وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة القلم - تفسير الآيات 8-16
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 التحذير من المداهنة وعاقبة المتكبرين
 الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الرابع من سورة القلم، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) ﴾

( سورة القلم )

 لا مساومة في الدين:
 أيها الإخوة الكرام... هذه الآية الكريمة تنفي مبدأ المساومة في الإسلام،وتنفي أنصاف الحلول، وترفض أن يمشي كل فريقٍ إلى منتصف الطريق، و أن يتخَّلى المؤمن عن بعض مبادئه، فالمساومة تكون في التجارة ؛ فأنت قد تخفض السعر أو ترفعه وقد تضيف إلى المبيع مبيعاً، وهذا كله في عالم التجارة، أما في عالم العقيدة فلا مساومة على المبدأ، لأن المبدأ كلٌ لا يتجزَّأ، صغيره ككبيره -وليس فيه صغير- أما التجارة فهي صفقةٌ تجزَّأ، وسعرٌ يقسَّط وخصائص قد تدنو أو تبتعد.
 أيها الإخوة الكرام... الإسلام منهج الله عزَّ وجل ( منهج السماء ) وهو منهجٌ رباني، لا يمكن أن يلتقي مع الجاهلية في منتصف الطريق، والأصح من هذا أنه لا يمكن أن يلتقي معها في طريق، لأن الإسلام في وادٍ، والجاهلية في وادٍ آخر، وإن منطلق المسلم هو طاعة الله عزَّ وجل و العمل للآخرة وأن يضع كل شهواته تحت قدمه، فيصبح التِبْرَ عنده كالتُراب، فطاعة الله عنده هي كل شيء، أما غير المسلم فمنطلقه المال، فالدنيا عنده هي كل شيء، فيفعل ما يشاء من أجل أن يصل إلى هدفه، و الغاية عنده تبرر الواسطة، لذلك لم يكن من الممكن أن يلتقي الإسلام مع الجاهلية ؛ و تتساوى في ذلك الجاهلية القديمة والجاهلية المعاصرة وجاهلية الغد، فلا يمكن لأحدها أن يلتقي مع الإسلام في منتصف الطريق، بل إنه لا يمكن أن يجمع بينهما طريق، فهذا في وادٍ، وهذا في واد.
 فهذا الحائط مثلاً فيه لونٌ أسود ولونٌ سُكَّري فهما إذاً يجتمعان، و يمكن أن نقول: هذان اللونان متعاكسان، إلا أن الظلام والنور متناقضان، بمعنى أن أحدهما ينفي وجود الآخر، فإذا حل النور فلا ظلام، وإذا كان الظلام فلا ضياء، فيجب أن نعتقد أن منهج الله عزَّ وجل متميِّز، فهو منهج خالق الكون، فله خصائص علوية و له أهدافٌ رَبَّانية و له وسائل شريفة، فلا يمكن أن يلتقي منهج الله مع منهج البشر، فكلاهما ينطلق من منطلق، وكلاهما يتَّجه إلى هدف، و هذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ﴾

( سورة الكافرون)

 ثلاث صور تجسد هذه الآية:
 أيها الإخوة... أضع بين أيديكم ثلاث صورٍ من سيرةٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم تجسِّد هذه الآية.

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾

 1- ماذا فعلت قريش لما رأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله و يسفِّه آلهتها وأحلامها، وأن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لها ؟ لقد مشى أشرافها: عُتبة، وشَييبة، وأبي سفيان، والعاص بن هشام وأبو جهل، والوليد بن مغيرة، مشى هؤلاء وهم علية القوم وأشراف قريش وزعماؤها إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفَّه أحلامنا وضَللَّ آباءنا، فإما أن تَكَفَّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، و نحن نكفيكه فدعه لنا، فقال لهم أبو طالب كلاماً رقيقاً وردَّهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى عليه الصلاة والسلام على ما هو عليه ليظهر دين الله ويدعو إليه، ثم تفاقم الأمر بينه وبينهم، حتى تباعدوا وتضاغنوا فالتقوا مرة ثانية بأبي طالب و قالوا: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلاً فينا، و إنّا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، و إنّا والله لا نصبر على هذا الأمر من شتم آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آبائنا فكُفَّه عنا أو ننازله وإيَّاك، حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه، فحزن أبو طالب ( لأنهم جعلوه طرفاً قي القضية )، و عظُم عليه فراقه لقومه وعداوتهم له، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خُذلانه.
 قال ابن إسحاق: حدَّثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة أنه حدَّث أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، فبعث عندئذٍ أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه وقال له: يا بن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا، فأبقِ علي وعلى نفسك ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق ( وهنا أول بوادر التخلي )، قال: فظن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قد بدا لعمِّه فيه بداء (أي غير موقفه و اتخذ موقفاً جديداً و بدأ يتخلَّى عنه)، وأنه خاذلُه و مسلمُه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال عليه الصلاة والسلام، هذه المقولة التي جِّسدت هذه الآية، قال:

(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه))

 وبكى النبي عليه الصلاة والسلام ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب وقال له: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبداً.
 فكان هذا موقفه، ففي الدين لا يوجد أنصاف حلول و لا توجد مداهنة ولا مشي إلى منتصف الطريق لأنه منهج الله عزَّ وجل كامل كمالاً كمِّياً وكمالاً نوعياً.

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾

( المائدة: آية " 3 " )

 و لا بد أن يكون هذا موقف كل مسلم صادق في أي عصر، فالمسلم قد يتساهل في كل شيء إلا في أمر عقيدته وعبادته وأمر الحلال والحرام، فيجب أن يكون له موقفٌ صُلب في أمر الحق والباطل، إنه قد يكون ليناً إلى أقصى درجة إلا في الحق فله فيه موقفٌ لا يتزعزع، فكلمة: لا، يقولها بملء فيه ولا يخشى لومة لائم، هذه صورة من صور مواقف النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال الله له:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) ﴾

 أي لا يوجد في الإسلام أنصاف حلول، و لا يمكن أن يلتقي حقٌ وباطل لأنه لا يمكن التوفيق بينهما، كما لا يمكن أن نوفق بين النور والظلام، فإما نور وإما ظلام.
 2- صورةٌ ثانية.. عتبة بن ربيعة كان سيداً من سادة قريش، قال يوماً وهو جالسٌ في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمدٍ فأكلِّمه وأعرض عليه أموراً لعلَّه يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويَكُفَّ عنا، (وذلك حينما أسلم سيدنا حمزة، ورأوا أن أصحاب الرسول يزيدون ويكثرون)، فقالوا: يا أبا الوليد قُم إليه فكلمه ( فلا يوجد لديهم مانع ) فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أخي إنك منا حيث علمت من السِطَةِ ( أي بأعلى مكان ) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فَرَّقت بهم جماعتهم وسفَّهت به أحلامهم، وعبت بهم آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلَّك تقبل بعضها.

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾

 قال له النبي عليه الصلاة والسلام:

(( قل يا أبا الوليد أستمعْ إليك))

 وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الأدب، كما أنه محدِّثاً لبقاً و مستمعاً أديباً قال:

((يا أبا الوليد قل أستمع إليك ))

 قال: يا بن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً ( سيادةً، رئاسة) سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع رَدَّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبْرِئكَ منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه(أي إذا كان معك هوس، أو مرض، أو لوثة).

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾

 ( الآن هذه الشواهد أو هذه المشاهد تفسِّر هذه الآيات)، حتى إذا فرغ عُتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمِع إليه قال:

(( أقد فرغت يا أبا الوليد ))

 ( أي انتهيت ) قال: نعم فقال:

((فاستمع مني ))

 قال: أفعل.. (أي تفضل).. فقال:
 بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) ﴾

( سورة فصلت )

 ثم مضى النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليه هذه السورة بأكملها، فلما انتهى إلى السجدة قام عليه الصلاة والسلام وسجد، ثم قال:

(( سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ؟، أنت وذاك ))

 (هذا هو جوابي ) جوابه أنه قرأ عليه هذه السورة، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ( تغيَّر وكأنه اقتنع بقول النبي ) فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أنني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قَطْ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسِحر، ولا بالكِهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه،( أي دعوه وشأنه، دعوه يتكلَّم، دعوه يبلِّغ هذه الرسالة)، فوالله ليكونن لِقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كُفِيتموه، وإن يظهر على العرب فملكه ملكُكُم وعِزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به ( أي إذا حاربته العرب كفتكم إيَّاه، وإن فازوا عليه فملكه ملككم )، قالوا: سَحَرَكَ والله يا أبا الوليد، لقد سحرك بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
 وفي رواية ثانية: النبي تابع الآية..

﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾

( سورة فصلت )

 فقام مذعوراً فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أُنْشِدَكَ الله والرحم يا محمد، ( وذلك مخافة أن يقع النذير )، وقام إلى القوم فقال ما قال.
 3- الصورة الثالثة: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المُطَّلِب، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وكانوا ذوي أسنانٍ في قومهم ( أي علية القوم ) فقالوا: يا محمد هَلُمَّ فلنعبد ما تعبد ( فنحن سنطيعك ) وتعبد ما نعبد ( نصف حل)، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فأنزل الله تعالى قوله الكريم:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ﴾

( سورة الكافرون)

 أيها الإخوة الأكارم... أردت من هذه القصص الثلاث، ومن تلك المقدِّمة أن يعتقد المسلم أن إسلامه من عند الله، وأن منهج الله متميِّز، وأنه لا يلتقي مع الجاهليَّة، فليس في الإسلام أنصاف حلول، لأن الإسلام منهج كامل، فلا يمكن أن تأخذ منه ما يُعْجِبك وأن تدع ما لا يعجبك، و لا يمكن أن يلتقي منهج الله مع منهجٍ أرضي وضعه أناسٌ لهم حظوظٌ من الدنيا، إذاً فقوله تعالى:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) ﴾

 وتحدَّثت في الدرس الماضي عن المداهنة، و هي بذل الدين من أجل الدنيا، أما المداراة فهي بذل الدنيا من أجل الدين، فالمؤمن منهيٌ عن أن يُداهن، مأمورٌ بأن يداري، ورأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، و أن تبذل شيئاً من دنياك من أجل أن تقنعهم بالدين، ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾

( سورة القلم )

 الحلاف:
 الحلاف: صيغة مبالغة أي كثير الحَلْف، فلماذا يحلف كثيراً ؟ لأنه غير واثقٍ من نفسه أو لأنه يكذب، والكاذب يتوهَّم أن الناس يكذبونه ولا يصدقونه فيسارع إلى الحلف، وهذا الحلاَّف الذي يكذب ويحلف كثيراً مُهانٌ عند نفسه، فالكاذب يحتقر نفسه ولا يحترمها، والصادق محمودٌ عند الله، وعند الخَلق وعند نفسه أيضاً.

﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾

 فالحَلْف سبيله إلى إقناع الناس، فكأنه يتوهَّمُ مسبقاً أنه يكذب فيسارع إلى الحلف، فيحتقر نفسه، والإنسان أدرى بنفسه من غيره.

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾

( سورة القيامة )

 والإنسان أعرف الناس بنفسه، فحينما يكذب يستنجد بالحلف ليصدِّقَهُ الناس وما درى أنه بهذه الأيمان الكثيرة يضعضع مكانته، ويصبح مهاناً عند الله، وعند الناس، وعند نفسه..

﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ ﴾

 الهماز النمام:
 من هو الهمَّاز ؟ هو الذي يهمز الناس و يعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم، وخُلُقُ الهمز واللمز يكرهه الإسلام،

(( المؤمن ليس بالطعَّان واللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء))

 فأهل الدنيا يطعنون في كل شيء و يعيبون كل شيء، قد يدخل أحدهم إلى بيت فيسألك عن مساحته ويقول: كيف تعيش في هذا البيت ؟ هذا البيت لا يعاش فيه، ثم يسأل عن دخلك ويقول: هذا الدخل قليل، هل يكفيك ؟ و يسألك عن زوجتك و أثاثك وأسفارك و رحلاتك، فهو دائماً يسأل ليطعن و يحتقر و يعيب و يُحْرِج و يصغِّر، فهذا هو شأن أهل الدنيا، لكن المؤمن ماذا يفعل ؟ المؤمن يُطَيِّب قلب الناس بدنياهم و يثني عليهم.
 فمرة دخلت إلى بعض بيوت إخوتنا الكرام، كان هناك غرفة الضيوف لا تزيد عن مترين في ثلاثة أمتار، ضِّيقة جداً لا تتسع للأثاث إطلاقاً، فهذا الأخ استحيا، فقلت: والله يا أخي إن سيد الخَلْق وحبيب الحق و سيد ولد آدم و حبيب الله عزَّ وجل و الإنسان الأول في الكون كانت غرفته لا تتسع لصلاته ونوم زوجته، فمن نحن ؟ هكذا كان عليه الصلاة والسلام، فهو الذي قال:

(( والله لو دُعيت إلى كراعٍ بالغنيم لأجبت ))

 لقد دعي عليه السلام إلى خل، فهل يوجد واحد من الحاضرين يُدعى إلى خبز وخل، لقد وضع له صحن من الخل ورغيف خبز، ليغمس و يأكل، فمن منا يرضى بهذا الغداء ؟ فقال عليه الصلاة والسلام:

(( نعم الإدام الخل ))

 فالمؤمن يطيِّب قلب الناس فلا يصغِّرهم و لا يزدريهم من أجل دنياهم المتواضعة بل بالعكس يثني عليهم، و قال عليه الصلاة والسلام:

(( نعم الإدام الجوع ))

 فلم يقل اللحم بل قال: الجوع، فإذا كنت جائعاً رأيت كل طعامٍ طيباً، فالمؤمن ليست مهمته أن يضعضع ثقة الناس بأنفسهم، ولا أن يزدري أثاث بيتهم، ولا مساحته ولا دخلهم المتواضع، ولا صحتهم المتعبة، بل مهمته أن يرفع معنويات الناس، ويقنعهم بما هم فيه...

﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ ﴾

 فلسانه دائماً ينتقد، ينتقد بيتك ودخلك و أولادك، ينتقد كل ما أنت فيه، فلا يوجد عنده إلا النقد، والتصغير، والاستعلاء، والكبر، والزهو، قال: هذا لا تستمع لكلامه.

﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) ﴾

 يقول عليه الصلاة والسلام:

((لا يدخل الجنة قَتَّات ))

 فالنميمة من الكبائر التي تمنع من دخول الجنة، فما النميمة ؟ النميمة: أن تنقل لإنسان قولاً قاله فيه إنسان آخر، فتقول له:فلان قال عنك كذا وكذا، فماذا فعل النمام هنا ؟ إنه بقوله ذلك لم يفعل شيئاً ملموساً، فلم يقتل إنسان، ولم يزنِ، ولم يشرب الخمر، ولكنه قال كلمة فقط، لقد قال: فلان قال فيك: كذا وكذا، قال عليه الصلاة والسلام:

((لا يدخل الجنة قتات ))

 أي نمام، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال عليه الصلاة والسلام:

 

((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة))

 فهو يعذب في قبره، لأن النمَّام يمزِّق شمل المسلمين، يمزق شمل الأسرة الواحدة، يمزِّق شمل الشركة، يمزِّق شمل القبيلة، يوقد العداوات، و إنك إذا ذهبت اليوم إلى أي مكان وجدت إنساناً ضد إنسان، وذلك ضمن الأسرة الواحدة و المجتمع الواحد و الدائرة الواحدة و المدرسة الواحدة و المستشفى الواحدة، ففي أي دائرة كانت، هناك فلان ضد فلان، فلماذا يحدث ذلك ؟ لأنه يوجد بينهم مشَّاء بنميم، يقول: فلان قال عنك كذا وكذا، ينمُّ له، وينم عليه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( لا يبلِّغُني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر))

 فلو أنّ إنساناً يحب إنساناً فلا تكن السبب في زعزعة العلاقة بينهما، لا تقل له: إنه تكلم عنك كذا وكذا بغيابك، و صَرَّح أنه لا يحبك ولا يطيقك لكنه يجاملك فقط، لأنك بذلك تكون قد أقمت هوةً بينهما، فهذا الذي يكذِّب بالدين..

 

﴿ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) ﴾

 قال عليه الصلاة والسلام:

(( ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذين إذا رُؤوا ذكر الله بهم ))

 فإذا حَلّوا بمجلس كان حديثهم عن الله و عن رسول الله و عن أصحاب رسول الله، وعن محبَّة الله و طاعته وعن العمل الصالح، فالإنسان إذا رآهم يذكر الله بهم، وهكذا ورد في الحديث:

 

(( أولياء أمتي إذا رُؤوا ذكر اللهم بهم ))

 

((ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذين إذا رُؤوا ذُكر الله عز وجل بهم، ثم قال: ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا: بلى. قال: المشَّاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرءاء العيب ))

 فالنمام إذا جلس في مجلس قال: والله فلان (ما شاء الله عليه)، أخلاقه عالية، سمته حسن، مستقيم، أما فلان فهو دجَّال كبير، لا تصدقه، و كلما شعر أن هناك إنساناً يحب إنساناً و يقدره يبدأ بالطعن به لأنه يغار، وقد يطعن وغير محق، وقد لا يوجد معه دليل على ما يقول، لكنه لا يحتمل أن يرى إنسانين متعاونين متحابَّين متآخيين

((ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا: بلى قال: المشَّاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرءاء العيب ))

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾

 معاني (المناع للخير):
 1- ينهى نفسه عن فعل الخير وينهى غيره، أي فاسد مفسد، ضال مضل، مانع نفسه، ومانع غيره، فإذا جلست مع إنسان من أهل الدنيا قال لك مثلاً: أتتصدق !! أمجنون أنت ؟ هذا المال أبقه ليومٍ أسود، وإنما يقول ذلك لأن أيامه في الأصل سود كلها، فهو يدعو للبخل، يأمر بالبخل، وينهى عن فعل الخير.

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾

 2- هناك معنى دقيق جداً: وهو أنك إذا فعلت معه معروفاً رد على معروفك بالإساءة، فمعظم الناس إذا رُدَّ عليهم بالإساءة حلفوا ألا يفعلوا خيراً، فأحياناً قد تكون أنت وسيطاً بين اثنين، فتأتيك متاعب لا حصر لها، فالإنسان بحكم فطرته يبتعد عن هذه المشكلات، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((من خالط الناس وصبر على أذاهم، خيرٌ ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم))

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾

 فإذا أقرض إنسانٌ آخرَ قرضاً ولم يؤدِّه إليه حلف هذا المُقرض ألا يفعل هذا مرةً ثانية مع أحد، فهذا الذي أخذ مال الناس ولم يؤده هو مناعٍ للخير، لأنه حمل هذا الإنسان على ألا يفعل خيراً، و إذا استعار إنسان حاجة من إنسان ولم يردَّها إليه في الوقت المناسب يكون هو الذي يمنع الخير، وإذا سمح إنسان لآخر أن يركب في مركبته وكان ذلك الشخص معه شيء ممنوع، وصودرت المركبة فإنه لن يدع إنساناً في الأرض يركب معه مرة أخرى، والآن تجد شخصاً راكباً لوحده في المركبة فيجد إنساناً فلا يقف لأنه يخاف، فربما يكون معه تهريبة أو معه شيء غير نظامي، فيتورط معه، فكل إنسان يُفْعَل معه خير ثم يقابِل هذا الخير بالإساءة هو الذي يمنع الماعون.
 كان هناك إنسان في الصحراء فرأى رجلاً يعتلي فرساً، فأشار إليه أنه متعبٌ جداً ويتمنى أن يركب خلفه، فَرقَّ له هذا الفارس لأن الحر شديد، فدعاه إلى ركوب الفرس خلفه، فما إن اعتلى هذا الإنسان ظهر الفرس حتى دفع صاحبها إلى الأرض وعدا بها لا يلوي على شيء، فماذا قال له صاحب الفرس ؟ قال: يا هذا لقد وهبت لك الفرس ولن أسأل عنها بعد اليوم ولكن إيَّاك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء، فتذهب منها المروءة، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها.
 هناك خمسمائة ألف بيت في الشام مغلق بالمفتاح لا يؤَجَّر لأن آلاف المستأجرين قد دخلوا شهراً، فمكثوا في البيت اثني عشر سنة لا يخرجون منها، ويقول له: هذه المحاكم بيننا، فالمستأجر الذي لا يرعى عهداً ولا ذمةً هو الذي يمنع الخير، ونحن نعاني من أزمة إسكان لا أزمة سكن، فهناك خمسمائة ألف شقة في دمشق مغلقة ولا تؤَجَّر، فمن هو سبب هذه الحالة المستعصية المسدودة ؟ إن السبب في ذلك هم أولئك الذين استأجروا بيوتاً فلم ينفِّذوا ما وعدوا به، يقال: إذا أجرت هذا البيت فقد انتهى، وذهبت الشقة، وانتهى الأمر، فهذا هو منع الخير، فإذا أقرض إنسان آخر ولم يرد له ماله، فانتظر شهراً، وسنة، وخمس سنين، و المدين يقول له: هذه المحاكم اشتكِ علي لا يوجد معي لأعطيك، يقولها بقسوة، بلؤم، فتجده وديعاً لطيفاً عندما يطلب المبلغ، و بعد أن يتملك المبلغ لا يعبأ بك، ولا بتوسِّلاتك، يستدين بضاعة و لا يعطيك الدَّين، يبيعها، يضع ثمنها في جيبه، يزوج أولاده، يرفِّه نفسه يقول لك: لا يوجد معي، فأين البضاعة ؟ بعناها، (وصرّفناها )، وهذا هو الحاضر، اشتك علي، هذا هو منع الخير، فيخشى أنه إذا باعك بضاعة بالدين أن لا تؤِّدي ثمنها له، و إذا أقرضك أن لا تؤدي الثمن و إذا أجرك بيت أن لا تخرج منه، وإذا أركبك بالمركبة أن يكون معك بضاعة مهَّربة.
 وقد يرى الإنسان حادثاً، فيدفع من مروءته لينجد هذا الجريح، فيضعوه ثلاثة أيام في السجن، - طبعاً الآن القوانين تعدَّلت والحمد لله،و لم يعد هناك مسؤولية، عليك فقط تبرز هويتك ثم يدعونك تذهب، وإلا لمات ناس كثر بسبب النزيف - فهذا الذي يشدد على من نقل هذا المُصاب فيضعه في السجن بلا عدل يسبب منع الخير، فلذلك كان المَّنع للخير إما باللسان أو بالفعل، فكلما واجهتَ إنساناً له عمل طيب بالإساءة منعت الخير.
 وقد انتشر هذا حتى صار الناس إذا رأوا إنساناً يفعل الخير يستغربون، يقولون: هذا مجنون، فأصبح الأصل ألا تفعل خير، وأصبح الأصل اللؤم و الإساءة، فصار الخير نادراً، حتى إذا فعل إنسان الخير بدا وكأنه شاذ، وشَكَّ الناس فيه، وتجدهم يقولون: ما مقصده من ذلك ؟ ليس له مقصد، إنه يفعل الخير، و الآن أصبح لفعل الخير تفسير سئّ، فصار الأصل في المجتمع أنه منَّاع للخير، ففي فرنسا أرادوا أن يمتحنوا الدافع الإنساني في المجتمع، فجاؤوا بسيارة إلى أكثف طريق بين مدينة باريس ومدينة ليون، ووضعوا سيارة كأنها مصابة بحادث، و جاؤوا بإنسان فصبغوه بحبر أحمر فأصبح كأنه جريح يستغيث، فمضت ست ساعات قبل أن تقف أول سيارة لتسأل ما به.

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾

 لي صديق كان في لندن قال لي: رأيت امرأةً قبل مائة متر وقعت على الأرض، وكان على الرصيف كثافة كبيرة جداً، فلم يخطر في بال واحدٍ من الناس أن ينهِض هذه المرأة ليسأل ما لها، فلما وصل إليها أنهضها، فقالت له: أنت غريب عن هذه البلاد، فقد عرفت أنه غريب، لأنه أنهضها، وسأل عن حاجتها.

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾

 صفة المؤمن أنه فَعَّال للخير ؛ والكافر مَنَّاع للخير، يكبر عليه أن يتعاون الناس وأن يرحمهم و ينصحهم، فمرة جاء إنسان وقابلني، سألني عن دروس المسجد، وهو يحضر لدرجة دكتوراه في بلاد الغرب، و عنده موضوع فقال لي: ماذا يأتيك من هذه الدروس ؟ لماذا تفعل هذا كله ؟ فهو لم يفهم ولم يستوعب، فالإنسان الغربي لا يستوعب العمل الصالح فهو لا يتحرَّك إلا بالمال، و مرةً عرض صديقٌ لي على مندوب شركة كلمة حق، فقال له: هذا الأمر لا يعنيني إطلاقاً، أنا تعنيني امرأة جميلة وسيارةٌ فارهة ومنزلٌ واسع فقط.

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾

( سورة الأنفال )

 كلمة:

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾

 كل إنسان يُسيء إلى من أحسن إليه فهو مَنَّاع للخير، وما أكثر الأعمال الصالحة التي كانت في السلف الصالح، أما الآن فقد تضاءلت وتضاءلت إلى درجة أنك لا تجد إنساناً يفعل خيراً، يقال: - وهذه ليس آية ولا حديثاً إطلاقاً كما أنها ليست حكمة _: " اتقِ شر من أحسنت إليه " هذه كلمة يتذرَّع بها الناس ليمتنعوا عن فعل الخير.

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾

 فكل إنسان يعتدي على أموال الناس، أو على أعراض الناس، أو على قلوب الناس بالغَيْبَة والنميمة، أو ينظر إلى نسائهم، أو يأخذ أموالهم، فهو معتدٍ، فهذا الذي يرفع المِذياع إلى أعلى درجة أيام الامتحانات هو معتدِ، وهذا الذي يطلق لأهوائه العنان دون أن يرعى حقاً لجار هو معتدِ أيضاً، و هذا الذي يتأمَّل محاسن امرأة لا تحل له هو معتدٍ، و هذا الذي يدير حديثاً عذباً مع امرأةٍ أجنبية معتدٍ، و هذا الذي يحتال على الناس فيأخذ أموالهم ابتزازاً هو معتدٍ كذلك.

﴿ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾

 الأثيم:
 الأثيم: المتلبِّس بمعصية دائمة حتى صارت صفةً مشبهةً له، و أثيم على وزن فعيل، فكل حركاته وسكناته إثم، فأينما جلس يبحث عن اللَّذة المُحَرَّمة، و أينما حل يبحث عن معصيةٍ يعصي بها الله.

﴿ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾

 أي إن هذا الذي يرفض هذا الدين..

﴿ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) ﴾

 العُتُل:
 هو الغليظ الجافي، والأكول الشروب، والشره المَنوع، الفظ في طبعه، اللئيم في نفسه، السّئّ في معاملته، و هذا تعريف العُتُل.

 

﴿ عُتُلٍّ ﴾

 الغليظ الجافي، فإذا قال له زوج أخته: أختك (تغلِّبني)، قال له: طلقها، فهو غليظ جافٍ، وهو الأكول الشروب أيضاً، والشره المنوع، الفظ في طبعه، اللئيم في نفسه، السّئّ معاملته.
 عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:

 

(( العُتُل كل رغيد الجَوْف وثيق الخلق أكولٍ شروبٍ جموعٍ للمال منوعٍ له، شر الناس من يعيش فقيراً، ليموت غنياً ))

 يموت ويدع ثروةً طائلة لأولادٍ جُهَّال، يقال لابنه: إلى أين أنت ذاهب ؟ قال: لأشرب الخمر على روح والدي، لقد جمع فأوعى ومنع فلما توفِّي ورث هذا المال جهولٌ منحرفٌ شاذ، فأنفقه في المعاصي والآثام، وأندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، وأندم الناس من دخل بماله النار.
 أيها الإخوة الكرام... هذه صفات أهل الدنيا، عتل: أي يأكل أطيب الطعام، ففي بعض البلاد النفطية تُجرى ولائم تكلِّف مئات الألوف، فيصنع جمل صغير محشي، فيأكل الضيف منه أوقية، أما الباقي فيرمى في القمامة، وهناك مئات ألوف الليرات والريالات يرمى في القمامة، فالعتل هو: الأكولٌ شروب، الفظٌ اللئيم، المنوع للخير، ثم يقول:

﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾

 الزنيم:
 هو الذي لا نَسَبَ له، فلا ينتمي إلى أمَّته بل هو لصيقٌ بها فرغم أنه وُلد في بلاد المسلمين إلا أن فكره غربي و عاداته أجنبية، و يرى أن الإسلام تخلُّف، فهؤلاء يعيشون مع أولئك الذين يتبادلون الزوْجات ويرتكبون المحرَّمات، فقد سمعت أن هناك وزير صحة بريطاني في الوزارة الجديدة، قال في مؤتمر صحفي: أنا شاذ جنسياً، وهو وزير صحة: فما هذا ؟ قال عليه السلام:

 

((من هوي الكفرة حشر معهم ولا ينفعه عمله شيئاً ))
 فهذا الزنيم لصيق ليس من هذه الأمة، ليس من تُراثها ولا من دينها، ولا يمت إلى أخلاقها و مروءتها بصلة، فهو زنيم، و عُرِفَ الزنيم أيضاً بلؤمه، وخبثه، وكثرة شروره، والعوام تعِّبر عن هذا الإنسان الشرير بقولهم: ( ابن حرام ) فهذا هو الزنيم، ثم يقول الله عزَّ وجل:

 

 

﴿ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾

( سورة القلم )

 فقد يكون غنياً، وقد يكون له أولاد، وله مكانة لكنه..

﴿ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ(14)﴾

 فالمال لا يرفع صاحبه، و الله عزَّ وجل أعطى المال لمن يحب و لمن لا يحب، فما دام قد أعطى المال لمن يحب ولمن لا يحب فالمال إذاً ليس مقياساً..

﴿ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾

 أي أن الله عزَّ وجل إذا أكرمه بالمال استعلى على عباد الله فعصى الله به، وأنفقه في المعصية..
 و بالمناسبة أيها الإخوة كل الحظوظ التي يؤتيك الله إيَّاها ليست نعماً و تأكَّد من ذلك، كما أنها ليست نقماً فهي ابتلاء، فإذا أنفقت هذه الحظوظ في طاعة الله انقلبت إلى نعم، وإن أنفقتها في معصية الله انقلبت إلى نقم، فالمال ليس نعمةً، إنما هو نعمةٌ إذا أنفقته في طاعة الله، فسيدنا ابن عوف قالت عنه السيدة عائشة: " أخشى أن يدخل ابن عوفٍ الجنة حبواً "، فلمَّا بلغه هذا الكلام قال: "والله لأدخلنها خبباً، وما عليَّ إذا كنت أنفق مائة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء". فالمال إذا أنفقته في طاعة الله انقلب إلى نعمة، فطلاقة اللسان مثلاً إذا أنفقتها في ذكر الله وفي إقناع الناس بالخير، فهي نعمةٌ كبيرة، أما إذا كانت فصاحةً بالباطل فهذه نقمة، و الوسامة كذلك إذا كانت من أجل أن تجذب الناس إليك فهذه نعمة، أما إذا كانت من أجل أن توقع النساء في شباكك فهذه نقمة، فكل حظٍ من حظوظ الإنسان إن وظَّفه في الحق كان نعمةً، وإن أنفقته في الباطل كان نقمةً، إذاً..

﴿ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) ﴾

( سورة القلم )

 قال: هذه غيبيَّات، تخلُّف، فكر مهزوز، غيبيَّات لا تقدِّم ولا تؤخِّر، دعك من هذا، حدِّثنا بالواقع، حدِّثنا بالمال، بالبيوت، بالتجارات.

﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾

 هذا الذي كذَّب بآيات الله وكان..

﴿ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) ﴾

 فمصيره هو:

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾

 أكرم شيء في الإنسان هو رأسه، وأجمل ما في رأسه وجهه، وأشرف مكان أنفه، وقيل: فلان عنده أَنَفة ْ: أي عنده عزة، و فلان يَأْنَف أن يفعل هذا، و نقول: رغم أنفه، و أنفه راغمٌ في التراب، فالأنف أبرز شيء في الوجه وأشرف عضو، قال: هذا الأنف..

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾

 أي: سوف نذله، و نسمه ؛أي: بالوسم، فكأن هذا العبد له وسمة خاصة، فتحمَّى أداة حديدية ويكوى بها وجهه، فهذا عبد قال الله فيه:

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾

 سوف يذَل الإنسان حينما يستكبر على الحق، سيذله الله عزَّ وجل ويضعه في أسفل سافلين، وهذا شيء دقيق جداً، وهو كائن في الدنيا قبل الآخرة على الذي يعادي أهل الحق فلما قال ربنا عزَّ وجل مثلاً:

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾

( سورة التحريم )

 فهل من المعقول أن يقول الله عزَّ وجل من أجل امرأتين:

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾

 أفمن أجل جندي تكلم كلمة تُستنفر خمس فرق، وسلاح الطيران، أيعقل هذا ؟ فمعنى الآية أيها الإخوة أن الإنسان إذا حدثته نفسه أن يقف في خندقٍ معادٍ للدين أو أن يطعن في الدين و بأنبياء الله الصالحين، أو أن يضعضع مركز الدين في المجتمع، فليعلم عندئذ من هو خصمه، إنّ خصمه الله ورسوله وصالح المؤمنين والملائكة، فأشقى الناس قاطبةً هو الذي يقف في خندقٍ معادٍ للدين، و هو الذي يريد أن يطفئ نور الله بفمه و يريد أن يمنع مساجد الله الذي أن يذكر فيها اسمه ويسعى في خرابها، فأي إنسان يقف في خندق معاد للدين فهذا أشقى الناس قاطبةً..

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾

 سوف نذله في الدنيا والآخرة و نمرِّغ أنفه في الوحل، سوف يلقى عذاباً مهيناً، وهذا شيء ثابت، و أوضح دليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله بإخلاصٍ شديد وتضحيةٍ بالغة هو وأصحابه فأين هم الآن ؟ كيف يذكر النبي في مجتمع يزيد حجمه عن مليار ومائتي مليون ؟ إنه يذكر بالتعظيم، فكلما ذكر النبي نقول: صلى الله عليه وسلم، سيدنا الصديق، سيدنا عمر، سيدنا عثمان، سيدنا بلال الحبشي، سيدنا زَيْد، وسيدنا زيد كان أسود اللون أفطس الأنف، و نقول سيدنا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله ؛ أما هؤلاء الذين عارضوه وكفروا به، وائتمروا على قتله، وإخراجه، كأبي جهل، وأبي لهب، فقد لعنهم الله، فهم الآن في (مزبلة) التاريخ، فهذه أمثلة بين أيدينا، وكل من جاء بعد ذلك وقدم للإسلام شيئاً يذكر باحترام، فنقول: سيدنا صلاح الدين الأيوبي رد الكفرة، ومسيلمة الكذاب لعنه الله، فالذي يقف مع الدين يرفعه الله، والذي يقف مُعارضاً للدين يذله الله في الدنيا قبل الآخرة، و هناك إنسان ادّعى نبوة في الهند أو الباكستان، وكان هناك موجة كوليرا كبيرة جداً، فأراد أن يتخذ من هذا المرض أداة للتأكيد على أنه نبي، فقال: أنا لن أصاب بهذا المرض لأنني نبي، فمات بهذا المرض في المِرحاض..

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾

 فأشقى الناس قاطبةً هو الذي يقف في خندقٍ معادٍ للدين، فإيَّاك، إياك أن تطعن في دين الله، إياك أن تطعن في كتاب الله، إياك أن تطعن في رسول الله، في أصحابه الكرام، إياك ثم إياك، لأنك إن فعلت هذا فالطرف الذي سيكون ضدك هو الله، ورسوله، وصالح المؤمنين والملائكة جميعاً.

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾

 وفي درسٍ آخر إن شاء الله نتابع هذه الآيات.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور