وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة القلم - تفسير الآيات 1-3 قيمة العلم وخطورة الجهل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

قيمة العلم وخطورة الجهل:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من سورة القلم، بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم  ]

آخر آيةٍ في هذه السورة:

﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)﴾

[ سورة القلم  ]

ختمت هذه السورة بوصف الكفَّار للنبي بأنه مجنون، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ . 
 

من العاقل؟؟


أيها الإخوة الكرام؛ ابن آدم أطع ربك تسمَّ عاقلاً ولا تعصه فتسمَّى جاهلاً.
كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه.
﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ .

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾

[ سورة هود ]

أيها الإخوة الكرام؛ وقد قيل: أرجحكم عقلاً أشدَّكم لله حبَّاً، كنت مرَّةً ضربت هذا المثل: لو وضعنا أمام إنسان مرطبان من البلور، ثمنه عشرون ليرة، وكأس كريستال ثمنه ألف ليرة، وقطعة ألماس ثمنها مليون ليرة، وقلنا له: خذ أياً شئت، فأخذ المرطبان لأنه كبير، ألا تحكمون على عقله من نوع اختياره؟
أيها الإخوة؛ كل الناس يبحث عن سعادته، يبحث عن سلامته، يبحث عن أن يعلو، عن أن يكبر، عن أن يتفوق، كلَّنا يحب التفوّق، والفلاح، والنجاح، والفوز، والرقي، ولكن المؤمن وحده هو الذي عرف كيف يختار؛ اختار الباقية على الفانية، اختار أصل الجمال وهو ربُّ العالمين، وغير الناس اختار من آتاه الله مسحةً من جمال فانية تنقلب وبالاً عمَّا قريبٍ.
لذلك -أيها الإخوة –هناك علاقةٌ بين العقل و بين القلب، أرجحكم عقلاً أشدَّكم لله حبَّاً، المؤمن عرف كيف يختار أما المؤمن وغير المؤمن جبلتهم واحدة، كل مخلوقٍ يبحث عن سلامته وسعادته، ويتمنّى التفوّق في كل مجال، أما المؤمن عرف أصل الجمال، وعرف أصل الكمال، وعرف أصل النوال فأحبَّ الله، لذلك:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾

[  سورة البقرة ]

  

المؤمن يختار الأصل دائماً:

 
المؤمن اختار الأصل، ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء.
المؤمن جعل الهموم همَّاً واحداً فكفاه الله الهمّوم كلَّها، المؤمن عمل لوجهٍ واحد فكفاه الله الوجوه كلَّها.
العاقل هو الذي يعرف الله، ويعرف منهج الله، ويتقرَّب إلى الله، والمجنون هو الذي غَرَّته الحياة الدنيا وأضرَّته ومرّته، الدنيا تغرّ وتضُر وتمر، الدنيا فانية، الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ ولها يسعى من لا عقل له.
الدنيا مطيَّة، الدنيا نفق، الدنيا ممر، الدنيا وشيكة الزوال، سريعة الانتقال، الدنيا دار بلاءٍ وانقطاع، الدنيا دار تكليف، الآخرة دار تشريف، دار جزاء، دار أبدية، دار خلود، فالمجنون هو الذي يعصي الله، والعاقل هو الذي يطيع الله، وكفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله.

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ جواب القسَم: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ .
 

من هو الإمَّعة؟


أيها الإخوة الكرام؛ لو أنَّ كل من في الأرض كفروا، وانحرفوا، وفسقوا، المؤمن الصادق موقن أنَّه على حقّ ولا يتأثَّر ولا يغيّر ولا يبدِّل، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن حذيفة بن اليمان وابن مسعود:  لا يكن أحدُكم إمَّعَةً ، يقول: أنا مع الناسِ، إن أحسن الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنوا أنفُسَكم، إن أحسن الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا ألا تَظلِموا. ))

[ نقد النصوص: حكم المحدث :إسناده ضعيف ]

من هو الإمعة؟ هو الذي إذا أحسن الناس أحسنَ وإذا أساؤوا أساء، وطّن نفسك على أن تكون متيقّناً من الحق الذي تعتنقه، ولا تبالي بأحد، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
الحقيقة المدرس أحياناً يمتحن الطالب، يسأله سؤالاً يُعطي إجابةً صحيحة، فيقول المدرس: لا هذا خطأ، الطالب غير المتأكد من علمه يتراجع فوراً، أما الواثق فيقول له: لا يا أستاذ هذا هو الصواب، فالعبرة أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله حينما عاهدوا الله عزَّ وجل عاهدوه على السمع والطاعة، متى؟ قال: في السَّراء والضراء، في المنشط والمكره، في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، أنت تعاهد الله عزَّ وجل فينبغي ألا تغيّر، وألا تبدّل:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

  

أهمية العلم:


﴿ن﴾ هذا الحرف الذي هو أحد حروف اللغة العربية، ﴿وَالْقَلَمِ﴾ الواو واو القسَم، والله سبحانه وتعالى أقسَم بالقلم، والقسم إذا صدر عن الله عز وجل له معنيان.
المعنى الأول: أن الله عزَّ وجل يلفت نظرنا إلى عظمة القلم، القلم يعني العلم، العلم المكتوب الذي ينتقل من إنسان إلى إنسان، ومن بلد إلى بلد، ومن جيلٍ إلى جيل، ومن قارّةٍ إلى قارة، لولا الكتابة لما انتقل العلم من إنسانٍ إلى آخر، ولا من جيلٍ إلى جيل، ولا من بلدٍ إلى بلد، ولا من قارَّةٍ إلى قارّة، أي كأن الله سبحانه وتعالى يقول: العلم قِوام حياة الإنسان، لأن الله جلَّ جلاله في سورة الرحمن يقول:

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

[ سورة الرحمن  ]

جاء تعليم القُرآن قبل خلق الإنسان، هذا الترتيب رُتَبي بمعنى أن وجود الإنسان من دون منهجٍ لا معنى له، لا قيمة له إطلاقاً، بربِّكم لو أن أحدكم اشترى آلةً غالية الثمن، عظيمة النفع، معقَّدةً جداً، استقدمها من بلد المنشأ ولم يُرْسَل إليه تعليمات التشغيل والصيانة، فإن أعملها بلا علمٍ أتلفها، وإن لم يُعملها جَمَّد ثمنها، في مثل هذه الحالة النادرة أليست تعليمات الصانع أهمّ من هذه الآلة؟ ماذا يفعل بها؟ قطعة أثاث، عبء عليه، إن شغَّلها بلا علمٍ أتلفها، وإن خاف على سلامتها عطَّلها، لذلك كتاب التعليمات يعدّ أهمّ من الآلة نفسها، من هنا قال الله عزّ وجل: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾ فربنا سبحانه وتعالى يُقسِم بالقلم ليلْفت نظرنا إلى قيمة العلم، الإنسان من دون قوةٍ إدراكية هي سمعه، وبصره، وعقله..

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)﴾

[  سورة الإسراء ]

الفؤاد مع السمع والبصر هو العقل: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ .
 

الفؤاد مع السمع والبصر هو العقل:


الإنسان من دون قوة إدراكية ومن دون أن يُعمل هذه القوى الإدراكية دون الحيوان، لأنه ما من حيوانٍ إلا ويتفوَّق على الإنسان؛ إن في وزنه، أو في حجمه، أو في سرعة جريانه، أو في طيرانه، أو في قوة إبصاره، أو في قوة شمّه، أو في قوة سمعه، أو في حسن تملّصه، أو في قوة دفاعه، لا يوجد إنسان إذا قُطِعَت يده تنمو له يدٌ جديدة، هناك حيواناتٌ كثيرة إذا قطعت لها أحد أطرافها نما له طرفٌ جديد من دون جهد، النسر يرى ثمانية أمثال الإنسان، الكلب يشم مليون ضعف عن شمّ الإنسان، هناك حيواناتُ تدرك الزلازل قبل أن تقع، الإنسان إذا عطَّل قِواه الإدراكية ولم يُعملها في طاعة الله صار كل حيوان أفضل منه، لذلك ربنا عزَّ وجل أقسَم بالقلم لأنه أداة العلم،  أداة العلم المنقول، اللسان أداة العلم المسموع المشافهة.
مثلاً الإمام الغزالي على علو قدره كان يحضر درسه أربعمئة عِمامة، عاش حياة طالت أو قصرت، فلمَّا انتهى انتهَى درسه، ما الذي بقي من الغزالي؟ بقي إحياؤه، بقي ألف عام،  الإمام القرطبي كان له درسٌ في حياته، ومات القرطبي وانتهى درسه، ماذا بقي؟ تفسيره، الإمام الشافعي، مات الإمام الشافعي ماذا بقي؟ فقهه، إذاً ربنا عزَّ وجل يلفت نظرنا إلى العلم المكتوب الذي ينتقل من جيلٍ إلى جيل، ومن أمّةٍ إلى أمّة، ومن قارّةٍ إلى قارّة، العلم، أول آية نزلت في كتاب الله:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾

[ سورة العلق  ]

يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي الدرداء: إنَّما العلمُ بالتَّعلَّمِ. ))

[  الزرقاني : مختصر المقاصد :خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

فلذلك والله لا أبالغ: إنَّ أقدس وقت تمضيه وقتٌ تمضيه في طلب العلم لأن أعلى مرتبةٍ عند الله مرتبة العلم، رتبة العلم أعلى الرُتَب، إن الله عالمٌ يحب كل عالم.

(( عنِ ابنِ عبَّاسٍ: لعالمٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد. ))

[ الشعبي عامر بن شراحيل المحدث:ابن الجوزي :العلل المتناهية : حكم المحدث:لا يصح ]

(( عن معاذ بن جبل: إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. ))

[ السيوطي: الجامع الصغير : ضعيف  ]

(( عن أبي أمامة الباهلي: فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم. ))

[ سنن الترمذي: حسن ]

هكذا قال عليه الصلاة والسلام، أي العلم لا يليق بالإنسان إلا أن يكون عالماً:

(( عن عبد الله بن مسعود: النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَلا خَيْرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. ))

[ الجامع الصغير : ضعيف ]

كما ورد عن كميل بن زياد:

(( أخَذَ بيدي أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ بالكوفةِ، فخرَجْنا حتى انتَهَيْنا إلى الجبانِ، فلمَّا أصحَرَ تنفَّسَ صُعَداءَ، ثمَّ قال لي: يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ، إنَّ هذه القلوبَ أَوْعيةٌ، وخيرَها أَوْعاها للعلمِ، احفَظْ عنِّي ما أقولُ لكَ، الناسُ ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ، يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ، العلمُ خيرٌ مِن المالِ، العلمُ يحرُسُكَ، وأنتَ تحرُسُ المالَ، المالُ يُنقِصُه النفقةُ، والعلمُ يزكو على الإنفاقِ، يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ، محبةُ العالمِ دِينٌ يُدانُ، تُكسِبُه الطاعةَ في حياتِه، وجميلَ الأُحْدوثةِ بعدَ وفاتِه، ومنفعةُ المالِ تزولُ بزوالِه، العلمُ حاكمٌ، والمالُ محكومٌ عليه، يا كُمَيلُ، مات خُزَّانُ المالِ وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقونَ ما بقِيَ الدهرُ، أَعْيانُهم مفقودةٌ، وأمثالُهم في القلوبِ موجودةٌ، وإنَّ ههنا -وأشارَ إلى صَدرِه- لعلمًا جَمًّا لو أصَبتُ حَمَلةً، بلى أصَبتُ لَقِنًا غيرَ مأمونٍ، يَستعمِلُ آلةَ الدِّينِ بالدُّنْيا... وذكَرَ الحديثَ. ))

[  ابن عساكر : تاريخ دمشق: خلاصة حكم المحدث : طريق غريب   ]

فاحذر يا كُمَيْل أن تكون منهم.
 

من لم يطلب العلم فهو هالك لا محالة:


الإنسان إذا لم يطلب العلم، ولا حدّثته نفسه بطلب العلم، ولم يكن عالماً، ولا متعلّماً، ولا مستمعاً، ولا محبّاً فهو هالكٌ لا محالةَ، إن لم تكن عالماً ولا متعلماً ولا مستمعاً ولا محباً فهو هالك لا محالة، الناس أربعة؛ كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محبَّاً ولا تكن الخامسة فتهلك، أبشع شيءٍ في حياة الإنسان أن يكون جاهلاً، ليس هُناك أبشع من الجهل لأن الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوّه أن يفعله به، فالجهل أعدى أعداء الإنسان.
أيها الإخوة؛ والله لا أبالغ: إنَّ تسعين في المئة من مصائب الناس بسبب الجهل، فكرة دقيقة جداً سأضعها بين أيديكم: قوانين الله واقعةٌ لا محالة، إنك إن لم تؤمن بها، أو لم تعبأ بها، أو لم تتفهّمها، أو لم تحترمها هي نافذةٌ فيك شئت أم أبيت، أي عدم إيمانك بقانون الله عزَّ وجل، عدم احترامك له، عدم تقديسك إيَّاه، عدم تفهّمك له لا يحول بينك وبين وقوعه، واقعٌ لا محالة، إنّ لكل حسنةٍ ثواباً، ولكل سيئة عقاباً.
منهج الله تعليمات الصانع، فالذي ينطلق من حبّه لذاته، من فرط حبه لذاته يطبّق تعليمات الصانع، لأن هذا المنهج العلاقة بين مقدّماته ونتائجه علاقةٌ علمية، فكل سبب له نتيجة.
لذلك أيها الإخوة؛ الإنسان إذا فكر قليلاً، الإنسان في لحظة تفكير مقدارها ثوان يُنقذ نفسه من النار. 

قصص واقعية:


مرَّة هكذا سمعت قصةً قديمة جداً: شاب افتتح مكتبةً في بعض أحياء دمشق، أُتيح له أن يحُج بيت الله الحرام في وقتٍ مبكِّر، عاد من الحَج وله دكاَّنٌ صغيرة يبيع فيها بعض الكتب والقرطاسية، شاب في مقتبل الحياة جاءته فتاةٌ غمزت، ولمزت، وألانت القول وكأنها تغريه أن يتبعها، فأغلق محلَّه وتبعها، في منتصف الطريق فكَّر: أنا حججت بيت الله الحرام إلى أين أنا ذاهب؟ فعاد، عاد واستغفر الله وأقلع عن هذه النية، الرجل حيّ يُرزق، في اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي، هكذا ألقى الله في روعه، وسأله: يا بني هل أنت متزوج؟ قال: لا، قال: عندي فتاةٌ مناسبةٌ لك، أرسل أهلك إلى البيت، ظنَّ هذا الشاب أنَّ في هذه الفتاة فيها علَّة منعت زواجها، فلمَّا أخبرته أمّه بأنها من أفضل الفتيات وافق على الزواج منها، وجعله عمُّه شريكاً له في تجارة الزيت، وصار من التجَّار المرموقين الذين عاشوا حياةً سعيدةً راقية، كل هذا العطاء بسبب أنه فكَّر لحظةً وعاد واستغفر الله عزَّ وجل.
لما خلق الله العقل قال: أقبل فأقبَل، ثم قال: أدبِر فأدبَر، قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحَبَّ إليّ منك، بك أعطي وبك آخذ، سيدنا نعيم بن مسعود كان في معسكر المشركين في الخندق، فكَّر أنا لماذا أنا هنا؟ أنا لماذا أحارب هذا الرجل؟ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجل يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، أنا كيف أحاربه؟ يوجد حديث في السيرة رائع جداً ماذا دار بينه وبين نفسه من حوار، أيُعقل أن أحارب رجلاً يقول: ربي الله؟ يدعو إلى الخير؟ يأمر بصلة الرحم؟ فتسلل في جنح الظلام إلى رسول الله وأعلن إسلامه، وقال: يا رسول الله مرني ماذا أفعل؟ قال: أنت واحد ماذا تفعل؟ خذّل عنا ما استطعت.
هذا الرجل الصحابي الذي مضى على إسلامه ربع ساعة ذهب إلى قريش ولم يعلموا بإسلامه، وقال لهم كلاماً ذكياً جداً، وذهب إلى اليهود ولم يعلموا بإسلامه وقال كلاماً ذكياً جداً، ووقع الشقاق بين قريشٍ وبين اليهود.

﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)﴾

[ سورة الأحزاب ]

وتفرَّق الجمع، وولوا الدبر، وكان النصر في هذه المعركة على يد هذا الرجل الذي فكَّر في دقائق معدودة، لماذا أنا أحارب هذا الرجل؟ هذا رجل يدعو إلى الله.  
 

العمل أساس السعادة والشقاء:


أيها الإخوة؛ لو أن كل واحد منَّا فكَّر أنا لماذا أفعل هذا؟ هذه معصية، والأمر بيد الله، صحَّتي بيده، أولادي بيده، زوجتي بيده، عملي بيده، رزقي بيده، مكانتي بيده، أنا كيف أعصيه؟ كيف أعصيه وأطلب رحمته؟ فكّرْ فقط، لحظة تفكير تُغنيك عن عملٍ كثير.
أيها الإخوة الكرام؛ قِوام حياتنا العلم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، يا بني العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تُنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق.
سائق سيارة أشارت إليه امرأةٌ فوقف لها، صعدت مركبته، إلى أين يا أختي؟ قالت: إلى أين تحِب، إلى أين تريد أذهب معك، فَهِم وظنَّ أن هذه غنيمة وفرصة لا تتكرر، حقق مطلبه منها، وأعطته فوق ذلك رسالةً وظَرْفاً فيه خمسة آلاف دولار، بتعبير الجهلة: رأى ليلة القدر، هو شاهد جهنم الحمراء، فتح الرسالة مكتوب عليها سطر واحد: مرحباً بك في نادي الإيدز، وكان المبلغ مزوّراً فوُضع في السجن.
هذا لو أنّ له درس علم، لو أنه طلب العلم، حينما تقول له: خذني إلى أين تريد، يفتح الباب ويركلها بقدمه، ويحفظه الله، العلم سلاح، الوقت الذي تمضيه في طلب العلم هذا استثمارٌ للوقت وليس هدراً له، أنا يشتدّ عجبي من إنسان تدعوه إلى مجلس علم يقول لك: ليس عندي وقت فراغ، الجواب: عندك وقتٌ لأي شيء؟ إذا لم يكن لديك وقت فراغٍ تعرف أصل دينك، وتعرف كلام ربك، وتعرف منهج رسولك، وتعرف سرّ وجودك وغاية وجودك، إذا لم يكن لديك وقتٌ تعرف الحلال والحرام، ما ينبغي وما لا ينبغي فماذا تفعل إذاً؟ 

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)﴾

[ سورة النمل ]

مثلاً لو أن طبيباً أخذ بورد، جاء لبلده وأسس عيادة، والعيادة بالدَّين، وهو مختص، وكتب: المُراجعة بين الخامسة والثامنة مساءً، وجاءه إنسان مريض قال له: والله أنا مشغول، إنني أقرأ جريدة، يكون مجنوناً، هذا وقت عيادة وأنت عليك دَين، وأنت مختص وهذا عملك، أي أعظم عملٍ تفعله في الدنيا أن تطلب العلم لأن العلم أساس صحة العمل، لا يصح عملك إلا إذا صحَّ علمك، يصح العلم يصح العمل، العمل أساس السعادة والشقاء، فلذلك حينما أقسَم الله بالقلم وبنتائج القلم ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ الملائكة، العلماء، هذا القلم الذي هو أداة العلم، وهذا الكتاب الذي هو مصدر العلم، القلم أداة والكتاب مصدر، ﴿ن﴾ من هذا الحرف، من هذه الحروف نُظِّم القرآن، هو كلام الله، الحروف بين أيديكم مثلاً البقرة تأكل الحشيش فتُعطي الحليب، الدجاجة تأكل كل شيء تعطي بيضاً فيه زلال، فيه دسم، فيه بروتين، فيه أربعة عشر فيتاميناً، فيه معادن، فيه أشباه معادن، هل تستطيع أنت أن تحوِّل الذي تأكله الدجاجة إلى بيض؟ هل بإمكانك أن تحوّل هذا الحشيش إلى حليب؟ إلى لبن سائغ للشاربين؟ وهذه الحروف بين يديك ؛ ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء.. إلخ، الحروف بين أيدينا هل يستطيع الإنسان أن يصوغ كلاماً ككلام الله عزَّ وجل؟ ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ جواب القسَم: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ يبدو الإنسان أحياناً أبلهاً عند البله، أما هو عند العقلاء عاقل، لذلك لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له، المؤمن صادق، مخلص، طالب علم، لا تجالس الأغنياء الجاهلين، هؤلاء لا يقيمون لعلمك وزناً، ولا يعبؤون إلا بالدِرهم والدينار، إنهم مادّيّون، يقيّمون الناس في حجمهم المالي فقط، صاحب العلماء، صاحب طلاب العلم، صاحب الأتقياء، صاحب الأنقياء، صاحب المتواضعين، صاحب الذي يدلُّك على الله حاله، يرقى بك إلى الله حاله ويدلك على الله مقاله، صاحب المؤمنين تقتبس من علمهم ومن أخلاقهم ومن أحوالهم، لذلك طالب العلم عند المجانين مجنون، أما عند العقلاء فهو عاقل. 

كل مؤمن له في رسول الله أسوة حسنة:


الآن يوجد سؤال: هؤلاء الذين اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بالجنون، اتهموه في حياته، لماذا أثبت ربنا جلَّ جلاله هذه التهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة؟ واحد تكلَّم معك كلاماً لا يليق بك، تكلّم وانتهى الكلام والقضية طويت، ثبتناها بكتابٍ يُتلى إلى يوم القيامة: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ يا أيها الذي نُزِّل عليه القرآن إنك لمجنون، لماذا أثبت الله هذه التهَم في قرآنه الكريم الذي يُتلى إلى يوم الدين؟ لماذا؟ النبي عليه الصلاة والسلام أُسوتنا وقدوتنا، أي كل من جاء بعد النبي إذا التزم الحق وعارضه أقرب الناس إليه، عارضه من حوله، اتهموه بالسفه والجنون، له في رسول الله أسوةً حسنة، لا تستوحش، لا تقلق، سيِّد الخلق وحبيب الحق، سيد ولد آدم اتُّهم بالجنون، لا تعبأ، من عرف نفسه ما ضرَّته مقاله الناس به.

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾

[  سورة الإنعام  ]

 

المؤمن واثق من أن الله لن يتخلى عن المؤمنين:


المؤمن واثق من نفسه، واثق من الحق الذي هو عليه، واثق من أحقية منهجه، واثق من حتمية النصر له، الله عزَّ وجل لن يتخلّى عن المؤمنين، من ظن أو توهّم أن الله لا ينصر دينه، ولا ينصر رسله، ولا ينصر المؤمنين أبداً، ويقوي الكفرة والفجَّار تقويةً دائمةً فهو لا يعرفه، مستحيل إنسان منحرف يبدو قوياً جداً ينجح إلى ما لا نهاية، لابدَّ من أن يُظهِر الله آياته في الحياة الدنيا، ماذا يقول الله عزَّ وجل؟

﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾

[ سورة غافر ]

كلام ربُّ العالمين، أي إنسان قام إلى الله ليدعو إليه، فرّ إلى الله:

﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)﴾

[ سورة الذاريات ]

 اتجه إلى الله بإخلاص، وبعزيمة، وبصبر، وبيقين من نصر الله، لابدَّ من أن يرى نتائج عمله في الدنيا أم في الآخرة: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ لا تعبأ بكلام الناس، الآن الكلام ماذا يقول الناس؟ متزمّت، متقوقع، بعيد عن واقع الحياة، لا يعرف عن مباهج الدنيا شيئاً، من بيته إلى مسجده، همّه الكتاب والعلم، وأحدهم يقول لك: هذا الطعام غير طِّيب، من تصدّق؟ تأكلها أنت، تتذوقها، تنعم بها، أي إنسان يسعد بقربه من الله لو عارضه كل الناس لا يعبأ بكلامهم لأنه يذوق طعم القُرب من الله عزَّ وجل:

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾

[ سورة القلم ]

غير منقطع، مستمر.

(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. ))

[ صحيح البخاري ]

وخير لك من الدنيا وما فيها.
 

الدعوة إلى الله صنعة الأنبياء:


والله أيها الإخوة؛ لو كُشِفَ لنا الغطاء لوجدت أقوى الناس في الدنيا يتمنَّى أن يُلقي كلمة حق في أذن إنسان، كلمة حق واحدة، لو أن أغنى إنسان في الدنيا كُشف الغطاء:

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾

[ سورة المائدة ]

الدعوة إلى الله صنعة الأنبياء:

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هؤلاء في أعلى مرتبةٍ عند الله عزَّ وجل، لذلك لا تكن قنوعاً في شأن الآخرة، كن قنوعاً في الدنيا ولا تكن قنوعاً في الآخرة، اطلب الجنة في أعلى مراتبها، قالت السيدة عائشة عن عبد الرحمن بن عوف: أخشى أن يدخل الجنة حبواً، فقال: والله لأدخلنّها خبباً، وما عليّ إن كنت أنفق مئةً في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء. 
لذلك إذا عرف الإنسان الله، وعرف سرّ الحياة كما قال سيدنا علي -ودققوا في هذه الكلمة-قال: "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي" ، إنه منطلق بأقصى سرعة، هذا الوقت أثمن شيء تملكه هو الوقت، بالوقت تطلب العلم، وبالوقت تصلي، وبالوقت تقرأ القرآن، وبالوقت تعلّم القرآن، وبالوقت تأمُر بالمعروف، وبالوقت تنهى عن المنكر، وبالوقت تربِّي أولادك، وبالوقت تهدي الناس، وبالوقت تعمل وتكسب قوت يومك، وبالوقت تسعد، الوقت وعاء العمل، الوقت رأس مالك الوحيد احرص عليه، هلك المسوِّفون، لا تقل: غداً أتوب، غداً أفعل، افعل هذا اليوم. 
 

من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة:


﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)﴾

[ سورة القلم ]

أجر مستمر.

(( عن أبي هريرة: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. ))

[  صحيح مسلم ]

مرَّة قرأت آيةً في تفسيرٍ تأثَّرت من تفسيرها تأثّراً كبيراً فجعلتها موضوعاً للخطبة، وكانت الخطبة ناجحةً جداً، بعد يومين فكَّرت قلت: هذا الذي ألّف التفسير قبل ألف عام هو الآن تحت أطباق الثرى، لكن الخير الذي فعله انتقل من إنسان إلى آخر، إلى آخر، إلى مجموعة كبيرة، فاترك أثراً قبل أن تموت: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) .
حدَّثني أخ قال لي: في بعض الأماكن أُسس مسجد، الذي أسس هذا المسجد على نفقته الخاصَّة أرضاً، وبناء، وأثاثاً، قال لي: كان أول جمعة فُتِحَ المسجد واجتمع الناس فيه، وأُلقيت خطبة في المسجد، قال لي: جلس على كرسيٍّ في نهاية المسجد وبكى بكاءً لا يوصَف من شدة فرحه أنَّ كل من يصلي في هذا المسجد في صحيفته إلى يوم القيامة، اترك أثراً، اعمل  عملاً في مسجد، اعمل عملاً في العلم، اترك أثراً علمياً، اترك دار عبادة، اترك دار أيتام، اعمل مشروعاً خيرياً، سُنَّ سُنَّةً حسنة ليكون لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ما قيمة الحياة الدنيا؟
هؤلاء الذين يموتون فجأةً على غير استعدادٍ للموت، هناك إنسان ترك ثلاثة آلاف مليون، من كبار التجَّار، مات بحادث، فقد كل هذه الثروة في ثانيةٍ واحدة وسيُحَاسب عن أعماله كلّها خيرها وشرّها، فالإنسان أيها الإخوة حياته محدودة، السيدة رابعة العدوية سئلت: ما الإنسان؟ قالت: هو بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، ما من يومٍ ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ .
 

أعقل عقلاء الأرض هو الذي يعمل لساعة فراق الدنيا:


والله أيها الإخوة؛ لو نعلم ماذا أعدَّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من أجرٍ كبير لاستحيا الإنسان أن ينام، ثم يقول عليه الصلاة والسلام:

(( إنِّي أرَى ما لا ترَونَ وأسمعُ ما لا تسمَعون، أطَّتِ السماءُ وحق لها أن تَئِطَّ؛ ما فيها موضِعُ أربعِ أصابِعَ إلا ومَلَكٌ واضِعٌ جبهَتَهُ لله ساجدًا، واللهِ لو تَعلمونَ ما أعْلَمُ لضَحِكْتُمْ قليلًا ولبَكَيتُمْ كثيرًا، وما تَلَذَّذْتُمْ بالنساءِ على الفُرُشِ، ولخَرَجْتُمْ إلى الصَّعُدَاتِ تجْأَرونَ إلى اللهِ  لوَدِدْتُ أنِّي كنتُ شجرةً تُعْضَدُ. ))

[ الترمذي بسند حسن عن أبي ذر الغفاري ]

الانتقال إلى الدار الآخرة سهل؟ كل شيء في الدنيا إلى لا شيء، إلى قبر صغير؟ هل هذا معقول؟ أعقل عقلاء الأرض هو الذي يعمل لساعة فراق الدنيا. 
كنت مرة في تعزيةٍ ألقيت كلمة ضربت هذا المثل: إنسان يسكن في بيت مستأجر، نظام الإيجار في البلد الذي يسكنه أن مالك البيت يستطيع إخراجه من البيت بلا سبب، وبلا إنذار مُسبق، فجأة، ولهذا المستأجر بيتٌ آخر على الهيكل، وله دخلٌ كبير، هذا الدخل الكبير أينفقه في تزيين البيت المستأجر أم في إكساء البيت الذي على الهيكل الذي مصيره إليه؟ القضية تحتاج إلى عقل، معظم الناس كل دخلهم ينفقونه على هذا البيت المؤقَّت، والدليل: اقرؤوا كل النعوات: وسيشيع إلى مثواه الأخير، معنى هذا أن المثوى الحاضر هو مثوى مؤقت، لا نعرف في أي لحظة يصدُر الأمر بمغادرة البيت أفقياً، يخرج الإنسان قائماً، ويعود قائماً، هناك خروج واحد هكذا، هذا الخروج من دون عودة، مساء الساعة الثانية عشرة مساء لا يقول أحدهم: أين فلان؟ لمَ لم يحضر إلى الآن؟ تأخَّر، لا يوجد تأخّر، لن يرجع، إذا شخص دفنوه نقول: لماذا تأخر إلى الآن ولم يعد؟ انتهى، ذهب ولن يعود، لابدَّ من أن ندخل المسجد أفقياً ليُصلَّى علينا.
كنت مرَّةً في بلدٍ في المغرب رأيت لوحة صغيرة: صلَّ قبل أن يُصلَّى عليك.
 

العقل يقتضي التفكِّر في ملكوت الله وتعظيم الله:


أيها الإخوة؛ ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ لذلك العقل في طاعة الله العقل في معرفة الله، العقل يقتضي أن تفهم كلام الله،  العقل يقتضي أن تعمل بكلام الله، العقل يقتضي أن تفهم سُنَّة رسول الله، العقل يقتضي أن تعمل بسُنَّة رسول الله، العقل يقتضي أن تفهم سيرة رسول الله، العقل يقتضي أن تتأسَّى برسول الله، العقل يقتضي أن تفهم أحكام الفِقه، العقل يقتضي أن تطبِّقها، العقل يقتضي أن تهب حياتك لله.

﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)﴾

[  سورة الواقعة  ]

العقل يقتضي أن تفكِّر في ملكوت الله، أن تعظِّم الله..

(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي قال: يا رب إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي، ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني وذكرهم ببلائي كي يخافوني. ))

[ أخرجه البيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس وفي سنده انقطاع ]

لابدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيمٌ لله من خلال النظر في آيات الله، ولابدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن محبَّةٌ لله من خلال التفكّر في نِعَمِ الله، ولا بدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن خوفٌ من الله من خلال التفكّر في بلاء الله.
امرأة أصيبت بورم خبيث في معيها الغليظ فاستؤصل، هناك فتحةٌ خارجية، الكيس ثمنه ثلاثمئة ليرة، كلَّما امتلأ –طبعاً تحمل بولها وغائطها-لابدَّ لها من أن تستبدله بآخر، إنسان يغسل كل أسبوع مرّتين كليتيه، إنسان لابدَّ له من إجراء عملية تكلّف الملايين، وإنسان معافى..

(( عن ابن عباس: أحبُّوا اللَّهَ لما يَغذوكم من نعمِهِ، وأحبُّوني لحبِّ اللَّهِ وأحبُّوا أهْلَ بيتي لحبِّي. ))

[ المستدرك على الصحيحين: الحاكم : صحيح الإسناد ]

 كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ صباحاً لصلاة الفجر له أدعيةٌ رائعة، يقول:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدُكم عن فراشِه، ثم رَجَع إليه، فلْيَنْفُضْه بصَنِفَةِ إزارِه، ثلاثَ مَرَّاتٍ، فإنه لا يَدْرِي ما خَلَفَه عليه بعدَه ، وإذا اضْطَجَع فلْيَقُلْ: باسْمِكَ ربي وضعتُ جَنْبِي، وبك أَرْفَعُه، فإن أَمْسَكْتَ نفسي فارْحَمْها، وإن أَرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عبادَك الصالحينَ، فإذا استيقظ أحدُكم فلْيَقُلْ: الحمدُ للهِ الذي عافانِي في جَسَدِي، ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي  وأَذِنَ لي بذِكْرِه. ))

[ الكلم الطيب ، إسناده جيد : أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) ]

لأنه قبل أن ينام قال: ((يا رب إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها مما تحفظ به عبادك الصالحين)) استيقظ قال: ((الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي)) وقف جاهزية تامة، حركته جيدة، سمعه، بصره، عقله في رأسه: ((الحمد لله الذي عافاني في بدني)) وصلّى الفجر: ((الحمد لله الذي أذن لي بذكره)) هذا دعاء النبي يومياً.

﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

هذه إن شاء الله نشْرحُها في الدرس القادم إن أراد الله.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور