وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة القلم - تفسير الآيات 34-43 كل خروجٍ عن منهج الله هو هلاكٌ وشقاءٌ في الدنيا والآخرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

كل خروجٍ عن منهج الله هو هلاكٌ وشقاءٌ في الدنيا والآخرة:


 أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس من سورة القلم، ومع الآية الرابعة والثلاثين وهي قوله تعالى:

﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)﴾

[ سورة القلم ]

أيها الإخوة الكرام؛ محور هذه الآيات الشيء الذي ينتظمها كلها أن الله سبحانه وتعالى ينفي أن يعامل المؤمن كغير المؤمن، والمسلم كالمجرم، والمستقيم كالمنحرف، والصادق كالكاذب، والأمين كالخائن.
ويا أيها الإخوة الكرام؛ إما أن تؤمن أن لهذا الكون إلهاً قَيُّوماً عادلاً، وإما أن تؤمن بالعبثية، والعبثية تتناقض مع وجود الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

ولأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة  ]

ما الذي يحمل الناس على معصية الله؟ توهُّمهم أن العاصي سيكسب شيئاً من معصيته، وأن المؤمن باستقامته حُرِمَ من مباهج الدنيا، هذا الوهم الخطير هو الذي يدفع الناس إلى مخالفة منهج الله، لو أن الناس عَلِموا علم اليقين أن لكل معصيةٍ عقاباً، وأن كل خروجٍ عن منهج الله هو هلاكٌ وشقاءٌ في الدنيا والآخرة لمَا خرج أحدهم عن منهج الله، إنها أزمة علمٍ، الإنسان حينما لا يعلم يتحرك حركة عشوائية، الآية الكريمة تقول: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ هؤلاء الذين اتقوا أن يعصوا ربهم إذاً عرفوا أمره ونهيه، أنت متى تتقي أن تعصي الله؟ إذا عرفت أمره ونهيه، إذاً هؤلاء الذين طلبوا العلم، وبحثوا عن نظام لهذا الإله العظيم، بحثوا عن دستور هذا الإنسان المؤمن، قرؤوا القرآن، تَفَهَّموا آياته، عرفوا حلاله وحرامه، عرفوا ما ينبغي وما لا ينبغي، ثم اتقوا أن يعصوا ربهم، هؤلاء المتقون في جنات النعيم، إن كل نعيم الدنيا ليس بشيءٍ أمام نعيم الآخرة، بل كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن المستورد شداد: واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه -وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ- في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟ ))

[ صحيح مسلم ]

إبرةٌ صغيرة إذا غمستها في مياه البحر ثم أخرجتها بم رجعت؟ هذا الماء الذي رجعت به هو نسبة ما في الدنيا من نعيم إلى ما في الآخرة من نعيم، والمرأة التي طلبت من بعض الصحابة شيئاً من الدنيا فقال لها: اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بكِ من أجلهن، أهون من أضحي بهن من أجلكِ. 
 

استحالة المساواة بين المسلم وغير المسلم:


محور هذه الآيات لا يمكن، يستحيل أن يساوي المسلم غير المسلم، والمؤمن غير المؤمن، والمستقيم غير المستقيم، والصادق لا يساوي الكاذب، هذا الوهم الذي عند الناس أن الإنسان يتمتع بالدنيا بقدر حظوظه من المال، فالمال يحُل كل المشكلات، يقول الله عزَّ وجل: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ وفي الآية لفتةٌ دقيقةٌ جداً، فالله عزَّ وجل لم يقل: أفنجعل المسلمين كغير المسلمين قال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ أي إما أن تكون مستسلماً لأمر الله، خاضعاً له، مطبِّقاً لتعليماته، والبديل هو أن تكون مجرماً، مجرماً بحق نفسك لأنك أبقيتها في جهالةٍ جهلاء، وأطلقتها إلى شهواتها وتفلَّتت فهلكتَ في الدنيا والآخرة، فأنت في حق نفسك مجرم، وفي حق مَن حولك الذين لم تأخذ بيدهم إلى الله عزَّ وجل، هذا نوع من الإجرام،  وبحق من تتعامل معه، هؤلاء الذين تتعامل معهم إن لم تكن مطبقاً لمنهج الله عزَّ وجل سوف تأخذ ما ليس لك منهم، سوف تعتدي على أموالهم وتعتدي على أعراضهم، وتظلمهم.
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ جنات النعيم التي وعد الله بها المؤمنين غير النعيم الذي يعيشه بعض المترفين في الدنيا، هذا نعيم مشوبٌ بالقلق، هذا نعيم مشوبٌ بالحُزن، هذا نعيم مشوبٌ بتوقع المصيبة، هذا نعيم مشوبٌ بالخوف من المُستقبل، هذا نعيم مشوبٌ بالخوف من المجهول، كل إنسان حاز الدنيا وملكها في أعماقه قلقٌ كبير، وخوفٌ عميق، وشعورٌ بالحيرة، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ نعيم أهل الجنة لا يزول، نعيم أهل الجنة لا يشوبه شيء.
لذلك أيها الإخوة؛ أتمنى على كل أخٍ كريم ألا يسمح لنفسه أن يوازن بين إنسانٍ مترفٍ، متفلتٍ من أمر الله ونهيه، وبين إنسانٍ متعبٍ، أو يعاني من شظف العيش ما يعاني لكنه يعرف الله ويستقيم على أمره، لا أسمح لإنسان أن يوازن بين إنسانين في الدنيا ما لم يضُمَّ إلى دنيا كل منهما آخرته، لو ضممت آخرة المؤمن إلى دنياه، وضممت آخرة الكافر إلى دنياه، لوجدت أن المؤمن هو الفالح وهو الرابح وهو السعيد.
 

الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء:


حتى إن بعضهم يروي القصة التالية؛ عبد الله بن المبارك –أحد العلماء الأجلاء- كان يمشي في ثُلَّةٍ من أصحابه، وهو في أبهى حُلَّة وفي أجمل حالة، رآه رجلٌ غير مسلم يعيش معيشةً ضنكاً، فسأله هذا السؤال: يا إمام يقول نبيُّكم عليه السلام: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فأيُّ سجن أنت فيه وأي جنةٍ أنا فيها؟ فأجاب هذا الإمام: إنّ ما أنا به إذا قيس إلى الجنة فأنا في سجن، وما أنت فيه إذا قيس إلى الآخرة فأنت في جنة، أي لا تسمح لا لنفسك ولا لأحد أن توازن بين جهتين، بين إنسانين، بين أُمَّتَيْن، ما لم تضم الآخرة إلى دنياهما، إذا ضممت الآخرة كان المؤمن منهما هو الأعقل وهو الأكمل وهو الذي عرف الحقيقة، فلذلك الدنيا ليست دار استقرار، الدنيا ممر، والآخرة هي المقر، الدنيا دار تكليف، والآخرة دار تشريف، الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فالمؤمن الذي عرف الله واستقام على أمره ينتظره نعيمٌ مقيم، لذلك قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

المؤمن أحياناً في بعض حالات غفلته أو فتوره، يرى أنه يعيش بعض المشكلات، وقد تحين منه التفاتة إلى رجلٍ من أهل الدنيا يراه يتقلب في النعيم، في المال الوفير، في الصحة الطيِّبة، في المكانة العليَّة، في بعض حالات الفتور وبعض حالات الغفلة قد يتوهَّم الإنسان أن هذا هو الفالح، أن هذا هو الناجح، ليعد إلى قول الله عزَّ وجل:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

فالمؤمن لا ينبغي أن يشعر بهوان.

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾

[ سورة آل عمران ]

 

حقيقة الدنيا:


لو أن الدنيا خشنة، لو أن الدنيا مفعمةٌ بالمشكلات، لكنك مستقيم على أمر الله، ترجو رحمته، وتخشى عذابه، أنت الرابح، وأنت الفالح، وأنت المتفوق، وأنت العاقل، وأنت الفائز: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ هذه الدنيا تمضي، يأتي الموت ينهي كل شيء، يموت الإنسان ولا يملك من حُطام الدنيا شيئاً، ويموت إنسان آخر ويملك الملايين المملينة، هما في القبر سواء، من دون حساب أو عذاب، مبدئياً يموتان وليس معهما شيء، فالموت يلغي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، وقوة القوي، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، وصحة الصحيح، ومرض المريض، الموت يُنهي، يقطع، لذلك أيها الإخوة؛ لا يجوز ولا ينبغي أن نُسَمِّي العطاء الذي يناله أهل الدنيا عطاءً بالمعنى الصحيح، إنه ليس بعطاء، إنه ابتلاء، لأنه ينقطع بالموت، ومادام الشيء ينقطع بالموت لا يسمى عطاءً، العطاء لا يسمى عطاءً حقيقياً من قِبل الله عزَّ وجل إلا إذا كان متصلاً بالآخرة، لذلك بعض الأدعية التي رويت عن السلف الصالح: "اللهم اجعل نعم الدنيا متصلةً بنعم الآخرة" ، هذا هو المؤمن.
الخط البياني للمؤمن -كما أقول دائماً-صاعد صعوداً مستمراً، بينما قد يصعد الخط البياني لغير المؤمن صعوداً حاداً ليسقط سقوطاً مريعاً، فالعبرة أن تكون في طاعة الله، والدنيا لا تقدم ولا تؤخِّر، أصحاب النبي رضوان الله عليهم عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا    وإدبارها.
 

المؤمن يُدخل الآخرة في حساباته طلباً للنجاة من حساب الله عزَّ وجل:


بعد أن ذكر الله عزَّ وجل أصحاب الجنة الذين تحدَّثنا عن قصتهم في الدرس الماضي، وكيف أنهم أرادوا أن يمنعوا حق الفقير، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أصاب محاصيلهم بالبوار وأتلفها، وكيف أنهم ندموا على ما فعلوا، بعد ذلك يحدثنا ربنا سبحانه وتعالى عن أهل الجنة قائلاً: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ هذه الجنة خالد إلى أبد الآبدين، أيضحّى بها؟ أيعرض عنها؟ أيطمع الإنسان بسنواتٍ معدودة مشحونةٍ بالمتاعب ويضحي بالآخرة الأبدية؟! أهذا قول الله خالق الأكوان أنت أيها الأخ الكريم تصدّق إنساناً قوياً يفعل ما يقول، فتأتمر بأمره وتنتهي عما عنه ينهى، و هذا ربنا جلَّ جلاله خالق السماوات والأرض ألا تصدقه بأن بعد الحياة حياة أبدية إما في جنةٍ يدوم نعيمها أو في نارٍ لا ينفد عذابها؟
ماذا قال الإمام الغزالي حينما خاطب نفسه؟ قال: "يا نفس لو أن طبيباً منعكِ من أكلةً تحبينها لا شك أنك تمتنعين" وكل واحدٍ منا لو شكا من بعض أعضائه شيئاً، ولقي طبيباً حاذقاً ورعاً ومنعه من أكلةٍ أو من شيءٍ يفعله لتركه فوراً حفاظاً على صحَّته.
يقول الإمام الغزالي: يا نفس لو أن طبيباً منعكِ من أكلةً تحبينها لاشك أنك تمتنعين-دققوا في هذا القول-أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ أيعقل أن تصدق الطبيب وتأتمرُ بأمره، وتنتهي عما نهاك عنه لأنه عندك صادقٌ أمين وخالق السماوات والأرض ينهاك عن أشياء ويأمرك بأشياء ويعدك بالجنة ويحذرك من النار ولا تأتمر؟ أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ إذاً ما أكفرك! ثم يقول: أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلكِ!" فالإمام الغزالي يرى أن الذي يقترف معصيةً هو عند الله قطعاً كافرٌ وجاهل، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ .
 معظم المسلمين اليوم يعيشون دنياهم، دنياهم وجودها قوي في حياتهم؛ مالها، تجارتها، نساؤها، متاعها، مباهجها، بيوتها، مركباتها، الدنيا موجودة وجوداً صارخاً، لكن الآخرة ليست داخلةً في حساباتهم أبداً، قلّما يذكرون الآخرة، مع أن الإيمان بالآخرة أحد أركان الإسلام، المؤمن أيها الإخوة لا يكون مؤمناً حقاً حتى يُدْخِلَ الآخرة في حساباته الساعية لا اليومية، هذه الكلمة سوف أُسأل عنها، هذا المبلغ من المال سوف أحاسب عليه، هذه النظرة سوف أُعاتب عليها، هذه الحركة سوف أدفع ثمنها، هذا العطاء قد لا يرضي الله، هذه القطيعة قد تُغضب الله عزَّ وجل، ترى انه يحاسب نفسه في كل كلمةٍ، وفي كل حركةٍ، وسكنةٍ، ووقفةٍ، وعطاءٍ، ومنعٍ، وابتسامةٍ، يضبط كل مواقفه بمنهج الله عزَّ وجل، لذلك ما لم تدخل الآخرة في حسابات الإنسان لن ينجو من عذاب الله، كيف أن موظفاً في دائرة لها مدير قوي جداً، وله عيون في كل غرفة، كيف أن وجود هذا المدير داخل في كل حسابات الموظَّفين، لا يتكلم أحد كلمة يخشى أن تصل إليه فينتقم منه، هذا الوجود القوي داخل في حسابات الموظفين، لآخرة أيها الإخوة هذا اليوم العصيب.

﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾

[ سورة المطففين ]

يجب أن يدخل في حساباتنا، لذلك المؤمن قضيته سهلةٌ جداً، لا يأخذ ما ليس له، ويعطي الذي عليه، طلباً للنجاة من حساب الله عزَّ وجل.
 

الفرق الكبير بين المؤمن والفاسق وبين المسلم والمجرم:


﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾

[ سورة القلم ]

أيها الإخوة؛ والله الذي لا إله إلا هو لا أجد شيئاً يدفعنا إلى طاعة الله كأن نعتقد أنه لا يمكن أن يكون الطائع خاسراً، والعاصي رابحاً، لا يمكن، وإلا كان العبث وليس العدل، لا يمكن للمسيء أن ينجو، ولا يمكن للمحسن أن يقع، المستقيم لا يقع، والمنحرف لا ينجو،  الصادق لا يقع، والكاذب لا ينجو، الأمين لا يقع، والخائن لا ينجو، هذا اعتقادنا، الآيات كثيرة جداً:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة ]

هو في الحقيقة فرقٌ كبيرٌ جداً بين مؤمنٍ وفاسق، بين مسلمٍ ومجرم، المؤمن صادق، المؤمن أمين المؤمن رحيم، المؤمن منصف، المؤمن محب، المؤمن متواضع عفو، المؤمن سخي، المؤمن لطيف؛ غير المؤمن وقح، عنيد، متكبِّر، مستعلٍ، جاحد: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾ ، ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ ذلك أن الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتقوَّلون على الله بغير علم، هم في بحبوحة وفي غنى ولهم دنيا عريضة،  ينظرون إلى أصحاب رسول الله فقراء، ضعاف، في الدرجة الدنيا من المجتمع، يقولون: ربنا يحبنا لذلك أعطانا، وإذا زعمتم أن هناك آخرة فنحن فيها كما في الدنيا، أغنياء وأقوياء ومكرَّمون، هذه دعوى لكن بلا دليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، ألغ الدليل أقول لك: أنا أملك كل الشام، لكن بلا دليل، من دون مستندات، ألغ الدليل يقول كل إنسان ما شاء، فلذلك ربنا عزّ وجل ردّ عليهم، قال: هؤلاء الذي ترونهم صغاراً ترونهم ضعافاً، ترونهم محتاجين، هؤلاء لهم الآخرة، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ وقد أشار النبي عليهم الصلاة والسلام إلى هذه الحقيقة الدقيقة حينما خاطب سيدنا عدي بن حاتم، هذا الملك الذي لقي النبي عليه الصلاة والسلام وهو يظن أنه سيلقى ملكاً، فلما دخل عليه قال: من الرجل؟ قال: عدي بن حاتم، فرحَّب به النبي عليه الصلاة والسلام وانطلق به إلى بيته تكريماً له، في الطريق استوقفته امرأة ضعيفة وقف معها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقال: والله ما هذا بأمر ملك، لما دخل بيته، لم يجد فيه إلا وسادةً واحدة ألقاها النبي إليه وقال:

(( عن عدي بن حاتم الطائي:  اجلس عليها، فقال عدي بن حاتم: بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها وجلس هو على الأرض، سيد الخلق وحبيب الحق، قال: إيه يا عدي بن حاتم-دققوا في هذا الكلام وهو يحتاجه كل مؤمن في هذه الأيام-لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم-فقراء-وايم الله ليوشكنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى أن المُلك والسُلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكنَّ أن تسمع بالمرأة البابلية تحجُّ البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك يا عدي من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم -كما هي حال المسلمين اليوم-وايم الله يا عدي لتوشكَنَّ أن تسمع بالقصور البابلية مفتحةً للمسملين. ))

[ ابن كثير : البداية والنهاية: خلاصة حكم المحدث : له شواهد من وجوه أخر ]

وقد عاش عدي بن حاتم ورأى بعينه كل ما وعد به النبي عليه الصلاة والسلام.
لذلك كفار قريش رأوا المسلمين ضعافاً، فقراء، من الطبقة الدنيا في المجتمع، فقالوا: نحن على حق لأننا أغنياء، نحن على حق لأننا أقوياء، نحن على حق لأن الدنيا بين أيدينا، وإذا زعمتم أن بعد الموت حياةً أخرى نحن كذلك بعد الموت، نحن في الجنة قبلكم، ولنا صَدْرُها،  كلامٌ بلا دليل، كلام بلا أساس، فرد عليهم ربنا عزَّ وجل فقال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ 
أكاد أقول أيها الإخوة؛ أن يكون المسلمون كالمجرمين هذا يتناقض مع وجود الله، إن شئت فقل: يتناقض هذا مع عدله بديهةً، و إن شئت فقل: يتناقض مع وجوده، الله موجود ومع وجوده ليس هناك عبثيةٌ إطلاقاً، أما المجرم هو الفائز والمسلم هو الخاسر، هذه عبثية، المستقيم هو الخاسر والمنحرف هو الفائز، الصادق هو الخاسر والكاذب هو الفائز، الأمين هو الخاسر والخائن هو الفائز: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ هكذا تعتقدون؟ هكذا تتوهَّمون؟ هكذا تحلمون؟
 

الله عزَّ وجل يُضَعِّف المؤمنين تأديباً لهم ويقوي غير المؤمنين كشفاً لحقيقتهم:


﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم ]

 أين عقولكم؟ أين منطقكم؟ إلهٌ كريم وكل الخلق عباده، وبيده كل شيء، يقوِّي الكافر ويعلي قدره ويعطيه المال الوفير والبنين ويجعله سيِّداً يتحكم ببقية الناس هكذا إلى ما شاء الله؟! قد يرفعه إلى حين ممتحناً.
قد يقع بعض الأشخاص في اليأس، الأعداء أقوياء جداً، يملكون أسلحة كثيرة ومتطورة جداً، ونحن ضعفاء ومتفرقون، هكذا؟! أية جهةٍ بَنَتْ مجدها على أنقاض الآخرين ونجحت خطتها إلى ما شاء الله، نجاح خطتها يتناقض مع وجود الله، لذلك قال أحدهم: "عرفت الله من نقض العزائم" ، الإنسان قد يعتدُّ بقوته فينهار على أتفه سبب، وقد يجعل الله تدميره في تدبيره.
إخواننا الكرام؛ أنا لا أجد شيئاً يدفعنا إلى طاعة الله، وإلى بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، كأن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه يستحيل أن يكون المسلم كالمجرم، أو أن يكون المجرم كالمسلم، والآيات كثيرة كثيرةٌ جداً: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾ أبن المنطق؟ أين العقل؟ الأمر بيد الله عزَّ وجل، حياتنا بيد الله، قوتنا بيد الله، مالنا بيد الله، مكانتنا بيد الله، لماذا يقوي الله الكفار؟ يقوِّيهم تربيةً للمؤمنين، هذا شيء مطروح:

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾

[ سورة القصص ]

معنى ذلك الله عزَّ وجل يُضَعِّف المؤمنين تأديباً لهم، ويقوي غير المؤمنين كشفاً لحقيقتهم، أما على المدى البعيد فإن الله مع الحق وسينصر الحق، ولا يتخلى عن المؤمنين.
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ بأي منطقٍ تحكمون؟﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ أعندكم كتابٌ تأتون منه بهذه الأفكار من هذا الكتاب؟ أي كتابٍ هذا؟ الحق واحد لا يتعدد، كتاب الله هو الحق.
 

للإنسان فطرة سليمة إذا انحرفت اختلّ توازنه الداخلي:


﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)﴾

[ سورة القلم ]

الإنسان أحياناً حينما يعصي، حينما يميل مع هواه وشهوته، يختل توازنه الداخلي بحسب فطرته، كل إنسان له فطرة سليمة، بالأصل كل مولودٌ يولد على الفطرة، هذه الفطرة السليمة هي من خلق الله عز وجل، لو لم يأته رسول، لو لم يُبلغ فطرته تكشف له خطأه، والدليل:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

[  سورة القيامة  ]

هذه المعاذير يلقيها للناس، هو في الحقيقة يكشف أمره تماماً، فالإنسان فطرته سليمة، إذا انحرف، إذا حاد، إذا أكل ما ليس له، إذا ظلم، إذا استعلى، إذا تحكَّم بالناس وأخذ بعض ما في أيديهم قهراً وظلماً يشعر باختلال توازن داخلي، هذا اختلال التوازن يجعله يتعلَّق بأية فكرةٍ تطمئنُهُ، تجد كتاباً كله ضلالات، كله دعوةٌ إلى الإباحية، مغطى بتأويلات مضحكة لكتاب الله، الطبعة الخامسة، أقبل الناس عليه إقبالاً شديداً، السبب؟ السبب بسيط جداً، الإنسان حينما ينحرف يتعلق بقشة، حينما ينحرف يختل توازنه، فأي فكرة ولو لم يكن لها أصل بلا دليل لكنها تطمئنه يتعلَّق بها، لذلك الأفكار التي تُغَطِّي انحراف الإنسان يتمسك بها أناسٌ كثيرون، لا لأنها صحيحة، لا لأنها معقولة، لا لأنها مدعَّمة بالبراهين، أبداً، لكن لأنها تدغدغ مشاعرهم، أو لأنها تحل مشكلات انهيارهم الداخلي، فلذلك كفار قريش في بحبوحة وفي قوة وفي غنى، لماذا الدين صح؟ لا إنه غلط، الدين شيء يجب أن يردوه، هم أقوياء، وهم أغنياء، وإذا ماتوا لهم في الجنة ما لهم في الدنيا، كلام، هذا الكلام مريح لهم، لكن ما أصله؟ بأيٍ منطقٍ يتقولون هذا الكلام؟ من أي كتابٍ جاؤوا به؟ ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)﴾ طبعاً هذا الكلام لا ينسجم مع منطقٍ سليم، كما أنه لا يستند إلى مرجعٍ قويم، بقي حالة ثالثة: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ أي كأنكم تعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أقسم لهم أيماناً بالغةً إلى أقصى الحدود أنه سيكرمهم على كفرهم يوم القيامة، وهذا غير صحيح، أرأيتم أيها الإخوة إلى منطق أهل الدنيا؛ منطق منهار، منطق متناقض، لا يوجد منطق، ولا يوجد نص، ولا يوجد وعد، لا وعد من الله موثَّق بأيمان بالغة، ولا يوجد معهم منطق ولا يوجد كتاب يزعمون أنهم يدرسونه.
 

كلّ نفس لا تجادل إلا عن نفسها يوم القيامة:


﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)﴾

[ سورة القلم ]

من يتكفل لهم هذا؟ يقول لك شخص: فلان أفتى بذلك، هل يمكن لهذا الإنسان أن يتكفل لك بالجنة يوم القيامة؟؟ هل تجده يوم القيامة؟
قلت لكم البارحة أيها الإخوة: لو أنك استطعت أن تنتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام فتوى ولست محقاً فيها، النبي  بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، لذلك قال:

(( عن أم سلمة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))

[ صحيح البخاري  ]

أي لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أفتى لك ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله.
﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ من الذي يستطيع أن يجادل عنك يوم القيامة؟ من الذي يستطيع أن يدافع عنك؟

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)﴾

[ سورة النحل ]

الآية الكريمة:

﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)﴾

[ سورة الانفطار ]

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾ لا تجادل النفس إلا عن نفسها، هذا يوم القيامة، لذلك: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ من هو المتكفِّل لهم أن يكونوا يوم القيامة في أعظم حال؟ وكما هم في الدنيا في مركز الصدارة والوجاهة والغنى والترف أين ذلك؟ 

﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)﴾

[ سورة القلم ]

أي هل معهم شركاء يدعمونهم؟ يدافعون عنهم؟ انظروا كيف يحاور ربنا جلَّ جلاله هؤلاء، نقطة، نقطة، هذا كلام غير منطقي، بأي منطقٍ تحكم بهذا؟ هذا منطق ظلم أنّ كافر مجرم منحرف معتد ظالم غارق في شهواته هو له السيطرة حتى يوم القيامة أي منطق هذا؟ المنطق سقط، هل عندك كتابٌ تأتي بهذا الكلام منه؟ ليس هناك كتاب، شيء ثان، هل لك علينا أيمانٌ بالغة؟ هل ربنا جلّ جلاله أقسم لهم أيماناً بالغة النهاية أنهم سيكونون في الآخرة من الفائزين؟ ليس هناك ذلك، هل هناك من يتكفَّل لهم هذا المكان في الجنة؟ ليس هناك، هل لهم شركاء يدعمونهم؟ يدافعون عنهم؟ لا شركاء، ولا كفيل، ولا أَيْمان، ولا كتاب، ولا منطق، على أي شيءٍ تعتمد إذاً؟ الإنسان أحياناً لا يتكلم كلمة اعتراض أو نقد إلا إذا كان وراءه شيء، أما من دون أي شيء تتكلم كلمة لا يوجد منطق معنى ذلك.
 

معاني قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾:


لذلك ربنا عزَّ وجل يبين قائلاً:

﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)﴾

[ سورة القلم ]

الحقيقة وقف العلماء وقفةً متأنِّيةً عند هذه الآية: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾هذا يوم القيامة.
﴿يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ هذه عبارة تُفيد أنه يوم الهَوْلُ الشديد، الحقيقة هذه صورة، الإنسان مثلاً إذا رأى عدواً مفترساً يكشف عن ساقه ويعدو لا يلوي على شيء، إن رأى زلزالاً  يكشف عن ساقه ويهرُب، إن رأى حريقاً، أي كناية عن شدة الهول، كيف أن الإنسان في الدنيا بزلزال، بحريق، بفيضان، بعدو مخيف، بنار ملتهبة، يكشف عن ساقه ولا يُبالي بهندامه ولا بمظهره ويعدو لا يلوي على شيء أراد ربنا عزَّ وجل أن يصف يوم القيامة بهذا الوصف: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ .
هناك معنى آخر وهو أن ساق الشيء أصله، ساق الشجرة أصلها، يُكشف عن حقائق الأشياء، في هذا اليوم:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

يُكشف عن حقيقة الدنيا، هي دار عمل وليست دار متعة ونعيم، يُكشف عن حقيقة الإنسان، يُكشف عن حقيقة الدار الآخرة، يُكشف عن حقيقة الأنبياء والمرسلين، يُكشف عن حقيقة المؤمنين، الحقائق تكشف باديةً للعيان يوم القيامة.
 

الأعمال السيئة تحول بين الإنسان وسجوده:


﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(42)﴾

[ سورة القلم ]

لأن أعمالهم السيئة حالت بينهم وبين السجود، مع أنه لا تكليف يوم القيامة، لكن أراد الله عزَّ وجل أن يبين أن أعمالهم السيئة؛ كفرهم، ظلمهم، جحودهم، إيذاؤهم للناس، استعلاؤهم على خلق الله، ردهم للحق، هذه كلها حُجُبٌ حجبت عنهم حقيقة العبادة: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ هؤلاء الكبراء، المستعلون، المتغطرسون، المتباهون، الذين يتيهون كِبْراً، يميلون أعطافهم علواً، هؤلاء: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ هذا مصيرهم يوم القيامة، فالعبرة لمن يضحك أخيراً، العبرة لمن ينجو آخر الأمر: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ ونحن الآن نُدعى إلى السجود، ندعى إلى معرفة الله،  ندعى إلى طاعته ونحن سالمون، القلب ينبض، في العُمر بقية، هناك فُسحة الصحوة.
 

إدراك الحقيقة بعد فوات الأوان شيءٌ لا يحتمل:


فيا أيها الإخوة؛ الدنيا وقت المعرفة، و الدنيا وقت الطاعة، والدنيا وقت الإنابة، والدنيا وقت الإقبال: ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ الإنسان أحياناً يتألَّم أشد الألم إذا أدرك الحقيقة بعد فوات الأوان، إدراك الحقيقة بعد فوات الأوان شيءٌ لا يحتمل: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)﴾ لذلك قالوا: ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعة عاريةٍ في الدنيا طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة، ألا يا رب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رب مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهينٍ لنفسه وهو لها مكرم، الإنسان يولد كل من حوله يضحك وهو يبكي وحده، حينما يموت يبكي كل من حوله، ينبغي أن يضحك وحده، هذا يوم الفوز العظيم، لذلك:

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

[ سورة الصافات  ]

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

[ سورة المطففين  ]


  نحن في بحبوحتين إذا طبَّقنا سنة النبي عليه الصلاة والسلام:


﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)﴾

[ سورة القلم ]

أيها الإخوة؛ نحن في بحبوحتين، البحبوحة الأولى إذا طبَّقنا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[ سورة الأنفال  ]

فالإنسان إذا طَبَّقَ سنة النبي في بحبوحة، أما إذا وقع في خطأ واستغفر فهو في بحبوحةٍ أخرى، والآن وقت السجود، الآن وقت المعرفة، وقت طلب العلم، وقت إنفاق المال، وقت أن تجلس على رُكبتيك في المسجد لتفهم كلام الله، وقت مساعدة الضعفاء، إطعام المساكين، تعلُّم القرآن، فنحن الآن في بحبوحة، أما حينما تُدرك الحقيقة، وما أصعب أن تدرك بعد فوات الأوان: ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ لذلك يقول النبي الكريم:

(( عن عبد الله بن عباس قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه: اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك. ))

[ أخرجه المنذري الترغيب والترهيب إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما  ]

مع الهرم هناك أدوية، وأطباء، وتحاليل، وقسطرة، مهموم بصحته، انتهى، وأنت مفرَّغ من أمور صحتك، ((اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)) الإنسان قبل الزواج معه وقت فارغ، بعد الزواج هناك زوجة، هناك أولاد، هناك هموم، فقبل الزواج أفضل، بعد الزواج هناك مشاغل، في ربيع العمر أفضل، في الخريف هناك مشكلات: ((اغتنم خمساً قبل خمس)) .
 ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ .
 

العبرة في المستقبل:


أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآيات شيء واحد ينتظمها هو أنه يتناقض مع وجود الله عزَّ وجل أن يستوي المحسن مع المسيء، المسلم مع غير المسلم، المؤمن مع غير المؤمن، الأخلاقي مع غير الأخلاقي، هذا الاعتقاد اليقيني هو الذي يدفعنا إلى طاعة الله، وإلى نَيْلِ رضوانه، والفوز بما عنده، الإنسان حينما يثق بالمستقبل وبأنه لصالح المؤمن يندفع، لذلك لا عبرة للماضي، العبرة في المستقبل، الناس في شبابهم متشابهون، لكن في خريف أعمارهم متفاوتون، هذا التفاوت مُتَعَلِّقٌ بما مضى من أعمارهم.
أيها الإخوة؛ ينبغي علينا أن نعقل هذه الآيات، وأن ننطلق إلى طاعة الله من خلالها، انظروا يوجد عندنا أربعة أشياء أو خمسة أشياء نقدها الله عزَّ وجل، تنطلق من أفكار، من أين جئت بها؟ لا هي بكتاب مقدَّس من عند الله، ولا ينتظمها منطقٌ سليم، وليست منطلقة من وعدٍ إلهي، وليس معك من يكفل لك ذلك، ربنا عوِّدنا المنطق السليم من خلال هذه الآيات.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور