وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة القلم - تفسير الآيات 3-4 وإنّك لعلى خلق عظيم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

هداية الإنسان إلى الله من أجلّ النعم:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من دروس تفسير سورة القلم، ومع الآية الثالثة وهي قوله تعالى:

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾

[ سورة القلم  ]

قال بعض المفسرين: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ نعمة النبوة، ونعمة الرسالة، نعمة الهدى، نعمة القرآن، إذا أراد المؤمن أن يقيس على هذا المعنى كانت هدايته إلى الله عزَّ وجل من أَجَلِّ النِعَمْ، نعمة الوجود، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، لكن نعمة الهُدى والرشاد من أجلِّ النعم على الإطلاق، نعمة الوجود تستمتع بها ما دُمت موجوداً، ونعمة الإمداد تستمتع بها ما دمت موجوداً، لكن نعمة الهدى هذه تستمر إلى أبد الآبدين، لذلك نعمة الهدى أجلّ نعمةٍ على الإطلاق، فإذا كان الله عزَّ وجل قد أنعم على نبيِّه الكريم بنعمة النبوة، ونعمة الرسالة، ونعمة القرآن الكريم، فإذا أنت وصلتك هذه الرسالة، وآمنت بها، واستوعبتها، والتزمتها، وسعدت بها، فهذه نعمةٌ من أَجَلِّ النعم، لذلك قال تعالى:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب ]

يقول الإمام علي رضي الله عنه: "فلينظر ناظرٌ بعقله، أنّ الله أكرم محمداً أم أهانه حينما زوى عنه الدنيا؟ فمن قال: أهانه فقد كذب، ومن قال أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا" .
 

الهدى تمام النعمة:


النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يصلي قيام الليل لا تتسع غُرفته الصغيرة جداً لصلاته ونوم زوجته، لم يؤتَ من الدنيا شيئاً، جاء إلى الدنيا وغادرها ولم يترك شيئاً، لكن أَجَلَّ نعمةٍ على الإطلاق أنعم الله بها عليه أنه قد عرف الله، وكان نبياً وكان رسولاً وأوتي القرآن، لذلك كل إنسانٍ اهتدى إلى يوم القيامة في صحيفته، أرسله الله رحمةً للعالمين، هو نعمةٌ مزجاة ورحمةٌ مهداة، إذاً أنت إذا أردت أن تفهم هذه الآية فهماً شخصياً، أن تطبِّقها على نفسك، هناك شعوبٌ تعبد البقر، وهناك شعوبٌ تعبد النار، وهناك شعوبٌ تعبد الأعضاء الجنسية، وهناك شعوبٌ تعبد الجرذان، وقد أكرمك الله بأنك تعبد خالق السماوات والأرض.
نعمة الهدى أيها الإخوة؛ أجلّ نعمةٍ على الإطلاق، قد لا يبدو لك حجم هذه النعمة وأنت في الدنيا، أناسٌ كثيرون كلُّهم يأكل، ويشرب، ويتحرك، ويعمل، ويشتري البيت، ويتزوج، وينجب، أما حينما يقوم الناس لرب العالمين، ويمتاز المجرمون عن المؤمنين، وتكون في صف المؤمنين، عندئذٍ تعرف معنى نعمة الهدى، لذلك قالوا: تمام النعمة الهدى، بشكل توضيحي: الصحة صفر إلى جانب الواحد، والزوجة صفر آخر إلى جانب الواحد، صار المجموع مئة، والأولاد صفر ثالث، والدخل الكافي صفر رابع، والصحة صفر خامس، والمكانة صفر سادس، والهدى الواحد، فإذا ألغيتَ الواحد لن تجد شيئاً أبداً.
يا رب ماذا فقد من وجدك؟ إنه لم يفقد شيئاً، وماذا وجد من فقدك؟ ما وجد شيئاً، هذه الفكرة أيها الإخوة دقيقةٌ وخطيرة، حينما تشعر أنك تملك أَجَلَّ نعمةٍ على الإطلاق نعمة الهدى ونعمة الالتزام، اهتديت إلى الله، والتزمت شرعه، ما فاتك شيءٌ من الدنيا، ولا تأسَى على ما فات، يقال عن سيدنا الصديق رضي الله عنه إنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط، الإنسان أحياناً يفوته البيت المناسب، بيته صغير، تفوته الزوجة التي كان يتمنى أن تكون كذلك، يفوته الأولاد النجَباء، يفوته الدخل الكبير، يبقى طيلة حياته يندب حظه، لكن المؤمن الحق حينما يعرف الله عزَّ وجل لا يندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط، هذه حقيقة، حينما تعرف الله حق المعرفة لا تندم على شيءٍ فاتك من الدنيا قط، تقول الآية الكريمة: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ إلا أن أهل الدنيا يقيسون الناس بالمادة، بالمال، بمُتَعِ الحياة الدنيا، بالبيت، بالمركبة، أساساً من علامات آخر الزمان أن قيمة الرجل متاعُه، أي يستمد مكانته من موقع بيته، ومن مساحة بيته، ومن تزيينات بيته، ومن أثاث بيته، ومن نوع مركبته، ومن رقمٍ يضاف إلى نوع مركبته، يوجد ستمئة، ويوجد مئتان وثمانون، يوجد فرق، يستمد مكانته فقط من متاعه، بينما قيمة الرجل هي ما يُحْسِنُهُ، إذاً: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ من عرف الله وعرف منهجه ومكَّنَهُ الله من طاعته لا ينبغي أن يندم على شيءٍ فاته من الدنيا، كل ما في الدنيا عَرَضٌ زائل يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعدٌ صادق يحكم فيه ملكٌ عادل، كل ما في الدنيا إلى زوال، يبقى الواحد الديَّان، يبقى الواحد القهَّار، تبقى الجنة بنعيمها، وتأتي النار بعذابها: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ .
 

مقام النبي عليه الصلاة والسلام:


أيها الإخوة؛ أنا أريد أن نقرِّب الآية إلى واقعنا، الآية خاطب الله بها النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي قالوا عنك: مجنون، لكنك سيد الخلق، لكنك سيد ولد آدم، لكنك الرابح الأول، لكنك الناجح الأعظم، لكنك الفالح المتفوِّق: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ وقد منحك الله النبوة ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ وقد جعلك الله رسولهم.
أقول لكم هذا الكلام الدقيق، إن الله يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، أعطاه لقارون وأعطاه لعبد عبد الرحمن بن عوف، إن الله يعطي المُلك لمن يحب ولمن لا يحب، أعطاه لسليمان وأعطاه لفرعون، لكن العلم والحكمة لا يعطيهما إلا لمن يحب.

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)﴾

[  سورة القصص  ]

فإذا كان أحدكم أيها الإخوة؛ على شيءٍ من الهُدى، على شيء من معرفة الله، على شيء من طاعته، يرجو رحمته ويخشى عذابه، يرجو ما عنده، يعمل للجنة، ينبغي ألا يندم على شيءٍ فاته من الدنيا، لأن الدنيا تنطوي بكل ما فيها، والإنسان حينما يموت ماذا تنفعه مساحة بيته؟ أو موقع بيته؟ أو حجم دخله؟ أو مستوى زوجته؟ أو مكانته الاجتماعية؟ كله انتهى، لا يبقى إلا العمل الصالح.

كل عطاءٍ في الدنيا ينهيه الموت لكن عطاء الآخرة عطاءٌ أبديٌ سرمدي:


﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

 الممنون: الأجر المنقطع، مِن مَنّ بمعنى قطع، الآن دققوا أيها الإخوة: الدنيا كل ما فيها لا يعَدُّ عطاءً لأنه منقطع، مهما كنت متمتعاً بصحةٍ عالية، الموت ينهي صحة الصحيح،  مهما كنت متمتعاً بدخلٍ كبير، الموت ينهي المال، مهما كنت متمتعاً بمكانةٍ علية الموت ينهي هذه المكانة، مهما كنت متمتعاً بأسرةٍ راقية الموت ينهي هذه الأسرة، إذاً عطاء الدنيا ممنونٌ أي مقطوع، لكن عطاء الآخرة غير مقطوع، ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ الإنسان مفطور على حبّ وجوده، وعلى حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده، فكل عطاءٍ في الدنيا ينهيه الموت، لكن عطاء الآخرة عطاءٌ أبدي سرمدي، لذلك لا يليق أن تسمِّي عطاء الدنيا عطاء، لا يليق بك ولا بعقلك الراجح أن تسمِّي عطاء الدنيا عطاء، العطاء الحقيقي عطاء الآخرة، ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾ كفار قريش نعيمهم ممنون مقطوع، انتهى بهم عند الموت، النبي عليه الصلاة والسلام رأى قتلى بدرٍ من كفار قريش فخاطبهم بأسمائهم واحداً وَاحدا، قال لهم:

(( عن أنس بن مالك: أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ. ))

[ صحيح مسلم ]

بطولتك عند هذه الساعة التي لابدَّ منها، إما أن تكون من الفائزين، وإما أن يكون الإنسان الضَّال من الخاسرين.
 

للأنبياء مهمتان؛ قيادية وبيانية:


الآن الآية التي إن قرأتها مئة ألف مرة لا تشبع منها: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ، أولاً: ربنا جلَّ جلاله ذاتٌ كاملة، أسماؤه حسنى، رحيمٌ، كريمٌ، عدلٌ، غفورٌ، قويّ، عزيزٌ، لطيفٌ، الله جلّ جلاله أسماؤه كاملة، أسماؤه حسنى، وصفاته فضلى، هو ذات كاملة، لا يستطيع مخلوقٌ أن يتقرَّب إليه ويسعد بقربه إلا بالكمال، لذلك دين الله دين الكمال، دين الله دين الرحمة، دين الله دين العدل، دين الله دين المصلحة العامة، دين الله دين الإنصاف، فالله جلَّ جلاله ذاتٌ كاملة، ولا يتقرب إليه المتقربون إلا بكمالٍ هو وسيلتهم إليه، والشرع إن أخذت أحكام الشريعة كلُّها عدلٌ، وكلها رحمةٌ، وكلها إنصافٌ، وكلها لطفٌ، ألم يقل أحد العلماء: الشريعة عدلٌ كلها، رحمةٌ كلها، مصلحةٌ كلها، فكل قضيةٍ خرجت من العدل إلى الجَوْر، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الرحمة إلى القسوة فليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل، لو قرأت الفقه في أبوابه كلها، لو دققت في كل المسائل الفقهية؛ العامة والخاصة، الشخصية، والاجتماعية، والنفسية، والتعبدِّية، لوجدت أن كل هذه الأحكام تُرشدك إلى الموقف الكامل، الموقف العدل، الموقف المُنصف، الموقف الرحيم، الموقف اللطيف، إذاً منهج الله عزَّ وجل قائمٌ على الخُلُق، والنبي عليه الصلاة والسلام لو لم يكن في أعلى درجة أخلاقية، لما قنعت أنت بهذا المنهج، المنهج بشكل نظري لا يُقنع إلا أن يُجَسد بسلوك، فلذلك مهمة الأنبياء مهمتان: مهمةٌ بيانية ومهمةٌ قيادية، المهمة البيانية أن يبيِّن لك أن تفعل أو لا تفعل، لكن مهمة القدوة أن يكون كاملاً، لذلك يقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد، و(إنّ) : حرفٌ مشبهٌ بالفعل يفيد التوكيد، ﴿لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ هذه اللام لام التوكيد أيضاً، اللام الواقعة في جواب إنّ لام التوكيد، على: تفيد الاستعلاء، أي النبي عليه الصلاة والسلام ليس ذا خُلًقٍ، بل هو على خلقٍ، وشتانَ بين المعنيين، إذا قلت: النبي على خُلقٍ أي متمكنٌ من مكارم الأخلاق، الإنسان أحياناً يقع في صراع بين أخذٍ ورد، وإقدامٍ وإحجام، وإنفاذٍ ومنعٍ، ثم ينتصر على نفسه بعد شقِّ النفس، هذا ذو خُلُق، لكن الذي على خلقٍ عظيم في أعماق أعماق الكمالات، متمكنٌ من أخلاقه لا يحتاج إلى أن يشعر بالصراع مع نفسه.
 

بيان الشيء إما وصفي أو كمي:


أيها الإخوة؛ أريد أن أضع بين أيديكم الحقيقة التالية: ربنا عز وجل هو العظيم أي إذا قال لك طفل صغير: أنا معي مبلغ كبير، الحقيقة الشيء يوصف، الشيء يُبين وصفياً أو كمياً، قد يقول لك أحدهم: أنا معي مئة ليرة، انتهى الأمر، كلمة مائة ليرة هذا مبلغ كمي، أما إذا قال لك أحدهم: أنا معي مبلغ كبير، هذا بيان وصفي، هناك بيان كمي وهناك بيان وصفي، قد يقول لك قائل: بيتي كبير، يقول لك شخص آخر: بيتي مساحته ثلاثمئة متر، ثلاثمئة متر بيان كَمِّي، أما كبير فهي بيان وصفي، ربنا عزَّ وجل وصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بأنه على خلقٍ عظيم، فعظيم كَمِّي أم وصفي؟ وصفي.
الآن نقطة ثانية: لو أن طفلاً صغيراً قال لك: أنا معي مبلغٌ كبير، كم تقيّم هذا المبلغ؟ طفل عمره ثلاث سنوات قال لك: أنا معي مبلغ كبير، قد يكون مبلغه الكبير خمس ليرات، وقد يكون عشر ليرات، إذا قال لك أحد أكبر أغنياء العالم: أنا معي مبلغ كبير، هل تشبه كلمة الصغير كلمة الغني؟ الصغير قال: أنا معي مبلغ كبير، وهذا الثري الفاحش قال: أنا معي مبلغ كبير، كلمة كبير من الصغير كم؟ وكلمة كبير من الكبير كم؟ الله العظيم الذي خزائن الكمالات كلها عنده، مكارم الأخلاق كلها من عنده يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فكم هي أخلاق النبي؟ العظيم يَصِفُ أخلاق النبي بأنه ذو خلقٍ عظيم، النبي عليه الصلاة والسلام ألم يكن خطيباً من الطراز الأول؟ هو الخطيب الأول في الأرض، ألم يكن قائداً؟ هو القائد الأول، ألم يكن سياسياً؟ هو السياسي الأول، ألم يكن  عالماً؟ هو أعلم العلماء، ألم يكن قاضياً؟ هو أنزه القُضاة، الم يكن مجتهداً؟ هو أعظم المجتهدين، ألم يكن ذا ذاكرةٍ قوية؟ حفظ القرآن الكريم من دفَّته إلى دفته حينما يتلى عليه مرةً واحدة، في كل صفة من الصفات التي يفتخر بها الناس كان عليه الصلاة والسلام قمةً في هذه الصفة، فلماذا أهملها الله كلها، وحينما أراد أن يمدحه قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ؟ لأن الإيمان هو الخُلُق، والذي يَفْضُلُكَ في الخلق يفضلك في الإيمان، الإيمان حسن الخلق: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ . 

صور من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم:

 

1 ـ وفاؤه للأنصار:

النبي عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حُنَيْن، وبعد توزيع الغنائم جاءه سعد بن عبادة قال له: يا رسول الله إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم، قال: يا سعد أين أنت منهم؟ أي هل أنت معهم؟ قال: ما أنا إلا من قومي، فقال عليه الصلاة والسلام: اجمع لي قومك، فجمعهم، وقام النبي عليه الصلاة والسلام فيهم خطيباً، لكن قبل أن أتابع القصة: متى كان هذا؟ كان هذا بعد أن فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة التي ناصبته العِداء عشرين عاماً، وبعد أن انتصر على هوازن في حُنين، وبعد أن دانت له الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وصار النبي صلى الله عليه وسلم سيِّدَ الجزيرة كلها، وبيده أقوى قوة، وجد عليه الأنصار في أنفسهم، قال: أين أنت منهم يا سعد؟ قال له: ما أنا إلا من قومي، قال له: اجمع لي قومك، ماذا فعل النبي؟ كان من الممكن أن يُلغي وجودهم كما يفعل الأقوياء، ممكن، هذا احتمال، وكان من الممكن أن يهدِرَ كرامتهم، إذا قال: هم منافقون، انتهوا إلى الأبد، وكان من الممكن أن يهملهم، وكان من الممكن أن يعاتبهم لصالحه، ماذا فعل؟ وقف فيهم خطيباً -ودققوا فيما سأقول-وذكَّرَهُم بفضلهم عليه، قال: يا معشر الأنصار أما إنكم لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، مخذولاً فنصرناك، أتيتنا عائلاً فأغنيناك، لو قلتم هذا لكنتم صادقين والناس يصدقونكم، يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله بي؟ لم يقل: فهديتكم، انظر إلى التواضع:

(( عن أبي سعيد الخدري:  مَّا أصابَ رسولُ اللهِ الغنائمَ يَومَ حُنَينٍ، وقسمَ للمُتألَّفينَ مِن قُرَيشٍ وسائرِ العربِ ما قسمَ، ولَم يكُن في الأنصارِ شيءٌ مِنها، قليلٌ ولا كثيرٌ، وجدَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهِم حتَّى قال قائلُهُم: لَقيَ – واللهِ – رسولُ اللهِ قَومَهُ. فمشَى سعدُ بنُ عُبادةَ إلى رسولِ اللهِ فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا الحَيَّ مِن الأنصارِ وَجدوا علَيكَ في أنفسِهِم؟ قالَ: فيمَ؟ قالَ: فيما كانَ مِن قَسمِكَ هذهِ الغنائمِ في قَومِكَ وفي سائرِ العربِ، ولَم يكُن فيهِم مِن ذلكَ شيءٌ. قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ: فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ؟ قالَ: ما أنا إلَّا امرؤٌ مِن قَومي. فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ: اجمَعْ لي قَومَكَ في هذهِ الحظيرةِ فإذا اجتمَعوا فأعلِمني، فخرجَ سعدُ فصرخَ فيهِم فجمعَهم في تلكَ الحظيرةِ... حتَّى إذا لَم يبقْ مِن الأنصارِ أحدٌ إلَّا اجتمعَ لهُ أتاهُ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ اجتمعَ لكَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ حَيثُ أمرتَني أن أجمعَهُم. فخرجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقامَ فيهِم خطيبًا فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: يا معشرَ الأنصارِ ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم؟؟؟ قالوا: بلَى! قالَ رسولُ اللهِ: ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصارِ؟ قالوا: وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ. قالَ: واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلًا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ، فقالوا: المَّنُ للهِ ورسولِهِ. فقال: أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ! أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فَوَالَّذي نَفسي بيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ، اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ، فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قسمًا، ثمَّ انصرفَ وتفرَقوا. ))

[ فقه السيرة: خلاصة حكم المحدث: صحيح ]

هذه وفاء للذين نصروه في بادئ الأمر، لم  يتخلَّ عنهم، لم ينسَ فضلهم عليه،  رحمة؟ رحمة، حكمة؟ حكمة، حسن سياسة؟ حسن سياسة، تواضع؟ تواضع: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ . 

2 ـ رحمته بالأطفال:

كان عليه الصلاة والسلام يصلِّي صلاة الفجر، وكان يطيل قراءة الفجر وهذا من السُّنة، سمع بكاء طفلٍ صغير ينادي أمه ببكائه فقرأ الإخلاص وسلّم، قال: سمعت طفلاً يبكي فرحمت أمه، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .

3 ـ تجاوزه عن المسيء:

أحد أصحابه حاطب بن أبي بلتعة ارتكب  في العرف الحديث خيانةً عظمى، أرسل كتاباً إلى قريش قبيل فتح مكة: إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، كتاب سريّ يذهب من صحابيٍ اسمه حاطب بن أبي بلتعة إلى كفّار قريش، أرسله مع امرأة وضعته في ضفيرة شعرها، جاء النبيَ الوحي وأخبره بما حدث، أرسل سيدنا علي إلى منتصف الطريق بين مكة والمدينة ليأخذ الكتاب من هذه المرأة، وأخذه منها، وجاء به إلى النبي، فتحه وقرأه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش: إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، ماذا قال سيدنا عمر؟ قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ لا يا عمر إنه شهد بدراً، ما هذا الوفاء؟! ما هذه الرحمة؟! قال: يا حاطب ما حملك على ما فعلت؟ قال: والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت ولكني لصيقٌ في قريش فعلت هذا لتكون لي عندهم يدٌ أحمي بها أهلي ومالي، اغفر لي ذلك يا رسول الله، فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً، أنهضه من كبوته، بعضهم رأى الذنب فرآه خيانةً عظمى فتمنى قتله، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى صاحب الذنب، رأى زَلة قدم، ونكسةً طارئةً ألمَّت به، أنهضه، وبعد حينٍ سلمه عملاً لينسى زلته السابقة جعله مندوباً شخصياً له عند بعض الملوك. 

4 ـ ابتعاده عن اللهو وشعوره بثقل مسؤوليته:

النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يلهو مع الأطفال، قال له أحدهم: تعال نلهُو، أو حينما كان صغيراً دُعي إلى اللهو، فقال وهو صغير: أنا لم أخلق لهذا، حينما جاءته رسالة الهدى، وحُمِّلَ أمانة التبليغ دعته زوجته السيدة خديجة لأخذ قسطٍ من الراحة، ماذا قال لها؟ انقضى عهد النوم يا خديجة، شعر بثقل الرسالة وبعظم هذه المسؤولية. 

5 ـ عفوه عن أهل مكة:

حينما فتح مكة، من أهل مكة؟ أخرجوه من مكة، وائتمروا على قتله، ونكَّلوا بأصحابه، وعذبوهم، وهجوه بأشعارهم، وناصبوه العِداء عشرين عاماً، ولما فتح مكة وجد عشرة آلاف سيفٍ تنتظر كلمةً منه، وبإمكانه أن يلغي وجود كفار قريش جميعاً، قال: ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وحينما دخل مكة فاتحاً كادت ذؤابة عمامته تُلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون:

(( عن عائشة رضي الله عنها: هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ: لقد لقيتُ مِن قومِكِ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ، فَناداني فقالَ: يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا. ))

[ التوحيد لابن خزيمة: خلاصة حكم المحدث:  أشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح ]

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ . 

6 ـ صبره على أزواجه:

في بيته السيدةَ عائشة جاءها طبقُ طعامٍ من السيدة صفية، أصابتها الغيرة، أمسكت الطبق ورمته أرضاً من شدة غيرتها، ماذا بإمكان النبي أن يفعل؟ بإمكانه أن يفعل كل شيء،  قال: غضبت أمكم، غضبت أمكم.
كان إذا دخل بيته بَسَّاماً ضَحَّاكاً، كان يقول: "أكرموا النساء فوالله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم ويغلبهن لئيم، وأنا أحبّ أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً" .
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ قال مرةً:

(( عن أنس بن مالك: لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ، ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ دخل بيته مرةً فقال:

(( عن عائشة أم المؤمنين:  أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أتاها، فقالَ: هل عندَكُم طعامٌ ؟ فقُلتُ: لا ! فقالَ: إنِّي صائمٌ. ثمَّ جاءَ يومًا آخرَ، فقالت عائشةُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا قد أُهْديَ لَنا حَيسٌ، فدعا بِهِ، فقالَ: أما إنِّي قد أصبحتُ صائمًا. فأَكَلَ. ))

[ صحيح النسائي: خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح  ]  

7 ـ جوده عليه السلام:

حينما أكرمه الله بالمال سأله واحدٌ من الناس: لمن هذا الوادي من الغنم؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
امتُحن بالنصر فكان كاملاً، فكان ذا خلقٍ عظيم، امتُحن بالقهر في الطائف:

(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله> ))

[  قال الهيثمي في "مجمع الزوائد: حكم المحدث:" فيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]

فكان ذا خلق عظيم، امتُحن بالفقر فكان ذا خلقٍ عظيم، امتُحن بالغنى فكان ذا خلق عظيم، امتُحن بإشاعةٍ طارت في أرجاء المدينة بأن السيدة عائشة وقعت في الفاحشة، من منا يتحمَّل هذا الخبر؟ تأخر الوحي أربعين يوماً ماذا فعل؟ كان صابراً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ . 

8 ـ تأثيره على من حوله:

عمير بن وهب كان في مكة المكرمة مع صفوان بن أمية، قال: يا صفوان لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا أولادٌ صغار أخشى عليهم العَنَتْ لذهبت إلى محمد وقتلته وأرحتكم منه، فقال صفوان: أولادك أولادي ما امتدت بهم الحياة، وديونك عليّ بلغت ما بلغت فامضِ لما أردت، سقى سيفه سُماً وحمله على عاتقه وتوجَّه تلقاء المدينة، وصلها رآه عمر قال: هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً، قيَّده بحمالة سيفه وقاده إلى النبي، قال له: يا عمر فُكَّ قيده، فَكَّ قيده، قال: يا عمر ابتعدْ عنه، ابتعدَ عنه، قال: يا عمير ادنُ مني، دنا منه، قال: ما الذي جاء بك إلينا يا عمير؟ قال: جئت لأفديَ ابني، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال: ألم تقل يا عمير لصفوان كذا وكذا وكذا، فوقف وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله، وأسلم، يقول سيدنا عمر: دخل عمير على النبي الكريم والخنزير أحبّ إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض أبنائي، يوجد شيء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قوة تأثير، خلال دقائق ماذا قال له؟ لكن هذه النورانية، وهذا الحُب الشديد، وهذه الصلة بالله عزَّ وجل أعطته قوة تأثير مذهلة، يقف عدو أمامه، يقول له: والله يا محمد دخلت عليك وما على وجه الأرض أحدٌ أبغض إليّ منك، والآن ما على وجه الأرض أحدٌ أحبّ إليّ منك، ما هذا السر؟ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
 

تفاضل المؤمنين بأخلاقهم:


إخواننا الكرام؛ المؤمنون يتفاضلون فيما بينهم بخُلقهم، دققوا في هذه المقولة التي قالها أحد العلماء: من زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان، والإيمان بلا خلق شيءٌ لا قيمة له إطلاقاً، ثقافة، عادات، تقاليد، فولكلور، فقد الدين قيمته، لذلك ترى قلةً قليلةً من أصحاب رسول الله وصلت راياتهم إلى أطراف الدنيا، وترى كثرةً كثيرةً من المسلمين يعُدُّون ملياراً ومئتي مليون ليست كلمتهم هي العليا، وللكفار عليهم ألف سبيلٍ وسبيل.
من منا يصدِّق أن سيدنا الصديق أرسل سيدنا خالداً إلى بلاد فارس على رأس جيشٍ قوامه ثلاثون ألفاً ليفتح بلاد فارس؟ فلما وصلها واجهه الفرس بجيشٍ قوامه مئة وعشرون ألفاً، ما كان من سيدنا خالد إلا أن أرسل رسولاً إلى الصدِّيق يطلب فيه المَدَد، أنا أقول هذا الكلام الدقيق طلب المدد انتظر، انتظر، جاءه المدد، خمسون ألفاً؟ ثلاثون؟ جاءه رجل واحد، من أنت؟ قال: أنا القعقاع بن عمرو، أين المدد؟ قال له: أنا، قال له: معي كتاب، افتح الكتاب: من عبد الله أبي بكرٍ إلى خالد بن الوليد أحمد الله إليك، لا تعجب يا خالد من القعقاع بن عمرو، والله الذي لا إله إلا هو إن جيشاً فيه القعقاع بن عمرو لا يمكن أن يهزمه أحد، وانتهت المعركة بالنصر، هكذا ربىَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
أيها الإخوة؛ نحن الآن بحاجة لا إلى معلومات كثيرة وسلوك منحرف، لا، نحن بحاجة إلى خلق عظيم، هذا الخلق هو الذي يرفعنا عند الله، هو الذي يكون سبباً لاستحقاقنا النصر من الله عزَّ وجل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
لذلك جاءت الآية الكريمة: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ . 
 

قصة النبي الكريم مع عدي بن حاتم:


سيدنا عدي بن حاتم ملكٌ من ملوك الغساسنة، جاء إلى المدينة قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من الرجل؟ قال: عدي بن حاتم، فرحَّب بي أيما ترحيب وقام وانطلق بي إلى بيته، هذا تكريمٌ له، قال: هو ليس متأكداً هل هذا الرجل ملك أم نبي؟ لأن أخته سفَّانة قالت له: إن كان نبياً تسعد به، وإن كان ملكاً تأخذ منه، هو بين أنه نبي، بين أنه ملك، في الطريق استوقفته النبي امرأة طويلاً فوقف معها يكلمها في حاجتها، فقال: والله ما هذا بأمر ملك، فلما دخل بيته قذف إلي وسادةٍ من أدمٍ محشوةً ليفاً ليس عنده غيرها، قال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، فجلست  عليها وجلس رسول الله على الأرض، قال: 

(( عن أبي عبيدة بن حذيفة:  كنتُ أسألُ الناسَ عن حَديثِ عَديِّ بنِ حاتِمٍ، وهو إلى جَنْبي، لا آتيهِ، ثم أتَيتُه، فسألتُه، فقال: بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكَرِهتُه، ثم كُنتُ بأرضِ الرُّومِ، فقُلتُ: لو أتَيتُ هذا الرَّجُلَ، فإنْ كان صادِقًا تَبِعتُه. فلمَّا قَدِمتُ المَدينةَ، استَشرَفَني الناسُ، فقال لي: يا عَديُّ، أسلِمْ، تَسلَمْ. قُلتُ: إنَّ لي دِينًا. قال: أنا أعلَمُ بدِينِكَ مِنكَ، ألستَ تَرأسُ قَومَكَ؟ قُلتُ: بلى. قال: ألستَ رَكوسيًّا تأكُلُ المِرْباعَ؟ قُلتُ: بلى. قال: فإنَّ ذلك لا يَحِلُّ لكَ في دِينِكَ. فتَضَعضَعتُ لذلك. ثم قال: يا عَديُّ، أسلِمْ، تَسلَمْ، فأظُنُّ ممَّا يَمنَعُكَ أنْ تُسلِمَ خَصاصةً تَراها بمَن حَوْلي، وأنَّكَ تَرى الناسَ علينا إلْبًا واحِدًا، هل أتَيتَ الحيرةَ؟ قُلتُ: لم آتِها، وقد عَلِمتُ مَكانَها. قال: تُوشِكُ الظَّعينةُ أنْ تَرتَحِلَ مِن الحيرةِ بغَيرِ جِوارٍ حتى تَطوفَ بالبَيتِ، ولَتُفتَحَنَّ علينا كُنوزُ كِسْرى، قُلتُ: كِسْرى بنِ هُرمُزَ؟! قال:  كِسْرى بنِ هُرمُزَ، ولَيَفيضَنَّ المالُ حتى يُهِمَّ الرَّجُلَ مَن يَقبَلُ منه مالَهُ صَدَقةً. قال عَديٌّ: فلقد رأيتُ اثنَتَيْنِ، وأحلِفُ باللهِ لَتَجيئَنَّ الثالثةُ -يَعني فَيضَ المالِ. ))

[  شعيب الأرناؤوط  : تخريج سير أعلام النبلاء:  خلاصة حكم المحدث: إسناده قوي ]

 إن هذا لا يحل في دينك، مناقشة دقيقة، أنت ركوسي، وتأخذ من قومك الربع، وهذا لا يحل لك في دينك، كيف تفعل هذا؟ قال: فعلمت أنه نبيٌ مرسل يعلم ما يُجهل، قال: ((إيهِ يا عدي بن حاتم لعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم)) المسلمون فقراء، ((وايم الله ليوشكنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي أن يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وايم الله ليوشك أن تسمع بالمرأة البابلية تحج هذا البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من ضعفهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحةً لهم)) وعاش عدي بن حاتم ورأى كل هذا بعينه. 

9 ـ تواضعه الشديد:

كان إذا دخل أعرابيٌ على النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيكم محمد؟ ألم يكن له مقعد خاص؟ كان يجلس مع أصحابه، كان عليه الصلاة والسلام يجلس حيث ينتهي به المجلس. 
 

قراءة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم:


اقرؤوا سيرة النبي أيها الإخوة، اقرؤوها لأن قراءتها فرض عين، هل أنتم مصدِّقون ذلك؟ قراءة سيرة النبي فرض عين، طالبوني بالدليل، الدليل أن هناك قاعدةً فقهية تقول: ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، الصلاة فرض، والوضوء فرض، لأن الصلاة لا تتم إلا به، ما لا تتم السنة إلا به فهو سنة، الله جلَّ جلاله حينما أمرنا قال: 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 كيف يكون النبي أسوةً حسنةً لك إن لم تعرف سيرته؟ إن لم تعرف أخلاقه؟ إن لم تعرف أخذه وعطاءه؟ إن لم تعرف رحمته؟ إن لم تعرف لطفه؟ 

10ـ لطفه عليه الصلاة والسلام:

مرة كان في مجلس فصلى أصحابه الظهر ثم أكلوا لحم جزور، ثم دخل وقت العصر، اشتموا رائحة لا ترضي، من الذي ينبغي أن يتوضأ؟ هذا الذي انتقض وضوءه، سوف  يخجل خجلاً شديداً، وقد ورد بأن من أكل لحم جزور فليتوضأ، قالوا: كلنا أكلنا، قال: كلكم فليتوضأ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وقد قيل: "لا تحمِّروا الوجوه" .
لا تخجل إنساناً، هذا من خُلُقه العظيم، يجب أن نقرأ سيرة النبي كي نقلِّده، لأن الله عزَّ وجل لم يقبل دعوى محبته أصلاً إلا باتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]

في بيته، في ثيابه، في طعامه، كان عليه الصلاة والسلام يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، قال:

(( عن أبي هريرة:  لَوْ دُعِيتُ إلى كُراعٍ لَأَجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إلَيَّ كُراعٌ لَقَبِلْتُ. ))

[ صحيح البخاري ]

لو دُعيت إلى كراع بالغميم لأجبت، لو دُعي إلى مؤدم خارج المدينة للبَّى الدعوة، دخل إلى أحد أصحابه قدم له خلاً وخبزاً، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( عن جابر بن عبد الله: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم سألَ أهلَه الإدامَ، قالوا: ما عِندَنا إلَّا الخَلُّ، قال: فدَعا به، فجَعَلَ يَأكُلُ ويقولُ: نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ ، نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ. ))

[ صحيح مسلم ]

ما عاب طعاماً قط بحياته، الشيء الجديد ولا مدحه، هناك كثير من الأشخاص يتحدث عن الطعام بكلام يجعلك تشتهيه، ما عاب طعاماً قط ولا مدحه، وما رُئي ماداً رجليه قط بين أصحابه وهو سيد الخلق، أبداً.

 11 ـ حلمه صلى الله عليه وسلم:

وعده شخص انتظره ثلاثة أيام، فلما رآه قال: يا أخي لقد شققت عليّ-أتعبتني-يتأخر ربع ساعة يقيم الدنيا عليه، ثلاثة أيام تأخر عليه ما زاد عن أن قال: لقد شققت عليّ يا أخي، أما في بيته كان يُركب الحسن والحسين على ظهره ويقول: نعم الجمل جملكما ونعم الحِملان أنتما، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ اقرؤوا سيرة النبي، وقلِّدوه، واقتفوا أثرها، واتبعوه كي نسعد في ديانا وأُخرانا.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور