثالثة التي تحدد خصائص هذه المخلوقات التي سُميت بالجن.
اعتقادات الناس في الجن:
أيها الإخوة الكرام... إن من الناس من تطرف في إيمانه بالجن، فآمن بقدراتهم الخارقة على أساس أنهم يعلمون الغيب، فينفعون ويضرون ويعطون و يمنعون، كما أن هناك مَن تطرف فنفى وجود الجن، لكن الحقيقة تقع بين أن تنفي وجود الجن وبين أن تعقد بقدراتهم الهائلة، فقد زعم كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم تُعَلِّمُه الجن، فهو يستقي علمه منهم، بل إنهم جعلوا بين الجن وبين الله نسباً، فهم يزعمون أن الله تزوَّج من الجن وأنجب الملائكة، وهذه كلها أفكارٌ وخرافاتٌ وخزعبلاتٌ وأوهامٌ وأساطير تروى عن الجن في الجاهلية، فجاءت هذه السورة لتضع لتبين حدود هذه المخلوقات.
أيها الإخوة الكرام...لقد كان العربي في الجاهلية إذا سار وحده، أو دخل وادياً،أو قطع مفازةً يستعيذ بعظيم الجن الحاكم، ويقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيعتقد بعد ذلك أنه إذا باتَ بات آمناً لأنه استعاذ بالجن، فقد ألَّه هؤلاء الجن وهذا تطرُّف و شرك، كما أنهم كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتنبِّئ الكُهَّان به، فإذا أتوا كاهناً عرفوا الغيب من خلاله، لأن الجن تعلِّم الكُهَّان، أما الكهان فهم ينبئون بني آدم.
وكما قلت قبل قليل، لقد جعلوا بين الجن وبين الله نسباً، فكانوا يعتقدون أن لله عزَّ وجل زوجةً من الجن أنجبت الملائكة، فالملائكة بنات الله، وقد ذكر القرآن فعلهم هذا، وما هذا إلا ركامٌ وخرافاتٌ و ضلالاتٌ و أساطير ما أنزل الله بها من سلطان، وقد جاءت هذه السورة لتضع حداً لكل هذه الأوهام و الخرافات و الأساطير، و إذا كان هذا اعتقاد الجاهليين، فهل تفاجؤون إذا علمتم أن في مجتمعاتنا الإسلامية جماعاتٌ كثيرة تؤمن بأن الجن عندهم قدرات خارقة، وأنهم يعلمون الغيب، وأن بإمكانهم أن يوفقوا بين الزوج وزوجته وأن يفرقوا بينهما، وقد جاءت هذه السورة لتنفي الشرك والأضاليل و التخرُّصات و الأكاذيب، فهذا كلُّه يجب أن ينتهي بعد أن يوضِّح الوحي حقيقة الجن.
فهناك الكثير من الناس اليوم من يعتقد بقدرة الجن على فكّ السحر، كما أنهم يتوهمون أنهم يستطيعون أن يخرجوا الجن من الإنسان، وقد يكون هؤلاء من بعض المثقفين، وقد يكونوا للأسف الشديد من بعض رواد المساجد، فنجد هؤلاء يلجؤون إلى أشخاص من أجل ذلك، و أنا لا أنفي هنا أن هناك علاقةً بين الجن والإنس، إن هذه العلاقة موجودة، لكنها غير مشروعة إطلاقاً، لأن الله عزَّ وجل في كتابه والنبي عليه الصلاة والسلام في سنته لم يسمحا لنا أن نقيم علاقةً مع الجن، أما الذين أقاموا علاقةً مع الجن فقد أُرهقوا وأُتعبوا ولم يجنوا من هذا العمل شيئاً.
هناك الآن جماعاتٌ دينيةٌ كثيرة منحرفة العقيدة تنفي وجود الجن إطلاقاً، وتزعم أن الجن خرافةٌ لا وجود لها، فهي في اعتقادهم من التخرُّصات، قد تسألهم كيف تفسر آيات الجن ؟ فيقولون: كل شيءٍ غاب عن عينك فهو من الجن، فإذا وقف الإنسان وراء الباب ولم تره فهو من الجن، فقد وقعت قضية الإيمان بالجن بين هؤلاء الذين ألَّهوا و أشركوا، وبين هؤلاء الذين اعتقدوا بقدراتٍ الجن الفائقة، كما اعتقدوا بالنفع والضر وعلم الغيب، وبين هؤلاء الذين أنكروا الجن، فجاءت هذه السورة لتعطي كل شيءٍ حقه، فأعطت الجن حجمهم الحقيقي، و المقياس الوحيد في ذلك هو الوحي، لأن الوحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه كلام الخالق الخبير الواحد القهَّار.
بعض حقائق الجن:
أيها الإخوة... لن أبدأ اليوم بتفسير هذه السورة بعد ولكني سأضع لكم بعض الحقائق المستقاة من هذه السورة، أو من بعض الآيات التي وردت عن الجن في سورٍ أخرى.
1- الحقيقة الأولى: إن الجن مخلوقاتٌ موجودة، فعالم الجن عالمٌ حقيقة تؤكِّدها هذه السورة، فأنت لا تستطيع أن تنفي الجن، لأنك إذا نفيت الجن كذبت القرآن، وتكذيب كلمةٍ من هذا الكتاب كفرٌ صريح.
2- الحقيقة الثانية: لقد وصف الجن أنفسهم من خلال هذه السورة فقالوا:
﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً﴾
إنهم موجودون ومتنوعون، فمنهم الصالحون ومنهم الطالحون، كما أن منهم الضالون المضلون، ومنهم السُذَّج الأبرياء الذين ينخدعون، فبعضهم مهتدٍ وبعضهم ضال، وبعضهم خيِّر وبعضهم شرير، و بعضهم ماكرٌ خدَّاعٌ مضل وبعضهم ساذج، والدليل قول الله تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) ﴾
فهؤلاء عندهم سذاجة، فقد ظنوا أن الإنس والجن لن تقول على الله كذباً، كما ظنوا أن سفيههم (أي الشيطان): كان يقول على شططاً.
التقوّل على الله تعالى من أعظم الكبائر:
إن للإمام الغزالي كلمةً رائعة يقول فيها: " لئن يرتكب العوام الكبائر فذلك أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ".
و حينما تحدث الله سبحانه وتعالى عن المعاصي والآثام ورتبها ترتيباً تصاعدياً، بدأ بالإثم والفحشاء، وانتهى بالشرك والكفر، لكنه جعل التقول على الله من أكبر المعاصي، فقال:
﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
فكم من إنسانٍ ضل الطريق لفكرةٍ سمعها فلم ترق له، و كم من إنسانٍ ظن بالله ظن السوء و ظن الجاهلية فأعرض عنه بسبب كلام تحدث به إنسانٍ جاهل، و كم من إنسانٍ أعرض عن الدين لأنه ما استقاه من مصادره الصحيحة، و كم من إنسانٍ كفر بسبب ما يرى ويسمع من تجاوزات يفعلها المسلمون، فلذلك قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) ﴾
وإن من أغرب ما قاله الإمام الشافعي قوله: " لأن أرتزق بالرقص أهون عليّ من أن أرتزق بالدين "، لأنك إذا ألقيت على الناس أفكاراً غير صحيحة فأضللتهم وأفسدتهم وحملت بعضهم على أن يكفروا بهذا الدين، فأنت أكبر آثمٍ لأن كل انحرافٍ يجري عن طريقك.
أيها الإخوة الكرام... استمعوا إلى هذه الحقيقة: إنه هناك من يدعو إلى الله بمضمونٍ هزيل سطحي غير متماسك، وبأسلوبٍ غير تربويٍ وغير علمي، وهناك من يدعو إلى الله بمضمونٍ عميق، لكنه لا يلتزم بأوامر هذا الدين، فعندئذ لا يرى المدعو في هذا الداعية التزاماً بل ازدواجاً، وإن المدعو بهذا المضمون الهزيل، وهذه الازدواجية والتناقض الشنيعين، وبتلك الطريقة غير التربوية وغير العملية، لا يُعَدُّ عند الله مبلغاً، فقد رُكِّب في أعماق الإنسان أن دين الله عظيم، و أن هذا الدين من عند الله العليم الحكيم الرؤوف الرحيم علاَّم الغيوب أكرم الأكرمين رب العالمين، فهذا الدين لا يحتمل أن يوجد فيه تناقض، ولا ضحالة، ولا خرافة، ولا تجاوز، لأنه الدين يمثِّل عظمة هذا الإله العظيم.
أيها الإخوة الكرام... إن في الدين مقولاتٌ لا تعدُّ ولا تحصى، فلا بد لك من مقياسٍ دقيق تصنف به هذه المقولات، وقد تحدثت في الدرس الماضي عن منهج التلقي، فعن طريق منهج التلقي تستطيع أن تفرز هذه المقولات، فتقبل المقولة التي تنطبق على هذا المنهج، وترفض المقولة التي لا تنطبق عليه، فلا بد من منهجٍ دقيق نعتمده في قبول المقولات الدينية وفي رفضها.
إذاً: الجن موجودون، و منهم الصالحون ومنهم الطالحون، فهم فرَقٌ كثيرون:
﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً﴾
والجن منهم المضلّون، الخبثاء، ومنهم السُذج البسطاء.
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) ﴾
3- حقيقةٌ ثالثة: إن الجن لديهم استعدادٌ للهداية، فهم مستعدُّون لإدراك القرآن الكريم سماعاً وفهماً، والدليل على ذلك هذه الآيات الكريمة:
﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) ﴾
فقد استمعوا إلى هذا القرآن الكريم وأُعجبوا به وفهموه وأدركوا أبعاده و آمنوا به، فصاروا جناً مؤمنين، وهذه حقيقة ثالثة.
4- الحقيقة الرابعة: إن الجن مكلَّفون، ومعنى ذلك أنهم مسؤولون ومحاسبون، فتقع عليهم أنواع العقوبات وأنواع الإكرامات، والدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً﴾
فمن يؤمن بربه ؛ أي: منا، فالجن مكلَّفون.
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) ﴾
أي: سنقصد إلى محاسبتكم، فالملك غير مكلف، و الحيوان غير مكلف، و الجماد غير مكلف، لكن الإنس والجن مكلفون بحمل الأمانة، وهم مسؤولون، وسيحاسبون ثم يعذَّبون، أو يُنعَّمون، و هذه حقيقة ثالثة.
﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ﴾
القاسطون: الظالمون، هذا الاسم ذو معنىً دقيق، فالمُقسط هو العادل، أما القاسط فهو الظالم، فـ(أقْسَط):َ عَدَلَ، و(قَسَط):َ ظَلَمَ، و اسم الفاعل من الثلاثي: قاسط، و اسم الفاعل من الرباعي: مقسط، فالمُقسط هو العادل، والقاسط هو الظالم.
﴿ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) ﴾
فالجن مخلوقات مكلفة بحمل الأمانة، فهي مسؤولة عن أعمالها، و لا بد لها من أن تملك حرية الاختيار، فإذا كانت مسؤولةٌ عن أعمالها وتملك حرية الاختيار، فإن مصيرها إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، قال تعالى:
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ﴾
و هذه أيضاً حقيقةٌ عن الجن.
﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) ﴾
5-الحقيقة الخامسة: إن هؤلاء الجن لن ينفعوا الإنس إذا لاذوا بهم، فأية محاولةٍ يقوم بها الإنسان ليلجأ من خلالها إلى الجن هي محاولةٌ خاسرةٌ يائسة، وقد ورد هذا كله في كتاب الله، فهذا هو حجم الجن الحقيقي، و هذا هو تعريفهم الدقيق، لذلك قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾
فلا تستعذ إلا بالله، فالجن لن يقدِّموا لك شيئاً، و لن ينفعوك إطلاقاً، و لن يخلِّصوك من أية ورطة، وإن أكثر المسلمين اليوم يلجؤون إلى رجال يزعمون أنهم يعرفون الجن ليفكوا عنهم بعض السحر، ليخرجوا بعض الجن منهم،فهؤلاء لا يزدادون إلا ضلالاً وتيهاً.
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾
6- الحقيقة السادسة: إن الجن لا يعلمون الغيب إطلاقاً، فهم ليست لهم أية صلةٍ بالسماء، قال تعالى:
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9)﴾
وأنا كنا نقعد ؛ أي: قبل رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مثال موضّح:
سأضرب لكم هذا المثال: لو أن (آذنا)ً أو حاجباً أو مستخدماً في رئاسة الوزراء كان يطوف على الوزراء ليقدم لهم القهوة أو الشاي، وفي أثناء الاجتماع سمع من أطراف أحاديثهم أن الساعة ستؤخَّر ستين دقيقة قبل شهرٍ من موعد تأخيرها، فأشاع بين الناس أنني أعلم الغيب، فبعد أربعة أسابيع سوف تؤخَّر الساعة لأول مرة، فهل هذا الحاجب أو هذا (الآذن) يعلم الغيب ؟ لا، فقد استرق السمع من خلال اجتماعٍ مهم، فأوهم الناس أنه يعلم الغيب، الآية الكريمة:
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ﴾
أي: لقد كنا نستمع إلى بعض الأوامر الإلهية، وننزل بها إلى الأرض، فنلقي هذه المعلومات في آذان الكُهَّان، فيأتي هؤلاء الكهان إلى الناس ويدعون أنهم يعلمون الغيب، فهذا ليس غيباً، ولكنه استراق سمعٍ.
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9)﴾
أيها الإخوة... إن المشكلة الكبيرة هي أن تعتقد أن هؤلاء الجن يعلمون الغيب، لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، لكن هؤلاء الجن عندهم سرعة تَنَقُّل، و قدرتهم على تخطي المسافات مذهلة، فقد يقطعون آلاف الكيلو مترات في لمح البصر، فإذا نقلوا لك معلومةٍ من مكان إلى مكان، توهمت أنهم يعلمون الغيب، و هم لا يعلمون الغيب إطلاقاً، فإذا إنسان مات بظرف غامض مثلاً، ادعى بعضهم أن بإمكانه تحضير الأرواح، فهو بذلك يأتي بقرآنه من الجن.
فيأتي عملاؤهم من الجن، ثم يعرضون على أهل القتيل أن يأتوا بابنهم المقتول ليُسمعهم اسم قاتله، فالهدف من القضية كلها أن يتوهم الناس أن الجن يعلمون الغيب، وهم لا يعلمون الغيب إطلاقاً، ولكنهم قادرون على استحضار الأرواح، فهم يستحضرون قرين هذا المقتول من الجن، فيعطيهم معلومات دقيقة جداً عن ملابسات و ظروف حياته، مما يوهم الناس أنهم يعلمون الغيب، و لا يعلم الغيب إلا الله.
فقد سمعت أن هناك من يزعم أنه استحضر روح امرأة ماتت بحادث، فأخبرت الناس أنها أسلمت وأنها كذا وكذا، و كل هذا خرافةٌ بخرافة، لأن الجن لا يعلمون الغيب إطلاقاً.
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) ﴾
لا يعلمون الغيب، لكن:
﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾
إن الخير إلى الله، والشر ليس إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))
أي: إن الخير كله بيدك يا رب، والشر ليس إليك، وهذا أدبٌ رفيع.
﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾
فليس هناك علاقة بينهم وبين الله، و لا توجد علاقة مصاهرة، كما يدعي العرب في الجاهلية.
﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً﴾
لأن المشركين في الجاهلية كانوا يزعمون أن الله تزوَّج من الجن وأنجب الملائكة، فالملائكة بنات الله.
أيها الإخوة... أقول لكم مرةً ثانية، إن هذه الحقائق من كتاب الله تعطي الجن حجمهم الحقيقي، وإن أية زيادةٍ على ذلك هي زيادة باطلة، كما أن أي إنكارٍ لذلك هو إنكارٌ باطل، لأننا لا نستطيع أن ننكر شيئاً أثبته القرآن، ولا أن نزيد شيئاً على ما ذكره القرآن، وهذه السورة إضافة إلى الآيات التي وردت في بقية السور عن الجن، هي المقياس الدقيق لموضوع الجن، وإنك حيثما جلست، وأينما التقيت بالناس، وجدت من يطرح قضية الجن، فهناك من يعطي الجن حجماً أكبر من حجمهم بكثير، و هناك من يزعم أن الجن يعلمون الغيب عن طريق القرناء و غيب الحاضر و سرعة التنقل في الأرض، و هذه كلها خرافاتٌ ما أنزل الله بها من سلطان، فهم لا يعلمون الغيب ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، وأكبر دليل على ذلك، أن رئيسهم الشيطان قال:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾
وما كان لي عليكم من سلطانٍ ؛ أي: آيةٌ حاسمة قطعية الدلالة..
﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ﴾
فهذه حقائق ناصعة قد أثبتها الله في كتابه العزيز.
فالجن لا قوة لهم مع الله أبداً، كما لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، لقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً﴾
فهم في قبضة الله، و ليس لهم إرادةٌ مستقلةٌ عن الله عزَّ وجل، كما أنهم ليس بهم قوةٌ يصرفونها في غير إرادة الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً﴾
و إن من الآيات الأخرى عن الجن التي وردت في غير سورة الجن قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ﴾
على موته ؛ أي: على سيدنا سليمان، منسأته ؛ أي: عصاته، الدابة ؛ أي: السوس.
﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾
فقد سيدنا سليمان كلَّفهم بأعمالٍ شاقة متعبة:
﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾
فأنا هنا أعطيك مقاييس، فإذا كنت جالساً في سهرة مع أصدقائك أو مع إخوانك أو أقربائك أو زملائك في العمل، ثم سمعت قصة مفادها أن الجن يعلمون الغيب، فلا ينبغي أن تبقى ساكتاً، بل يجب أن تنطق بالقرآن الكريم، فتقول: إنهم لا يعلمون الغيب، و لو أنك سمعت قصةً أن الإنسان أوذي من الجن، فذكِّرهم بقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾
فقد نزلت هذه الآيات من أجل أن تعطي الجن حجمهم الحقيقي، و من أجل أن تقف الناس على الحدود التي جاءت في هذه السورة.
يروننا ولا نراهم:
لقد وردت خاصةٌ أخرى من خصائص الجن، في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾
إنه ؛ أي: الشيطان وجماعته، فكيان الجن غير مرئي عند الإنس، أما كيان الإنس فهو مرئيٌ عند الجن، فهم يروننا ويسمعون كلامنا، ونحن لا نراهم ولا نسمع كلامهم هذه حقيقة دقيقة وصريحة وواضحة.
حقيقةٌ عن بنيتهم:
إن الجن مخلوقون من النار، والإنس مخلوقون من الطين، قال تعالى:
﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) ﴾
أيها الإخوة الكرام... من خلال هذه الحقائق التي وردت في سورة الجن وفي غير سورة الجن يتضح لنا أن الذين عرفوا الله عزَّ وجل، وعرفوا حقيقة الجن، لا يمكن لهم أن يعتمدوا على الجن ولا أن يلجؤوا إليهم، لا في معرفة الحقائق المستقبلة، ولا في الاستعانة بهم، لأنهم ضعافٌ كالبشر، ولأنهم لا يعلمون الغيب كالبشر، فهذه السورة توضِّح حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية.
الصلة بين الإنس والجن:
ثم توضِّح هذه السورة أيضاً الصلة بين هذه الخلائق المنوَّعة، فمن ممكن أن تقوم صلة بين الإنس وبين الجن، فيستعيذ الإنس بالجن و يتعاون معه، و هذه حقيقة، لكن هذه الصلة ليست مشروعة ولا مطلوبة، ولا مستحسنة إطلاقاً.
فقد ورد في أول هذه السورة تأكيدٌ على وحدانية الله، وتأكيدٌ على نفي الصاحبة والولد، -وهذا تأكيدٌ مهمٌ جداً – كما ورد إثبات الجزاء في الآخرة للإنس والجن معاً، وأن أحداً من مخلوقات الله -ولو بدا خارق القدرة على تخطي المسافات - لن يُعجز اللهَ في الأرض ولن يتفلَّت من يده أبداً.
وفي هذه السور أيضاً بيانٌ لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، كما يتبين فيها أن الجن لا يملكون قوةً ولا علماً،فليست لهم إرادةٌ مستقلةٌ عن الله عزَّ وجل، فهم في قبضة الله كالإنس:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾
﴿ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في ما يرويه ربه عنه، فيما يأمره الله أن يبلغه للناس:
﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾
﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي﴾
فالغيب موكولٌ إلى الله وحده.
﴿ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾
وإن الذي يستقيم على أمر الله عزَّ وجل سيجني ثماراً طيبة، قال تعالى:
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) ﴾
إن هذه بعض الحقائق المتعلقة بالجن، فالله إله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، أما الجن فهم ليس لهم أي شأنٍ ولا أي فعلٍ ولا أي علمٍ، فلا يعلمون الغيب، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً مع من يعوذ بهم.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذه الحقائق التي عرضت في هذه السورة، لنجعلها مقياساً لكل ما يدور في مجالس الناس عن الجن، فهناك آلاف القصص التي ما أنزل الله بها من سلطان يمكنك أن تركلها بقدمك، فيجب عليك حينما تقرأ آيةً من سورة الجن أن تقول: إن هذه الآية تبيِّن أن الجن لا يعلمون الغيب، ولا يستطيعون أن ينفعوا الإنسان إلا أن يزيدوه رهقاً كما قال الله عزَّ وجل، وأنهم مسؤولون ومحاسبون وسيعذبون إن انحرفوا، وسيتنعَّمون إن هم أفلحوا.
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن نبدأ تفسير الآيات آيةً آية بحسب التسلسل في الدرس القادم، لكني أردت من هذا الدرس أن تعرفوا حقيقة الجن من خلال هذه السورة ومن خلال بقية السور، فهؤلاء المخلوقات موجودون , وهذا هو حجمهم الحقيقي، وإن أي تخرصٍ أو تأويلٍ أو زيادةٍ هي باطلٌ ينبغي أن لا نأخذ به.