وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة القلم - تفسير الآيات 4-9 الالتزام بمنهج الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

  الفرق بين الفطرة والكسب:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة القلم، ومع الآية الرابعة وهي قوله تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم  ]

أيها الإخوة الكرام؛ هناك نقطةٌ دقيقةٌ جداً في موضوع ثناء الله عزَّ وجل على نبيِّه الكريم بأنه ذو خلقٍ عظيم لم تُذكر في الدرس الماضي وهي أن الإنسان لا يتقرَّب إلى الله إلا بما هو كسبي، أما الذي هو فطري فلا يتقرب به إلى الله عزَّ وجل، مثلاً: لقد أودع الله في قلب كل أم محبَّة أبنائها، فالأمَّهات جميعاً في الأعمّ الأغلب يحببن أولادهُن، لكن الرحمة التي تتقرّب بها إلى الله هي رحمةٌ عامّة؛ أن ترحم جميع الخلق، أن ترحم كل الأولاد، أن ترحم كل الناس الذين حولك، فالشيء الفطري لا يمكن أن تتقرَّب به إلى الله لأنه من عند الله، مثلاً لو أن هناك مخلوقَاً مثلاً يرى ثمانية أضعاف الإنسان، هل يعقل أن الذي يرى ثمانية أضعاف الإنسان أقرب إلى الله؟ إن الله أعطاه هذه القدرة على الرؤية، هناك مخلوق يشمّ مليون ضعف عن قدرة شمّ الإنسان  هل يعدّ هذا أقرب إلى الله؟ لا، أردت من هذين المثلين أن أَنْفُذَ: لماذا حينما أراد ربنا جلَّ جلاله أن يثني على النبي عليه الصلاة والسلام لم يثن على علمه، ولا على اجتهاده، ولا على خطابته، ولا على قيادته، ولكنه أثنى على خُلُقه؟
الخُلُق أيها الإخوة؛ بتعريفٍ جامعٍ مانع هو ضبط الذَّات، فأي أمرٍ إلهي يحتاج إلى صبر، فالصلاة تحتاج إلى صبر لأن الاستلقاء أريح أو أكثر راحةً للجسم من الصلاة، صلاة الفجر قبل الشمس تحتاج إلى صبر، الصوم يحتاج إلى صبر، الحج يحتاج إلى صبر، غضّ البصر يحتاج إلى صبر، ضبط اللسان يحتاج إلى صبر، ضبط الأذن يحتاج إلى صبر، البيع والشراء، أن يقع البيع والشراء وفق منهج الله عزَّ وجل تماماً يحتاج إلى صبر، أن يكون احتفالك وفق منهج الله يحتاج إلى صبر، فأساس الأخلاق ضبط الذَّات، وأساس ضعف الأخلاق التفلّت من الضبط، فالضبط شيء كسبي، أي الله عزَّ وجل أودع في الإنسان شهوات، فهذا الإنسان حينما يخاف مقام ربّه فينهى نفسه عن شهواتها، هذا شيء كسبي يرقى إلى الله، هذا هو الخُلُق، فبالخُلُق نرقى إلى الله، أما الذي أُوتي قدرات معينة فتفوّق بها، التفوّق بهذه القدرات لا يقرّبه إلى الله.
والله عزَّ وجل أعطى القدرات بين الناس بشكل عجيب، إنسان يملك ذاكرة قوية جداً، إنسان يملك قوة محاكمة قوية جداً، إنسان يملك طلاقة لسان كبيرة جداً، إنسان يملك قوة شخصية، إنسان يملك قوة إقناع، إنسان يملك مثلاً ذكاءً اجتماعياً، هذه القدرات العامّة والخاصَّة التي أودعها الله في الإنسان إذا تفوَّق بها لا يرقى بها عند الله لأنها ليست من كسبه، إنها هبةٌ من الله عزَّ وجل، الله أعطى الفيل حجماً كبيراً، أعطى الطاووس منظراً جميلاً، أعطى الكلب حاسّة شمّ عالية جداً، أعطى الصقر حاسة رؤية ثمانية أضعاف رؤية الإنسان، أعطى كل حيوان شيئاً، فهذا الشيء الكسبي، الشيء الفطري الوهبي لا ترقى به إلى الله، أما الشيء الكسبي وفي أعلى أنواع الكسب ضبط الذَّات، الإنسان ضبط ذاته، أُودِع في الإنسان حُبُّ المرأة، فغضَّ البصر ضبطٌ للذَّات، أوُدِعَ في الإنسان حُبُّ الفضول، فضبط اللسان عن قِصَصِ الناس وعن سقطاتهم يحتاج إلى جهد، من هنا كان التكليف، فالتكليف ذو كلفة، أنت بحاجة إلى كلفة تتكلَّفُها من أجل أن تصل إلى الله عزَّ وجل، فلذلك يجب أن نأخذ من هذه الآية حقيقةً خطيرة هي أن القدرات التي أودعها الله فيك، والتي تزهو بها على الناس أحياناً، أو تتفوَّق بها، هذه لا تقرّبك إلى الله عزَّ وجل، ولكن ضبط الذَّات الناتج عن شعور أن الله عظيم، وأن طاعته واجبة، وأنه ينبغي أن تنهى نفسك عن الهوى، لذلك غضّ البصر، وضبط اللسان، وحُسُن الخُلقِ، والمسامحة، والعفو، والسخاء، والكرم، هذا الذي يرقى بك إلى الله عزَّ وجل، من هنا حينما أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلمَّ ما أثنى على أنه أعظم خطيبٍ في العالم، ولا على أنه أعظم قائدٍ في العالم، ولا على أنه يملك ذاكرةً مدهشة، القرآن الكريم حفظه من أول مرَّةٍ أُنزِل عليه، من يملك هذا؟ هناك قدرات عالية جداً أعطاها الله للنبي عليه الصلاة والسلام، أما حينما أراد مَدْحه فمدَحه بأخلاقه.
 

الإسلام ذو مضمونٍ أخلاقي:


بالمقابل لو أن الإنسان تفوَّق في علمٍ شرعي، ولم يكن ذا خلقٍ حسن لا يرقى عند الله، لو أتقن علماً من علوم الشريعة، لو تفوق في أي علم علوم الشريعة فأصبح مرجعاً فيها، ولم يكن ذا خلُقٍ عظيم لا يرقى عند الله عزَّ وجل، قدرات عالية أعطاه الله إياها فتفوق بها، أما الذي يرقى بك عند الله أن تكون ذا خلق عظيم.
فلذلك عندما سأل النجاشي سيدنا جعفر عن حقيقة الإسلام قال سيدنا جعفر:

(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء . ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد  ]

أي الإسلام ذو مضمونٍ أخلاقي. 

توافق التكاليف مع الفطرة وتناقضها مع الطبع:


بل إن أحد العلماء الكبار يقول: الإيمان حُسنُ الخلق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان، هو الخُلُق هو ضبط للذَّات، وقد وصف النبي الكريم عليه الصلاة والسلام الإيمان في بعض الأحاديث الجامعة المانعة التي قال:

(( عن جابر بن عبد الله:  الإِيمانُ الصَّبرُ والسَّماحَةُ. ))

[ صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح:  الطبراني ]

الصبر، معنى ذلك أنت في دار التكليف، والتكاليف كلّها في الأصل تتناقض مع الطبع وتتوافق مع الفطرة، كلام دقيق، الطبع أقرب إلى الجسد، والفطرة أقرب إلى النفس، وأوضح مثل عندما ينام الإنسان الساعة الثانية ليلاً، ويستمع إلى أذان الفجر في الساعة الرابعة، فراشٌ وثير، ونومٌ لذيذ، والمنادي يناديك لصلاة الفجر، لو أن الإنسان استجاب لنداء جسده وبقي نائماً واستيقظ الساعة التاسعة، لماذا يشعر بانقباضٍ شديد؟ جسده مُرتاح، لكن التكليف الذي تركه أزعج نفسه، أما حينما يُزعج جسده ويستيقظ ويصلي ثم ينام ترتاح نفسه، إذاً التكاليف تتناقض مع الطبع، والطبع مرتبط بالجسم، والتكاليف تتوافق مع الفطرة، والفطرة مرتبطة بالنفس.
 

أخلاق المصلحة أخلاقٌ تنتهي مع الدنيا أما أخلاق العبادة فتنفعك إلى أبد الآبدين:


فيا أيها الإخوة الأكارم؛ عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ   قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ». ))

[ صحيح البخاري ]

الإسلام شيء، والخمس شيء آخر، الخمس أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، هذه أعمدة، أما الإسلام فهو بناء أخلاقي، الإسلام صدق،  أما صدق مبني على الذكاء وانتزاع إعجاب الآخرين فليس هذا هو الذي أراده، إنسان لا يصلي لكنه لا يكذب، لا يصلي لكنه لا يغشّ الناس، هذه أخلاق ناتجة من الذكاء، أخلاق ناتجة من المَصلحة، مصلحته تقتضي ألا يكذب، ليست هذه الأخلاق التي أرادها الله عزَّ وجل أبداً، الأخلاق التي أرادها الله عزَّ وجل أخلاقٌ اشتُقَّت من اتصالك بالله، صدق أصيل لا تبتغي به إلا وجه الله، أمانة مذهلة لا تبتغي بها إلا وجه الله، فالصدق، والأمانة، والإخلاص، والعدل، والإنصاف، هذه القيم الأخلاقية التي اشتققتها من خلال اتصالك بالله هي التي أرادها الله، أما التي تمارسها انطلاقاً من مصلحتك الدنيوية هذه قد تنتزع بها إعجاب الآخرين لكنها لا ترقى بك عند الله عزَّ وجل أبداً، أخلاق المصلحة أخلاقٌ تنتهي مع الدنيا، أما أخلاق العبادة فتنفعك إلى أبد الآبدين. 
 

الدين حسن الخلق:


إخواننا الكرام؛ الدين حسن الخُلُق، إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، إنَّ أفضل المسلمين إسلاماً أحسنهم أخلاقاً، أفضل شيءٍ ترقى به عند الله حُسُن الخُلُق، والنبي عليه الصلاة والسلام وصفه الله عزَّ وجل بأنه ذو خُلُقٍ عظيم، الحقيقة التي سأُلخِصُها الآن هي أنّ القدرات التي أودعها الله فيك، التي وهبها الله إيَّاك، القدرات الوهبية الفطرية لا تقرّبك إلى الله مهما تفوَّقت بها على الناس، أما الذي يقرّبك إلى الله فهو ضبط الذَّات، ضبط الذَّات أي الأخلاق، الأخلاق تعني أنك أردت وجه الله وضحيت بحظوظ نفسك، أردت رضاء الله وضحيت بحظوظ نفسك، أردت القرب من الله وضحيت بميول نفسك، لابدَّ من أن تضحي بشيء من أجل شيء هذه سُنَّة الله في خلقه، هذه الدنيا خضرةٌ نضرة إن ضحيت بها من أجل أن تُرضي الله عزَّ وجل نلت رضاه، فلذلك الحديث الشريف: 

(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار. ))

[ صحيح البخاري ]

أي أن يكون تنفيذ أمر الله، وتنفيذ أمر رسوله أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها، أحياناً  يتعارض النصَّ القرآني والنبوي مع مصلحتك، قد يكون الإنسان مثلاً يسكن بيتاً فخماً جداً على قانون الإيجار القديم أجرته في الشهر مئة ليرة، والقانون معه، ومحميٌّ من أن يُخلى، لكن أحياناً يرى أن القرب من الله عزَّ وجل أثمن عنده من هذا البيت يضحي به، ويُقدّمه لصاحبه من دون أن يأخذ شيئاً ليرقى عند الله عزَّ وجل، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، أي من الدنيا وما فيها، حينما تؤثر طاعة الله على حظٍّ من حظوظ الدنيا، حينما تؤثر تطبيق سنة رسول الله على حظٍّ من حظوظ الدنيا، حينما تؤثر أن تكون مع الله على أن تكون الدنيا بحوزتك عندئذٍ تذوق حلاوة الإيمان، والله عزَّ وجل إذا أذاقك حلاوة القُرب منه تنسى الدنيا وما فيها. 

فليتك تحلو والحيــــاة مريـــــــرةٌ           وليتك ترضى والأنامُ غضـــاب

ويا ليت الذي بينــي وبينك عــامرٌ           وبيني وبين العالمينَ خـــــرابُ

وليت شرابـــي من ودادك سائــغٌ           وشربي من ماء الفرات سرابُ

أقول لعذَّالي مدى الدهر اقصروا            فكل الذي يهوى سواه يُعــــاب

[ أبو فراس الحمداني ]

* * *

هذا القرب من الله لا يعلمه إلا من ذاقه، فذاق حلاوة الإيمان، ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما)) .
 والحقيقة لن يُفتَح لك باب السماء، لن تذوق حلاوة الإيمان إلا إذا استوى عندك التبْرُ والتراب، سأل رجل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: لمن هذا الوادي؟ كان وادياً من الغنم، فقال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله هو لك، فقال: أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أحياناً تجد المئة ألف إن قدمتها لإنسان وقرَّبته إلى الله أنت الرابح الأكبر، أحياناً قد تضحي بالدنيا من أجل هداية إنسان، الله عزَّ وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
 

الخُلُقَ العظيم هو الذي يقرّب الإنسان إلى الله عزَّ وجل:


أيها الإخوة؛ قضية الأخلاق، بالأخلاق تجذب الناس إليك، لماذا يخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ لأن هناك شخصاً يصلي ويكذب، يصلي ويأخذ ما ليس له، يصلي ويحتال على الناس، يصلي وينغمس في ملذَّاته ويغطيها بفتاوى ضعيفة، هذا الإنسان الذي ليس أخلاقياً، لا يرقى عند الله ولا يستطيع أن يجذب الناس إليه ولو أدى العبادات كما جاءت، أما حينما تؤثر طاعة الله على حظوظ نفسك، وحينما تكون أخلاقياً إلى أعلى درجة عندئذٍ يسمح الله لك أن تكون باباً له، لا يسمح الله لك أن تكون باباً له حتى تدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
فلذلك أيها الإخوة؛ عندما مدح ربنا عزَّ وجل نبيه صلى الله عليه وسلَّم بأنه ذو خُلُقٍ عظيم معنى ذلك أن الخُلُقَ العظيم هو الذي يقرّبك إلى الله عزَّ وجل.
شيءٌ آخر: حينما سئلت السيدة عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، أو حينما سأله أحد الأصحاب: يا رسول الله ما هذا الخلق؟ حلم ما بعده حلم، لطف ما بعده لطف، رحمة ما بعدها رحمة، وفاء ما بعده وفاء، تواضع ما بعده تواضع، إنصاف ما بعده إنصاف، قال عليه السلام:

(( عن عائشة رضي الله عنها : أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))

[ صحيح البخاري ]

عدل ما بعده عدل، رحمةٌ ما بعدها رحمة، كان يصلي بأصحابه صلاة الفجر فسمع بكاء طفلٍ صغير ينادي أمَّه ببكائه فقرأ الإخلاص وسلَّم، رحمةً بهذا الصغير.
وأصحابه كذلك، قلبٌ مفعم بالرحمة، قلبٌ مفعم بالعدل، قلبٌ مفعم بالإخلاص، قلبٌ مفعم بالحُب، هكذا كان أصحاب رسول الله، أما الآن فإنك تجد ملياراً ومئتي مليون يصلّون، والمساجد عامرة والحمد لله، والأعداد غفيرة، وكل المساجد تحتاج إلى توسعة والحمد لله، لكن أين نصر الله؟ أين وعد الله عزَّ وجل؟

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[ سورة النور ]

أبن؟ أين الاستخلاف؟ وأين التمكين؟ وأين التطمين؟ لأنهم:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم  ]

 

تأديب الله عز وجل لعباده المؤمنين:


أيها الإخوة الكرام؛ سئل عليه الصلاة والسلام: ما هذا الخُلُق العظيم؟ بماذا أجاب، دققوا في إجابته، هناك خُلُق أساسه التفكير، إذا كان الإنسان ذكياً جداً أنا أنتزع إعجاب الناس بصدقي، أنتزع إعجابهم بأمانتي، أحقق مصالحي بإنصافي، هذا الخُلُق خلق المصلحة، خلق الذكاء لا يرقى بك إلى الله، قالوا: ما هذا الخلق؟ قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبد الله بن مسعود: أدَّبَني ربِّي فأحسنَ تأديبي. ))

[ السيوطي : الجامع الصغير: خلاصة حكم المحدث : ضعيف  ]

هذا من تأديب الله لهم، والمؤمن أيها الإخوة والله له في النبي أسوةٌ حسنة، الله يؤدّبه، أحياناً يتكلّم المؤمن كلمة فيها شطط فيحجبه الله، قال له: يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ قال: وقع في قلبه أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذَّة مناجاتي؟ الله أحياناً يحجب، إذا كان الإنسان غالياً على الله كيف يؤدّبه؟ معاذ الله أن يفضحه، معاذ الله أن يشمت به أعداءه، يحجبه عنه، أحد أنواع التأديب الحجاب، يحجبك عنه فتبحث عن السبب، فلذلك قال: ((أدَّبني ربي فأحسن تأديبي)) أحياناً قد يتكلم الإنسان كلمة، أخ كريم  تكلَّم كلمة ينبغي ألا يقولها،  في عمله كان متفوقاً جداً، قال: إن تصليح الآلة يكلّف ساعة أو ساعتين، أول يوم، ثاني يوم، ثالث يوم، رابع يوم، ثمانية أيام بالتمام والكمال والطريق مسدود، ثم راجع نفسه: أين الخلل؟ تكلّم كلمة ينبغي ألا يقولها مع صاحب المعمل فتاب منها، واعتذر إلى الله، وأغلب الظن أنه تصدَّق، في اليوم التالي حُلَّت القضية في ربع ساعة، هذا تأديب الله عز وجل، الإنسان قد يتكلّم كلمة فيحجبه الله بها، أو يعامله معاملة خاصَّة، ما هذا الأدب؟ قال: ((أدَّبني ربي فأحسن تأديبي)).
إخواننا الكرام؛ إذا كان ربنا عزَّ وجل قد تولانا بالتأديب هذا من فضل الله علينا، معنى ذلك أنه مازال فينا خير، فإذا أدب الله إنساناً فهذا يعني أن هذا الإنسان لازال فيه خير فالله لا يحزن، إذا أدب الله الإنسان، حاسبه على الكلمة، وعلى النظرة، وعلى الهمسة، وعلى الخاطر، وكلّما أخطأ حجبه، هذا معنى ذلك  أنه مطموع فيه، معنى ذلك أنه عنده إمكانيات عاليةٌ جداً، لذلك تولاَّه الله بالتربية والعناية، أما حينما يشرد الإنسان عن الله شرود البعير فعندئذِ:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

استمداد الأخلاق من القرآن:


فكرة ثالثة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ أن النبي عليه الصلاة والسلام وصفت السيدة عائشة خُلُقه فقالت:

(( عائشة أم المؤمنين:  كان خُلُقُه القرآنَ. ))

[  صحيح الجامع :  خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

 معنى ذلك أنَّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا لو تلوناه حقَّ تلاوته، ووقفنا عند أوامره ونواهيه، وعند آدابه لتخلَّقنا به، سيدنا يوسف مثلاً عندما التقى بأخوته -انظروا إلى هذا الأدب- قال:

﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾

[ سورة يوسف ]

أيهما أخطر بربكم كونه في السجن حياته مضمونة فيه وطعامه وشرابه مضمون أم كونه في الجُبّ وهو عرضةٌ للموت جوعاً وعطشاً وهلاكاً؟ قال: لمَ لم يذكر الجُب ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ؟ قال: لم يذكر الجُب مع أنه أخطر لئلا يذكِّرَهُم بفعلتهم، لئلا يحمّر وجوههم، لئلا يذكِّرَهُم بخطيئتهم، هذا أدب من أدب الأنبياء، لذلك إذا قرأت القرآن واستوعبت أوامره ونواهيه، واستوعبت حلاله وحرامه، واستوعبت قصصه وعبره ومواعظه، واستوعبت قصص الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لتخلَّقت بأخلاق القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام بتعريفٍ جامعٍ مانع قالت عنه السيدة عائشة: ((كان خُلُقه القرآن)) والقرآن بين أيدينا.

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)﴾

[ سورة المؤمنون ]

أليس هذا من الخُلُق؟

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾

[ سورة البقرة ]

لو تتبعت مكارم الأخلاق في القرآن لوجدت العجب العُجاب.  
 

أنواع الأدلة؛ عقلي، شهود، معاينة:


لذلك إن أردت أن تتقرَّب إلى الله التقرب إليه بالخُلُق العظيم، وتطبيق آيات القرآن الكريم سبيلٌ لك إلى هذا الخُلُق العظيم.

﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)﴾

[ سورة القلم  ]

السين للاستقبال، ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنك أنت أمام واقع وهناك وعد، الوعد له أدلّة، هناك دليل عقلي وهناك شهود، أنت إذا رأيت جداراً ورأيت خلف الجدار دخاناً، فالدماغ البشري أجرى محاكمة، قال: لا دخان بلا نار، إذاً هناك نار وراء الجدار، هذا يسمى استدلالاً عقلياً، أما حينما تذهب إلى خلف الجدار، وترى بعينك النار فهذا يسمى شهوداً، أما إذا اقتربت من النار، ولمست يدك وهجها فهذا اسمه معاينة، فأي إنسان حينما يرى الشيء بحواسّه الخمس يؤمن به، شيء بديهي، أي كل البشر قاطبةً من دون استثناء حينما يأتيهم ملك الموت ينتقلون إلى عالم الشهود، لذلك كل الحقائق التي جاء بها الأنبياء من دون استثناء يؤمن بها الناس جميعاً، مؤمنهم وكافرهم وملحدهم إيمانهم إيمان المؤمنين بها، القضية إذاً قضية وقت.

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

معنى ذلك أن هناك غيباً وشهوداً، الغيب أن تستنبط الحقائق من أدلّتها، أما الشهود فهو أن تُعاين هذه الحقائق، النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال الله له: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ﴾ نتائج إيمانك، ونتائج إقبالك، ونتائج أخلاقك، ونتائج صدقك، ونتائج اتصالك بالله في الدنيا، ﴿وَيُبْصِرُونَ﴾ نتائج انحرافهم وكفرهم، ومعصيتهم وتفلُّتهم، معنى ذلك هناك نتائج في الدنيا، النبي عليه الصلاة والسلام رفعه الله إلى أعلى عليّين، بينما أعداؤه الكفرة كانوا في أسفل السافلين في الدنيا، حينما قتِلوا في بدر خاطبهم النبي واحداً إثر الآخر:

(( عَنْ أَبِي طَلْحَةَ   أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ وَيَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا»؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ». ))

[ صحيح البخاري ]

 

من لوازم الإيمان بالله أنه لن يدع خلقه بلا حساب:


كلمة: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ معنى ذلك نحن في عالم له آخرة، هناك قرآن، الله ذكر الآخرة في القرآن الكريم، هناك كونٌ عظيم ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، هذا الكون من لوازم الإيمان بالله أنه لن يدع خلقه بلا حساب، لابدَّ من يومٍ آخر، وهناك دليل عقلي ودليل نقلي على اليوم الآخر، أما الإنسان حينما يموت ويرى اليوم الآخر رأي العين فإن إيمانه صار حتمياً، لكن هذا الإيمان لا فضل له به، ليس له قيمة إطلاقاً، صار إيماناً حسياً، لذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾ يا محمد في الدنيا كيف أن الله سينصُرُك، وسيُعلي قدرك، وسيخذل عدوّك؛ ويا أيها الكفرة المشركون وستبصرون دناءة أخلاقكم، وسُقم تفكيركم، وانحراف سلوكم، وكيف أنكم في أسفل سافلين.

﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6)﴾

[ سورة القلم  ]

من هو الذي فُتِن في الدنيا وكان ضحيةً لها أنتم أم النبي؟ النبي ليس بمجنون! أحياناً يكون الإنسان بين أصدقائه قبل أن يعرف الله، فإذا عرف الله، واستقام على أمره، نشأ بينه وبينهم نوع من المجادلات ؛ أنت على حق، لا، نحن على حق، لا أنت غلطان، لا، نحن لسنا على غلط، في النهاية تدور الأيام، وهذا الذي استقام على أمر الله، وأخلص له، وأطاع الله، يرفع الله شأنه ويُعلي قدره، بينما هذا الذي انحرف وشرد عن طريق الحق يضعه الله عزَّ وجل، تجده خامل الذكر، بعيداً عن الأعمال الطيبة، مهموماً بمشكلات كبيرة جداً تسحقه تقريباً، فهناك إذاً نتائج في الدنيا قبل الآخرة، لذلك: ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾ يا محمد نتائج عملك، ﴿وَيُبْصِرُونَ﴾ . 
 

الغبي من وقع ضحية عمله وسوء فهمه:


إذا كنت راكباً دراجة، والدراجة مريحة جداً في الانحدار، وهناك طريق صاعد، هذا الطريق الصاعد ترابي فيه صخور وأكمات وغبار، والحر شديد، والطريق النازل طريق معبَّد، على جوانبه حدائق، وكنت راكباً دراجة فأي الطريقين تختار؟ الهابط، لو كُتِبَت لك لوحة عند مفرق الطرق تقول: إن هذا الطريق الهابط ينتهي بحفرةٍ سحيقةٍ ما لها من قرار، فيها وحوشٌ مفترسة، جائعة لم تأكل شيئاً من سبعة أيام، ونهاية هذا الطريق إلى هذه الحفرة، لوحة، وعلى الطريق الصاعد لوحةٌ أخرى تقول: هذا الطريق الوعر الصعب ينتهي بقصرٍ منيف هو لمن يصل إليه، الحقيقة هو لم ير الوحوش الكاسرة ولم ير القصر المنيف لكنه رأى لوحة، وإذا أراد دليلاً أقوى هناك منظار، أصبح لديك لوحة ومنظار، من هو الكافر؟ لم يقرأ اللوحة ولم يستخدم المنظار وآثر الطريق السهل، فلما وصل إلى آخره رأى الحفرة السحيقة والوحوش الكاسرة الآن آمن، لكن متى آمن؟ بعد فوات الأوان، هذا الإيمان لا قيمة له، هذا الإيمان شهودي، شهد الحقيقة، ولكن جاء هذا الشهود بعد فوات الأوان، والذي وصل إلى القصر المنيف أيقن أن هذه اللوحة صحيحة، وأن المنظار صحيح، وأنه كان موفَّقاً في اختياره، وأن هذا التعب نسيه فوراً، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبدالله بن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ، وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا. ))

[ ابن كثير : حديث حسن: أخرجه أحمد واللفظ له  ]

﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)﴾ الذي قرأ اللوحة، واستخدم المنظار، ورأى ملامح الجنة، وملامح الحفرة السحيقة، واختار الطريق الصعب هو المؤمن، تجد المؤمن في آخر الزمان قد يكون دخله قليلاً جداً، وقد يكون هناك أناس حوله معهم أموال لا تُحصى، لأنهم منحرفون لم  يعبؤوا بمصدر رزقهم، حرام أم حلال، قد يرى إنساناً ليس له غير زوجته، أما هؤلاء الذين حوله كل يوم في ناد، وكل يوم بملهى، وكل يوم مع امرأة ، فيبدو للإنسان أنه هو اختار اختياراً صعباً، اختار طاعة الله، اختار رضوان الله، اختار الجنة على ما بينه وبينها من أمدٍ بعيد، والذي اختار الشهوات العاجلة نسي الآخرة، وعاش لحظته، إذا نظرت الآن رأيت أن أكثر الناس يعيشون لحظتهم، أي شيء مستحدث الناس يأتون به، يقولون: نحن نريد أن نعيش وقتنا، نريد أن نرى ماذا يوجد في العالم، لا يوجد مانع، ولكن يوجد مع العالم شيء يفجرك من داخلك،  فقط من أجل الصلاة في الكعبة، هذا الذي يدَّعيه الناس، مع أن هناك لا تذكر ولا تتصور يتابعها الناس حتى  الساعة الخامسة فجراً، أين صلاتهم؟ أين ذكرهم؟ أين تلاوة قرآنهم؟ أين علاقتهم بزوجتهم؟ انهارت، لأنهم خرجوا عن منهج الله عزَّ وجل، فلذلك العبرة أن تقرأ اللوحة، وأن تستفيد منها، أو أن تستخدم المنظار، أما إذا أعرضت عن اللوحة المرشدة، والمنظار الذي يُريك الحقائق، وعشت لحظتك التي تقول إن الطريق النازل أهون، والصاعد أصعب، الآن أكثر الناس يعيش، ينام ليرتاح، يتكلم كيفما يشاء، لا يوجد عنده ضابط، يغتاب، ينم، يوقع البلاء بين الناس مرتاح، لا يوجد مشكلة، يرتكب كل الموبقات وبراءة الأطفال في عينيه، يقول لك: لم نفعل شيئاً، هذا الذي يعيش لحظته هذا: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6)﴾ بأيكم قالوا: إن الباء زائدة، تبصر ويبصرون أيكم المفتون، أو في أيكم الفتون، أي من هو الذي وقع ضحية عمله وسوء فهمه؟  

الحكم على العباد بيد الله وحده:


لكن:

﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)﴾

[ سورة القلم  ]

بشكل أو بآخر تقييم الخلق من اختصاص الخالق، تقييم المخلوقات أو تقييم الإنسان ما إذا كان صالحاً أو سيئاً أما نحن فنحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، أنا أرى شخصاً يصلي في المسجد، لم أسمع عنه معصية، لم أر منه شيئاً خلاف الشرع، أحكم بصلاحه، ولا أزكّيه على الله، أقول: أنا أراه صالحاً والله أعلم ولا أزكّي على الله أحداً، هذا هو الموقف الإيماني، الموقف الأديب، لأن امرأة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم قالت لرجل متوفَّى جاء النبي ليودِّعه، قالت: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، لو أن النبي عيله الصلاة والسلام سكت لكان كلامُها صحيحاً، لكنه قال:

(( فَعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي؟ قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا .  ))

[ صحيح البخاري ]

ليس من شأن العبد أن يعرف المستقبل على وجه اليقين، صار إلهاً، من شأن العبد أن يرجو رحمة الله، وأن يخشى عذابه، أما أن يقول لك: أنا من أهل الجنة، من قال لك ذلك؟ نحن في عقيدتنا عشرة رجال بشَّرهم النبي بالجنة على وجه اليقين، وما سوى هؤلاء نرجو لهم دخول الجنة، قال لها: ((قولي أرجو الله أن يكرمه)) أما حينما قالت: لقد أكرمك الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومن أدراكِ أن الله أكرمه؟!)) هذا تألّ على الله، لذلك: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ الله وحده هو الذي يعلم، يعلم على الوجه الصحيح، وعلى الوجه اليقين من ضلّ عن سبيله، ومن كان في ضلالٍ مبين، من اهتدى ومن ضلّ، أما نحن فلنا دلائل ظاهرة، شخص رأى إنساناً يشرب الخمر ماذا يقول؟ هذه معصية، لكن لعله يتوب، له أن يتوب، وإذا تابَ تاب الله عليه، وقد يسبق إنساناً مقصراً، فنحن نحكم الآن، الآن هذه معصية، أما أن تحكم على المستقبل فإن هذا ليس من شأن الإنسان.
سيدنا خالد كم حرب خاض ضدّ رسول الله ؛ بدراً، وأحداً، والخندق، وجاء إسلامه متأخِّراً، ولما أسلم قال له النبي الكريم:

(( عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً. ))

[ ذكر الواقدي في المغازي في قصة خالد عند دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم  ]

وسيدنا خالد سمَّاه النبي سيف الله المسلول، وخاض مئة معركةٍ أو زهاءها، وما في بدنه موضعٌ إلا وفيه ضربةٌ بسيف أو طعنةٌ برمح، فلا نامت أعين الجبناء، فالذي يحكم على سيدنا خالد يوم كان يحارب النبي حكمه غلط، هذا خُتم له بأعلى درجات الإيمان، وكان سيدنا خالد أحد كبار الصحابة مع أنه أسلم متأخّراً، فأنا أحكم على الإنسان الآن، الآن هذه معصية، الآن هذه طاعة، أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله، لذلك إذا زكَّيت قل: أعلمه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ وهذه الآية لها معنى آخر: أي إذا كنت أيها الإنسان عند الله مهتدياً لو أن الناس جميعاً اتهموك بالضلال فلا تعبأ بذلك، الآن يوجد خمسة آلاف مليون، لو أن خمسة آلاف مليون اتهموك بالضلال وأنت عند الله من المهتدين، أنت مهتدٍ ورب الكعبة، ولا تعبأ بأقوالهم جميعاً، لا تعبأ بأقوال الناس، هؤلاء الشاردون عن الله عزَّ وجل تقييّمهم باطل، تقييمهم لا يقدم ولا يؤخّر، لذلك: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ من عرف نفسه ما ضرَّته مقالة الناس به.
 

المداهنة:


﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)﴾

[ سورة القلم  ]

أنت كمؤمن استنباطناً من هذه الآية الكريمة لا ينبغي لك أن تستشير إنساناً شارداً في شأن حياتك، ولا في شأن تربية أولادك، ولا في شأن تزويج بناتك.

﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾

[ سورة القلم  ]

المداهنة التليين، يقول لك: مواقف متصلّبة، مواقف جريئة، مواقف يقينية، المداهنة تليين هذه المواقف، لو أنك داهنت الكافر قليلاً لداهنك قليلاً، لو أنك سرت معه إلى نصف الطريق لسار معك إلى نصف الطريق، صار هناك مصالح، الآن هناك شيء اسمه المداهنة، يقول لك: التقريب والتوفيق، هناك تناقضات جذرية، فإذا أردنا أن نوفِّق أو أن نقارب بين المتناقضات معنى ذلك أننا نُلغي أفكارنا، جهة تؤمن بكذا، جهة تؤمن بكذا، كيف نوفِّق بينهما؟ ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ .
لذلك أيها الإخوة؛ الإسلام حق، والحق لا يحتاج إلى مداهنة، والحق لا يُستحيا به، والحق لا يُخشى البحث، والحق هو الله، والله مع الحق، والحق لا يحتاج إلى أن تكذب له، والحق لا يحتاج إلى أن تكذب عليه، والحق لا يحتاج إلى أن تقلل من خصومه، ولا أن تبالغ فيه، الحق حق، الحق أقوى من أن تبالغ فيه، الحق أقوى من أن تكذب عليه، الحق أقوى من أن تستحيي فيه، الحق أقوى من أن تخشى أن تبحث فيه، الحق حق، والحق لا يتجزَّأ، فنحن لا نستطيع أن نقول: هذه سنتساهل فيها، الإسلام منهج كامل بتفاصيله وجزئياته، فإذا ألغينا جزئيةً  هذه الجزئية ساهمت في تقويض البناء كلّه، تصور أن هناك بالوناً منفوخاً، وهو كبير قليلاً وسنقوم بتصغيره أحضروا دبوساً، نثقبه قليلاً لكي نصغره انتهى كله، الحق لا يقبل أنصاف الحلول، الحق حق، لذلك: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ . 
 

الفرق بين المداهنة والمداراة:


توجد نقطة دقيقة؛ المداهنة والمداراة، النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( عن جابر بن عبد الله: عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: بعثت بمداراة الناس. ))

[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: السلسلة الضعيفة: خلاصة حكم المحدث: موضوع ]

أنت مأمور أن تداري، ومحظورٌ عليك أن تداهن، المداراة على حساب الدنيا، أما المداهنة فهي على حساب الدين، المدارة أن تبذل الدنيا من أجل الدين، أما المداهنة فهي أن تبذل الدين من أجل الدنيا، أحياناً يقبل إنسان بمعصية، أو يقبل بترك طاعة حتى يُرضي الطرف الآخر، هذه مداهنة، وحينما تقبل بهذا سوف تنقض عُرى الإسلام عروةً عروة، إذا أنت قبلت بترك طاعة لله مداهنةً للطرف الآخر، أو قبلت أن تعصي الله مداهنةً للطرف الآخر تأكَّد أنك سوف تتخلى عن دينك حلقةً حلقة إلى أن تغدو بلا دين، فلذلك بالحق لا يوجد أنصاف حلول، وحينما اختلط المسلمون بغيرهم وداهنوا بعضهم انتهى دينهم، بقي عبادات جوفاء لا تقدم ولا تؤخر، إذا حياتنا وتجارتنا، وبيعنا وشراؤنا، ونزهاتنا، وأماكن إقامتنا، وأحزاننا وفق التقاليد الغربية فنحن قد انتهينا، ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ عرس مختلط، النساء بأبهى زينة كاسيات عاريات، وعلى البطاقة: الطيِّبون للطيبات، هذه مداهنة، ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ أما المؤمن فيُداري، يبذل شيئاً من ماله، شيئاً من وقته، شيئاً من إمكاناته، يضحي من أجل هداية الناس، هذه مداراة، فنحن مأمورون بالمداراة، منهيون عن المداهنة، والمداهنة يُنتقض بها الدين عروةٌ عروة، اليوم لم نصلِّ، غداً لن نصوم، ثم نأكل الربا، ثم نستحل ما حرَّم الله، ثم لا تجد فرقاً بين مسلمٍ وغير مسلم، يقول لك: إسلام وغير إسلام، كلاهما يأكل الحرام، وكلاهما نساؤه كاسياتٌ عاريات، وكلاهما يتعامل بالربا، وكلاهما يبتعد عن طاعات الله عزَّ وجل، فما هذا الانتماء الشكلي؟ هذا انتماء تعصب لا قيمة له إطلاقاً، إذاً: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾ .
 

ضرورة التزام الجماعة المؤمنة:


أيها الإخوة؛ صار من الواجب أن يُقال: لابدَّ من مجتمع إسلامي نظيف، لابدَّ من أن تكون مع جماعةٍ مؤمنة، لأن الإنسان إذا كان يعيش مع غير المؤمنين هناك صعوبات كبيرة جداً، لو أن إنساناً شارك إنساناً غير مؤمن يدفعه إلى مزالق خطيرة جداً، وتنشأ صعوبات لا تنتهي، لو أنت صاحبت إنساناً غير مؤمن تدخل إلى بيته تأتيك زوجته، تقدِّم لك الضيافة، يدعوك إلى مشاهدة فيلم ما، فإذا خرج الإنسان عن نقائه وصفائه، وصار لديه اختلاط مع الطرف الآخر، وصار هناك مداهنة انتهى دينه، "فدينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا " .
مرَّةً في بعض المساجد كنت أُلقي درساً، فقام أحدهم في أثناء الدرس وهذا على غير المألوف قال لي: يا أستاذ نحن نستمع إلى الدرس نشعر براحة كبيرة، فإذا ذهبنا إلى البيت نسينا كل هذا وعشنا حياتنا السابقة فما الحل؟ وقالها بحرقة، وقالها وهو صادق، وخالف بها التقليد العام، من غير المعقول أن يقطع إنسان الدرس ويتكلَّم-مداخلة- فألهمني الله عز وجل جواباً موجزاً فقلت له: غيَّر الطَقْم، إذا عندك أصدقاء متفلتون، غير مؤمنين، تسهر معهم، تلعب النرد معهم، حديثهم عن النساء، يدعونك إلى مشاهدة التلفاز، هؤلاء يبعدونك عن دين الله.
ذهب رجل إلى الحج وكان يشرب الخمر، فعاد من الحج وهو تائب، سهر مع أصدقائه القدامى دعوه إلى شرب الخمر، تاجر من تجَّار حلب، فامتنع، قال له صديقه: كم كلفتك الحجة؟ خمسون ألفاً؟ هذه خمسون ألفاً واشرب، ثم أعد الحج، فشرب، فلابدَّ من أن تتخلى عن أصدقائك القدامى الذين تداهنهم ويداهنوك، ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ لابدَّ من أن تنتقي إخوةً مؤمنين.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور