وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة القلم - تفسير الآيات 34-43
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أسس المنطق السليم
 الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام... مع الدرس السادس من سورة القلم، ومع الآية الرابعة والثلاثين وهي قوله تعالى:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) ﴾

( سورة القلم )

 محور الآيات:
 أيها الإخوة الكرام... إن المحور الذي تدور حوله هذه الآيات هو أن الله سبحانه وتعالى ينفي أن تكون معاملة المؤمن كمعاملة غير المؤمن، فهو سبحانه لا يعامل المسلم كالمجرم، ولا المستقيم كالمنحرف، ولا الصادق كالكاذب، ولا الأمين كالخائن.
فإما أن تؤمن أن لهذا الكون إلهاً قَيُّوماً عادلاً، وإما أن تؤمن بالعبثية، والعبثية تتناقض مع وجود الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾

( سورة المؤمنون: آية " 115 " )

 ولأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾

( سورة القيامة )

 ما الذي يحمل الناس على معصية الله ؟
 إن الذي يحملهم على معصيته هو توهُّمهم أن العاصي سيكسب شيئاً من معصيته، وأن المؤمن باستقامته قد حُرِمَ من مباهج الدنيا، و هذا الوهم الخطير هو الذي يدفع الناس إلى مخالفة منهج الله، و لو أن الناس عَلِموا علم اليقين أن لكل معصيةٍ عقاباً، وأن كل خروجٍ عن منهج الله هو هلاكٌ وشقاءٌ في الدنيا والآخرة، لما خرج أحدهم عن منهج الله، إنها أزمة علمٍ، و الآية الكريمة تقول:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

( سورة القلم )

 فهؤلاء الذين اتقوا ربهم قد عرفوا أمره ونهيه، فالإنسانُ يتقي اللهَ ويبتعد عن معصيته إذا عرف أمره ونهيه، فهؤلاء الذين طلبوا العلم، وبحثوا عن النظام الذي شرّعه هذا الإله العظيم، وبحثوا عن دستور الإنسان المؤمن، فقرؤوا القرآن، وتَفَهَّموا آياته، وعرفوا حلاله وحرامه، وما ينبغي وما لا ينبغي، ثم اتقوا أن يعصوا ربهم، هؤلاء المتقون في جنات النعيم، و كل نعيم الدنيا ليس بشيءٍ أمام نعيم الآخرة، بل كما قال عليه الصلاة والسلام:

 

((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المَخيط إذا غمس في مياه البحر))

 إذا غمست إبرةٌ صغيرة في مياه البحر ثم أخرجتها بماذا ترجع ؟ هذا الماء الذي رجعت به هو نسبة ما في الدنيا من نعيم إلى ما في الآخرة من نعيم، فقد سألت زوجة أحد الصحابة زوجها شيئاً من الدنيا فقال لها: اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلئن أضحي بكِ من أجلهن، أهون من أضحي بهن من أجلكِ.
 موازين الآخرة..
 إن محور هذه الآيات يقول: من المستحيل أن يتساوى المسلم و غير المسلم، والمؤمن غير المؤمن، والمستقيم وغير المستقيم، و الصادق والكاذب، وما يعتقده الناس من أن الإنسان المال يحُل كل المشكلات هو وهم باطل، يقول الله عزَّ وجل:

 

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾

 في الآية لفتةٌ دقيقةٌ جداً، فالله عزَّ وجل لم يقل: أفنجعل المسلمين كغير المسلمين،بل قال:

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾

 أي إما أن تكون مستسلماً لأمر الله، خاضعاً له، مطبِّقاً لتعليماته، أو أن تكون مجرماً، وإجرامك يكون بحق نفسك أولاً لأنك أبقيتها في جهالةٍ جهلاء،وأطلقت شهواتها إلى أن تفلَّتت فهلكتَ في الدنيا والآخرة، والإجرام يكون أيضاً في حق مَن حولك الذين لم تأخذ بيدهم إلى الله عزَّ وجل، وبحق من تتعامل معه من الناس، إذا لم تطبق منهج الله عزَّ وجل فيهم فأخذت ما ليس لك منهم واعتديت على أموالهم و أعراضهم، وظلمتهم.
 أيها الإخوة الكرام...

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 وجنات النعيم التي وعد الله بها المؤمنين تختلف عن النعيم الذي يعيشه بعض المترفين في الدنيا، فالنعيمٌ الدنيوي مشوبٌ بالقلق و الحُزن و توقع المصيبة والخوف من المُستقبل والمجهول، فكل إنسان حاز الدنيا وملكها في أعماقه قلقٌ كبير، وخوفٌ عميق، وشعورٌ بالحيرة.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 أما نعيم أهل الجنة فهو نعيم لا يزول ولا يشوبه شيء.
 أيها الإخوة.. إني أتمنى على كل أخٍ كريم ألا يسمح لنفسه أن توازن بين إنسانٍ مترفٍ متفلتٍ من أمر الله ونهيه، وبين إنسانٍ متعبٍ يعاني من شظف العيش لكنه يعرف الله ويستقيم على أمره، فلا تسمح لنفسك أن توازن بين إنسانين، ما لم تضُمَّ إلى دنيا كل منهما آخرته، وإنك لو ضممت آخرة المؤمن إلى دنياه، وضممت آخرة الكافر إلى دنياه، لوجدت أن المؤمن هو المفلح و الرابح والسعيد.
 قصة:
 يروى عن عبد الله بن المبارك – وهو أحد العلماء الأجلاَّء- أنه كان يمشي في ثُلَّةٍ من أصحابه، وهو في أبهى حُلَّة و أجمل حالة، فرآه رجلٌ غير مسلم كان يعيش معيشةً ضنكاً، فسأله هذا السؤال: يا إمام يقول نبيُّكم عليه السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فأيُّ سجن أنت فيه وأي جنةٍ أنا فيها ؟ فأجاب هذا الإمام: " إنّ ما أنا فيه من النعيم إذا قيس إلى نعيم الجنة فأنا في سجن، وما أنت فيه إذا قيس إلى عذاب الآخرة فأنت في جنة "، فلا تسمح لنفسك أن توازن بين جهتين، سواء كانت هاتين الجهتين إنسانين أو أُمَّتَيْن، ما لم تضم آخرتهما إلى دنياهما، فإذا ضممت الآخرة إلى الدنيا كان المؤمن منهما هو الأفضل والأكمل، فهو الذي عرف الحقيقة، فالدنيا ليست دار استقرار، إنما هي ممر، والآخرة هي المقر، و الدنيا دار تكليف، والآخرة دار تشريف، الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فالمؤمن الذي عرف الله واستقام على أمره ينتظره نعيمٌ مقيم، لذلك قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾

( سورة القصص )

 و المؤمن في بعض حالات غفلته و فتوره، يشعر بأنه يعيش بعض المشكلات، وقد ينظر إلى رجلٍ من أهل الدنيا فيراه يتقلب في النعيم والمال الوفير والصحة الطيِّبة و المكانة العليَّة، ففي بعض حالات الفتور والغفلة قد يتوهَّم أن هذا الإنسان هو المفلح الناجح، وأنصحه في هذه الحالة أن يعود إلى قول الله عزَّ وجل:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾

( سورة الأنعام )

 فالمؤمن لا ينبغي أن يشعر بهوان..

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

( سورة آل عمران )

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾

( سورة آل عمران )

 حقيقة الدنيا:
 إذا كانت الدنيا خشنة و مفعمةٌ بالمشكلات وكنت فيها مستقيماً على أمر الله، ترجو رحمته وتخشى عذابه، فإنك فيها الرابح والمفلح والمتفوق و العاقل و الفائز.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 وهذه الدنيا ستمضي، ثم يأتي الموت فينهي كل شيء، فيموت إنسان وهو لا يملك من حُطام الدنيا شيئاً، ويموت آخر وهو يملك الملايين المملينة، فيكونان في القبر سواء، فكلاهما يموت وهو لا يملك شيئاً، فالموت يلغي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، وقوة القوي، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، وصحة الصحيح، ومرض المريض، لذلك -أيها الإخوة- لا يجوز ولا ينبغي أن نُسَمِّي العطاء الذي يناله الإنسان في الدنيا عطاءً بالمعنى الحقيقي، إنه ليس بعطاء بل هو ابتلاء، لأنه ينقطع بالموت، وإذا كان الشيء ينقطع بالموت لا يسمى عطاءً، فالعطاء لا يسمى عطاءً حقيقياً من قبل الله عزَّ وجل إلا إذا كان متصلاً بالآخرة، وقد ورد بعض الأدعية عن السلف الصالح تقول: " اللهم اجعل نعم الدنيا متصلةً بنعم الآخرة ".
 و الخط البياني للمؤمن - كما أقول دائماً - صاعد صعوداً مستمراً، بينما قد يصعد الخط البياني لغير المؤمن صعوداً حاداً ليسقط سقوطاً مريعاً، فالعبرة أن تكون في طاعة الله والدنيا لا تقدم ولا تؤخِّر، فأصحاب النبي رضوان الله عليهم، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، و الغنى والفقر، و الصحة والمرض، و في إقبال الدنيا و إدبارها..
فبعد أن ذكر الله عزَّ وجل أصحاب الجنة الذين تحدَّثنا عن قصتهم في الدرس الماضي وكيف أنهم أرادوا أن يمنعوا حق الفقير، فأصاب الله سبحانه وتعالى محاصيلهم بالبوار وأتلفها، فندموا على ما فعلوه، بعد ذلك يحدثنا ربنا سبحانه وتعالى عن أهل الجنة قائلاً:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 فنعيم هذه الجنة خالد إلى أبد الآبدين، فهل يمكن لعاقل أن يُضحّي بها ويعرض عنها ؟ أيطمع الإنسان بسنواتٍ معدودة مشحونةٍ بالمتاعب، ويضحي بالآخرة الأبدية؟! هذا قول الله خالق الأكوان، فأنت - أيها الأخ الكريم – قد تصدّق إنساناً قوياً يفعل ما يقول، فتأتمر بأمره وتنتهي عما ينهى، أفلا تصدّق ربنا جلَّ جلاله وهو خالق السماوات والأرض ؟ أفلا تصدقه وهو يقول إن بعد هذه الحياة حياة أبدية فإما جنةٍ يدوم نعيمها، أو نارٍ لا ينفد عذابها، لقد قال الإمام الغزالي حينما خاطب نفسه: " يا نفس لو أن طبيباً منعكِ من أكلةً تحبينها فلا شك أنك تمتنعين "..  وكل واحدٍ منا لو شكا من بعض أعضائه وجعاً، فمنعه طبيب حاذق ورع من أكلةٍ معينة أو من شيءٍ كان يفعله، لتركه فوراً حفاظاً على صحَّته.. وهنا يقول الإمام الغزال: يا نفس لو أن طبيباً منعكِ من أكلةً تحبينها فلا شك أنك تمتنعين.. دققوا في هذا القول: " أيكون الطبيب أصدق عندك من الله ؟ إذاً ما أكفرك !!".. أيعقل أن تصدق الطبيب وتأتمرُ بأمره وتنتهي عما نهاك عنه لأنه عندك صادقٌ أمين، ثم ينهاك خالق السماوات والأرض عن أشياء ويأمرك بأشياء، ويعدك بالجنة ويحذرك من النار ثم لا تأتمر ؟.. أيكون الطبيب أصدق عندك من الله ؟ فما أكفرك إذا فعلت ذلك، ثم يقول:" أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله ؟ إذاً ما أجهلكِ ". فالإمام الغزالي يرى أن الذي يقترف معصيةً هو عند الله قطعاً كافرٌ وجاهل..

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 و معظم المسلمين اليوم يعيشون دنياهم، وأصبح للدنيا وجود قويٌ في حياتهم ؛ سواء في مالها أو تجارتها أو نسائها أو متاعها أو مباهجها أو بيوتها أو مركباتها، فالدنيا موجودة في حياتهم وجوداً صارخاً، أما الآخرة فهي ليست داخلةً في حساباتهم أبداً، بل قلما يذكرون الآخرة، على الرغم من أن الإيمان بالآخرة هو أحد أركان الإسلام، فالمؤمن -أيها الإخوة- لا يكون مؤمناً حقاً حتى يُدْخِلَ الآخرة في حساباته الساعية لا اليومية، يقول في نفسه: هذه الكلمة سوف أسأل عنها، و هذا المبلغ من المال سوف أحاسب عليه، و هذه النظرة سوف أعاتب عليها، و هذه الحركة سوف أدفع ثمنها، و هذا العطاء قد لا يرضي الله، وهذه القطيعة قد تغضب الله عزَّ وجل، فهو يحاسب نفسه في كل كلمةٍ، وفي كل حركةٍ وسكنة ٍ، ووقفةٍ وعطاءٍ ومنعٍ وابتسامةٍ، فيضبط كل مواقفه بمنهج الله عزَّ وجل، فإذا لم تدخل الآخرة في حسابات الإنسان فلن ينجو من عذاب الله، فإذا كان في أحد الدوائر مدير قوي، وله عيون في كل غرفة، فإن وجود هذا المدير سيدخل في كل حسابات الموظَّفين، فلا يجرؤ أحد على أن يتكلم كلمة يخشى أن تصل إليه فينتقم منه، والأمر في الآخرة كذلك أيها الإخوة... يقول الله عز وجل عن هذا اليوم العصيب..

﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

( سورة المطففين )

 فيجب علينا أن ندخل هذا اليوم في حساباتنا، و القضية عند المؤمن سهلةٌ جداً، فهو لا يأخذ ما ليس له، ويعطي الذي عليه، طلباً للنجاة من حساب الله عزَّ وجل.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ﴾

 فيا أيها الإخوة... والله الذي لا إله إلا هو إني لا أجد شيئاً يدفعنا إلى طاعة الله كاعتقادنا أنه لا يمكن للطائع أن يكون خاسراً، كما لا يمكن للعاصي أن يكون رابحاً، وإلا ساد العبث وغاب العدل، فلا يمكن للمسيء المنحرف أن ينجو، كما لا يمكن للمحسن المستقيم أن يقع، فالصادق لا يقع، والكاذب لا ينجو، و الأمين لا يقع، والخائن لا ينجو، هذا هو اعتقادنا، والآيات في ذلك كثيرة جداً:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾

( سورة السجدة )

 في الحقيقة هناك فرقٌ كبيرٌ جداً بين المؤمنٍ والفاسق، والمسلمٍ والمجرم، فالمؤمن صادق أمين رحيم منصف محب متواضع عفو سخي لطيف ؛ أما غير المؤمن فهو وقح عنيد متكبِّر مستعلٍ جاحد.

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾

 و الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتقوَّلون على الله بغير علم، فقد كانوا في بحبوحة وغنى ولهم دنيا عريضة، فكانوا ينظرون إلى أصحاب رسول الله الفقراء الضعاف على أنهم في الدرجة الدنيا من المجتمع، فيقولون: ربنا يحبنا لذلك أعطانا، وإذا زعمتم أن هناك آخرة فنحن فيها كما نحن في الدنيا أغنياء وأقوياء ومكرَّمون، هذه دعواهم لكنها دعوى بلا دليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، فإذا ألغي الدليل أقول لك: أنا أملك كل الشام، لكن هذا القول بلا دليل ولا مستندات، وقد رد ربنا عزّ وجل عليهم، فقال: هؤلاء الذي ترونهم صغاراً ضعافاً محتاجين، هؤلاء لهم الآخرة.

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 وقد أشار النبي عليهم الصلاة والسلام إلى هذه الحقيقة الدقيقة حينما خاطب سيدنا عدي بن حاتم، هذا الملك الذي لقي النبي عليه الصلاة والسلام وهو يظن أنه سيلقى ملكاً، فلما دخل عليه قال: "من الرجل ؟ " قال: عدي بن حاتم، فرحَّب به النبي عليه الصلاة والسلام وانطلق به إلى بيته تكريماً له، و في الطريق استوقفته امرأة ضعيفة فوقف معها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقال: والله ما هذا بأمر ملك، فلما دخل بيته، لم يجد فيه إلا وسادةً واحدة ألقاها النبي إليه وقال:

((اجلس عليها ))

 فقال عدي بن حاتم: بل أنت فاجلس عليها، قال: " بل أنت"، قال: فجلست عليها وجلس هو على الأرض، وهو سيد الخلق وحبيب الحق، قال:

((إيه يا عدي بن حاتم ))

 دققوا في هذا الكلام الذي يحتاجه كل مؤمن في هذه الأيام

(( "لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجته.. فقراء.. وايم الله ليوشكنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى أن المُلك والسُلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكنَّ أن تسمع بالمرأة البابلية تحجُّ البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك ياعدي من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم ))

 كما هي حال المسلمين اليوم..

(( وايم الله يا عدي لتوشكَنَّ أن تسمع بالقصور البابلية مفتحةً للمسملين ))

 وقد عاش عدي بن حاتم ورأى بعينه كل ما وعد به النبي عليه الصلاة والسلام.
 وقد نظر كفار قريش إلى المسلمين فرأوهم ضعافاً فقراء من الطبقة الدنيا في المجتمع، فقالوا: نحن على حق لأننا أغنياء و أقوياء، فالدنيا بين أيدينا، وإذا زعمتم أن بعد الموت حياةً أخرى فنحن في الجنة قبلكم، ولنا صَدْرُها، وهذا كلامٌ بلا دليل و لا أساس، فرد عليهم ربنا عزَّ وجل فقال:

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾

 لماذا يقوّي الله سبحتنه الكافرين أحياناً ؟؟
 أيها الإخوة: إني أكاد أصل إلى الحقيقة الآتية: إن مساواة المسلمين بالمجرمين أمر يتناقض مع وجود الله، فإن شئت قل: بل هذا يتناقض مع عدله بديهةً، فالله موجود ومع وجوده لا يوجد عبثيةٌ على الإطلاق، أما قولهم إن المجرم هو الفائز والمسلم هو الخاسر فهذا القول هو العبثية بعينها، فهل من المعقول أن يكون المستقيم هو الخاسر والمنحرف هو الفائز !! و أن يكون الصادق هو الخاسر والكاذب هو الفائز!! و الأمين هو الخاسر والخائن هو الفائز !!.

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾

 هكذا تعتقدون و تتوهَّمون و تحلمون..

﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

 فأين عقولكم ؟ أين منطقكم ؟ إنه إلهٌ كريم وكل الخلق عباده، وبيده كل شيء، فهل يمكن أن يقوِّي الكافر، ويعلي قدره، ويعطيه المال الوفير والبنين، ويجعله سيِّداً، يتحكم ببقية الناس إلى ما شاء الله ؟! قد يرفعه إلى حينٍ ليمتحنه.
 قد يقع بعض الأشخاص في اليأس، لأن الأعداء أقوياء جداً، و يملكون أسلحة كثيرة ومتطورة جداً، ونحن ضعفاء ومتفرقون، وأريد أن أسأل: أية جهةٍ بَنَتْ مجدها على أنقاض الآخرين ثم نجحت خطتها إلى ما شاء الله ؟؟ إن نجاح خطتها هذا يتناقض مع وجود الله، لذلك قال أحدهم: "عرفت الله من نقض العزائم "، فالإنسان قد يعتدُّ بقوته فينهار لأتفه سبب، وقد يجعل الله تدميره في تدبيره.
 إخوننا الكرام... أنا لا أجد شيئاً يدفعنا إلى طاعة الله، وإلى بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، كأن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه يستحيل أن يكون المسلم كالمجرم، أو أن يكون المجرم كالمسلم، والآيات كثيرة، كثيرةٌ جداً.

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾

 لامنطقية الكفر:
 أين المنطق ؟ أين العقل ؟ الأمر بيد الله عزَّ وجل، حياتنا بيد الله، قوتنا بيد الله، مالنا بيد الله، مكانتنا بيد الله،فلماذا يقوي الله الكفار ؟ يقوِّيهم تربيةً للمؤمنين.

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ﴾

( سورة القصص )

 معنى ذلك الله عزَّ وجل يُضَعِّف المؤمنين تأديباً لهم، ويقوي غير المؤمنين كشفاً لحقيقتهم، أما على المدى البعيد فإن الله ينصر الحق، ولا يتخلى عن المؤمنين.

﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

 بأي منطقٍ تحكمون ؟.
 فقدان المرجعية:

﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴾

 أعندكم كتابٌ تأتون منه بهذه الأفكار، فأي كتابٍ هذا ؟ إن الحق واحد لا يتعدد،وكتاب الله هو الحق.

﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) ﴾

 الإنسان أحياناً حينما يعصي و يميل مع هواه وشهوته، يختل توازنه الداخلي بسبب فطرته، فكل إنسان له فطرة، و كل مولودٌ يولد على الفطرة السليمة.
 أيها الإخوة... هناك نقطة دقيقة جداً، الإنسان له فطرة، و هذه الفطرة هي جِبِلَّة تكشف له خطأه، فيقول لك: إني أشعر بضيق و كآبة وبوخز الضمير، و كل هذا الكلام صحيح، فالإنسان حينما يحيد عن منهج الله عن وعيٍ أو عن غير وعيٍ يختل توازنه الداخلي بسبب هذه الفطرة، وعلى هذا الأساس يحاسب الإنسان، فلو لم يأت رسول مبلغ أبداً، لكشفت فطرته خطأه، والدليل:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾

(سورة القيامة )

 هذه المعاذير التي يلقيها للناس هم في الحقيقة يكشفون أمرها تماماً، فالإنسان فطرته سليمة، فإذا انحرف و حاد و أكل ما ليس له و ظلم و استعلى و تحكَّم بالناس وأخذ بعض ما في أيديهم قهراً وظلماً شعر باختلال توازن داخلي، و هذا الاختلال يجعله يتعلَّق بأية فكرةٍ تطمئنُهُ، فهناك كتاب فيه ضلالات ودعوةٌ إلى الإباحية و قد غُطَّي بتأويلات مضحكة لكتاب الله قد أقبل الناس عليه إقبالاً كبيراً، وقد طبع منه الطبعة الخامسة، فما السبب ؟ السبب بسيط جداً، وهو أن الإنسان حينما ينحرف يختل توازنه فيتعلق بقشة، فأي فكرة ولو لم يكن لها أصل وكانت بلا دليل تطمئنه و يتعلَّق بها، لذلك كانت الأفكار التي تُغَطِّي انحراف الإنسان يتمسك بها أناسٌ كثيرون، لا لأنها صحيحة ومعقولة و مدعَّمة بالبراهين، أبداً، بل لأنها تدغدغ مشاعرهم، أو لأنها تحل مشكلات انهيارهم الداخلي، فقد كان كفار قريش، في بحبوحة و قوة و غنى، وكانوا يقولون ليغطوا انهيارهم الداخلي: الدين غير صحيح،و يجب عليهم أن نردّه، نحن أقوياء و أغنياء، وإذا متنا فلنا في الجنة ما لنا في الدنيا، فهذا كلام مريح بالنسبة لهم، لكن ما أصله ؟ و بأيٍ منطقٍ يتقولون هذا الكلام ؟ ومن أي كتابٍ جاءوا به ؟؟؟؟

﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) ﴾

 طبعاً هذا الكلام لا ينسجم مع منطقٍ سليم، كما أنه لا يستند إلى مرجعٍ قويم، وقد بقي لديكم حالة ثالثة..
 فقدان المواثيق والوعود الإلهية:

﴿ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾

( سورة القلم )

 أي كأنكم تعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أقسم لكم أيماناً بالغةً إلى أقصى الحدود أنه سيكرِّمكم على كفركم يوم القيامة، وهذا غير صحيح، أرأيتم أيها الإخوة إلى منطق أهل الدنيا ؛ إنه منطق منهار متناقض، ليس فيه نص، ولا وعد من الله موثَّق بأيمان بالغة، فلا يوجد لديهم منطق معقول ولا كتاب يزعمون أنهم يدرسونه.

﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾

( سورة القلم )

 فمن يتكفل لهم وعلى من يعتمدون ؟ يقول لك شخص: فلان أفتى بكذا وكذا، فهل يمكن لهذا الإنسان أن يتكفل لك بالجنة يوم القيامة ؟؟ قلت لكم البارحة أيها الإخوة: لو أنكم استطعتم أن تنتزعزا من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكماً لستم محقين فيه لحوسبتم عليه يوم القيامة، فالنبي بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، لذلك قال:

 

(( لعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر، فإذا قضيت له بشيء فإنما أقضي له بقطعةٍ من النار ))

 أي أن لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أفتى لك ولم تكن محقاً فلن تنجو من عذاب الله.

 

﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾

 من الذي يستطيع أن يجادل عنك يوم القيامة ؟ من الذي يستطيع أن يدافع عنك ؟.

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾

(سورة الأنعام: آية " 94 " )

 

﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾

( سورة النحل: آية " 111 " )

 الآية الكريمة:

﴿ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾

( سورة الإنفطار: آية " 19 " )

 

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾

( سورة الزمر )

﴿ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾

( سورة الإنفطار: آية " 19 " )

 لا تجادل النفس إلا عن نفسها، و هذا يوم القيامة. لذلك:

﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾

 فقدان الكفالة:
 من هو المتكفِّل لهم أن يكونوا يوم القيامة في أعظم حال ؛ في مركز الصدارة والوجاهة والغنى والترف كما هم في الدنيا ؟.

﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾

( سورة القلم )

 أي هل معهم شركاء يدعمونهم و يدافعون عنهم ؟، انظروا كيف يحاور ربنا جلَّ جلاله هؤلاء، إنه يحاورهم نقطة، نقطة، فيقول لهم: هذا كلام غير منطقي، و بأي منطقٍ تحكمونُ بهذا ؟ و منطقكم الذي يقول أنّ الكافر والمجرم والمنحرف والمعتدي والظالم والغارق في شهواته له السيطرة حتى يوم القيامة هو منطق فيه ظلم، و هو منطق ساقط.
 ثم يقول لهم: هل عندكم كتابٌ تأتون بهذا الكلام منه ؟ ليس هناك كتاب، أم هل لكم علينا أيمانٌ بالغة أنكم ستكونون في الآخرة من الفائزين ؟ أم هل هناك من يتكفَّل لكم هذا المكان في الجنة ؟ هل لهم شركاء يدعمونكم و يدافعون عنكم ؟ لا شركاء، ولا كفيل، ولا أَيْمان، ولا كتاب، ولا منطق، فعلى أي شيءٍ تعتمدون إذاً ؟ فالإنسان العاقل لا يتكلم كلمة اعتراض أو نقد إلا إذا كان عنده شيء يعتمد عليه، أما إذا لم يكن عنده ما يعتمد عليه فلا يوجد منطق لكلامه، ثم يبين ربنا عزَّ وجل قائلاً:

﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) ﴾

( سورة القلم )

 مصير المكذّبين يوم القيامة:
 معاني (يكشف عن ساق):
 لقد وقف العلماء وقفةً متأنِّيةً عند هذه الآية:

﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾

 هذا يوم القيامة.

﴿ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾

 1- فهذه عبارة تُفيد أنه يوم الهَوْلُ الشديد، وقد بينت هذه الصورة ذلك الهول، فالإنسان مثلاً إذا رأى عدواً مفترساً يكشف عن ساقه ويعدو لا يلوي على شيء، و إذا رأى زلزالاً فإنه يكشف عن ساقه ويهرُب، وإذا رأى حريقاً كذلك، فالإنسان في الدنيا ؛، يكشف عن ساقه ولا يُبالي بهندامه ولا بمظهره ويعدو لا يلوي على شيء إذا رأى زلزالاً أو حريقاً أو فيضاناً أو عدواً مخيفاً، أو ناراً مُلتهبة، فأراد ربنا عزَّ وجل أن يصف يوم القيامة بهذا الوصف.

﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾

 2- وهناك معنى آخر وهو أن ساق الشيء أصله، وساق الشجرة مثلاً هو أصلها، وحقائق الأشياء ستكتشف في هذا اليوم:

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾

( سورة ق: آية " 22 " )

 فسيكشف عن حقيقة الدنيا، فهي دار عمل وليست دار متعة ونعيم، وسيكشف عن حقيقة الإنسان، و يكشف عن حقيقة الدار الآخرة، و يكشف عن حقيقة الأنبياء والمرسلين، و يكشف عن حقيقة المؤمنين، فالحقائق ستكون باديةً للعيان يوم القيامة.

﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾

 فأعمالهم حالت بينهم وبين السجود، فأراد الله عزَّ وجل أن يبين أن أعمالهم السيئة ؛ من كفر و ظلم وجحود و إيذاء للناس واستعلاء على خلق الله ورد للحق، هذه كلها حُجُبٌ حجبت عنهم حقيقة العبادة..

﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾

 فهؤلاء الكبراء، المستعلون، المتغطرسون، المتباهون، الذين يتيهون كِبْراً و يميلون أعطافهم علواً، هؤلاء:

﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾

 فهذا مصيرهم يوم القيامة، فالعبرة لمن يضحك أخيراً و ينجو آخر الأمر.

﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾

 ونحن الآن نُدعى إلى السجود و ندعى إلى معرفة الله و طاعته ونحن سالمون، والقلب فينا لا زال ينبض، ولا زال في العُمر بقية و فُسحة الصحوة.
 فيا أيها الإخوة... الدنيا وقت المعرفة و الطاعة و الإنابة و الإقبال.

﴿ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾

 الإنسان أحياناً يتألَّم أشد الألم إذا أدرك الحقيقة بعد فوات الأوان، و إدراك الحقيقة بعد فوات الأوان شيءٌ لا يحتمل.

﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) ﴾

 لذلك قالوا: " ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعةْ عاريةٍ في الدنيا طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة، ألا يا رب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رب مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهينٍ لنفسه وهو لها مكرم ". فالإنسان يولد كل من حوله يضحك وهو يبكي وحده، و حينما يموت يبكي كل من حوله، والفائز من يضحك وحده، فهذا هو يوم الفوز العظيم، لذلك:

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾

( سورة الصافات )

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾

( سورة المطففين )

﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾

 نحن في بحبوحتين...
 أيها الإخوة... نحن في بحبوحتين، البحبوحة الأولى إذا طبَّقنا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾

( سورة الأنفال )

 فالإنسان إذا طَبَّقَ سنة النبي كان في بحبوحة، وإذا وقع في خطأ واستغفر فهو في بحبوحةٍ أخرى، والآن هو وقت السجود و وقت المعرفة و طلب العلم و إنفاق المال، هذا وقت أن تجلس على رُكبتيك في المسجد لتفهم كلام الله، هذا وقت مساعدة الضعفاء وإطعام المساكين و تعلُّم القرآن، فنحن الآن في بحبوحة، أما حينما تدرك الحقيقة...
وما أصعب أن تدركها بعد فوات الأوان..

﴿ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾

 لذلك يقول النبي الكريم:

((اغتنم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ))

 فمع الهرم هناك أدوية وأطباء، وتحاليل، وقسطرة، فتكون عندها مهموماً بصحتك، أما الآن فأنت مفرَّغ من أمور صحتك

(( اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك))

 و الإنسان قبل الزواج لديه وقت فارغ، أما بعد الزواج فيكون لديه زوجة و أولاد وهموم، فهو قبل الزواج في فراغ، أما بعد الزواج فهناك مشاغل، وهو في ربيع العمر أفضل، أما في الخريف فهناك مشكلات

(( اغتنم خمساً قبل خمس ))

 

﴿ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾

 أيها الإخوة الكرام... إن الشيء الذي يتناقض مع وجود الله عزَّ وجل هو أن يستوي المحسن والمسيء، المسلم و غير المسلم، المؤمن وغير المؤمن، الأخلاقي وغير الأخلاقي إن الاعتقاد اليقيني بهذا هو الذي يدفعنا إلى طاعة الله وإلى نَيْلِ رضوانه والفوز بما عنده، فالإنسان حينما يثق بأن المستقبل لصالح المؤمن يندفع، لذلك لا عبرة للماضي، بل العبرة في المستقبل، فالناس في شبابهم متشابهون، لكنهم في خريف أعمارهم متفاوتون، وهذا التفاوت مُتَعَلِّقٌ بما مضى من أعمارهم.
تلخيص:
 أيها الإخوة... ينبغي علينا أن نعقل هذه الآيات وأن ننطلق إلى طاعة الله من خلالها، ففي هذه الآيات نقد الله عزَّ وجل خمسة أشياء، وهذه الأشياء تنطلق من أفكار، والآيات تطالب بأصل الأفكار، فمن أين جئت بأفكارك ؟ هل هي في كتاب مقدَّس من عند الله ؟ وهل ينتظمها منطقٌ سليم ؟ هل هي منطلقة من وعدٍ إلهي ؟ وهل معك من يكفل لك تلك الأفكار ؟ فربنا عز وجل يعوِّدنا المنطق السليم من خلال هذه الآيات.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور