وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الجن - المقدمة 2
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 منهج التلقي
 الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الثاني من سورة الجن.
 ملخص المقدمة الأولى:
 في الدرس الأول قدمت لهذه السورة بمقدمةٍ فحواها أن المخلوقات على أصناف، يقع في أعلاها الإنس والجن لأنهما قَبِلا حمل الأمانة، أما بقية المخلوقات فمنهم من أشفق منها ولم يحملها وآثر السلامة على المغامرة كالملائكة، كما أن منهم من آثر الشهوة والسلامة كالحيوانات، بينما َقبِل الإنسان أن يأتي إلى الدنيا وأن يحمل الأمانة، و أرجح الأقوال تقول: إن الأمانة التي حملها الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه، قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ﴾

( سورة الشمس )

 لقد أودعت فيه الشهوات ليرقى بها صابراً أو شاكراً لرب الأرض والسماوات، كما أعطي العقل وهو أداة معرفة الله الأولى، و أعطي الفطرة وهي مقياسٌ نفسيٌ يكشف له الخطأ من الصواب، ثم جاءته الكتب السماوية وهي المنهج القويم، فكانت حجةً على مقياسَي العقل والفطرة، وأعطي حرية الاختيار كي يثمَّن عمله، و أودعت فيه الشهوات كي يندفع إلى الله عزَّ وجل، و هذا ملخص الدرس الأول، والإنس والجن على سويةٍ واحدة:

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾

( سورة الرحمن آية "33 " )

﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾

( سورة الرحمن )

 واليوم أجدني مضطراً إلى مقدمةٍ ثانية تعدُّ أساسيةً في فهم هذه السورة.
 يا أيها الإخوة الكرام... إن الإنسان كائن قبل كل شيء، وهو من أرقى الكائنات، وأرقى ما فيه هو هذه الأداة الإدراكية التي يمتلكها وهي العقل، غير أن الإنسان مزوَّد بوسائل معرفية غير العقل ؛ فهو يمتلك الحواس و العقل، وهناك وسيلة لمعرفة بعض الحقائق ليس لها علاقةٌ بالعقل ولا بالحواس.
 وسيلة معرفة الأشياء المحسوسة:
 (الحواس الخمس):
 يمكننا أن نقول إن الأشياء المحسوسة هي الأشياء التي لها وزن و لها حيِّز و جسم وطول و عرض و ارتفاع و لون وصوت و رائحة و ملمس، فهذه الأشياء يمكننا أن نعرفها عن طريق الحواس، ونحن والحيوانات الأخرى في معرفتها سواء، فقد ترى بعينك ضوء الشمس، و تسمع بأذنك صوت السيارة، و تشمُّ بأنفك رائحة الزهر، و تمسك بيدك قطعةً من القماش تتحسس نعومتها، فهناك سمعٌ وبصرٌ وشمٌ ولمس، و هذه الحواس متعلقة بالمحسوسات، فسبيل معرفة الشيء الذي ظهر جسمه وأثره هو الحواس الخمس، وهذا لا خلاف عليه، فأنت تمسك بالكأس مثلاً فتقول: هذا كأس فيه ماء وله وزن، فتقيِّم وزنه بيدك، وقد ترى أن الماء لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، فتشربه و تقول: هذا ماء بارد عذبٌ فرات، و هذه المعرفةٌ الحسية ليست مشكلة، فهي لا خلاف عليها.
 فرق الإنسان عن الحيوان والجماد:
 و نقول إن صح التعبير: إن الجماد شيءٌ يشغل حيزاً، فله طولٌ وعرضٌ وارتفاعٌ ووزنٌ،وحجم، أما النبات فيشغل حيزاً كالجماد تماماً، فله وزن و طول وعرض وارتفاع، لكنه ينمو، و الحيوان يشغل حيزاً كالنبات أيضاً، وله وزن وطول وعرض وارتفاع نمو لكنه يتحرك، أما الإنسان فهو شيءٌ له طول وعرض وارتفاع و وزن، ويشغل حيزاً ويتحرك وينمو، لكنه يدرك. و هنا يتميَّز الإنسان، فإذا عطَّل الإنسان عقله، أو أساء استعماله هبط عن مستوى إنسانيته، إلى مستوىً لا يليق به، لذلك يقول أهل النار في النار:

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾

( سورة الملك )

 فقد يركب إنسان مركبة قديمة جداً من موديل الأربعين، فتتدهور و يموت، نقول: إن سبب تدهورها هو نوعيتها السيئة أو قِدمها الشديد الذي أتلف أجهزتها، و لكن إذا ركب الإنسان أحدث مركبة، وكانت الطريق مليئة بالمنعطفات، وكان على اليمين وادٍ وعلى اليسار وادٍ، فلو أطفأ الضوء مرةً واحدة تدهور، فهل علة التدهور الأولى كعلة التدهور الثانية ؟ لا، لقد تدهور الأول بسبب ضعف المركبة، أما الثاني فقد تدهور بسبب عدم الرؤية أو انعدام الرؤية فارتكب حادثاً فأودى به، فقد يكون الإنسان من أذكى البشر، و قد يكون ذا عقلٌ راجح، لكنه حينما لا يرى بنور الله يهلك، وسأضع لكم على ذلك أمثلة تعرفونها جميعاً.
 قد يفحص الإنسان درجات عينيه عند طبيب عيون، فإذا كشف جهة الحروف في السطر الأسفل كانت درجة رؤيته عالية جداً،فيقول له الطبيب: (اثنتا عشرة على عشر)، وقد يقول لإنسان آخر: (عشر على عشر)، أو تسع على عشر وهكذا.
 فقد يكون الإنسان حاد البصر، وقد تكون درجة رؤيته اثنتي عشرة على عشر، ولكن.. ما قيمة هذه العين إذا لم يوجد ضوء ؟ إنها لا قيمة لها إطلاقاً، فالعين لا بد لها من وسيطٍ يصل بينها وبين الأشياء، والوسيط هو النور الاصطناعي أو الطبيعي، فكما أن النور أساسيٌ في وظيفة العين فإن الوحي أساسي في وظيفة العقل، فقد يكون عقل الإنسان مجهزاً بتجهيز من أعلى المستويات، ولكن هذا العقل لا قيمة له من دون وحيٍ يهتدي به.
 فالعقل جهاز ضخم لكن حيادي، فقد يُستخدم في الخير و قد يستخدم في الشر، فالآلة الطابعة الراقية التي يصل ثمنها إلى نصف مليون، من ممكن أن تطبع بها عملة وتزورها فتدخل السجن، كما يمكن أن تصمم بها أغلفة وبطاقات فتغتني، والآلة واحدة.
 وسيلة معرفة الأشياء غير المحسوسة التي لها أثر:
 (العقل):
 أيها الإخوة الكرام... إن الإنسان يملك قوة إدراكية هي العقل، هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة إلا بالأثر، ( الأقدام تدلُّ على المسير، والماء يدل على الغدير، والبعر يدل على البعير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلاَّن على الحكيم الخبير )، فمهمة العقل هي أن يصل من شيءٍ محسوس، إلى شيءٍ مغيَّب.
 فالله عزَّ وجل لا تدركه الأبصار، ولكن الكون كله يدلُّ عليه، فالكون أحد آثاره، ونحن نصل من الأثر إلى المؤثِّر، و من الخلق إلى الخالق، و من التسيير إلى المسيِّر، ومن الحكمة إلى الحكيم، و من العطاء إلى المعطي، و من النِعمة إلى المُنعم.
 فالأشياء المحسوسة أداة معرفتها الحواس الخمس، أما الأشياء غير المحسوسة التي لها آثار فأداة معرفتها العقل، و العقل في هذا الميدان يجول ويصول، وإذا تعمَّقت في التفكر بالآثار وصلت إلى الله عزَّ وجل، لذلك يمكن أن أقول لكم بشكلٍ بسيط: إن العقل أوسع بابٍ ندخل منه على الله وأقصر طريقٍ نصل به إليه، فهو يتكامل مع الكون كما أنه قوة إدراكية تكشف المجهول من آثاره، و تكشف الغائب عنك منها، لذلك يصنِّف المؤمن دائماً وأبداً المقولات فيقول: هذه قضية حسية، و هذه قضية عقلية، ولكن.. هناك قضية ثالثة، كانت سبب درسنا اليوم، وسبب هذه المقدمة، فقد عرفنا أن الشيء الحسي الذي ظهرت عينه فأدركنا آثاره بحواسنا الخمس، ونحن بهذا نلتقي مع بقية المخلوقات، أما الشي الذي غابت عينه وبقيت آثاره فلا يمكن أن نصل إليه بحواسنا الخمس، وهناك المغالطة يطرحها الفلاسفة تقول: (أنا أشعر بوجودي إذاً أنا موجود) و الرد على هؤلاء أن عدم الوجدان لا يدلُّ على عدم الوجود، فإذا لم تر الله بعينيك ولم تشعر به بحواسك الخمس لم يكن معنى ذلك أنه غير موجود، فأنت الآن تتعامل مع أشياء كثيرة لا تشعر بوجودها لكنها موجودة، فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، و هذه حقيقة.
 فمهمة العقل إذاً هي أن ينتقل من الأثر إلى المؤثِّر، و من خلق إلى خالق، و من شيء محسوس إلى شيء مجرَّد، و من شيء الذي له أثر إلى ذات الشيء، لذلك كان الإيمان بالله يأتي عن طريق التفكُّر في خلق السماوات والأرض.

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾

( سورة الفرقان: آية " 63 " )

 يعني يتفكرون.

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾

( سورة آل عمران )

 فنحن أيها الإخوة أمام عبادة راقية جداً هي عبادة التفكُّر، و هذه عبادة أهملها فضعف إيمانهم بعظمة الله، فأصبحوا يؤمنون بوجوده لكنهم لا يؤمنون بعظمته، والدليل:

﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) ﴾

( سورة الحاقة )

 فبعض المسلمين يجعل الله أهون الناظرين إليه، يقول تعالى في الحديث القدسي:

 

((عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين أفلا طهَّرت منظري ساعة))

 فإلى أي شيءٍ ينظر الله عزَّ وجل ؟ إنه ينظر إلى قلبك، وقد طهرت منظر الخلق ؛ فطليت بيتك و نظفت مركبتك، و غيرت أثاث بيتك، و لبست أجمل الثياب، إنك تُطَهِّر منظر الخلق، ويا ليتك تطهر منظر الله عزَّ وجل، و الله ينظر إلى قلوب لعباد، فلو طهرت منظر الله عزَّ وجل لكنت في حال غير هذا الحال، قال تعالى:

 

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾

( سورة الشعراء )

 لأن القلب هو قِوام الإنسان، وقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: " تعاهد قلبك ".
 فلو حطت ذبابة سوداء على عينك لرأيت كل شيء أسود، فتذهب إلى طبيب العيون، وقد يقول لك: الموعد بعد شهر، أو بعد شهرين، أو بعد ثلاثة أشهر، فتنتظر وتتأدب وتدفع وتسخو، فلماذا تعتني بعينك ولا تعتني بقلبك ؟ إن القلب هو منظر الله عزَّ وجل وهو ذخيرتك ورأس مالك يوم القيامة:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾

( سورة الشعراء )

 إن العقل أداة معرفة الله، والعقل حيادي، فإذا سرقت إنسان عصابة ما آلة حاسبة فإنها تأتي بهذه الآلة و تستخدمها في توزيع السرقة، وقد يستخدم إنسان آخر هذه الآلة في عمل عظيم، فهذه الآلة حيادية فيمكن أن تُستَخدم لتوزيع مال مسروق، كما يمكن أن تُستخدَم في عملٍ شريف، فالعقل حيادي، وهو إما أن يكون درجات ترتقي بها أو دركات تهوي بك، وهو أداة معرفة الله، لأن الله عزَّ وجل لا تدركه الأبصار، ولكن تدركه العقول، غير أن العقل لا يمكن أن يحيط بالله عزَّ وجل لكن يصل إليه، وهناك فرقٌ كبير بين أن تصل إليه وبين أن تحيط به، فقد تركب مركبة و تذهب بها إلى البحر، فنقول: هذه المركبة أوصلتك إلى البحر، لكنك لن تستطيع أن تخوض بها البحر فإن فعلت غرقت، فمهمتها أن تصل بك إلى ساحل البحر، وهذا العقل مهمته أن تصل به إلى الله، فهذا الكون يمكن أن يكون بما فيه من آلاء ومن آيات عظيمة جداً جسراً تعبره إلى الله، فالعبرة في أن تعبره إلى الله.
 فالصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين وصلوا إلى الله وعبروا هذا الكون إليه، ونحن وصلنا إلى دقائق علمية مذهلة، فقد وصلنا إلى الذرة و الهندسة الوراثية والمورِّثات المبرمجة، كما أن العلوم الطبيعية والحيوية وصلت إلى درجات يصعب أن يصدقها العقل، ولكننا ما زلنا على الجسر لم نعبره إلى الله عزَّ وجل.
 أقول لكم هذه الحقيقة وقد ذكرتها من قبل: لو أن هناك مدينةً فيها كلُّ شيء مما لذ وطاب، و كان كل شيء فيها ثمين و مباح بلا ثمن، فإنك إن وصلت إليها سعدت سعادةً لا توصف، لكن العبرة في أن تصل إليها، فالآن مثلاً توجد مركبات مختلفة ؛ فهناك المركبة البدائية وهي الدراجة، وهناك مركبة أعلى وهي الدراجة النارية، وهناك مركبة ثلاثة دواليب، وهناك مركبة أربع عجلات وهي أرقى، و بعد ذلك نجد الطائرة... فالمركبات تتنوع، لكنك حينما تختار أي مركبة فإنك تستعملها لتصل بك إلى هذه المدينة، لكن هذه المركبة ينتهي دورها بعد وصولك، فلم يعد لها قيمة لأنها أدت المهمة، و مهمة الكون هي أن تصل منه إلى الله، وإنك قد تصل إلى الله بمعلومات دقيقة جداً، فالصحابة وصلوا إليه، لكن هؤلاء الذين يعيشون في عصر العلم كانت شهواتهم المنحرفة أو معاصيهم الكثيرة حجاباً بينهم وبين الله عزَّ وجل.
 الموضوع الثاني هو أن مهمة العقل هي أن يصل من المحسوس إلى الغائب، و من المحسوس إلى المجرَّد، و من الأثر إلى المؤثِّر، و من النعمة إلى المنعم، و من التسيير إلى المسيِّر، و من الحكمة إلى الحكيم، و من العطاء إلى المعطي، وهكذا... ولكن.. ما علاقة هذه المقدمة بدرسنا ؟!
 وسيلة معرفة الأشياء غير المحسوسة التي لا أثر لها:
 هناك طريق ثالث إلى المعرفة، وهذا الطريق ليس حسياً ولا عقلياً، لأن موضوع المعرفة شيء غابت عينه وغابت آثاره عن حواسنا، فليس له أثر ولا نراه بالعين، هذا الشيء لا يمكن أن نعرفه إلا بالخبر الصادق فقط، فالعقل ليس له دور هنا، فإياك أن تسأل عن دليلٍ عقلي لوجود الجن مثلاً، فهذا الدليل غير موجود، وقد زلَّت قدم البعض فأنكروا الجن، وقالوا: أين الجن ؟ و إياك أن تسأل: أين الملائكة ؟ لأنه لا يوجد دليل عقلي على وجود الملائكة فالعقل يحتاج إلى أثر، كما لا يوجد حسي، لأنها أجسام نورانية لا نراها، فالعقل يتعامل مع الأثر، ثم ينتقل بك إلى المؤثر، و الحواس تتعامل مع الشيء مباشرةً، لا مع أثره، فقد جاء في العقيدة الصحيحة موضوعاتٍ كثيرة، وسبيل معرفتها ليس الحواس ولا العقل، و هذه موضوعات قليلة، ومنها الجن، فنحن لا نملك عن الجن إلا ما أخبرنا الله به، ولا نستطيع أن نزيد على ذلك شيئاً، ولا أن نحذف شيئاً، و هذا موضوع مسلك الإيمان به الخبر الصادق.
 فقد تدخل مثلاً إلى بيت فترى بعينك الأثاث و الثلاجة والمقعد الوثير والمكتب وقد تجد مروحة تتحرك ومصباحاً يتألَّق، وجواً مكيَّفاً، فتقول: إن في البيت كهرباء مع أنك لم تر الكهرباء، فقد عرفت الطاولة والأثاث والثلاجة والمكتب بحواسك، وعرفت وجود الكهرباء بعقلك، فلما رأيت المروحة تدور، والمكيف يعمل، ثم طُرِقَ الباب فَرن الجرس، تقول: في هذا البيت يوجد كهرباء، فمعرفة الكهرباء تختلف عن معرفة المكتبة والأثاث، فأنت تعرف المكتبة والأثاث بحواسك، والكهرباء بعقلك، أما الغرفة المغلقة فلا تستطيع أن تعرف ما فيها، لا بحواسك ولا بعقلك، مهما كان الإنسان ذكياً و عاقلاً حتى وإن كان يحمل شهادة البورد، فإنك إذا أدخلته بيتاً وأجلسته في غرفة فيها باب، فإنه لا يعلم ما بداخله الغرفة الأخرى، لأن الحائط كاتم يمنع الرؤية، والعقل يحتاج إلى وسائل، و يحتاج إلى آثار لكي يشتغل، فجاء بعد ذلك صاحب البيت وهو إنسان صادق، فقلت له: ماذا يوجد في هذه الغرفة ؟ فيقول لك: فيها غرفة نوم لونها بني، وفي ثريا، و منظر طبيعي و ستائر بنية أوبيج، فهذا خبر صادق، فقد رأيت المكتب بعينك وأدركت الكهرباء بعقلك وعرفت ما في الغرفة بالخبر الصادق.
 فالآن أصبحت القضية سهلة جداً، فإذا كنت أمام أي موضوع بالدين، فإن أول عمل يجب عليك هو أن تصنِّفه، فهل هو مع الحواس أم مع العقل أم مع الخبر الصادق ؟؟ فإذا كان مع الحواس فانظر إليه وأمسكه بيدك، و قدِّر وزنه، وقدِّر نعومته بجلدك، وقد يكون مما لا يُرى جسمه ولكنه يُرى أثره، فإذا رأيت دخاناً مثلاً قلت: هناك نار، لأنه لا دخان بلا نار، وإذا رأيت الضوء أطْفِئ فجأةً فمعنى ذلك أن الكهرباء قد انقطعت، فهل سبب الانقطاع يا ترى من عندنا أم من المؤسسة ؟ فالعقل هنا اشتغل في الآثار، أما حينما ترى غرفةً مغلقة في البيت، فلا يمكنك أن تعرف ما فيها مهما كنت ذكياً إلا أن تسأل صاحب البيت: رجاءً قل لي ما في هذه الغرفة ؟ وهو عندك صادق، فقد عرفت المكتب بعينك وعرفت وجود الكهرباء بعقلك وعرفت محتوى هذه الغرفة بالخبر الصادق.
 فإذا استطعت أن تصنف كل موضوع في أي حقل هو، انتهت كل مشكلاتك في العقيدة، وإن أكثر أعداء الدين الآن يأتون إلى مؤمن ضعيف الإيمان ويقولون له: أنا رجل واقعي، أثبت لي وجود الجن بدليل علمي، أو أحضر دليلاً على وجود الملائكة، أين الملائكة ؟ فيرتبك هذا الإنسان بسبب عدم وجود دليل مادي، لأن الدليل إخباري فقد، فالله عزَّ وجل أخبرني أن هناك مخلوقات تدعى (الجن)، و أن هناك مخلوقات تدعى (الملائكة)، فإيَّاك أن تخوض مناقشةً مع ملحدٍ حول موضوعاتٍ إخبارية، فالموضوعات الإخبارية ليس لها قيمة لها إطلاقاً إلا إذا صدِّقت قائلها، و كلامي هذا دقيق، فإذا آمنت بالله أولاً وآمنت بكتابه ثانياً وصدَّقت أنه كلام الله، وأخبرك الله أن هناك مخلوقاتٌ هي الجن، فإنك تؤمن الآن بالجن إيماناً إخبارياً، فأنت لست مكلّفاً أن تؤمن بالجن إيماناً عقلياً، فليس هناك دليل عقلي على وجود الجن، ولن تستطيع أن تؤمن بالجن إيماناً حسياً لأنك لا تراها، قال تعالى:

﴿ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾

( سورة الأعراف: آية " 27 " )

 فما دمت لا ترى الجن، فأنت لست مكلفاً أن تؤمن بها إيماناً حسياً، وما دام الجن ليس له أثر فأنت لست مكلفاً بأن تؤمن بالجن إيماناً عقلياً، فالسبيل الوحيد للإيمان بالجن هو الدليل الإخباري وهو الخبر الصادق، وهذا هو حال أية موضوعاتٍ يمكن أن تكون في دائرة الخبر الصادق، كالملائكة و الجن والماضي السحيق، قال تعالى:

﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الكهف: آية " 51 " )

 أي: لم يكونوا في ذلك الوقت، فهؤلاء الذين يزعمون أن أصل الإنسان قرد، لم يكونوا شاهدين على خلقه..

﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾

( سورة الكهف )

 فالملائكة والجن والماضي السحيق، و المستقب البعيد، و ما بعد الموت، و قصة خلق الإنسان، و ذات الله عزَّ وجل، هذه كلها موضوعات نؤمن بها عن طريق الخبر الصادق، فالله أخبرنا مثلاً أنه على العرش استوى، فما هي كيفية استوائه ؟ قال الإمام مالك لسائل سأله هذا السؤال:" الاستواء معلوم ( الله أخبرنا به )، والكيف مجهول، والسؤال بدعة قم عني "، فمن الممكن لك أن تريح نفسك من طريق شائك، أو من حقل ألغام، إذا عرفت أن هذا الموضوع متعلق بالخبر الصادق فآمنت به، وذلك طبعاً بعد أن تؤمن بالله الإيمان الحقيقي المتين العميق،وبعد أن تؤمن بكتابه المعْجز ورسوله الصادق الذي جاء بهذا الكتاب.
 مثال موضح:
 لقد ضربت مرة مثلاً يوضح هذا الأمر فقلت: إذا كان هناك بقالية فيها عشرة آلاف صنف، وأقل صنف يزن خمسة غرامات، أما أكبر صنف فهو يزن خمسة كيلو، فإذا كان هناك ميزان حساس و غال جداً يؤدي الوظيفة بالتمام والكمال، لكن استيعابه هو من الغرام إلى عشرة كيلو فقط، فهذا الميزان يكفي البقالية، لكن صاحب البقالية أراد أن يستخدم هذا الميزان لوزن سيارته، فوضعه على الأرض وسار فوقه فتحطم، فقال: هذا لا يصلح، فقد استخدمه في غير ما صنع له، و دققوا الآن في كلامي: إن عقلك محدود المهمة، فإذا عددته مقياساً مطلقاً للمعرفة فقد جانبت الحقيقة، فإذا اعتقدت أن عقلك مقياس مطلق للمعرفة أخطأت خطأ كبيراً، وهذه مشكلةٌ المعتزلة الذين عدوا العقل مقياساً مطلقاَ وحكَّموه بالنقل، فقال بعض العارفين بالله:" العقل حصانٌ تركبه إلى باب السلطان فإذا دخلت إلى السلطان دخلت وحدك ".
 وقد يقول لك الإنسان أحياناً: أريد طبيب هضمية متفوق ؛ فيسأل أصدقاءه ومعارفه وأقرباءه وبعض المرضى عن شهادته و اختصاصه و خبراته وسمعته و أمانته و ذكائه وتواضعه، إلى أن يوصله عقله إلى هذا الطبيب، فإذا دخل إليه أعطاه الدواء، فهل يستطيع هذا المريض بعد ذلك أن يعترض على هذا الطبيب ؟ لا، لقد انتهت حدود عقل المريض، فعقله أوصله إلى باب العيادة وانتهى الأمر، أما الآن فهو يتلقى، و الشيء اللطيف في الموضوع هو أن الشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، وهذا شيء جميل جداً، فقد جعل لك أشياء محسوسة وأعطاك خمس حواس، وجعل لك أشياء مغيَّبة عنك وأعطاك عقلاً، فعقلك له مهمة محدودة، فهل يا ترى كلمة (محدودة) نقص في العقل ؟ لا إنها ليست نقص، فإذا كان عندك مثلاً زوجة وثلاثة أولاد فإنك تحتاج إلى مركبة، فهل من المعقول أن نعطيك (تراكس) لتخرج به إلى نزهة ؟ هذا ليس كمالاً، أنت تحتاج إلى مركبة بعشرة أحصنة وليس إلى مركبة بخمسمائة حصان -أحصنة سيارة طبعاً وليس أحصنة عادية-، فلذلك كان كمال عقلك في أن يكون محدوداً بالمحسوس وبالآثار، أما العقل المطلق فهو الله عزَّ وجل، فالشيء الذي عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به،و القضية سهلة، قال تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

( سورة الرعد: آية " 2 " )

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

( سورة الذاريات )

 لقد عرَّفك بذاته، وعرفك بأسمائه، وعرفك بكمالاته، و عرفك بالأنبياء السابقين،قال تعالى:

﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾

(سورة آل عمران: آية " 44 " )

 عرَّفك بتاريخ الأنبياء وتاريخ الشعوب والأمم السابقة، كما عرفك بالمستقبل:

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾

( سورة المائدة: آية " 116 " )

 لقد عرفك بالماضي السحيق، والمستقبل البعيد، وحكمة الأشياء، وعلَّة الخلق، وسر وجودك، وغاية وجودك، فكلُّ شيءٍ يعجز العقل عن إدراكه أخبره الله به، فهناك أشياء محسوسة أداتها الوحيدة هي الحواس الخمس، كما أن هناك أشياء معقولة غابت عينها وبقيت آثارها وأداتها الوحيدة العقل، وهناك شيء لا يستطيع عقلك ولا حواسك أن تدركه وهو متعلق بالإخباريات التي أخبرك الله عنها، فإذا قرأت القرآن مثلاً شعرت أن هذا كتاب معرفة كامل، ففيه محسوسات، قال تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

( سورة يونس: آية " 101 )

 تسلسل عقلي...
 هناك معقولات وهناك إخباريات، لكني أريد أن أنصحك بشيء: إياك ثم إياك ثم إياك أن تناقش إنساناً منكراً ملحداً في الإخباريات، والإخباريات لها أربع مراتب، فيصبح التسلسل كالآتي: أولاً تؤمن بالله عن طريق الكون، و الكون شيء موجود و مسلَّم به، وهناك من يسميه: الشيء الثابت، فإذا أعملت عقلك في الكون وصلت من خلاله إلى خالقه العظيم، لأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فالخَلق لا يمكن أن يكون عبثاً:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾

( سورة المؤمنون: آية " 115 " )

  فلا يمكن للخالق أن يخلق الخلْق سدىً..

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾

( سورة القيامة )

 هذا غير معقول، فلا يمكن لإنسان عاقل أن يرسل شخصاً إلى حلب ثم يدفع له ألفين ليرة أجرة سيارة، ثم يقول له: لا تفعل شيئاً، اذهب وارجع فقط، هذا مستحيل، كما لا يوجد مدير شركة يحترم نفسه يعطي أمراً ليس له معنى أو فيه إتلاف للمال أو هدر للوقت والجهد بلا سبب، إنه إن فعل ذلك لا يسمى مديراً بل مجنوناً، فهل يمكن لإله عظيم أن يخلق الخلق عبثاً ؟!!

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾

( سورة المؤمنون: آية " 115 " )

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾

 

( سورة القيامة )

إن كمال الخلق يدلُّ على كمال التصرف، و ربنا عزَّ وجل خلق إنسان، ثم دله عليه و أرشدك إليه، ثم حذره و نبهه، فقد يشق الإنسان طريقاً، وبعد أن يشق الطريق يضع عليه لافتات: (ممنوع مرور، ممنوع تجاوز، منحدر خطر، جسر، طريق تحويل )، وهذه كلّها إرشادات، والله عزَّ وجل قد خلق الخلق، ونوَّر الخلق بكتابه، فإذا آمنت بالله واحداً وموجوداً وكاملاً، ثم آمنت أنه لا بدَّ من أن يُخْبِر خلقه عن سبب خلقهم، فلا بد لك من أن تؤمن بهذا الكتاب عن طريق إعجازه، كما لا بد لك من أن تؤمن بالنبي عن طريق هذا الكتاب، وهذا تسلسل عقلي رائع، فإذا آمنت بالله عن طريق الكون، وبالقرآن عن طريق إعجازه، وبالنبي عن طريق قرآنه، انتهى دور العقل، ويأتي بعد ذلك دور النقل، لذلك قالوا: " الدين نقلٌ " فأساس الدين وحي من السماء ؛ أي: إخبار الله الخلق، و تعريفهم به، إلهاً و رباً وخالقاً و حكيماً و سميعاً و بصيراً و رحيماً و غنياً و لطيفاً و قديراً، فالدين وحي لكن التأكد من هذا الوحي يكون عن طريق العقل، كما أن فهمه يكون عن طريق العقل، فدور العقل يكون قبل النقل وبعد النقل، فدوره قبل النقل هو إثبات صحة هذا النقل، ودوره بعد النقل هو فهم هذا النقل، فالعقل لا يتناقض مع النقل، ولكن لا يجوز للإنسان أن يُحَكَّم العقل بالنقل، فالإنسان المنحرف قد تقول له الآية أو الحديث فلا تعجبه، لأنه جعل عقله هو الأصل، و العقل في الحقيقة وسيلة، وهو محدود المهمة، فلا يمكن له أن يكون العقل حكماً على النقل.
 لذلك كان درسنا اليوم متعلِّقاً بالخبر الصادق، فالله أخبرنا أن هناك مخلوقات لا نراها لكنها ترانا، و تسمعنا لكننا لا نسمعها، و الدليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق الذي يوحى إليه، قد حضرتْ مجلسه الجن واستمعتْ إلى القرآن الذي يتلوه على أصحابه والنبي لا يعلم، فلولا أن الله أخبر النبي أن الجن حضرت مجلسك وسمعت القرآن من فمه لما علم النبي، فمعنى ذلك أننا لا نرى الجن، كما أننا لا نسمع صوتهم:

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾

( سورة الجن: آية " 1 " )

 قل يا محمد لإخوانك وأصحابك، وللناس قاطبةً:

﴿ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾

( سورة الجن: آية " 1 " )

 فلولا أن الوحي جاءه ما علم أن الجن حضروا معه، فالنبي الكريم -على عظمته- لا يعلم إلا أن يعْلِمه الله عزَّ وجل..
 هذه السورة تنبذ الخرافات والأوهام..
 إخواننا الكرام.. من الممكن الآن بعد أن استمعت إلى هذا الدرس أن تضع تحت قدمك مليون قصة ليس لها أصل، فهناك من الناس من يعيش في أوهام عالم الجن، وقد تجد أشخاصاً محترمين يذهبون إلى أشخاص من أجل إخراج جني أو إدخال جني أو تعامل مع الجن، فنحن نسمع قصصاً لا تنتهي حول ذلك في كل جلسة نحضرها، و هذه السورة هي الحاسمة، لأنها مقياس دقيق، لقد قلت في بداية الدرس الماضي: إن هناك أناساً تطرفوا، حينما أنكروا الجن، كما أن هناك أناساً تتطرفوا حينما أعطوا الجن كل شيء، فالجن لا نراهم ولا نسمع أصواتهم، ولكنهم يروننا ويسمعوننا:

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾

 و لولا أن الله أوحي إلى النبي لما عرف النبي أن الجن حضرت مجلسه.

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾

 و بالمناسبة: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:

(( أنا لا أعلم الغيب ))

 " قل لا أعلم الغيب "، فأي مخلوق يدَّعي بعد ذلك أنه يعلّم الغيب يجب أن تركله بقدمك، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾

( الأعراف )

 قل: إني لا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، فإذا كان النبي لا يعلم الغيب، فهل نقبل من أحدٍ كائناً من كان أن يعلم الغيب ؟ فكم من قصة تسمعونها كلَّ يوم عن أناس يعلمون الغيب ! يقولون: يوجد أمامك قبضة ( أي قبض نقود)، أو يوجد لك عدو يمكر بك، إن من أتى كاهناً فصدَّقه فقد كفر، و من أتى ساحراً فلم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، ولا دعاؤه أربعين ليلة، فهذا شيء كبير جداً، فمن الكبائر أن تقرأ حظك هذا الأسبوع في المجلات، كبرج الثور، وبرج (الديب) وهذا كله كذب، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، و هذا ديننا، فأنت عندما تفهم القرآن تركل بقدمك مليون قصة كذب، فلا أحد يعلم الغيب، و النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب كذلك، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾

( سورة الجن)

 فهل يستطيع مخلوق كائناً من كان أن يدعي أنه يملك لك النفع والضر ؟ فإذا كان سيد الخلق النبي على عظمته يقول:

﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾

 وهناك آية أبلغ تقول:

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾

( سورة الأعراف: آية " 188 " )

 انتهى الأمر، فأي إنسان يدَّعي أنه ينفعك أو يضرك، قل له: أنت كاذب.
 إخواننا الكرام... مرةً ثانية.. إن الله عزَّ وجل يقول أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب،

((قل لا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ))

 فهل يستطيع إنسان آخر أن يدعي علم الغيب ؟ كم من قصة بإمكانك أن تنفيها بآية واحدة ؟ إذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾

(سورة الأعراف: آية " 188 " )

 ولا أملك لكم نفعاً ولا ضراً: فهل من إنسان بإمكانه أن يدعي أنه ينفعك أو يضرك ؟ هذا مستحيل، كما قال الله تعالى:

﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾

( سورة الأنعام )

 فهل تحترم إنساناً يقول لك: أنا لا تهمني المعصية ؟ يجب عليك أن تحتقر هذا الإنسان، لأن رأس الحكمة مخافة الله، إذاً: هذه آيات تعدُّ مفصلية في القرآن الكريم، وكذلك هو شأن هذه السورة، و إن شاء الله في الدرس القادم سنشرع بتفسيرها بشكل دقيق، لكنك إذا استوعبت آيات سورة الجن، والآيات الأخرى التي تتحدث عن الجن في غير سورة عن الجن، كان بإمكانك أن ترد مليون قصة ولا تعبأ بها إطلاقاً، فهناك مقولات وأخطاء وأوهام وخرافات وخزعبلات ومتاهات كثيرة، لا ينجينا منها كلها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، وهذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأي شيء آخر غير القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة، فيه خلط و إضافات و حذف و زيادات و تأويلات خاطئة نحن عنها في غنى.

 

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا))

 يجب أن تكون هذه السورة حاسمةً لنا في موضوع الجن، فلا نسمح لأنفسنا أن تروِّج قصة تخالف هذه الآيات أو أن تستمع إليها أو أن تصدقها أو أن تخاف منها، فقد يقال لك مثلاً: إن فلاناً سحروه، فليس هناك تفاهم بينه وبين زوجته، إنه (مكتوب له)، فما هذا الكلام ؟! فسبب عدم التفاهم بينه وبين زوجته هو سوء معاملته لها، فقد خالف منهج الله فيها، فيجب أن تكون علمياً في طرحك و فهمك للأمور، لأن هذا الدين علم، والصحابة الكرام ما يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالعلم و بالدقة البالغة، وهذه المقدمة الثانية كانت في منهج التلقي، أما المقدمة الأولى فقد كانت في تعريف الإنسان، و في الدرس القادم إن شاء الله نبدأ بشرح هذه الآيات آيةً آية.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور